البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-8035-01-6
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٥٢

وبمرجّحات منصوصة من مخالفة القوم ، أي العامة وموافقة الكتاب والسنة الشريفة والاعدلية والأصدقيّة والافقهية والاورعية والاوثقية منها مقبولة عمر بن حنظلة قدس‌سره قال سألت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين ، أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال عليه‌السلام : (من تحاكم اليهما في حق ، أو باطل فانما تحاكم إلى الطاغوت وقد أمر الله تعالى أن يكفروا به) قلت : فكيف يصنعان؟ قال عليه‌السلام : (ينظران الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبله منا فانما استخف بحكم الله تعالى وعلينا ردّ والرادّ علينا الرادّ على الله تعالى وهو على حدّ الشرك بالله تعالى).

قلت : فان كان كل رجل اختار رجلا من اصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال عليه‌السلام : (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقهما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر). قال قلت : فانهما عدلان مرضيان عند اصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر. فقال عليه‌السلام : (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين اصحابكم فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند اصحابكم فان المجمع عليه لا ريب فيه وانما الامور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتبع وأمر بيّن غيّه فيجتنب وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله تعالى وإلى رسوله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم).

قلت : فان كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم قال عليه‌السلام : (ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما

١٦١

خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة).

قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه حكم الكتاب والسنة ووجد أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال عليه‌السلام : (ما خالف العامة ففيه الرشاد).

فقلت : جعلت فداك فان وافقهما الخبران جميعا العامة. قال عليه‌السلام : (ينظر إلى ما هم اليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر).

قلت : فان وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال عليه‌السلام : (إذا كان ذلك فارجه حتى تلقي إمامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات) (١).

ومنها مرفوعة زرارة بن اعين (ره) قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران ، أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟

فقال عليه‌السلام : (يا زرارة خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشاذ النادر). فقلت : يا سيّدي إنهما معا مشهوران مأثوران عنكم.

فقال عليه‌السلام : (خذ بما يقول به أعدلهما عندك واوثقهما في نفسك). فقلت : إنهما معا عدلان مرضيان موثقان.

فقال عليه‌السلام : (انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم فان الحق فيما خالفهم). قلت : ربما كان معا موافقين لها أو مخالفين فكيف أصنع؟

فقال عليه‌السلام : (اذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط). فقلت : انهما معا موافقان للاحتياط ، أو مخالفان له فكيف أصنع؟

فقال عليه‌السلام : (اذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر) (٢).

__________________

١ ـ الكافي ج ١ ص ٨٦ ، الحديث ١٠ من اختلاف يسير في الحديث.

٢ ـ عوالي اللئالي ج ٤ ص ١٣٣.

١٦٢

وغيرهما من الاخبار العلاجية المذكورة في الكتب القيّمة من الوسائل والمستدرك وعوالي اللئالي ورسالة الراوندي قدس‌سره.

قوله : والشهرة على اختلافها في الاقتصار على بعضها ...

ويكون من المرجحات المنصوصة الشهرة الروائية ولكن الاخبار العلاجية مختلفة جدا في الاكتفاء ببعض المرجحات المنصوصة وكذا تكون متفاوتة في الترتيب من حيث الذكر بين المرجحات المذكورة ولأجل اختلاف الاخبار من هاتين الحيثيتين اختلفت انظار العلماء الاعلام (رض) ، هذا مضافا إلى الترجيح بالاعدلية إلى الاورعية من مرجحات الحكم لا من مرجحات الخبر.

أما بخلاف الشهرة والشاذ النادر فانهما من مرجحات الخبر ، إذ بعضهم أوجب الترجيح بسبب الاخبار الدالة على الترجيح في مقام التعارض بالمرجّحات المخصوصة واخبار الترجيح مقيّدة لا اطلاقات الاخبار التي تدل على التخيير بين المتعارضين ، أي التخيير ثابت إذا لم تكن المرجحات المنصوصة بموجودة اختلف القائلون بوجوب الترجيح بين من اقتصر على الترجيح بالمرجّحات المنصوصة المخصوصة ومن قال بالتعدي من المرجحات المذكورة إلى سائر المزايا الموجبة لاقوائية ذي المزية من حيث الحجية وأقربيته إلى الواقع وهذا ، أي الاقتصار بالمرجحات المنصوصة مختار العلامة الأنصاري قدس‌سره.

أما صاحب القوانين وصاحب الفصول قدس‌سرهما فقد ذهبا إلى التعدي إلى سائر المزايا المفيدة للظن بالواقع وإن لم تكن موجبة للاقوائية من حيث الحجية لعدم الملازمة بينهما إذا النسبة بين الاقوائية من حيث الاعتبار والحجية وبين الظن بمطابقة مضمون الخبر للواقع عموم من وجه مادة اجتماعهما متحقق إذا كانت المرجّحات والمزايا موجبتين لهما معا ومادة الافتراق عن جانب الاقوائية إذا كانت المزايا موجبة للأقوائية ولكنها لا توجب المطابقة للواقع لاحتمال صدور المضمون

١٦٣

تقية لا لبيان الواقع ومادة الافتراق عن جانب مطابقة المضمون للواقع إذا كانت المزايا مرجوحة بحيث لا توجب الاقوائية من حيث الحجية والاعتبار ولكن كان المضمون مطابقا للواقع بحيث تفيد الظن بالواقع ، كما إذا دل خبر الحسن على وجوب صلاة العيدين عند حضور الامام عليه‌السلام.

في بيان مختار المصنف قدس‌سره

قوله : فالتحقيق أن يقال ان أجمع للمزايا المنصوصة ...

قال المصنف قدس‌سره : ان التحقيق يقتضي كون جميع اخبار العلاجية للمزايا المخصوصة هو المقبولة والمرفوعة وهما مختلفتان من حيث الدلالة ، إذ المقبولة تبيّن صفات الراوي وهي تتقدم على الشهرة فيها وفي المرفوعة تؤخر صفات الراوي عن الشهرة الروائية والاختلاف في الرواية من حيث تقدم الكلمات وتأخرها يوجب الاضطراب من حيث الدلالة والضعف من حيث السند والصدور هذا مع ضعف سند المرفوعة ، إذ لم يروها أحد من الاعلام والمحدّثين قدس‌سرهم إلّا ابن أبي جمهور الاحسائي قدس‌سره في غواليه مرفوعا إلى زرارة بن أعين قدس‌سرهما.

فوجه ضعف المرفوعة من وجهين : أحدهما : كونهما مقطوعة السند. وثانيهما : عدم نقل الاصحاب قدس‌سرهم اياها إلّا صاحب الغوالي وهو روى فيه كثيرا من الضعاف ، كما يعلم هذا المطلب من مراجعة كتابه المعروف كما لا يخفى هذا على أولى النهي.

فالنتيجة أنهما لا تصلحان لوجوب الترجيح بالمرجحات المخصوصة فضلا عن التعدّي منها إلى غيرها كما سيأتي تفصيل غير المرجحات المنصوصة إن شاء الله تعالى ولا يخفى أن الترجيح بالاعدلية والافقهية والأصدقيّة والاورعية وان كان مذكورا في المقبولة وكلها يكون من مرجحات الحكم لا من مرجحات الخبر على

١٦٤

الآخر أما بخلاف الشهرة وما بعدها فانهما من مرجحات الخبر.

قوله : والاحتجاج بالمقبولة على وجوب الترجيح في مقام الفتوى ...

والاستدلال بالمقبولة لوجوب ترجيح أحد الخبرين المتعارضين بالمرجحات المنصوصة المذكورة في متن المقبولة في مقام الفتوى ، لا يخلو عن اشكال وذلك لقوة احتمال اختصاص الترجيح بالمرجحات المخصوصة بمورد الحكومة والقضاوة فقط ، إذ قطع الخصومة والمنازعة في صورة اختلاف الحاكمين لاختلاف ما استندا اليه من الخبرين المتعارضين لا يمكن إلّا بالترجيح ، أما بخلاف مقام الفتوى فيمكن الأخذ فيه بايّهما شاء المفتي من باب التسليم.

فالنتيجة ان المقبولة أجنبية عن مقام الافتاء والعمل وأما الاحتجاج بالمرفوعة فيصح للترجيح ولكن هي ضعيفة السند لا تصلح لاثبات الترجيح فلا وجه مع احتمال اختصاص الترجيح بالمزايا المنصوصة بباب الحكومة وفصل الخصومة للتعدي من باب الحكومة إلى باب الفتوى كي يؤخذ المفتي بالخبر ذي المزايا ويفتي على طبقه كما لا يخفى بل ينبغي أن يكون التخيير في مقام الفتوى وسيأتي توضيح كون التخيير بدويا ، أو استمراريا ان شاء الله تعالى.

قوله : ولا وجه لدعوى تنقيح المناط مع ملاحظة أن رفع الخصومة ...

وتنقيح المناط عبارة عن القاء الفارق ، كان يقال الخمر والنبيذ مشتركان في الصفات ولا فرق بينهما في صفة إلّا من جهة أن الخمر متخذ من العنب والنبيذ متخذ من التمر وهذا القدر من الفرق لا يؤثر في الحكم بحيث يكون الخمر حراما والنبيذ حلالا ، وأما تخريج المناط فهو عبارة عن تعيين علة الحكم بالمناسبات العقلية كأن يقال الاسكار مناسب لان يكون علة لتحريم الخمر والقتل العمدي العدواني مناسب لجعل القصاص.

قال المصنف قدس‌سره : ولا وجه لدعوى تنقيح المناط بهذا الوجه وهو أنه لا فرق

١٦٥

بين الحكومة وفصل الخصومة وبين الافتاء والفتوى لاحتياج كل واحد منهما إلى الدليل المعتبر إلّا من جهة أن رفع الخصومة في صورة تعارض الحكمين منوط بترجيح أحد الحكمين على الآخر ، إذ لا تنقطع الخصومة بين المتخاصمين بالتخيير لامكان أن يختار كل من المتخاصمين غير ما يختاره الآخر وذلك يوجب بقاء المنازعة لا قطعهما فالقاطع لأصل الخصومة هو الترجيح لا التخيير.

وأما بخلاف الفتوى فانها لا تتوقف على الترجيح ، إذ ليس المانع بموجود من افتاء المفتي على طبق مضمون أحد الخبرين تخييرا كأن يفتي بوجوب الظهر ، أو الجمعة تخييرا في عصر الغيبة ولكن هذا المقدار من الفرق بينهما لا يؤثر في الحكم.

أما المصنف قدس‌سره فقد قال : ولا وجه لدعوى تنقيح المناط مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين وتعارض ما استند اليه من الروايتين لا يكون إلّا بالترجيح وأما الفتوى فيمكن بالتخيير كما قد سبق.

فالنتيجة أن الفرق بين الحكومة والفتوى من حيث المناط موجود فالمناط الذي يتحقق في قطع الخصومة ليس بموجود في الافتاء فلا وجه لدعوى تنقيح المناط ولأجل توقف قطع الخصومة بين المتخاصمين على ترجيح أحد الخبرين اللّذين يكونان مستندين لحكمين لم يأمر الامام عليه‌السلام بالتخيير بل أمر عليه‌السلام بارجاء الواقعة إلى لقائه عليه‌السلام في صورة تساوي الروايتين في المزايا والمرجّحات كما علم هذا من ملاحظة آخر المقبولة.

أما بخلاف الفتوى فانها لا تتوقف على لقائه عليه‌السلام وعلى الترجيح في صورة تساويهما فيها ، إذ يمكن للمفتي أن يفتي بالتخيير بين الظهر والجمعة في عصر الغيبة ومجرد مناسبة الترجيح لمقام الفتوى أيضا كما انه مناسب لمقام الحكومة لا يوجب ظهور الرواية في وجوب الترجيح في مقام الحكومة وفي مقام الفتوى معا.

فان قيل : ان الترجيح يناسب مقام الافتاء أيضا ، فتحقق اشتراك الحكومة

١٦٦

والفتوى في الترجيح والمناط فيصح حينئذ دعوى تنقيح المناط.

وأما الجواب فقد مضى آنفا من كلمة مجرد مناسبة الترجيح إلى كلمة الحكومة والفتوى.

وتفصيل الجواب : أن القضاوة تحتاج إلى ملاحظة الترجيح بين الخبرين المتعارضين سندا أو دلالة كي يحكم القاضي على طبق مضمون الراجح منهما ، ويقطع الخصومة بين المتخاصمين ، أما بخلاف الافتاء فانه لا يحتاج إلى ملاحظة الترجيح بينهما سندا أو دلالة بل يحتاج إلى عمل الاصحاب (رض) على طبق أيهما.

قوله : وان أبيت إلّا عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين ...

وليعلم ان الاشكالات الواردة لوجوب الترجيح بالمرجّحات المنصوصة أربعة :

الأول : مشترك بين المقبولة والمرفوعة وهو عبارة عن اختلاف المقبولة والمرفوعة في ترتيب المرجّحات ، إذ المقبولة قد اقتصرت في مرجّحات الخبر بعد مرجّحات الحكم على الشهرة وموافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة وموافقة الكتاب ثم مخالفة الحكام والمرفوعة لم تذكر فيها موافقة الكتاب والسنة وانما ذكر مكانها الترجيح بالاعدلية والاوثقية وذكرت في الاخير مكان مخالفة ميل الحكام موافقة الاحتياط وقد عرفت هذا في ضمن قوله مع اختلافهما في الترتيب.

الثاني : مختص بالمرفوعة وهو عبارة عن ضعف سندها كما قد علم هذا في ضمن بيان ضعف سندها.

الثالث : مشترك بينهما أيضا وقد سبق هذا في ضمن والاحتجاج بها لا يخلو عن اشكال لاحتمال اختصاص الترجيح بالمزايا بباب الحكومة وفصل الخصومة.

الرابع : وهو مشترك أيضا بينهما وحاصله بعد تسليم ظهورهما في وجوب الترجيح بالمزايا المخصوصة في تعارض الخبرين معا في مقام الفتوى ولكن لا تصلحان لتقييد اطلاقات أخبار التخيير في عصر الغيبة أما المرفوعة فلضعف

١٦٧

سندها ، واما المقبولة فلقصور دلالتها عن شمول زمان عدم التمكن من لقاء الامام عليه‌السلام وعدم التمكن من السؤال عنه عليه‌السلام بحيث يجب الترجيح حينئذ وليس الأمر كذلك.

فالنتيجة ان اطلاقات أخبار التخيير سالمة عن المقيّدات ، إذ المقبولة تختص بزمان التمكن من لقاء الامام عليه‌السلام ولا تشمل عصر الغيبة أصلا والمرفوعة ضعيفة سندا لا تصلح للتقييد ولأجل اختصاص المقبولة بزمان الحضور ما ارجع الامام عليه‌السلام السائل إلى التخيير بينهما بعد فقد الترجيح بالمرجّحات المنصوصة وان لم تختص بزمان الحضور فلا بد من ارجاع الامام عليه‌السلام فقد الترجيح إلى التخيير وهذا واضح.

قوله : مع أن تقييد الاطلاقات الواردة في مقام الجواب ...

ومن الوضح أن الأخذ بالمقبولة يوجب حمل أخبار التخيير على المورد القليل ، إذ يصير مورد اخبار التخيير بعد تقييدها بها منحصرا في الخبرين المتكافئين من جميع الجهات ومن المعلوم أن هذا قليل لان الغالب عدم تساويهما من جميع الجهات وحمل المطلق على الموارد النادرة غير متعارف وخلاف عادة العقلاء في محاوراتهم ومخاطباتهم وعلى طبيعة الحال فلا بد من أحد أمور ثلاثة اما العمل بأخبار التخيير وحمل المقبولة على زمان الحضور.

واما حمل الأمر بالترجيح في المقبولة على الافضلية والاستحباب ، واما جعل موردها الخصومة فقط هذا اشكال الخامس على وجوب الترجيح ومن الاصحاب (رض) كالعلامة المجلسي والسيد الصدر قدس‌سرهما حملا الأمر بالترجيح على الاستحباب هذا ، أي الحمل على الاستحباب اشكال السادس على لزوم الترجيح.

وأيد المصنف قدس‌سره بهذا الكلام الاخير مرامه الذي هو التخيير بين الخبرين المتعارضين على نحو الاطلاق ، أي سواء كان أحدهما ذا ترجيح ، أم لم يكن ذا ترجيح ويشهد بهذا الحمل المذكور وجود الاختلاف الكثير من حيث الترتيب ومن

١٦٨

حيث الكمية بين أخبار الترجيح ومن حيث الكيفية ، إذ في بعضها تتقدم الشهرة على سائر المرجحات وذلك كالمرفوعة وفي بعضها تتأخر عنها وذلك كالمقبولة وفي بعضها تذكر خمسة من المرجحات وذلك كالمرفوعة وفي بعضها الآخر تذكر سبعة منها وذلك كالمقبولة وفي بعضها الآخر ذكر الترجيح بالشهرة فقط وذلك كخبر المرسل الذي نقل في الاحتجاج قالوا إذا اختلف احاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا فانه لا ريب فيه (١).

وفي البعض الآخر ذكر الترجيح بموافقة الكتاب والسنة وذلك كخبر عيون أخبار الرضا عليه‌السلام (٢).

وفي البعض اكتفى على الترجيح بموافقة الكتاب فقط وذلك كصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال قال الصادق عليه‌السلام إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه فان لم تجدوهما في كتاب الله تعالى فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافقهم فذروه وما خالف اخبارهم فخذوه (٣).

وفي البعض الآخر ذكر الترجيح بمخالفة القوم ، أي العامة خاصة وذلك كخبر الحسن بن الجهم قال قلت للعبد الصالح عليه‌السلام فيروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام شيء ويروى عنه خلافه فبأيهما نأخذ فقال عليه‌السلام خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه (٤) وهذه الاخبار كما ترى مخالفة كما وكيفا.

وعلى طبيعة الحال فلو كان الترجيح لازما لكان متفقا من حيث الترتيب

__________________

١ ـ الوسائل ج ٨١ ، ص ٨٨ ، أبواب صفات القاضي ، الباب ٩ ، الحديث ٤٣.

٢ ـ المصدر نفسه ح ٢١ ص ٨١.

٣ ـ المصدر ح ٢٩ ص ٨٤.

٤ ـ الوسائل ح ٣١ ص ٨٥.

١٦٩

والكمية والكيفية كما لا يخفى هذه مضافا إلى أن حمل الأمر بالترجيح على الاستحباب موجب للجمع بين أخبار الباب وهو أولى من الطرح وعليه فالتخيير هو الأظهر.

قوله : ومنه قد انقدح حال سائر الاخبار ...

قد انقدح لك من البحث في طيّ المقبولة والمرفوعة حال سائر أخبار الترجيح كخبر الاحتجاج والعيون والحسن بن الجهم ، إذ ليس بأقوى سندا ودلالة من المقبولة والمرفوعة كي يصحّ تقييد أخبار التخيير به ، أي بسائر أخبار الترجيح.

في الجواب عن سائر الاخبار

قوله : مع أن في كون أخبار موافقة الكتاب ، أو مخالفة القوم ...

ولا يخفى أن مورد أخبار الترجيح يكون في الخبرين الجامعين لشرائط الحجية فالمقتضي للحجية في كل منهما موجود ولكن التعارض مانع وعليه فلو كان المرجح مميزا للحجة عن اللاحجة لكان هذا خارجا عن محل البحث ، إذ محله يكون في ترجيح الحجة على الحجة ولكن الخبر المخالف للكتاب ليس فيه مقتضى الحجية لان مخالفته له تكون أدل شاهد على عدم صدوره عن المعصوم عليه‌السلام.

وعلى هذا الاساس فالطائفة الآمرة بطرح الخبر المخالف للكتاب بناء على أنه باطل وزخرف ونحو ذلك من التعبيرات في الاخبار العلاجية من أنه ليس بشيء ومن أنه لم نقله ومن الأمر بطرحه على الجدار تكون أقوى شاهد على عدم حجيته في نفسه وان لم يكن له معارض فيخرج هذا عن باب التعارض وكذا الخبر الموافق للقوم ، إذ هو يكون مثل الخبر المخالف للكتاب في عدم كونهما من باب التعارض لعدم المقتضي للحجية له كالمخالف للكتاب المجيد.

قوله : ضرورة ان اصالة عدم صدوره تقية ...

١٧٠

فان قيل ان اصالة جهة الصدور تكون من الأصول العقلائية المحرزة لجهة الصدور تجري في الخبر الموافق للعامة مع الشك في صدوره تقية والأصل عدم صدوره تقية.

وعليه فليس وزان الخبر الموافق للعامة كوزان الخبر المخالف للكتاب في الخروج عن باب مرجّحات المتعارضين ولا يندرج هذا الخبر تحت مميّزات الحجة عن اللاحجة.

قلنا ان اصالة جهة الصدور لا تجري في الخبر الموافق للقوم للوثوق بصدوره تقية لا لبيان الحكم الواقعي بسبب ملاحظة الخبر المخالف لهم ولما دل على كون مخالفتهم رشدا ، وموافقتهم ضلالة.

ومع هذا الأمر والاختلال لجهة الصدور كيف يجري الأصل العقلائي المذكور في الخبر الموافق لهم حتى تحرز به جهة صدوره وأنه لبيان الحكم الواقعي وكذا الصدور لبيان الحكم الواقعي وكذا الظهور في بيانه يكونان ضعيفين في الخبر المخالف للكتاب بحيث لا تشمله أدلة الاعتبار والحجية وكذا لا تشمله اصالة الظهور.

فالنتيجة يكون الخبر المخالف للكتاب فاقدا لشرائط الحجية وليس بفاقد لمرجّحات الحجة ، إذ هو ليس بحجة فتكون اخبار الموافقة للكتاب المخالفة للعامة في مقام تميز الحجة عن اللاحجة ولا تكون في صدد ترجيح الحجة على الحجة كما هو المطلوب في باب المتعارضين.

قوله : فافهم ...

وهو اشارة إلى أن الخبر المخالف للكتاب لا مجال لجريان اصالة حجية السند ، أو اصالة الظهور فيه لعدم الوثوق بصدوره ولا بظهوره فلا يدخل تحت دليل حجية الصدور ، أو الظهور فلازم ما ذكر عدم حجية الخبر المخالف للكتاب وان لم يكن له معارض ، أو هو اشارة إلى أن اطلاقات أخبار التخيير مقيدة بأخبار موافقة

١٧١

الكتاب ومخالفة العامة ضرورة أنه لا تخيير بين الحجة واللاحجة فاطلاقاتها مقيدة على كل تقدير.

هذا الكلام صحيح إذا كان مورد أخبار الترجيح مطلق الخبرين سواء كانا جامعين لشرائط الحجية ، أم لم يكونا جامعين لها ولكن موردها هو الخبران الجامعان لشرائط الحجية بحيث لو لم يكن بينهما تعارض لكان كلاهما حجّتين بالفعل وليس موردها مطلق الخبرين وعلى هذا الاساس فلا يصلح ما دل على الترجيح بسبب موافقة الكتاب وبسبب مخالفة العامة لتقييد اطلاقات أخبار التخيير لأجل مغايرة موردها لمورد الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، إذ مخالف الكتاب وموافق العامة ليسا بجامعين لشرائط الحجية كما لا يخفى.

قوله : وان أبيت عن ذلك فلا محيص عن حملها توفيقا ...

أي وان منعت أيها القائل بالترجيح عن ظهور أخبار الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة القوم في تميز الحجة عن اللاحجة وتقول انهما ظاهران في ترجيح احدى الحجتين على الاخرى ومع هذا الوصف لا محيص عن حمل أخبار الترجيح من جهة التوفيق بينها وبين اطلاقات أخبار التخيير اما بحمل أخبار الترجيح على تميز الحجة عن اللاحجة وإما بحملها على الاستحباب والأفضلية كما اشير إلى حمل أخبار الترجيح على الاستحباب آنفا هذا ، أي خذ ذا.

فان قيل : لم ذهبت إلى أحد الحملين المذكورين ولم تذهب إلى التقييد ، أي تقييد أخبار الترجيح لأخبار التخيير.

قلنا : ذهبنا إلى أحدهما لتوقف التقييد على كون المقيّد أظهر من المطلق كما ترى هذا في نحو أعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة والأمر هنا بالعكس لأجل كون اطلاقات التخيير أظهر من المقبولة والمرفوعة وغيرهما من أخبار الترجيح لاحتمال اختصاص المقبولة بمورد الحكومة ولظهور أخبار التخيير في باب تعارض الخبرين

١٧٢

وعليه فاطلاقات التخيير باقية بحالها أما المرفوعة فلا يتوجه اليها لضعف سندها كما ذكر سابقا.

قوله : ثم انه لو لا التوفيق بذلك للزم التقييد ايضا ...

قال المصنّف قدس‌سره لو لا التوفيق بحمل أخبار الترجيح على تميز الحجة عن للاحجة للزم التقييد في أخبار الترجيح أيضا كلزومه في أخبار التخيير هذا اشكال آخر على تقييد اطلاقات أخبار التخيير بأخبار الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة أما تقريب الاشكال فهو أن التقييد المذكور مستلزم لتقييد نفس أخبار الترجيح أيضا فهو أن التقييد المذكور مستلزم لتقييد نفس أخبار الترجيح أيضا حيث إن اطلاق مرجحية مخالفة العامة مقيّد بما إذا لم يكن الخبر الموافق للعامة موافقا للكتاب ، أو مقيّد بما إذا لم يكن الخبران مخالفين لهم مع خلوّ أخبار الترجيح بمخالفة العامة عن هذا القيد.

وكذا مرجحية موافقة الكتاب فانه لا بد من تقييدها بما إذا لم يكن الخبر الموافق للكتاب موافقا للعامة وكذا مرجحية الشهرة مقيدة بما إذا لم يكن المشهور مخالفا للكتاب ، أو موافقا للعامة وبتقرير أوضح وهو أنه لو جعلنا أخبار الترجيح مقيّدين لاخبار التخيير للزم التقييد في اخبار الترجيح قهرا واللازم باطل فالملزوم مثله.

اما بيان الملازمة فلأن اطلاق كون مخالفة أحد المتعارضين للعامة مرجحا مقيد بعدم كون الخبر الموافق للعامة موافقا للكتاب العزيز وإلّا فالتخيير بينهما ثابت ، أو بعدم كونهما معا مخالفين للعامة وإلّا فالتخيير وكذا اطلاق كون موافقة الكتاب مرجحا مقيد بعدم كونه موافقا للعامة وإلّا سيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.

وكذا اطلاق كون الشهرة مرجحا مقيد بعدم كونها مخالفة للكتاب الشريف وبعدم كونها موافقة للعامة والحال أن اخبار الترجيح مانعة عن التقييد كيف يمكن لنا تقييد اطلاق مثل ما خالف قول ربّنا جلّ وعلى ، زخرف ، أو باطل كما لا يخفى مثلا

١٧٣

لو قلنا ان الخبر المخالف للكتاب زخرف ، أو باطل ، أو يجب ضربه على الجدار إلّا إذا كان الخبر الموافق للعامة موافقا للكتاب فليس الخبر المخالف للكتاب حينئذ زخرف أو باطل ولا يجب ضربه على الجدار وهذا ممّا يضحك به الثكلى.

وكذا لو قلنا ان الخبر الموافق للعامة زخرف ، أو باطل إلّا إذا كان الخبر المخالف للعامة موافقا للكتاب الشريف وهذا غير صحيح ، إذ الخبر المخالف للعامة موافق للكتاب المجيد قطعا هذا مضافا إلى أن الخبر المخالف للكتاب المبارك زخرف وباطل سواء كان الخبر الموافق للعامة موافقا للكتاب ، أم يخالفه وكذا الخبر الموافق للعامة زخرف وباطل سواء كان الخبر المخالف للعامة موافقا للكتاب أم يخالفه وكذا الخبر الشاذ النادر غير معمول به عند الاصحاب (رض) ليس بحجة سواء كان الخبر المشهور مخالفا للعامة ، أم موافقا لها.

في الوجوه التي استدل بها لوجوب الترجيح

قوله : نعم قد استدل على تقييدها ووجوب الترجيح ...

قد استدل على تقييد اطلاقات أخبار التخيير باخبار الترجيح بوجوه أخر غير أخبار الترجيح الاول دعوى الاجماع على الاخذ بأقوى الدليلين في مقام التعارض.

وفيه أن دعوى الاجماع على الأخذ بارجحهما عند التعارض مجازفة غير مفيدة مع مصير مثل الكليني صاحب الكافي قدس‌سره إلى التخيير بين المتفاضلين والحال أنه في عهد الصغرى الذي يقارب عصر ظهور الائمة عليهم‌السلام وهو يخالط مع النواب الخاص ويعاشر مع السفراء والخلط والمعاشرة يدلان على نحو البت والقطع على أن التخيير صدر من السفراء الخاص والصدور منهم دليل على الصدور من الرئيس العادل ولهذا قال في ديباجة الكافي ولا نجد شيئا أوسع وهو أحوط من التخيير أمّا

١٧٤

أوسعية التخيير فواضحة ، إذ لزوم الأخذ باحدهما المعين يوجب الضيق على المكلف وهذا واضح.

وأما بيان كونه أحوط فلعدم العلم بالمرجحات في جميع الموارد في زمن صدور الروايات عنهم عليهم‌السلام لعدم العلم بفتاوى العامة غالبا كي يحصل العلم لنا في ذلك العصر بموافقة الروايات للقوم ، أو بمخالفتها لهم بل يحصل الظن في ذاك العصر بالمرجحية ومن المعلوم ان الأصل حجية هذا الظن فتصل النوبة حينئذ بالاحتياط وهو بمقتضى العمل باطلاقات أخبار التخيير وأما عبارة الكافي فتكون هكذا : اعلم يا أخي أرشدك الله تعالى أنه لا يسع أحد تميز شيء مما اختلفت الرواية فيه من العلماء برأيه إلّا ما اطلقه العالم عليه‌السلام بقوله المبارك : (فاعرضوهما على كتاب الله عزوجل فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله عزوجل فذروه) وقوله عليه‌السلام : (دعوا ما وافق القوم فان الرشد في خلافهم) وقوله عليه‌السلام : (خذوا بالمجمع عليه) فان المجمع عليه لا ريب فيه ولا نعرف من جميع ذلك إلّا أقله ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : (بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم) انتهى كلامه رفع مقامه.

ولكن انت ترى أن ما ذكره الكليني قدس‌سره في ديباجة الكافي ليس انكارا للترجيح مطلقا ولا اثباتا للتخيير مطلقا ، أي مع وجود تلك المرجحات ومع فقدها بل ظاهره هو الترجيح بموافقة الكتاب وبمخالفة القوم وبالشهرة.

وحيث ان المعلوم من هذه المرجحات لا يفي بما اختلفت الروايات فلذا قال لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك إلى العالم وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه‌السلام بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم ولكن ذكر قلة الموارد التي لا نعرف فيها وجود المرجحات فلا بد من رده وعلم كلها إلى العالم عليه‌السلام وقبول التخيير.

ومنها أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية للزم ترجيح المرجوح على الراجح

١٧٥

وهو قبيح من غير المولى الحكيم ومنه ممتنع عقلا لانه قبيح وكل قبيح ممتنع عقلا من الباري عزّ اسمه لان صدوره نقص في ذاته والنقص في ذاته محال.

فالنتيجة أن صدوره منه محال وفيه أنه يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع المقدس وإذا لم تكن موجبة لتأكد الملاك فيشكّ في اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين حتى يلزم ترجيحه على فاقد المزية.

توضيح : وهو ان البصر والكتابة في القاضي على فرض اعتبارهما لا يتأكدان الملاك بما هو ملاك فلا يكون الأقوى بصرا والأجود خطا ارجح في مرحلة القضاء ، من غيرهما وكذا الوثوق والعدالة يكونان كاعتبار البصر والكتابة من حيث عدم اشتداد الملاك بما هو اشتدادهما بذاتهما وعليه فالملاك في نفوذ القضاء هو العلم والمعرفة كما هو ظاهر المقبولة ولهذا قال المصنف قدس‌سره ضرورة امكان أن تكون تلك المزية لذي المزية بالاضافة إلى ملاك الحجية من قبيل الحجر في جنب الانسان في عدم الجدوى فكان الترجيح بالمزية حينئذ بلا مرجح وهذا قبيح عقلا وعرفا وهذا واضح هذا.

مضافا إلى عدم الوجه في الاضطراب والاعراض من الحكم بقبح ترجيح المرجوح على الراجح إلى الامتناع الذي هو ظاهر في استحالة ترجيح غير ذي المزية على ذيها والحال أن الترجيح بل مرجح في الافعال الاختيارية ليس بمحال ومن الافعال الاختيارية الاحكام الشرعية تكليفا ووضعا ، إذ المستحيل هو وجود الممكن الوجود بلا علة وأما ترجيح الفاقد للمزية على الواجد لها فليس بمستحيل لكون علة وجود المرجوح ارادة الفاعل المختار غاية الأمر أنه قبيح لكونه بلا داع عقلائي مع امكان ايجاد الراجح نعم يكون الترجيح بلا مرجح محالا عقلا بالاضافة إلى الباري عزّ اسمه.

وبالجملة الترجيح بلا مرجح قبيح عندنا وليس بمحال عقلا ، واما المحال

١٧٦

فهو الترجّح بلا مرجح ، إذ وجود المعلول بلا وجود علته مستحيل أمّا الترجيح بلا مرجح فليس بمحال ، إذ المعلول يوجد بوجود علته ، إذ الترجيح ، أي ترجيح المرجوح على الراجح معلول الارادة وهي علته فيوجد بعد وجود علته ، إذ الارادة في الافعال الاختيارية علة لتحقق الافعال الاختيارية في الخارج ، فالاضراب في قوله (بل ممتنعا) يكون خلطا بين الترجيح بلا مرجح والترجّح بلا مرجّح.

وبالجملة الترجيح بلا مرجّح بمعنى بلا علة محال ، إذ ترجيح وجود كل ممكن الوجود على عدمه يحتاج إلى علة ومن الواضح ان المعلول لا يتحقق في الخارج بلا تحقق علته وذلك كاستحالة تحقق النهار بلا تحقّق الطلوع والترجيح بلا مرجح بمعنى بلا داع عقلائي قبيح وليس بمحال ، إذ ارادة المرجوح قبيح فلا تشتبه حتى تقول إن الترجيح بلا مرجح محال مطلقا ، أو قبيح مطلقا.

توضيح : في طي الاحكام الشرعية من الافعال الاختيارية

ولا يخفى أن اختياريتها تتصور بأحد النحوين الاول تكون اختياريتها من حيث الجعل والتشريع ، واما الفرق بين الترجيح بلا مرجّح والترجّح بلا مرجّح أن الاول انما يكون في الافعال الاختيارية وهو لا يكون إلّا قبيحا لا ممتنعا لان ارادة المرجوح قبيح والثاني انما يكون في الأمور غير الاختيارية ويراد به ترجيح أحد طرفي الممكن بلا علة وهو محال.

والأخذ بغير ذي المزية من قبيل الاول كجعل الوجوب للموضوع دون الحرمة ، أو كجعل الحرمة للشيء دون الوجوب ، أو كجعل الاستحباب له دون الكراهة ، أو بالعكس ، أو كجعل الصحة دون الفساد ، أو كجعل التمامية دون الناقصية أو بالعكس وهكذا الثاني أن تكون من حيث الفعل والترك فالاول ، أي الوجه الأوّل ،

١٧٧

بالنسبة إلى الجاعل والثاني ، أي الوجه الثاني ، بالاضافة إلى المجعول له والمكلف كما لا يخفى.

قوله : ومنها غير ذلك مما لا يكاد يفيد الظن ...

ومنها ما قيل من أن لازم التخيير تساوى العالم والجاهل والعادل والفاسق وهذا راجع إلى ترجيح السندي وعليه إذا كان سند أحد الخبرين مشتملا على عالم عادل وسند الآخر مشتملا على جاهل عادل فاللازم ترجيح الاول على الثاني.

ومنها ما قيل أيضا من أن حكم الشارع المقدس بالأخذ بأحد الخبرين المتعارضين دائر بين التعيين والتخيير ولكن الاصل يقتضي التعيين لاصالة عدم التخيير ويكون مقتضاه ترجيح ذي المزية على فاقدها.

ومنها ما قيل من أنه لو لا الترجيح في البين لاختلّ نظم الاجتهاد والاستنباط وهذا الاختلال يستلزم نظام الفقه الشريف ، إذ يستلزم عدم الترجيح تخييرا ثابتا بين العام ، والخاص ، والمطلق ، والمقيّد ، والظاهر ، والاظهر ، والنص ، وهذا التخيير يستلزم اختلال الاجتهاد ، واختلال الاجتهاد يوجب اختلال نظام الفقه المبارك ولكن لا يخفى عليك أن هذه الوجوه لا تفيد إلّا الظن بترجيح ذي المزية على فاقدها والأصل الاوّلى حرمة العمل بالظن إلّا ما خرج بالدليل المعتبر كالظن الحاصل من ظاهر الكتاب ومن ظاهر الاخبار المعتبرة مثلا وعليه فالصفح عن ذكر هذه الوجوه أولى وأحسن ، أي الاعراض عنه ، إذ لا تفيد إلّا الظن بلزوم الترجيح.

هل يجب الافتاء بما اختاره من الخبرين

قوله : ثم انه لا اشكال في الافتاء بما اختاره من الخبرين ...

إذا عمل بمقتضى أخبار التخيير فلا اشكال في البين من جهة فتوى المفتي بمضمون احد الخبرين سواء كان العمل بمضمون احدهما في عمل نفسه ، أم في عمل مقلديه مثلا إذا اختار المجتهد الخبر الدال على اباحة الشيء فلا محيص له أن

١٧٨

يعمل على طبقه فلا جرم من أن يعمل مقلدوه على طبق فتواه.

ولكن لا وجه للتخيير في المسألة الفرعية لاجل عدم الدليل على التخيير فيها وذلك كالتخيير بين حرمة شرب التبغ وبين اباحته لان الغالب في كل واقعة من الوقائع حكمها الواقعي على التعيين ومقابل الغالب هو التخيير بين القصر والتمام في الاماكن الاربعة أحدها المسجد الحرام وثانيها مسجد النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثالثها مسجد الكوفة ورابعها حائر الحسيني على صاحبه آلاف التحية والثناء ولا ريب في كون الافتاء بالتخيير خلاف الواقع.

نعم يجوز للمجتهد الافتاء بالتخيير في المسألة الاصولية بحيث يكون كل مكلّف مخيرا في مقام استنباط الاحكام من المدارك المقررة عند تعارض الخبرين في الأخذ بأحدهما وهذا غير التخيير في المسألة الفرعية نعم يجوز للمجتهد أن يقول للمقلد ان فتواي في تعارض الخبرين التخيير بينهما لا وجوب الترجيح ويجوز له أن يقلده فيها ، أي في هذه المسألة.

وعليه يجوز للمقلد أن يختار غير ما اختاره المجتهد فيعمل بما يفهمه منه من صريحه ، أو ظهوره الذي لا شبهة فيه من حيث الحجية كما قد سبق هذا في بحث حجية الظواهر وذلك كلفظ الغناء والصعيد مثلا ، إذ الأول : ليس بظاهر في الصوت المطرب مع الترجيح ، أو الصوت المطرب سواء كان مع الترجيع ، أم لا. والثاني : ليس بظاهر في التراب الخالص ، أو مطلق وجه الارض ولهذا اختلفت الفتاوى في التيمم فيجوّز بعض الفقهاء بالتراب الخالص فقط وبعضهم بمطلق وجه الارض ، وأما ما كان محتاجا إلى نظر وفكر يعجز عنه المقلد لا محيص له ان يرجع فيه من الرجوع إلى المجتهد.

فالنتيجة أن المقلد إذا قلّد المجتهد في المسائل الاصولية فيجوز له أن يختار غير ما اختاره المجتهد وإذا لم يقلّد فيها فلا بد له أن يأخذ بما اختاره المجتهد

١٧٩

ولا يجوز له حينئذ أن يختار غير ما اختاره بل لا بد أن يأخذ ما اختاره ويعمل على طبقه وليس له التخيير أصلا بحسب الظاهر.

توضيح : في طي قوله نعم له الافتاء

وهو عبارة عن أن وجوب التخيير ليس شرعيا مولويا ، إذ لا عقاب على مخالفته زائدا على مخالفة الواقع بل هو ارشادي عقلي بمناط وجوب تحصيل الحجة فيدل على حجية ما يختاره المكلف من الخبرين ، فاذا اختار أحدهما كان حجة بينة فتجب الفتوى بمضمونه لا غير فيجب على المقلد الأخذ بها تعيينا كما يجب على المجتهد نفسه العمل به كذلك فلا وجه للفتوى بالتخيير من جهة انها تكون فتوى بغير دليل ، إذ التخيير ليس مؤدى أحد الخبرين المتعارضين.

فالنتيجة انه لا يجوز للمجتهد فتوى بالتخيير الفرعي بمعنى الاباحة ولا الفتوى بمعنى الوجوب التخييري ، إذ لا يعقل الوجوب التخييري بين الوجود والعدم.

هل التخيير بدوي ، أو استمراري؟

قوله : وهل التخيير بدوي ، أو استمراري قضية الاستصحاب ...

ولا يخفى أن آثار القول بالتخيير في علم الفقه الشريف اربعة :

الأول : هو الافتاء على طبق مضمون أحد الخبرين المتعارضين.

الثاني : أنه لا يجوز له الافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية وذلك كالتخيير بين حرمة شرب التبغ وبين اباحته فيما إذا دل أحد الخبرين على حرمته والآخر على اباحته.

الثالث : أنه يجوز للمفتي الافتاء بالتخيير في المسألة الاصولية بأن يفتي

١٨٠