البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-8035-01-6
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٥٢

فاستصحاب عدم اتيانه يقتضي فساد الصلاة. إذا المكلف قبل الاشتغال بالصلاة لم يأت بالركوع قطعا وبعد الاشتغال بها شك في اتيانه فنستصحب عدم اتيانه. فاركان الاستصحاب تامة من اليقين السابق والشك اللاحق.

وأما قاعدة التجاوز فتقتضي صحتها وكذا حكم الشك في سائر الاجزاء والشرائط بعد التجاوز عن محل تداركها والتجاوز عن محل التدارك يتحقق بالانتقال من السابق إلى اللاحق ، كالانتقال من تكبيرة الاحرام إلى القراءة ، ومنها إلى الركوع ومنه إلى السجود ومنه إلى التشهد وكذا افعال الوضوء والغسل والتيمم. هذا حكم تعارض الاستصحاب وقاعدة التجاوز.

وأما تعارض الاستصحاب وقاعدة الفراغ فيقال إذا شك المكلف في اتيان الركوع للأخيرة مثلا بعد التسليم ، فاستصحاب المكلف عدم اتيانه يدل على فساد الصلاة ، وأما قاعدة الفراغ فيدل على صحتها ، وكذا حكم الشك في سائر الاجزاء والشرائط بعد الفراغ عن العمل ، كالصلاة ، أو الغسل ، أو الوضوء ، أو التيمم أو الصوم أو الحج و ...

والقاعدتان المذكورتان تتقدمان على استصحابات عدم الاتيان بالمشكوك فيه ، والوجه في ذلك كون أدلتها أخص من أدلة الاستصحاب ، فتقديمها عليه انما يكون بالتخصيص ، أي لا تنقض اليقين بالشك إلّا في أجزاء الصلاة والوضوء والغسل والتيمم ، أي كون أخصية ادلة القواعد المذكورة انما يكون بحسب المورد. فلو قدّم الاستصحاب عليها لما يوجد مورد لها ، أو يوجد لها مورد نادر كالشك في صحة العمل وفساده من جهة الزيادة فتجري اصالة عدم الزيادة في أثناء العمل ، أو بعد العمل. وهي موافقة لقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز واصالة الصحة في النتيجة التي تكون عبارة عن صحة العمل.

ولكن هذه الموارد قليلة بالاضافة إلى الموارد التي يكون الشك فيها في

١٢١

أجزاء العمل من حيث الاتيان وعدم الاتيان ، ويكون الشك فيها في خصوص الوضوء والغسل بحسب الاجزاء والشروط.

ولا ريب في ان استصحاب عدم الاتيان بالاجزاء والشروط يقتضي فساد العمل ، والقواعد الثلاث تقتضي صحة العمل ، فيكون الاصل مخالفا معها. وعلى هذا الاساس فقد علم أن هذه القواعد الثلاث تتقدم على الاستصحابات المقتضية لفساد العمل الذي شك فيه من الموضوعات الاختراعية ، أو الامضائية كالصلاة والوضوء والغسل والتيمم مثلا ، لأجل وجوب تخصيص دليل الاستصحاب بدليل القواعد الثلاث.

أما لأجل ان دليل القواعد أخص من دليل الاستصحاب فيدخل حينئذ تحت قاعدة وجوب تخصيص العام بالخاص ، أو لأن بين قاعدة اليد والاستصحاب عموما من وجه إلّا أنه يجب ادخال مورد الاجتماع تحت دليل القواعد ويلزم اخراجه عن تحت دليل الاستصحاب لانه لو بنى على العكس لم يبق لدليلها إلّا مورد نادر يمتنع عند أهل اللسان والذوق سوق دليل القواعد لبيان حكمه فقط. وذلك كالشك في صحة العمل وفساده من حيث زيادة الركوع في الصلاة ومن حيث نقيصته مثلا.

هذا مضافا إلى الاجماع على عدم الفصل بين موارد القواعد الثلاث وعدم الفصل هذا موجب لدوران الأمر بين طرح دليلها بالمرة وبين تخصيص دليل الاستصحاب بدليل القواعد الثلاث ، ولا ريب ان الثاني متين.

اما بيان وجه أعمية دليل الاستصحاب فلانه يدل على حرمة نقض اليقين السابق بالشك اللاحق ، سواء كان هذا النقض في الشبهات الحكمية ، أم في الشبهات الموضوعية ، وأما وجه أخصية أدلة القواعد الثلاث فلأنها تدل على الغاء الشك في الاتيان للاجزاء وعدم الاتيان لها بعد التجاوز وبعد الفراغ وعلى الغاء الشك في صحة عمل الغير وفساده في خصوص الشبهات الموضوعية هذا.

١٢٢

وأما توضيح كون النسبة بين قاعدة اليد ودليل الاستصحاب عموما من وجه فلأنه قد يتفق أحيانا أن يكون ما في اليد مما تبادل فيه الحالتان بان علم ان هذا المال كان ملكا لزيد في وقت وقد علم أيضا انه لم يكن ملكا له في وقت آخر ، ولكن لم يعلم السابق من اللاحق حتى يستصحب أحدهما ففي هذا المورد يكون اليد محققا ولا استصحاب ، فيكون هذا مورد الافتراق من جانب اليد.

وأما مورد الافتراق من جانب الاستصحاب فكثير ، وكذا مورد اجتماعهما فواضح ، كما إذا كان اليد محققا على مال وكان هذا لزيد قطعا وبعد قد صار في يد عمرو مثلا ، فنشكّ في بقاء ملكية زيد ونستصحب بقائها. وعلى طبيعة الحال تكون النسبة بينهما عموما من وجه ولا تكون اليد أخص من الاستصحاب حتى تتقدم عليه بالتخصيص هذا. وأجاب المصنف قدس‌سره عن هذا الاشكال والتوهم بجوابين :

الاول : هو الاجماع على عدم الفصل بين موارد اليد ، فكما يعمل باليد فيما لا استصحاب في موردها فكذلك يعمل بها فيما كان هناك استصحاب على خلافها.

الثاني : ان مورد افتراق اليد عن الاستصحاب نادر جدا ، وعليه فلو خصصنا قاعدة اليد بالاستصحاب وجعلنا مورد اجتماعهما تحت دليل الاستصحاب لقلّ مورد اليد حينئذ بلا شبهة ، أما بخلاف ما إذا خصصنا الاستصحاب بدليل اليد وجعلنا مورد الاجتماع تحت دليل اليد فلا يقلّ مورد الاستصحاب بلا كلام كما لا يخفى.

تعارض الاستصحاب والقرعة

قوله : وأما القرعة فالاستصحاب في موردها يقدم عليها ...

قال المصنف قدس‌سره : من جملة القواعد المقررة في المشكوكات والمشتبهات قرعة لانها ورد في الخبر القرعة لكلّ أمر مشكل ، أو لكل أمر مشتبه.

١٢٣

وأما القرعة فالاستصحاب الذي يجري في موردها يقدم عليها لأجل أخصية دليل الاستصحاب من دليل القرعة لاعتبار سبق الحالة السابقة فيه دونها ، فيدخل تحت قاعدة وجوب تخصيص العام بالخاص ، أي القرعة لكل أمر مشكل إلّا إذا كان اليقين السابق والشك اللاحق محققين في مورد المشكل ، أو المشتبه.

ولكن ثبت عمل الاصحاب (رض) بها في الموارد التي تبلغ ثمانية عشرة موردا في الابواب المتفرقة في علم الفقه الشريف ، فتختص القرعة في موارد لا يجري فيها الاستصحاب والبراءة والاحتياط ، فلو دار أمر المائع بين الخلّ والخمر لم يكن مورد للقرعة هاهنا ، لجريان اصالة الاباحة ، وكذا لو دار الامر بين الطهارة والحدث مع اشتباه المتأخر منهما فيجري اما استصحاب الطهارة ، واما استصحاب الحدث على الاختلاف بين الاعلام (رض) ولا تصل النوبة بالقرعة ، وكذا في الشبهة المحصورة لجريان اصالة الاحتياط فيها إلّا إذا تعسر فيها الاحتياط ، كما هو محل روايات القرعة الواردة في قطيع الغنم علم بحرمة نعجة فيها.

قوله : واختصاصها بغير الاحكام اجماعا لا يوجب الخصوصية ...

وزعم المتوهم بأن النسبة بين الاستصحاب وبين القرعة من النسب الأربع هي العموم من وجه ، وليس بينهما عموم مطلق مادة اجتماعهما في الشبهة الموضوعية مع سبق الحالة السابقة كما إذا كان الاناءان طاهرين ، ولكن وقعت قطرة من البول ، أو الدم في أحدهما ، وتجري القرعة فيه لانها لكل أمر مشتبه ، ومادة الافتراق عن جانب الاستصحاب فيما إذا استصحب وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، ومادة الافتراق عن جانب القرعة فيما إذا كانت الشبهة موضوعية ولم تعلم الحالة السابقة كما إذا جامع الحر والعبد والمشرك امرأة وحملت فادعى كل واحد منهم الولد ، ففي هذا المورد تجري القرعة ولا يجري الاستصحاب لعدم سبق الحالة

١٢٤

السابقة المتيقنة.

وعلى هذا الاساس كان الاستصحاب أخص من القرعة لاعتبار سبق الحالة المتيقنة فيه ، فكذلك القرعة تكون أخص من وجه من الاستصحاب لاختصاصها بالشبهات الموضوعية بالاجماع ، فصار كالانسان والابيض مثلا ، وليسا كالناطق والحيوان.

وعلى ضوء هذا فلا وجه لدعوى تقدم الاستصحاب على القرعة بالتخصيص بل لا بد من معاملة التعارض معهما لا تخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب.

في الجواب عنه

أجاب المصنف قدس‌سره عنه : بأن القرعة وان كانت تختص بالشبهات الموضوعية فقط ، ولا تجري في الاحكام الالهية أصلا ، ولكن ذلك الأمر لا يوجب خصوصية في جانبها بعد عموم دليلها بحسب اللفظ ، أي عموم الالفاظ الواردة في دليل القرعة من المشكل والمشتبه والمجهول ، بحيث يشمل الاحكام والموضوعات معا.

والحال ان المدار في النسبة بين الشيئين والدليلين هو نسبتهما بحسب انفسهما وذاتهما قبل تخصيص احدهما بمخصص. وليس المدار على النسبة المنقلبة الحاصلة بعد تخصيص أحدهما بمخصص فصارت القرعة من حيث الدليل أعم وصار الاستصحاب من حيث الدليل أخص لعدم اعتبار الحالة السابقة في القرعة في لسان دليلها ، واعتبارها في الاستصحاب.

هذا مضافا إلى ان كثرة تخصيص دليل القرعة أوجبت ضعف ظهور دليلها في العموم الذي يشمل الاحكام والموضوعات مع سبق الحالة السابقة ومع عدم سبقها

١٢٥

وضعف الظهور مانع عن جريان اصالة الظهور في دليلها.

ولهذا اشتهر بين الاصحاب (رض) ان العمل بالقرعة في كل مورد من مواردها يحتاج إلى عمل المعظم (رض) وقوة دليل الاستصحاب بسبب قلة تخصيصه بخصوص دليل كقاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ واصالة الصحة وقاعدة اليد مثلا. وقد سبق تحقيق هذا المطلب.

وعلى طبيعة الحال يجوز تخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب ، إذ لا سبيل إلى العمل بدليلها لوهنه وضعفه وكان لنا سبيل إلى العمل بعموم دليله لقوة دليله بقلة التخصيص ، وسيأتي تفصيل هذا في بحث التعادل والتراجيح ان شاء الله تعالى.

توضيح : في كثرة تخصيص دليل القرعة وقلة تخصيص دليل الاستصحاب

ويقال بعون الملك العلام ، لا يجوز التمسك بالقرعة إلّا في الشبهات الموضوعية ، ولا يجوز التمسك بها في جميع الشبهات الموضوعية إلّا في المواضع المعدودة التي تبلغ ثمانية عشرة موضعا ، وقد بيّنت في الكتب الفقهية في الابواب المتفرقة أما بخلاف دليل الاستصحاب فانه يجري في الشبهات الحكمية والموضوعية مع العلم بالحالة السابقة إلّا في المورد الذي يتحقق اليقين بالحجة على خلاف اليقين السابق.

قوله : لا يقال كيف يجوز تخصيص دليلها بدليله ...

اي كيف يجوز تخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب حال كون دليل القرعة رافعا لموضوع الاستصحاب ، إذ هو يوجب لنقض اليقين السابق بواسطة

١٢٦

اليقين بالحجة والبرهان على خلاف اليقين السابق كما هو حال الاستصحاب مع سائر الامارات ، إذ بعد قيام الامارات يكون نقض اليقين السابق باليقين اللاحق حتى يكون منهيا عنه بمقتضى أخبار الاستصحاب.

وعلى ضوء هذا ففي كل مورد تجري فيها القرعة فلا يكون الاستصحاب الذي يجري فيه مخصصا لها ، إذ دليل القرعة يكون واردا على دليل الاستصحاب كورود الامارات المعتبرة عليه لانه يرتفع به موضوع الاستصحاب ، ومع هذه الكيفية لا يجري الاستصحاب في موضع جريان القرعة.

وينبغي ان يقال ان الموارد التي تجري فيها القرعة لو اجرينا الاستصحاب على خلافها للزم أحد الأمرين على سبيل منع الخلو لدوران الأمر حينئذ بين التخصيص ، أي تخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب وبين التخصص والخروج الموضوعي ، أي نقول ان مع وجود القرعة نلتزم بارتفاع موضوع الاستصحاب ، فيكون خروج الاستصحاب عن القرعة كخروج الجاهل عن العالم.

ومن المعلوم ان في صورة دوران الأمر بين التخصيص وبين التخصص فيكون الثاني أرجح من الاول ، وقد سبق تحقيقه في بحث تعارض الاحوال في الجزء الاول من هذا الكتاب.

هذا ، مضافا إلى ان تخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب موجب للدور المحال. أما بيانه فلان كون الاستصحاب مخصّصا لدليل القرعة يتوقف على اعتباره شرعا في موردها واعتباره في مورد القرعة يتوقف على كونه مخصّصا له ، فيدور الامر حينئذ بين المخصّص على وجه الدائر وبين التخصص لا على وجه الدائر ، ولا ريب في رجحان الثاني.

١٢٧

في جواب المصنف قدس‌سره عنه

أجاب المصنف قدس‌سره عن الاشكال المذكور ان المشكوك الذي له حالة سابقة وان كان هو من المشكل والمجهول والمشتبه بعنوانه الواقعي ولكن ليس هو من المشكل والمجهول والمشتبه بعنوانه الظاهري الطارئ على المشكوك من تحريم نقض اليقين بالشك وهذا التحريم يستفاد من أخبار الاستصحاب والمستفاد من دليل القرعة أن يكون الشيء مشكلا ومجهولا ومشتبها واقعا وظاهرا.

وعليه فاذا علم الشيء بعنوان الاستصحاب فقد ارتفع المشكل الذي هو موضوع القرعة لكون الاستصحاب رافعا لموضوعها فيقدم بالتخصيص عليها من باب تقدم الخاص على العام في مورد التعارض ، بخلاف الامارات الأخر ، فان موضوعها مجهول الحكم بالعنوان الأولي كالجهل بحرمة الخمر وحلية الخل مثلا.

فاذا قام خبر العدل ، أو الثقة على حرمة الشيء مثلا فقد كان رافعا للشك في الحكم بعنوانه الواقعي ، وهو موضوع الاستصحاب ، ويكون هذا الخبر واردا أو حاكما على الاستصحاب ، وموضوع القرعة هو مجهول الحكم بكل عنوان ومطلقا لا في الجملة ، فلو علم الحكم بعنوان الاستصحاب لارتفع المشكل الذي هو موضوع القرعة ، لكون الاستصحاب رافعا لموضوع القرعة فيقدم عليها ، واختلاف الموضوع في القرعة وفي سائر الامارات أوجب الفرق بين القرعة وبين سائر الامارات المعتبرة بحيث يقدم الاستصحاب عليها وتقدم الامارات على الاستصحاب من باب الورود عند المصنف قدس‌سره ومن باب الحكومة عند الشيخ الانصاري قدس‌سره.

فتحصل مما ذكر : ان الامارات المعتبرة كآيات الاحكام واخبار العدول

١٢٨

وأخبار الثقات مبينة للاحكام بعنوانها الاولية وأن الاستصحاب مبيّن للاحكام بعنوانها الثانوية. وأن موضوع القرعة هو المجهول واقعا وظاهرا. وأن الامارات على خلاف الاستصحاب رافع للشك في الحكم الواقعي الذي هو موضوع الاستصحاب. وأن الاستصحاب رافع لموضوع القرعة ، إذ بالاستصحاب يحرز الحكم الظاهري ، فلا يبقى للقرعة موضوع بعد كون موضوعه الجهل بالحكم الواقعي والظاهري معا كما ذكرناه.

بل يقدم على القرعة أصل من الاصول كاصالة الطهارة واصالة الحل وغيرهما ، مما ليس له نظر إلى الواقع ، إذ هذه الاصول كاصالة الطهارة واصالة الحل واصالة الاباحة تعين الوظيفة الفعلية في ظرف الشك في الواقع ، أو بعد تعيين الوظيفة الظاهرية بواسطة هذه الاصول تنتفي القرعة بانتفاء موضوعها.

وبالجملة مورد القرعة نظرا إلى مورد الروايات الواردة فيها هو اشتباه الحكم الواقعي والظاهري فالمراد من قوله عليه‌السلام في رواية : (كل مجهول ففيه القرعة) هو المجهول المطلق ، أي المجهول من حيث الحكم الواقعي والظاهري.

وعلى هذا ، أي على كون موضوع دليل القرعة المجهول واقعا وظاهرا وبكل عنوان فمقتضى هذا تقدم الاستصحاب على القرعة لكون الاستصحاب بيانا للحكم الظاهري فيكون رافعا للجهل المطلق ، فدليل الاستصحاب يدل على حرمة نقض اليقين السابق بالشك اللاحق ، وهذا الدليل يصدق حقيقة على المشكوك الذي له حالة سابقة ، وهو رافع لموضوع دليل القرعة أيضا.

كما أن دليل الاستصحاب يكون مثبتا لحكم الشك المسبوق باليقين.

فالنتيجة : يثبت بدليل الاستصحاب الأمران :

الاول : كونه رافعا لموضوع دليل القرعة.

١٢٩

الثاني : كونه مثبتا لحكم الشك المسبوق باليقين.

وعلى طبيعة الحال لا بأس برفع اليد عن دليل القرعة عند دوران الأمر بين رفع اليد عن دليل القرعة ، وبين رفع اليد عن دليل الاستصحاب ، لأجل وهن عمومها بكثرة التخصيص وقوة عمومه بقلة التخصيص ، كما أشير إلى المطلب سابقا.

قوله : فافهم ...

وهو اشارة إلى انه ينبغي أن يعلّل تقديم الاستصحاب على القرعة بكونه رافعا لموضوع دليل القرعة ولا يعلّل تقديمه عليها بوهن عمومها وقوّة عمومه ، إذ لم تثبت كثرة التخصيص في دليل القرعة ، لان الموارد التي لم يعمل فيها بالقرعة انما هو لعدم اشتباه الحكم الظاهري فيها لجريان قاعدة من القواعد الظاهرية من اصالة الطهارة واصالة الحل واصالة الاباحة واصالة الصحة ، لا لأجل تخصيص أدلة القرعة فلم تثبت كثرة التخصيص في أدلة القرعة الموجبة لوهنها وضعفها كما لا يخفى.

الأخبار الواردة في القرعة

وينبغي التنبيه على أخبار القرعة وهي كثيرة :

منها : ما رواه الشيخ والصدوق قدس‌سرهما باسنادهما عن محمد بن حكيم ، أو الحكم قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن شيء فقال لي : (كل مجهول ففيه القرعة) ، قلت : إن القرعة تخطئ وتصيب؟ قال : (كلما حكم الله به فليس بمخطئ) (١).

ومنها : ما رواه منصور بن حازم قال : سأل بعض اصحابنا أبا عبد الله

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ج ١٨ ، ص ١٨٩ ، أبواب الحكم بالقرعة ، الباب ١٣ ، الحديث ١١.

١٣٠

الصادق عليه‌السلام عن مسألة فقال : (تخرج بالقرعة) ثم قال : (فأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوضوا أمرهم إلى الله عزوجل أليس الله يقول : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)(١) ، ورواه ابن طاوس في الاستخارات مثله.

ومنها : ما رواه محمد بن مروان عن الشيخ قدس‌سره قال : إن أبا جعفر عليه‌السلام مات وترك ستين مملوكا وأوصى بعتق ثلثهم ، فأقرعت بينهم فأعتقت الثلث (٢).

وغيرها من الروايات المذكورة في الوسائل وهي طائفتان : الاولى عامة ، والثانية خاصة.

والمراد من العامة كونها مشتملة على كلمة كل مثل : (كل مجهول ففيه القرعة) و (القرعة لكل أمر مشتبه) ونظائرهما. والمراد من الخاصة كون القرعة واردة في الموارد الخاصة ، ولم تشتمل اخبار القرعة على كلمة (كل) ويظهر لك هذا المطلب بمراجعة الوسائل.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلى الله

تعالى على سيدنا ونبينا محمد وآله المعصومين.

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ج ١٨ ، ص ١٩١ ، أبواب الحكم بالقرعة ، الباب ١٣ ، الحديث ١٧.

٢ ـ وسائل الشيعة ج ١٨ ، ص ١٨٩ ، أبواب الحكم بالقرعة ، الباب ١٣ ، الحديث ١٠.

١٣١

مبحث التعادل والتراجيح

بيان تعريف التعارض

قوله : المقصد الثامن : في تعارض الأدلة والامارات ...

المقصد الثامن من الكتاب في بيان حال تعارض الادلة وتعارض الامارات ، وفي بيان مرجحات التعارض والمتعارضين ، والتعارض عبارة عن تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الاثبات ، بحيث يدل كل واحد من الدليلين ، أو الأدلة على نقيض الآخر ، إذا كان التنافي بينهما على وجه التناقض ، كأن يدل أحدهما على وجوب شيء والآخر يدل على عدم وجوبه.

مثلا : يدل أحد الخبرين على وجوب الاقامة والآخر على عدم وجوبها أو يدل أحدهما على وجوب الشيء والآخر على حرمته وذلك كصلاة الجمعة فى عصر الغيبة ، إذا كان التنافي بينهما على وجه التضاد ، فالتضاد أما حقيقي ، وإما عارضي ، فالأوّل كأن يدل أحد الدليلين على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة والآخر على حرمتها فيه ، بحيث يكون موضوعهما واحدا.

والثاني : كأن يدل أحدهما على وجوب صلاة الجمعة والآخر على وجوب صلاة الظهر في عصر الغيبة ، ولكن نعلم من الخارج بكذب أحدهما مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا ، إذ ليس التنافي بين هذين الدليلين ذاتا لانه من الممكن أن يجب كلاهما معا ، ولكن نعلم اجمالا بأن احدهما ليس بموافق للواقع ، إذ ليس في زمان فارد في يوم واحد وجوب الصلاتين معا شرعا ، فليس التنافي بينهما ذاتا بل عرضا.

فالنتيجة : يمتنع الاجتماع في التضاد الحقيقي كامتناع وجوب صلاة الجمعة

١٣٢

وحرمتها ، ولا يمتنع في التضاد العرضي ، كعدم امتناع وجوب صلاة الجمعة ووجوب صلاة الظهر ، أو وجوب التمام ، ووجوب القصر. فالتعارض عبارة عن تنافي الدليلين أو الدلالة بنحو التناقض ، أو بنحو التضاد الحقيقي ، أو بنحو التضاد العرضي ، وأمثلة الكل قد مضت. وإذا تحقق التعارض بين الادلة والامارات بهذا المعنى ، فلا بد من الرجوع إلى احكام التعارض وإلى المرجحات سندا ، أو دلالة ، كما سيأتي عن قريب.

وأما الشيخ الانصاري قدس‌سره فقد ذهب إلى ان التعارض عبارة عن تنافي الدليلين بحسب مدلولهما لا بحسب دلالتهما ومقام الاثبات ، والمصنف قدس‌سره اختار كون التعارض عبارة عن تنافي الدليلين بحسب الدلالة.

قوله : وعليه فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي ...

شرع المصنف قدس‌سره في بيان الثمرة التي تظهر بين مذهبه ومذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، فعلى مذهب المصنف قدس‌سره إذا كان بين الدليلين المتنافيين حكومة ، أو ورود ، أو توفيق عرفي ، أو تخصيص ، أو تقييد فهما خارجان عن تعريف التعارض موضوعا لعدم تنافيهما بحسب الدلالة ومقام الاثبات أما بخلافهما على مختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، فانّ هما داخلان فيه لتنافيهما بحسب المدلول والمعنى.

خلاصة الكلام : إذا كان التعارض عبارة عن تنافي الدليلين بنحو التناقض أو التضاد فلا تعارض بين الحاكم والمحكوم ، إذ أهل العرف وأبناء المحاورة يقدمان الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ، مثلا : إذا قال المولى : (إذا شككت بين الأقل والأكثر فابن على الاكثر) وإذا قال : (لا شك لكثير الشك) والثاني ناظر إلى الدليل الاول وحاكم عليه ، إذ الدليل الثاني قد سيق لبيان حال الدليل الاول ، وهو ناظر اليه بحيث قال المولى : ان البناء على الاكثر في صورة الشك بين الأقل والأكثر ، فهو مرفوع في كثير الشك. فالدليل الحاكم ناظر إلى الدليل الاول ومفسّر له.

١٣٣

ولهذا لا يرى العرف بينهما تعارضا أصلا ، ولا يعامل معهما معاملة المتعارضين ، كما أنه من هذا القبيل حال تعارض الادلة والامارات مع الاصول العملية ، أي حكومة الامارات على الاصول العملية.

وبالجملة : إذا كان أحد الدليلين مفسرا لمقدار دلالة الدليل الآخر وكان ناظرا إليه فليس التنافي والتعارض بينهما بموجودين ، بل يكون بينهما حكومة ، والدليل الحاكم يقدّم على الدليل المحكوم ، سواء كان مقدما عليه من حيث الصدور أم مؤخرا عنه صدورا عن المعصوم عليه‌السلام ، وسواء كان الحاكم أخص من المحكوم ، أم أعم منه ، ففي جميع هذه الموارد يقدم الحاكم على المحكوم.

وكذلك لا تنافي ولا تعارض بين الدليلين إذا كان الجمع بينهما عرفا ممكنا ، بحيث إذا عرضا على أهل العرف لجمع بينهما ولم يتحير فيهما ، لأن أهل العرف يرى أحدهما حال كونه قرينة على الآخر ، ويتصرف في أحدهما كما هو مطرد في مثل الأدلة الاولية المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات الاختراعية ، أو الامضائية بعناوينها الاولية مع مثل الادلة النافية للعسر بنحو قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١) ، والنافية للحرج نحو قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) ، والنافية للضرر والضرار نحو قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) ، والنافية للاكراه والاضطرار نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه وما اضطرّوا اليه). الحديث.

وهذه الامور ترفع أحكام الوضوء والغسل والصوم إذا كان كل واحد منها ضرريا ، أو إذا كان الصوم حرجيا ، أو إذا كان شرب المسكر مثلا اكراهيا ، أو اضطراريا. فالمراد من الادلة النافية هو الادلة النافية للتكليف في موارد العسر

__________________

١ ـ سورة البقرة : ١٨٥.

٢ ـ سورة الحج : ٧٨.

١٣٤

والحرج والضرر.

فالنتيجة : ان المصنف قدس‌سره يرى أن الحكومة عبارة عن أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى بيان مقدار المراد من الدليل الآخر ، ولهذا يقال ان الحاكم اما موسّع لموضوع المحكوم ، أو مضيّق له ، سواء كان الحاكم مقدما من حيث الصدور على المحكوم ، أم مؤخرا عنه ، خلافا للشيخ الأنصاري قدس‌سره حيث اشترط في الحكومة أن يكون الحاكم مؤخرا عن المحكوم صدورا.

قوله : في مثل الادلة المتكفلة لبيان أحكام ...

أي مثل الأدلة التي تبيّن وجوب الوضوء ولو كان ضرريا ، أو حرجيا فهي تعارض مع الأدلة التي تنفي الحرج والضرر والضرار نحو قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ونحو قول الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) ، وكذا تعارض مع الادلة التي تنفي للتكليف عند الاكراه والاضطرار.

ولكن تقدم الادلة النافية للتكليف في موارد الحرج والضرر والاكراه والاضطرار ، ولا تلاحظ النسبة بينهما أصلا كي يقال ان بين الوضوء والضرر عموما من وجه فاللازم حينئذ ملاحظة الترجيح بينهما في مورد الاجتماع ، وكذا بين الوضوء والحرج والاكراه وبينه والاضطرار تكون النسبة ايضا عموما من وجه.

مثلا : إذا قال المولى : (اكرم العلماء ولا تكرم الفساق) ومن الواضح ان بين العالم والفاسق عموما من وجه ، وفي العالم الفاسق يتعارض الدليلان ، فلا بد من ملاحظة الترجيح بينهما في مورد اجتماعهما كي يجب اكرام العالم الفاسق ، أو يحرم اكرامه. أما بخلاف ما نحن فيه فانه تقدم الادلة النافية للتكليف في موارد الضرر والحرج والاكراه والاضطرار لحكومتها على الادلة الاولية. وبيان المرجحات سيأتي إن شاء الله تعالى.

قوله : ويتفق في غيرهما كما لا يخفى ...

١٣٥

أي قد يتفق التوفيق العرفي في غير الأدلة التي تتكفل لبيان احكام الموضوعات بعناوينها الاولية ، وفي غير الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الثانوية ، كما إذا اتفق تضرر الجار بحفر البالوعة ، أو وقوع زيد في الحرج الشديد بعدم حفر البالوعة ، مثلا : إذا حفر مالك الدار بالوعة في بيته فقد تضرر الجار وإذا لم يحفرها فقد وقع المالك في الحرج الشديد. ويتفق التوفيق العرفي في بين الادلة التي تتكفل احكام الموضوعات بعناوينها الثانوية من حيث الضرر والحرج بهذا العنوان الذي هو رافع للحرج ودافع للتضرر كما لا يخفى.

حكومة الامارات على الاصول

قوله : ، أو بالتصرف فيهما فيكون مجموعهما ...

اي كان الدليلان ثابتين على نحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما بالتصرف فيهما بنحو حمل الظاهر على الأظهر ، والحال انه كان مجموعهما قرينة على التصرف فيهما كما في قوله عليه‌السلام في رواية محمد بن المصادف رضى الله عنه : (لا بأس بثمن العذرة) وفي رواية يعقوب بن شعيب رضى الله عنه : (ثمن العذرة سحت) بشرط أن يكون الدليل الآخر الذي لم يتصرف فيه أظهر من الدليل الذي تصرّف فيه.

وقد جمع الشيخ الطوسي قدس‌سره بين الروايتين المذكورتين بحمل الأول على عذرة البهائم ، لان الأول نص في عذرة البهائم وظاهر في عذرة الانسان ، والثاني نص في عذرة الانسان وظاهر في عذرة البهائم. فيطرح ظاهر كل واحد منهما بنص الآخر.

ولا يخفى عليك أن الجمع العرفي الذي يتحقق بالتصرف في الدليلين انما يتحقق به فيهما معا ، أو في أحدهما المعين ، أو في أحدهما غير المعين ، ويتصرف في الدليلين معا من حيث الجمع العرفي ، سواء كان الدليلان متساويين نصا وظهورا أم

١٣٦

كان احدهما نصا ، أو أظهر والآخر ظاهرا.

أما إذا تصرف في أحدهما المعين فيشترط أن لا يكون الدليل الذي لم يتصرف فيه أظهر من الدليل الذي وقع مورد التصرف ، ولا يعمل به فقط ويحمل الآخر عليه من باب حمل الظاهر على الأظهر كما لا يخفى.

وقد ظهر مما سبق من معنى التعارض أن مورد التخصص والورود والحكومة والتخصيص خارجة عن التعارض لعدم التنافي بين مدلول دليلين في هذه الامور. أما مورد التخصص فهو خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الدليل الآخر بالوجدان.

وعليه : فلا تنافي بين دليل (أكرم العلماء) وبين دليل (لا تكرم الجهال) لأنّ الجهال خارجة عن موضوع العلماء بالوجدان. وكذا الورود ، فانه عبارة عن الخروج الموضوعي بالوجدان أيضا.

غاية الامر : ان الخروج المذكور انما يكون من جهة التعبد الشرعي ، كما في موارد قيام الدليل الشرعي بالنسبة إلى الاصول العقلية ، كالبراءة والاشتغال والتخيير. فان موضوع حكم العقل بالبراءة عدم البيان ، إذ ملاك حكمه بها هو قبح العقاب بلا بيان وقيام الدليل الشرعي يكون بيانا ، فينتفي موضوع العقل بالوجدان ببركة التعبد بحجيّة هذا الدليل.

وكذا الكلام بالنسبة إلى الاشتغال والتخيير ، فان موضوع حكم العقل بالاشتغال احتمال الضرر ، وموضوع حكمه بالتخيير هو التحيّر في مقام العمل ، كما في دوران الأمر بين المحذورين. ومن الواضح أنه بعد قيام الحجة الشرعية كالآية الشريفة والاخبار المعتبرة ، لا يبقى احتمال الضرر ولا التحير في مقام العمل ليكون موردا لحكم العقل بدفع الضرر المحتمل ، أو حكمه بالتخيير بين الفعل والترك من جهة اللاحرجية. هذا. وأما الحكومة فهي على قسمين :

١٣٧

القسم الأول : ما يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا للمراد من الدليل الآخر ، سواء كان مصدّرا بكلمة مفسرة من نحو (أي) التفسيرية و (أعني) ، أم لم يكن مصدّرا بها ، ولكن كان لسانه شارحا للمراد من الدليل الآخر ، بحيث لو لم يكن الدليل المحكوم موجودا لكان الدليل الحاكم لغوا ، كقوله عليه‌السلام : (لا ربا بين الوالد والولد) فانه شارح للدليل الدال على حرمة الربا ، إذ لو لم يرد دليل على حرمة الربا لكان الحكم بعدم الربا بينهما لغوا.

القسم الثاني : من الحكومة أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الحكم في الدليل الآخر ، وان لم يكن بمدلوله اللفظي شارحا له ، وهذا كحكومة الامارات المعتبرة على الاصول الشرعية من البراءة والاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز وغيرها من الاصول الجارية في الشبهات الحكمية ، أو الموضوعية. فان أدلة الامارات لا تكون ناظرة إلى أدلة الاصول وشارحة لها بحيث لو لم تكن الاصول الشرعية من البراءة والاشتغال والاستصحاب وغيرها مجعولة لكان جعل الامارات لغوا. فان الخبر مثلا حجة سواء كان الاستصحاب حجة ، أم لا.

ولا يلزم كون حجية الخبر لغوا على تقدير عدم حجية الاستصحاب إلّا أن الامارات موجبة لارتفاع موضوع الاصول العملية بالتعبد الشرعي ، ولا تنافي بينهما كي يدخل في التعارض ، إذ الموضوع المأخوذ في أدلة الاصول هو الشك ، واما كون المكلف شاكا ، أو غير شاك فهو خارج عن مفادها.

والامارات ترفع الشك بالتعبد الشرعي وتجعل المكلف عالما تعبديا وان كان شاكا وجدانيا. وعلى هذا الاساس فلا يبقى موضوع للاصول بعد قيام الامارة ولا منافاة بينهما.

وأما التخصيص فالوجه في خروجه عن التعارض أن حجيّة العام بل كل دليل تتوقف على تحقق أمور ثلاثة :

١٣٨

الأوّل : صدوره عن المعصوم عليه‌السلام.

الثاني : اثبات أن ظاهره مراد المتكلم لاحتمال أن يكون مراده خلاف الظاهر.

الثالث : اثبات الارادة الجدية وأنه في مقام بيان الحكم جدا لاحتمال أن يكون ظاهره مراده بالارادة الاستعمالية فقط دون الارادة الجدية ، لكون المولى في مقام الامتحان ، أو التقيّة مثلا.

ومن الواضح : أن المتكفّل للأمر الأول هو البحث عن حجيّة الخبر الواحد بشرط أن يكون راويه ثقة ، أو عادلا بالتعبد الشرعي. والأمران الآخران ثابتان ببناء العقلاء بما هم عقلاء.

وعليه فمن تكلم بكلام ثم اعتذر بان ظاهره لم يكن مرادي مع عدم نصب قرينة على الخلاف ، أو اعتذر باني لم أرد ظاهره بالارادة الجدية وانما قلته امتحانا مثلا ، فلم يقبل هذا الاعتذار منه اصلا.

فلا تنافي بين العام والخاص لان الخاص يقدم على العام من باب الحكومة بالنسبة إلى دليل حجيّة العام وان كان تخصيصا بالنسبة إلى نفس العام.

ومعيار الفرق بين التخصيص والحكومة المصطلحة أن الدليل الحاكم حاكم على نفس الدليل المحكوم في الحكومة الاصطلاحية ، أما بخلاف التخصيص فان الخاص ليس حاكما على نفس العام ، بل هو حاكم على دليل حجية العام ، فلا يتوقف تقديم الخاص على العام كون الخاص أظهر من العام لان موضوع حجيّة العام هو الشك وبورود الخاص يرتفع الشك فيسقط العام عن الحجيّة في العموم.

ولو كان في أعلى مرتبة من الظهور فيقدم الخاص عليه وان كان في أدنى مراتب الظهور ، وبعد ارتفاع موضوع حجية العام وبعد عدم كون العام حجة لا معنى للتعارض بين العام وبين الخاص لان التعارض هو تنافي الدليلين والحجتين من حيث المدلول.

١٣٩

في وجه تقديم الامارات على الاصول

قوله : ولذلك تقدم الامارات المعتبرة على الاصول الشرعية ...

ولأجل توفيق العرف بين الامارات المعتبرة والاصول الشرعية تقدّم الامارات على الاصول الشرعية ، فان أهل العرف لا يتحيرون بينهما أصلا ، فيقدمون الاولى على الثانية في مقام العمل.

واستدل عليه : بانه ان أخذنا بالامارات فلا يلزم منه محذور سوى ارتفاع موضوع الاصول الشرعية وهو الشك بسبب الامارات المعتبرة ، وهذا لا بأس فيه ، وان اخذنا بالاصول فان كان رفع اليد عن الامارات بلا مخصص لها يخرجها عن تحت ادلة اعتبارها فهذا تخصيص بلا مخصص. وان كان رفع اليد عن الامارات المعتبرة لأجل مخصصية الاصول للامارات فهذا دور صريح ، لان مخصصيتها للامارات تتوقف على اعتبار الاصول مع الامارات واعتبارها معها يتوقف على مخصصيتها لها ، وإلّا لكانت الامارات رافعة لموضوعها.

ولا ريب في أن كل من التخصيص بلا وجه والتخصيص على نحو دائر محال. وقد سبق توضيح هذا كله في وجه تقديم الامارات على الاستصحاب ، وفي وجه الاصل السببي على الاصل المسببي ، وفي وجه تقديم الاستصحاب على القرعة في أواخر بحث الاستصحاب.

قوله : وليس وجه تقديمها حكومتها على أدلتها ...

ذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره إلى حكومة الامارات على الاصول الشرعية ، ولكن أجاب المصنف صاحب الكفاية قدس‌سره : بأن الحكومة عبارة عن الادلة التي تكون ناظرة إلى الأدلة الاخرى وشارحة لها ، وأدلة الامارات ليست بناظرة إلى أدلة الاصول الشرعية أصلا كي تكون حاكمة عليها.

١٤٠