البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-94105-2-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٣٣

وعلامته صحّة وقوع لفظ بعض موقعها ، أي إذا أمرتكم بشيء فأتوا بعضه وقت استطاعتكم وقدرتكم ، نحو قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) ، أي بعضهم ، أي إذا أمرتكم بشيء فأتوا بعضه وقت استطاعتكم وزمان قدرتكم بعد تعذّر الإتيان بجميعه ، فالاستدلال به مبتن على كون كلمة (من) تبعيضية وال (ما) مصدرية ظرفية أو موصولة ، أو موصوفة بدلا من (منه).

ويحتمل أن تكون بيانية وهي التي يكون مدخولها جنسا نحو قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ، أي الذي هو الأوثان وعلامتها حلول لفظ الذي موقعه كما في الآية الشريفة المذكورة ، وأن تكون بمعنى الباء جيئت للتعددية نحو قوله تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) ، أي بطرف خفي ، وعلى هذين الاحتمالين لا يدل الحديث الشريف على وجوب الإتيان ببعض أجزاء المركب بعد تعذر القراءة والستر ، إذ يصير معناه وجوب الإتيان بشيء مقدور ، ولا نزاع فيه ، أي إذا أمرتكم بشيء فأتوا الذي استطعتم به ، أو فأتوا بشيء استطعتم به.

ولكن الأظهر ان الإتيان يتعدّى بالباء إلى المأتي به نحو قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَ) وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ). وعليه فالأظهر كون (من) تبعيضية.

وفي ضوء هذا لا يدل على المدعى كما لا يخفى على أهل الفن ، ولكن ظهور كلمة (من) في التبعيض لا يخفى على أحد ولكن ظهورها في تبعيض الاجزاء غير واضح لاحتمال أن يكون التبعيض بلحاظ أفراد المأمور به لا بلحاظ أجزائه ، أي إذا أوجبت عليكم شيئا فأتوا منه ما دام قدرتكم عليه ، فكل فرد من أفراد المأمور به إذا كان مقدورا لكم فأتوا منه وكل فرد من أفراد المأمور به إذا لم يكن مقدورا لكم فهو ساقط عنكم ، هذا أوّلا.

وثانيا لو سلمنا ظهورها في التبعيض بحسب الاجزاء فلا محيص عن أن

٨١

يكون بلحاظ الافراد من جهة لزوم مطابقة الجواب للسؤال عن تكرار الحج بعد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحج.

والتفصيل انّه قد روى أبو هريرة بطرق العامة قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجّوا فقال رجل : أكلّ عام يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قالها ثلاثا ، أو فقال : ان الله كتب عليكم الحج فقام عكاشة ويروى سراقة بن مالك فقال : في كل عام يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعرض عنه حتى أعاد مرّتين ، أو ثلاثا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجب ولو وجب ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتم وانّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم (عليهم الصلاة والسلام) فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، أو فدعوه. وترجمة الحديث واضح. ولا بأس بالإشارة إلى ترجمته ، ويقال : ان بعد إعلام الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة بوجوب الحج قام سراقة بن مالك أو عكاشة فقال : ان الحج واجب علينا في كل عام حتّى كرّر هذا الكلام فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام العتاب عليه : ويحك وما يؤمنك قولي نعم عن وجوب الحج من قبل الله تعالى عليكم ولو وجب عليكم في كل سنة لما كان مقدورا لكم ولو تركتم في كل عام الحج لكفرتم ، إذ ترك الحج عمدا موجب للكفر وخلّوا سبيلي ولا تسألوا عنّي كثيرا ، إذ هلك الامم الماضية بكثرة السؤال وبكثرة الاختلاف والقيل والقال إلى أنبيائهم في كثير من الأوقات والأزمان (عليهم الصلاة والسلام). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أوجبت عليكم شيئا فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ، أو فاجتنبوه.

قوله : ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضا ...

قد ظهر لك من عدم ظهور الخبر النبوي في التبعيض بحسب الاجزاء ، قد ظهر الاشكال في دلالة الخبر الثاني على المدعى ، إذ يرد الاشكال في دلالته

٨٢

من وجهين :

أحدهما : ان الميسور على نحوين :

الأوّل : أن يكون بحسب الاجزاء.

والثاني : أن يكون بحسب الافراد ، والمفروض كون الاستدلال به على المدعى منوطا بإرادة الميسور بحسب الاجزاء ولكن يحتمل أن يكون الميسور بحسب الافراد.

وعليه لا يصلح الاستدلال به لما نحن فيه ، إذ يحتمل عدم سقوط الميسور من الاجزاء بواسطة معسورها ، كذا يحتمل عدم سقوط الميسور من أفراد العام من جهة معسورها.

مثلا ؛ إذا أمرنا المولى باكرام العلماء بقوله : أكرم العلماء ، ويكون مصاديقهم مائة كاملة ولكن يمكن لنا إكرام ثمانين فردا من أفرادهم ولا يمكن لنا إكرام عشرين فردا من أفرادهم ومصاديقهم فتجري القاعدة الميسور في هذا المقام ويكرم الثمانون فردا.

وفي ضوء هذا لا ترتبط هذه القاعدة بما نحن فيه وهو عبارة عن الإتيان بالمركب ذي أجزاء إذا تعذّر بعض أجزائه. وفيه : أنّه يحتمل احتمالا قويّا أن يكون المراد مطلق الميسور سواء كان ذا أجزاء ، أم كان ذا أفراد نظرا إلى اطلاق الحديث.

وثانيهما : وهو أن شمول الميسور للمستحبّات مانع عن التمسّك بقاعدة الميسور على وجوب الباقي من أجزاء المأمور به ، أو بتقرير آخر وهو أنّه لا يدل الحديث المذكور على عدم السقوط لزوما بسبب المعسور لعدم اختصاصه بالواجب فيتعذّر حمل قوله عليه‌السلام «الميسور لا يسقط بالمعسور» على الوجوب لأنّه يلزم منه خروج المستحبّات إذا تعذّر بعض أجزائها ، إذ لا ريب في عدم وجوب الباقي فيها.

وعليه فيدور الأمر حينئذ بين تخصيص الحديث الشريف بالواجبات فقط ،

٨٣

وبين حمله على ثبوت حكم الميسور ولو بنحو الاستحباب ، والثاني أولى من الاول لأنّه أظهر منه من جهة الاطلاق ؛ فلا تدل قاعدة الميسور على وجوب الباقي كما لا يخفى.

قوله : إلّا أن يكون المراد عدم سقوطه بما له من الحكم وجوبا كان ندبا ...

هذا استدراك على الإشكال الوارد على الاستدلال بالحديث الشريف وخلاصة الاستدراك ودفع الاشكال أن المراد من عدم السقوط ليس مجرّد المطلوبية ، أي مطلوبية إتيان الميسور بنحو الوجوب حتّى يرد الإشكال المذكور. بل المراد منه عدم سقوط حكم الميسور وحينئذ تقتضي القاعدة في الواجبات وجوب الباقي وفي المستحبّات استحبابه فيتم المطلوب.

فإن قيل : لم يعبّر في الحديث الشريف بالحكم ، أي حكم الميسور لا يسقط.

قلنا : تعارف التعبير عن مقام ثبوت الحكم التكليفي ، أو نفيه بثبوت موضوعه أو نفي موضوعه كما في حديث لا ضرر ولا ضرار في الإسلام بناء على ما سيأتي إن شاء الله تعالى من كون المراد من هذا الحديث نفي الحكم الثابت للموضوع الضرري ، أي ليس الوجوب للوضوء الضرري وللغسل الضرري مثلا. وكذا الحديث الشريف ، أي «حكم الميسور لا يسقط» بسبب تعسّر البعض وكذا تعارف التعبير عن مقام ثبوت الحكم الوضعي ، أو نفيه بثبوت موضوعه ، أو نفي موضوعه نحو : لا بيع إلّا بالتقابض ، أي لا صحّة لبيع الصرف إلّا بالتقابض.

وأمّا مثال ثبوت الحكم التكليفي بثبوت موضوعه فمثل أن يقال : التكبيرة الاحرام مثلا ثابت في الشريعة المقدّسة ، أي وجوبها ثابت فيها.

فالمراد من عدم سقوط الميسور عدم سقوطه بما له من الحكم وجوبا كان ندبا ، كما أن الظاهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» هو نفي ما للضرر من الحكم تكليفا كان ، أو وضعيا ، وليس المراد عدم سقوط الميسور بنفسه

٨٤

وبقائه بعينه في عهدة المكلف كي لا يشمل الحديث الشريف المستحبّات إذا كان عدم السقوط بنحو اللزوم ، أو لا يشمل الواجبات إذا كان عدم السقوط لا بنحو اللزوم.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أن حمل عدم سقوط الميسور على البقاء في العهدة يلزم منه خروج المستحبّات جزما ، إذ لا عهدة لها ، وانّما تكون العهدة للواجبات فقط ، أو إشارة إلى أن نفس الميسور باق على حاله سواء كان واجبا ، أم كان مستحبّا.

والتفصيل فإن كان كان واجبا فهو باق على حاله ، أي كان واجبا ؛ وإن كان مستحبّا فهو باق على حاله ، أي كان مستحبّا.

وفي ضوء هذا فلا يتغيّر حكم الميسور بعد تعسّر بعض الاجزاء والشرائط ، وعليه لا فرق بين حكم الميسور قبل التعسّر وبعد التعسّر.

وفي ضوء هذا لا حاجة إلى الالتزام بعدم سقوط بما له من الحكم بعد فرض أن المراد من عدم سقوط الميسور عدم سقوطه بنفسه كما لا يخفى.

قوله : وامّا الثالث فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي لا الافرادي ...

قد استشكل في دلالة الحديث الثالث على المدعى من وجوه أربعة :

أحدها : ان جملة لا يترك كلّه خبرية لكون ال (لا) فيها نافية وليست بناهية كي تكون إنشائية دالّة على حرمة الترك مطابقة وكي تدل بالالتزام على وجوب إتيان معظم الاجزاء ، أو أكثر الافراد ، وإذا كانت خبرية فلا تدل إلّا على الرجحان أو رجحان إتيان المعظم ولا تدل على حرمة الترك كي تدل على وجوب الإتيان بالباقي.

ثانيها : أنّه لو سلم ظهورها في الحرمة من باب المماشاة مع الخصم فالأمر يدور بين حمل الجملة الخبرية على مطلق المرجوحية كي تلائم عموم الموصول

٨٥

الشامل للواجبات والمندوبات جميعا ، وبين تخصيص الموصول بالواجبات واخراج المندوبات عنه ليلائم ظهور الجملة في الحرمة بناء على كون اللا ناهية. ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.

ثالثها : أنّه من المحتمل أن يكون لفظ الكل في قوله عليه‌السلام «ما لا يدرك كلّه» للعموم الافرادي لا العام المجموعي فيختص بعام له أفراد وذلك كالعالم مثلا في قولك : أكرم كلّ عالم ، فلا يختص بمركّب له أجزاء كالصلاة والحج مثلا ليستدل به في المقام.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى الإشكال الثالث بقوله : فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي ، وإلى الإشكال الأوّل بقوله : إلّا على رجحان الإتيان ، وإلى الإشكال الثاني بقوله : لو سلم موجبا لتخصيصه ، أي لتخصيص الموصول بالواجب لو لم يكن ظهوره ، أي ظهور الموصول في الأعم قرينة على التصرّف في ظهور «لا يترك» بحمله على الكراهة ، أو مطلق المرجوحية من النفي ، وهو عبارة عن جملة لا يترك على تقدير كون اللا فيها ناهية فتنتفي دلالة جملة لا يترك على الوجوب لكونها حينئذ جملة إنشائية دالّة على الكراهة.

فإن قيل : انّه على تقدير كون اللا ناهية تكون جملة لا يترك ظاهرة في الحرمة بل تكون حقيقة فيها. وعلى هذا فلم حملت على الكراهة؟

قلنا : إنّ جملة ما لا يدرك كلّه تشمل الواجبات والمستحبّات بواسطة الماء الموصولة.

ومن الواضح أنّه لا يحرم ترك المستحبّات وحينئذ لا بد أن تكون ظاهرة في مطلق الرجحان ، أي رجحان فعل الباقي ومرجوحية الترك سواء كان مع المنع من النقيض ، أم كان مع عدم المنع من النقيض. وعليه فتشمل الجملة الواجبات والمستحبّات.

٨٦

فإن قيل : إنّ جملة لا يترك ظاهرة في الوجوب بالدلالة الالتزامية بواسطة كون اللاظاهرة في النهي ، والنهي حقيقة في الحرمة وهي تدل على حرمة ترك الباقي مطابقة ، وهي تدل بالالتزام على وجوب الباقي وهذا قرينة على أن المراد من الموصول يكون واجبات فقط.

قلنا : ان الموصول أظهر في التعميم من جملة لا يترك في الوجوب ، فهذا التعميم قرينة على أن المراد مطلق المرجوحية ، أي مرجوحية الترك ، أو لأقل من أن يكون الفعل للباقي والترك له متساويين ، وعليه فليس الحديث الشريف بظاهر في وجوب الباقي بل يصير الخبر حينئذ مجملا.

وكيف كان فليس النفي وهو عبارة عن جملة لا يترك ظاهرا في اللزوم والوجوب في هذا المقام لمعارضة ظهور الموصول في الأعم من الواجب والمستحب مع ظهور لا يترك في الوجوب وعند المعارضة يقدّم ظهوره على ظهورها لأنّ ظهور الموصول في العموم انّما يكون بالوضع وظهور لا يترك في الوجوب بناء على كون اللا فيها ناهية إنّما يكون بالالتزام ، إذ النهي قد دل على حرمة الترك ومن لازمه العقلي وجوب إتيان الباقي ولا ريب في أن الدلالة الوضعية المطابقية أقوى من الدلالة الالتزامية والقوي لا يقاوم مع الأقوى ولو قيل بظهوره في اللزوم في غير المقام إذا لم يكن لظهوره معارض أقوى.

بيان التوسعة وتضييق الروايات

قوله : ثم إنّه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي ...

فلو قطعنا النظر عن الإشكالات الواردة في سند هذه الروايات لأنها من

٨٧

المراسيل الضعاف ولا سيما أن راويها أبو هريرة الذي حاله أظهر من أن يخفى وقد تصدّى لإثبات كونه متعمّدا في الكذب على الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سماحة آية الكبرى السيّد شرف الدين العاملي رحمه‌الله ، وفي دلالتها لأنّ الاحتمالات في الاولى منها ثلاثة :

الاحتمال الأوّل : أن تكون كلمة (ما) موصولة ومفعولا ل (فأتوا) ، وكلمة (من) تبعيضية متعلّقة بما استطعتم ؛ فيكون مفاد الرواية وجوب الإتيان بما هو المقدور من أجزاء المأمور به وشرائطه فالاستدلال بها مبني على هذا المعنى ، ولكن لا يمكن الالتزام بهذا المعنى لوجهين :

الأوّل : فان المكلف الذي يعلم بعدم قدرته على الطواف مثلا لا يجب عليه الإتيان بالبقية اتفاقا.

الثاني : لعدم مناسبة هذا المعنى للسؤال فانّ السؤال انّما هو عن وجوب الحج في كل سنة ولا يناسبه الجواب بوجوب الإتيان بما هو مقدور له من اجزاء المأمور به وشرائطه ، هذا مضافا إلى لحاظ كلمة من في التبعيض لا تشمل تعذّر الشرط ، وذلك كالستر مثلا.

الاحتمال الثاني : أن تكون كلمة (ما) موصولة وكلمة (من) بيانية فيكون حاصل المعنى أنّه إذا أمرتكم بطبيعة فأتوا ما استطعتم من أفرادها ، وهذا المعنى وإن كان متينا في نفسه إلّا انّه لا ينطبق على مورد السؤال أيضا كالأوّل لعدم وجوب الإتيان بما هو مقدور من أفراد الحج في كل سنة بلا خلاف بين المسلمين. هذا مضافا إلى كونه خلاف نفس الرواية فانّها صريحة في عدم وجوب الحج في كل سنة فلاحظ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم ، فلا يمكن حملها على هذا المعنى.

الاحتمال الثالث : أن تكون كلمة (من) زائدة كما في قوله تعالى : (قُلْ

٨٨

لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ، أي يغضوا أبصارهم ، أو تكون للتعدية بمعنى الباء وكلمة ما مصدرية زمانية فيكون حاصل المعنى أنّه إذا أمرتكم بشيء فأتوا به حين استطاعتكم وقدرتكم فتكون الرواية لبيان اشتراط التكليف بالقدرة وهو جار في جميع التكاليف أعم من الحج وغيره. وهذا المعنى ممّا لا مناص من الالتزام به بعد عدم إمكان الالتزام بالاحتمالين الأولين.

وفي ضوء هذا فلا مجال للاستدلال بهذه الرواية على قاعدة الميسور وعلى المدعى كما لا يخفى.

وامّا الرواية الثالثة فأمرها دائر بحسب مقام التصوّر والثبوت بين صور الأربع :

الاولى : أن يكون المراد بالكل في كلتا الفقرتين العموم الاستغراقي.

الثانية : أن يكون به فيهما العموم المجموعي.

الثالثة : أن يكون المراد به في الفقرة الاولى العموم الاستغراقي ، وفي الثانية العموم المجموعي.

الرابعة : عكس الثالثة : اما الصورة الاولى والثانية فلا يمكن الالتزام بهما ، إذ لا يعقل الحكم بوجوب الإتيان بكل فرد فرد مع تعذّر الإتيان بكل فرد فرد وكذا الحكم بوجوب الإتيان بالمجموع مع تعذّر الإتيان بالمجموع ، وكذا لا يمكن الالتزام بالصورة الثالثة ، إذ لا يعقل وجوب الإتيان بالمجموع مع تعذّر الإتيان بكل فرد فرد.

وفي ضوء هذا فتعيّن الالتزام بالصورة الرابعة فيكون المراد هو النهي عن ترك لجميع عند تعذّر المجموع فيكون مفاد الرواية أنّه إذا تعذّر الإتيان بالمجموع لا يجمع في الترك بل يجب الإتيان بغير المتعذّر. ولا يخفى أن هذا المعنى يشمل الكلّي الذي له أفراد متعدّدة تعذّر الجمع بينهما والكل الذي له أجزاء مختلفة الحقيقة قد تعذّر بعضها ، وذلك كالصلاة التي تعذّر فيها القراءة والستر مثلا ، فتكون الرواية

٨٩

أعم من المدعى كما لا يخفى.

وأمّا الرواية الثانية فهي المرسلة المنقولة عن كتاب الغوالي أيضا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : «الميسور لا يسقط بالمعسور» وهي كسابقتها من حيث السند ، وامّا من حيث الدلالة حيث كان الملاك في قاعدة الميسور صدق عنوان الميسور على الباقي عرفا سواء كان المتعذّر جزءا ، أم كان شرطا ، مثلا إذا تعذّرت القراءة في الصلاة ، أو تعذّر الشرط فيصدق عنوان الميسور على بقيّة العمل عرفا بعد تعذّر القراءة والستر مثلا حقيقة لا مجازا ، وعليه فالقاعدة جارية مع تعذّر الشرط أيضا لصدق عنوان الميسور حقيقة على الباقي مع تعذّر الشرط عرفا كصدق عنوانه عليه مع تعذّر الجزء في الجملة ، أي إذا تعذر قليل من الجزء لا معظم الاجزاء ولا ركنا. امّا إذا تعذّر المعظم ، أو الركن من أركان الصلاة فلا يصدق حينئذ عرفا عنوان الميسور على الباقي فصدق عنوان الميسور عرفا على الباقي حقيقة إذا تعذّر الشرط ولكن يباين واجد الشرط لفاقد الشرط بنظر دقّة العقلي ، اما إذا كان الملاك في صدق عنوان الميسور تشخيص العرف ولهذا يصدق على المشروط بدون شرطه أيضا ، كما يصدق عليه مع وجوده وتحقّقه وبناء على كون الملاك في الصدق هو العرف لا العقل ربّما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الاجزاء ، أو لركنها موردا للقاعدة إذا لم يصدق على الباقي عنوان الميسور عرفا وإن كان الباقي الفاقد للركن ، أو للمعظم غير مباين للواجد عقلا ، إذ الباقي الفاقد من مراتب الصلاة وميسورها عقلا فيكون الميسور العقلي أعم من الميسور العرفي فكل الميسور العرفي ميسور العقلي وليس كل الميسور العقلي بميسور العرفي مادة اجتماعهما فيما إذا تعذّر بعض الأجزاء والشروط ومادة الافتراق عن جانب الميسور العقلي فيما إذا تعذّر معظم الاجزاء ، أو ركن من الأركان وهذا واضح. فيصدق على الباقي حينئذ عنوان الميسور عقلا لأنّ الصلاة ذات مراتب :

٩٠

مرتبة العليا : وهي الصلاة التي تكون واجدة لجميع الأجزاء والشرائط.

ومرتبة الوسطى : وهي الصلاة التي تكون فاقدة لبعض الاجزاء والشرائط.

ومرتبة الدنيا : وهي الصلاة التي تكون فاقدة لمعظم الاجزاء ، أو فاقدة لركن من الأركان.

وأمّا الحديث الثاني فمن حيث الدلالة تحتمل فيها أمور :

الأول : أن تكون كلمة لا نهيا ابتداء ، ولكن التحقيق عدم إمكان الالتزام بهذا الاحتمال لأنّ النهي سواء كان مولويا ، أم كان إرشاديا لا بد من أن يتعلق بفعل المكلف وما هو تحت قدرته واختياره وجودا وعدما وسقوط الواجب عن ذمة المكلف كثبوته بيد الشارع المقدّس وليسا بمقدورين للمكلف كي يصح النهي عن السقوط ولو إرشاديا.

الثاني : أن تكون الجملة خبرية قصد بها الانشاء فالجملة وإن كانت خبرية ونافية بحسب الصورة اللفظية إلّا انّها انشائية بحسب اللب والمعنى ، ولا ريب في أن هذا الاحتمال ساقط عن درجة الاعتبار أيضا لعين ما ذكر في الاحتمال الاول ، إذ لا فرق بين الاحتمال الاول والاحتمال الثاني إلّا بحسب الصورة فقط.

الثالث : أن تكون الجملة خبرية محضة اريد بها الاخبار عن عدم سقوط الواجب والمستحب عند تعذّر بعض أجزاء المركب ، أو تعذّر بعض أفراد الطبيعة أو اخبار عن عدم سقوط وجوب بعض الافراد ، أو استحبابه ؛ فان السقوط والثبوت كما يصح اسنادهما إلى الحكم وكذلك يصح اسنادهما إلى الواجب والمستحب أيضا فكما يقال سقط الوجوب عن ذمّة المكلف ، أو ثبت في ذمته كذلك يصح أن يقال سقط الواجب ، أو ثبت في ذمته ، وكيف كان فالرواية تدل على هذا الاحتمال على بقاء الحكم ، أو متعلّقه في ذمة المكلف عند تعذّر بعض الاجزاء بعض الافراد فتدل على وجوب المرتبة النازلة من الشيء إذا تعذرت المرتبة العالية منه فيما إذا عدّت

٩١

المرتبة النازلة ميسورة من المرتبة العالية بنظر العرف مثلا إذا تعذّر الايماء بالرأس والعين للسجود على ما هو المنصوص فيجب الايماء باليد اليمنى له لقاعدة الميسور ، باعتبار ان الايماء باليد مرتبة نازلة عن الايماء بالنسبة إلى الايماء بالرأس والعين.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بالرواية للمقام.

قوله : نعم ربّما يلحق به شرعا ما لا يعد بميسور عرفا ...

فقد استدرك المصنّف قدس‌سره على ما ذكره سابقا من كون الملاك في جريان قاعدة الميسور هو صدق عنوان الميسور عرفا على الباقي بعد تعذر بعض الاجزاء وبعض الشرائط.

وقال : إنّ هذا الملاك مطرد في جميع الموارد إلّا في الصلاة التي قام الدليل الخاص المعتبر على إتيان بعض أجزائها وإن لم يصدق الميسور عرفا عليه كما أمر في الصلاة بأنّها لا تترك أصلا وفي جميع الحالات ولو كان الباقي تكبيرة الاحرام فقط ، كما إذا كان المكلف في حال الغرق ، أو الحرق ، أو الجهاد مع الكفّار بحيث لا يمكن له غير التكبيرة للإحرام ، لأنّ الشرع قد نسب العرف إلى الخطأ والاشتباه فربّما يلحق شرعا بالميسور ما لا يعد بميسور عرفا بتخطئة الشرع العرف في عدم عدّ أهل العرف ذلك الشيء أمرا ميسورا لعدم اطلاعهم على ما عليه الفاقد لمعظم الاجزاء في حال التعذر له من قيامه بتمام ما قام عليه الواجد لتمام الاجزاء والشرائط في حال الاختيار من المصلحة في حق هذا المكلف العاجز ، أو قام الفاقد للمعظم بمعظم ما قام عليه الواجد له من معظم المصلحة في حقه ، ولهذا أوجب الشارع المقدّس هذه الصلاة على المكلف وقد حكم ببقاء الوجوب تخطئة للعرف.

اما إذا كان العرف مطلعا على ما اطّلع عليه الشرع فقد حكم ببقاء الوجوب أيضا. وقد يكون بالعكس بمعنى أن الشيء ميسور بنظر العرف ولكن ليس بميسور

٩٢

بنظر الشارع المقدّس لعدم اشتماله على المصالح ولهذا لم يحكم الشرع بوجوبه.

مثلا إذا تعذّر بعض أجزاء الوضوء ، أو الغسل فلم يكتف بميسورهما وكذا إذا تعذر بعض شرائطهما حرفا بحرف ، بل أمر بالتيمّم بدلا منهما.

وعليه فالمناط في هذه القاعدة صدق اتحاد العرفي بين الباقي والمركب ولكن تجوز للشارع المقدس تخطئة العرف إثباتا ونفيا بحيث لو اطّلع العرف على اشتمال الباقي بمصلحة تمام المركب ، أو بمعظم مصلحته لحكم ببقاء وجوبه.

وبالجملة فالمناط في جريان القاعدة صدق الاتحاد عرفا ويستلزم هذا الاتحاد المذكور اشتمال الباقي على مصلحة المركب وهي تقتضي في الواجبات وجوبها وفي المستحبّات استحبابها فيحكم ببقاء حكم الميسور من الوجوب الاستحباب بملاحظة اطلاق الرواية الشريفة.

وامّا إذا لم يصدق الاتحاد عرفا فلم يحكم بالبقاء إلّا إذا حكم الشرع بالحاق بعض أجزاء المركب بالمركب وإن لم يتحد معه عرفا من جهة تخطئة الشرع العرف أو حكم الشارع المقدّس بعدم الالحاق وبسقوط حكم الباقي في الموضع الذي اتحد الباقي مع المركب فيه عرفا تخطئة واشتباها والشارع المقدّس قد أظهر بحكمه بعدم الالحاق تخطئة العرف.

قوله : وإذا قام الدليل على أحدهما فيخرج ، أو يدرج تخطئة ، أو تخصيصا ...

والفرق بين الاخراج والادراج تخطئة للعرف وبين الاخراج والادراج تخصيصا ، أو تشريكا ان التخطئة لا تكون إلّا في الموضوع فالعرف يرى الموضوع ميسورا والشرع لا يراه ميسورا ، أو العرف لا يراه ميسورا والشرع يراه ميسورا بخلاف التخصيص في الاخراج ، أو التشريك في الادراج فانّ كل واحد منهما لا يكون إلّا في الحكم مثلا ، فالفرد مع كونه مندرجا في الموضوع ولكن يخرجه عنه الشارع المقدّس تخصيصا ، أو مع كونه خارجا عن الموضوع ، ولكن يدرجه فيه الشارع

٩٣

المقدس تشريكا.

وفي ضوء هذا فالمراد من الأوّل في قول المصنّف قدس‌سره هو الاخراج عن تحت الميسور ، وذلك كصلاة فاقد الوضوء والتيمّم ، حيث ان العرف يعدّها ميسورا ولكن الشارع المقدّس لم يعدّها ميسورا وأخرجها منه موضوعا من جهة التخطئة أو أخرجها منه حكما من جهة التخصيص ، ومن الثاني في قوله هو الالحاق والادراج فالتشريك يكون في الحكم من دون الاندراج في الموضوع والتخطئة تكون بالادراج في الموضوع كما لا يخفى.

قوله : فافهم ...

وهو اشارة إلى ان الدليل الشرعي إذا قام على الاخراج ، أو الادراج فهو من باب التخصيص في الحكم ، أو من باب التشريك فيه لا من باب التخطئة في الموضوع ، إذ لا وجه لتخطئة العرف في عدّهم الفاقد ميسورا ، أو غير ميسور فانّ ملاك الصدق وعدمه أمر مضبوط عندهم ، وهو عبارة عن كون الفاقد واجدا للمعظم أو غير واجد له.

وعليه فإذا كان واجد المعظم الاجزاء فهو ميسور عرفا وإلّا فهو مباين للواجد.

نعم للشارع المقدّس أن يخرج تخصيصا فردا ، أو يلحق فردا تشريكا من جهة اطلاعه الكامل على عدم قيامه بشيء ممّا قام به الواجد من المصلحة مع كون الفاقد ميسورا عرفا ، أو من جهة اطلاعه على قيام الفاقد بتمام ما قام به الواجد ، أو بمعظمه مع عدم كونه ميسورا عرفا ، إذ للشارع المقدّس علم بحقائق الاشياء وليس هذا العلم لأهل العرف فالشارع المقدّس قد يتصرّف في الموضوع وقد يتصرّف في الحكم سعة وضيقا كما لا يخفى.

٩٤

دوران الأمر بين الجزئية والمانعية

قوله : تذنيب لا يخفى أنّه إذا دار الأمر بين جزئية شيء ، أو شرطيته ...

قال المصنّف قدس‌سره : أنّه لا يخفى إذا دار الأمر بين جزئية شيء للمأمور به وبين مانعيته له ، وذلك كالسورة الثانية في الركعة الاولى والثانية بناء على كون القران بين السورتين مبطلا للصلاة كما ذهب إليه بعض الأعلام بناء على ان القران بينهما منهي عنه والنهي حقيقة في الحرمة فالقران حرام وكل حرام مبطل كالتكفير والضحك الكثير وأمثالهما فهذا مبطل. وكذا إذا دار الأمر بين شرطية شيء للمأمور به ، وبين قاطعيته له وذلك كالجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة حيث قيل بوجوبه وقال الأكثر (رض) بوجوب الاخفات وبإبطال الجهر فالجهر بها فيه أمره دائر بين شرطيته لظهر الجمعة وقاطعيته لهيئة الاتصالية فيما بين اجزاء الظهر.

قال المصنّف قدس‌سره : بلحاظ العلم بتكليف الصلاتي لا بدّ أن يكرّر المكلّف الصلاة مرّتين مرّة مع ذاك الشيء المشكوك كونه جزء ، أو مانعا وكونه شرطا ، أو قاطعا لأنّ هذا الدوران من قبيل الدوران بين الأمرين المتباينين مثال الأمرين المتباينين كما لا نعلم تفصيلا ان صلاة الظهر امّا واجبة في يوم الجمعة وامّا صلاة الجمعة واجبة فالمكلف لا بدّ أن يحتاط لإمكانه في هذا المقام وهو يتحقّق بإتيانهما جميعا ، وكذا فيما نحن فيه يمكن الاحتياط بإتيان الصلاة مع السورة الثانية مرّة وبإتيانها بدونها مرّة اخرى ، وبإتيانها مع الاستعاذة قبل البسملة مرّة ، وبدونها قبلها مرّة اخرى. وكذا يمكن إتيان صلاة الظهر يوم الجمعة جهرا بالقراءة مرّة واخفاتا مرّة اخرى ، ولا يكون هذا الدوران من قبيل الدوران بين المحذورين كي لا يمكن الاحتياط هاهنا كما زعمه الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

خلاصة الكلام ان في كل موضع يمكن الاحتياط ، فالعقل يحكم بوجوبه كي

٩٥

يحصل العلم بحصول المكلف به وبفراغ الذمة.

واستدل الشيخ الأنصاري قدس‌سره على مدعاه بأنّه لا يمكن الاحتياط فيه لأنّ المكلّف ان أوجد الشيء المشكوك فتحتمل مانعيته وان تركه فتحتمل جزئيته ، وفي ضوء هذا فهو مخيّر بحكم العقل بين الفعل والترك كما هو مخيّر بينهما في جميع موارد دوران الأمر بين المحذورين واجيب عنه بأن حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك انّما يكون من جهة عدم تمكّن الاحتياط ومن جهة عدم تحقّق الامتثال. واما إذا تمكّن المكلف من امتثال التفصيلي ، أو الاجمالي الذي يتحقق بتكرار العمل والمكلف به فلا يحكم العقل بالتخيير أصلا ، بل يحكم بالاحتياط والتكرار كما لا يخفى. بل هو أوضح من أن يخفى على المتأمّل الصادق.

وبقي الفرق بين الجزء والشرط وبين المانع والقاطع ويقال : ان المأمور به مقيّد بالاجزاء ومشروط بشرائط ، وذلك كالصلاة التي تقيّدت بالاجزاء العديدة مثل تكبيرة الاحرام ، والفاتحة ، والركوع ، والسجود ، والذكر ، والتشهّد ، والتسليم. واشترطت بالشرائط المتكثّرة كالستر ، والاستقبال ، والطهارات الثلاث ، والجهر بالقراءة ، والاخفات بها ، وإباحة المكان.

وأمّا الفرق بين الجزء والشرط ففي الجزء التقيّد والقيد داخلان في المأمور به ، وفي الشرط التقيّد داخل فيه والقيد خارج عنه ، مثلا تقيّدت الصلاة بالركوع فالتقيّد داخل فيها والركوع داخل فيها لأنّ الصلاة عبارة عن أجزائها كما أن تقيّد الصلاة بالوضوء داخل ولكن الوضوء خارج عن الصلاة.

وأمّا الفرق بين المانع والقاطع ، فانّ الأوّل عدمه شرط للمأمور به من دون أن تنقطع به الهيئة الاتصالية للاجزاء السابقة مع اللاحقة. ولكن الثاني عدمه شرط للمأمور به من جهة انقطاع الهيئة الاتصالية به فالمانع مثل لبس جلد غير المأكول حال الصلاة مثلا ، والقاطع كالحدث والاستدبار ونحوهما من القواطع ، والتفصيل موكول في الفقه الشريف.

٩٦

شرائط الاصول العملية وبيان شرط الاحتياط

قوله : خاتمة في شرائط الاصول اما الاحتياط فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا ...

قال المصنّف قدس‌سره : إنّ خاتمة كتاب البراءة والاشتغال في بيان شرائط الاصول العملية وهي البراءة بقسميها العقلية والنقلية ، والاستصحاب على قول والاحتياط والاشتغال ، والتخيير.

امّا الاحتياط الذي يكون من الاصول العملية فلا يعتبر في حسنه عقلا شيء أصلا ، امّا بخلاف غيره فانّه يعتبر في البراءة العقلية عدم البيان على التكليف ، وفي البراءة الشرعية يعتبر عدم العلم والجهل بالحكم الواقعي ويشترط في كليهما الفحص عن الدليل والبيان على الحكم الشرعي ، ويعتبر في التخيير عدم إمكان الاحتياط عقلا ويعتبر في الاستصحاب اليقين السابق والشك اللاحق وبقاء الموضوع ، كما ستأتي هذه الشرائط في محلّها إن شاء الله تعالى.

فالاحتياط حسن عقلا ونقلا في جميع الحالات سواء كان قبل الفحص كان بعد الفحص سواء قام الدليل على الحكم الشرعي ، أم لم يقم عليه سواء كان في العبادات ، أم كان في المعاملات.

نعم إذا كان موجبا للعسر والحرج فلا يجب شرعا ولا يحسن عقلا كما أنّه إذا كان موجبا لاختلال النظام فلا يجوز عقلا ولا شرعا ، بل يحكم العقل بقبحه حينئذ سواء كان مستلزما للتكرار في العبادات ، أم لم يستلزم التكرار فيها عرفا.

وتوهّم كون التكرار في العبادات عبثا ولعبا بأمر المولى (جلّت عظمته) ولا ريب في ان اللعب والعبث بأمر المولى ينافيان مع قصد الامتثال والقربة التي تعتبر في العبادات عقلا ، وقد سبق هذا في بحث الواجب التعبّدي في الجزء الأوّل.

٩٧

وفي ضوء هذا فإذا استلزم التكرار في العبادات كما إذا اشتبه القبلة ، أو اشتبه الثوب الطاهر بالثوب النجس فلا بدّ للمكلّف أن يفعل صلاة الظهر مثلا أربع مرّات في الجهات الأربع مع سعة الوقت في الاشتباه الأوّل وأن يفعلها مرّتين في الاشتباه الثاني.

قال المصنّف قدس‌سره : هذا التوهّم فاسد قطعا لوضوح أن التكرار ربّما يكون بداع صحيح عقلائي كما إذا اعتاد المكلّف نفسه بإتيان الصلاة ، أو للتقية والخوف ولكن الداعي على هذا التكرار هو أمر المولى والتكرار بهذه الكيفية يكون طريق الامتثال لأنّ كيفية ايجاد المأمور به على طرق ، فالمكلف مخيّر في الايجاد بأي طريق كما انّه مخيّر في الايجاد بأي مكان مباح فقد يجده في المسجد وقد يجده في المدرسة أو في الدار وقد يجده في أوّل الوقت ، أو في وسطه ، أو في آخره فهذه الكيفيات طرق امتثال المأمور به وكذا إيجاده مكرّرا طريق الامتثال.

قوله : مع أنّه لو لم يكن بهذا الداعي وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه ...

هذا إشارة إلى الجواب الثاني ، وقال رحمه‌الله تعالى : مع أنّ تكرار المأمور به وإن لم يكن بداع صحيح عقلائي ، ولكن كان أصل إتيان الفعل بداعي أمر مولى المكلّف بالكسر من دون أن يكون للمكلف داع سوى أمر المولى الواحد الأحد (جلّ جلاله) لما ينافي هذا التكرار قصد الامتثال والقربة لأنّ اللعب حينئذ في كيفية الإطاعة وليس اللعب بأصل الاطاعة ونفسها كما لا يخفى ، لأنّ المفروض كون الإتيان بالمحتملات ناشئا من جهة أمر المولى (عزّ اسمه) وفي ضوء هذا فاللعب انّما يكون في كيفية الامتثال لا في أصل الامتثال.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أن كيفية الامتثال عبارة عن نفس فعل محتملات الواقع فإذا

٩٨

كانت كيفية الامتثال لعبا ولغوا امتنع انطباق الاطاعة والانقياد عليها ، وعليه فلا يصح الواقع إذا كان عبادة لمنافاة اللعب قصد الامتثال وقصد القربة.

والحال أن امتثال الواقع بهذه الكيفية صحيح تام فيكشف صحّة الامتثال بهذه الكيفية عن انطباق الاطاعة والانقياد على هذه الكيفية لأنّ العمل المكرّر ناش عن داعي الأمر المحتمل.

ومن الواضح ان انبعاث العمل على الأمر المحتمل انقياد بل من أعلى مراتب العبودية وهو حسن عقلا وراجح شرعا كما لا يخفى.

قوله : بل يحسن أيضا فيما قامت الحجّة على البراءة من التكليف ...

كما يحسن الاحتياط عقلا على كل حال كذا يحسن في موارد قيام الحجّة على البراءة وعلى عدم التكليف كما إذا قامت الامارة المعتبرة على حلية شرب التبغ مثلا ، أو على عدم وجوب السورة في الصلاة ، ومع هذا القيام يحسن الاحتياط وهو يتحقّق في الأوّل بترك شرب التبغ ، إذ أمره دائر واقعا بين الحرمة والإباحة ، ولا ريب في أن الاحتياط في هذا الدوران بالترك. وفي الثاني بالفعل لأنّ أمر السورة بعد الفاتحة في الصلاة دائر بين الوجوب وغير الحرمة وغير الكراهة.

ومن الواضح أن في هذا الدوران الاحتياط بالفعل ، إذ الفرض هو العلم بعدم مانعية زيادة السورة الكاملة في الصلاة.

وعلّل المصنّف قدس‌سره حسن الاحتياط في هذا المورد بقوله : لئلا يقع المكلف في المفسدة التي تكون في مخالفة التكليف على تقدير ثبوته مثلا إذا قام الخبر المعتبر على جواز شرب التبغ فإذا ارتكبه المكلف ، ويحتمل أن يقع في مفسدة الحرام لاحتمال حرمته واقعا وكان في الواقع حراما ، ولئلا يقع في فوت المصلحة التي تكون في التكليف الواقعي بناء على مذهب العدلية والمعتزلة على فرض ثبوته ، مثلا إذا قامت الامارة المعتبرة على عدم وجوب السورة في الصلاة ، ولهذا

٩٩

تركها المكلف ، ويحتمل أن يقع في فوت الواجب وهو يستلزم فوت المصلحة الواقعية ، وهذا علّة حسن الاحتياط في هذا المورد المذكور.

اشتراط البراءة العقلية بالفحص

قوله : وامّا البراءة العقلية فلا يجوز اجرائها إلّا بعد الفحص واليأس ...

وامّا البراءة العقلية فيشترط في جريانها الفحص عن الأدلّة الشرعية على التكليف والحكم ، وإذا فحص المجتهد عنها ويئس منها فالعقل يحكم مستقلا بالبراءة وبقبح العقاب بلا بيان ، وامّا بدون الفحص عنها فهو لا يستقل بها لعدم احراز العقل موضوعها وهو عدم البيان بدون الفحص. وعليه فلا بد من الفحص واليأس في اجرائها كما مرّ هذا مفصلا بعد نقل الكتاب والسنّة والاجماع على البراءة العقلية فليرجع هناك.

اشتراط البراءة النقلية بالفحص

قوله : وامّا البراءة النقلية فقضية اطلاق أدلّتها وان كان هو عدم اعتبار الفحص ...

امّا البراءة النقلية فمقتضى اطلاق أدلّتها مثل كل شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام وحديث الرفع ، والحجب ، وحديث السعة ، وحديث الاطلاق عدم اعتبار الفحص عن الأدلّة على الحكم في جريانها نظرا إلى إطلاق أدلّتها حيث لم تقيّد بالفحص عن الأدلّة كما هو حالها في الشبهات الموضوعية ، فإن كانت تحريمية فلا إشكال في عدم وجوب الفحص ، ويدل عليه إطلاق الأخبار مثل قوله عليه‌السلام : «كل شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» ، وقوله عليه‌السلام : «حتّى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البيّنة» ، وقوله عليه‌السلام : «حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه الميتة» ، حيث لم تقيّد هذه الأخبار بالفحص وإن كانت الشبهة وجوبية فمقتضى أدلّة البراءة حتى

١٠٠