البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-94105-2-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٣٣

الواجبات إطاعة المولى ويوجب لتخلية النفس عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ، كما يشهد بهذا الأمر قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) والبغي (١) ، وقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصلاة قربان كل تقي ونقي ومعراج المؤمن» وغيرهما. لا أن الواجبات الشرعية واجبات عقلية لو اطّلع العقل على جهاتها كما قال بهذا بعض الأعلام (رض) لأنّه قال بالملازمة بين حكم العقل والشرع من الجانبين ، أي كلّما حكم به العقل حكم به الشرع ؛ وكلّما حكم به الشرع حكم به العقل. ولكن نسلم الاولى ، ولا نسلم الثانية ، إذ حكم الشرع الأنور بأن صلاة الظهر مثلا أربع ركعات ولها أجزاء كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهّد والذكر والتسليم ، وشرائط كالطهارة والاستقبال والستر مثلا ، ولم يحكم العقل بهذه الامور المذكورة لأنّه لم يدركها والحكم فرع الدرك.

وقد مرّ في بحث التعبّدي والتوصّلي ان الغرض الذي يكون علّة الأمر حدوثا وبقاء لا يسقط في التعبّديات إلّا مع قصد الاطاعة والاطاعة فيها تتوقّف على قصد أمرهما ، فما لم يقصد أمرها لم يسقط الغرض الباعث للمولى الآمر على الأمر والبعث.

وعليه فلا بدّ من احراز الغرض في احراز الاطاعة ، ومن المعلوم انّه لا يحصل العلم لنا بتحقّق الغرض إلّا بالإتيان بالأكثر كما لا يخفى. لأنّه إذا اكتفينا بالأقل الصلاة بلا السورة مثلا فنشك حينئذ في سقوطه فيحكم العقل مستقلّا بحصول الغرض وهو لا يحصل على اليقين إلّا بالإتيان بالأكثر فيجب كي يحصل المؤمن من عقاب المولى.

قوله : ولا وجه للتفصي عنه تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة ...

قال المصنّف قدس‌سره : ان الشيخ الأنصاري قدس‌سره استشكل في رسائله على القول

__________________

١ ـ سورة العنكبوت آية ٤٥.

٤١

بالبراءة عن وجوب الأكثر في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين بأن الأوامر الشرعية ونواهيها تابعتان للمصالح الواقعية والمفاسد النفس الأمرية في متعلقاتها ، أي المأمور به والمنهي عنه ، أي فعل المكلف امّا ذو مصلحة وامّا ذو مفسدة.

وعليه إذا اكتفينا بالأقل فنشك حينئذ في حصول غرض المولى ، وإذا كان الشك في حصول الغرض وفي محصله فلا بدّ من الاحتياط الذي يتحقّق بإتيان الأكثر الارتباطي.

ثم أجاب الشيخ الأنصاري قدس‌سره عنه بجوابين :

الأوّل : أنّ مسألة البراءة والاحتياط ليست بمبتنية على مسلك المشهور من العدلية من كون المصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه ، بل تكون متفرّعة على مسلك غير المشهور من العدلية من كون المصالح في نفس الأمر لا في المأمور به ؛ وفي نفس النهي لا في المنهي عنه ، أو تكون متفرّعة على مسلك الأشاعرة المنكرين لقيام الملاكات والمصالح والمفاسد بالمتعلّقات والمأمور به والمنهي عنه ولقيامها في الأوامر والنواهي ، بل الأحكام تابعة لإرادة الباري (عزّ اسمه) لأنّ الأشاعرة منكرون للحسن والقبح العقليين وقالوا إن الحسن ما حسّنه الشارع المقدّس ؛ والقبيح ما قبّحه. وعلى هذين المسلكين نجري البراءة عن وجوب الأكثر الارتباطي ويكون الأقل واجبا ولا محذور فيه بناء عليهما.

الثاني : سلمنا أن مسألة البراءة والاحتياط متفرّعة على مسلك المشهور من العدلية ، ولكن ليس هذا الابتناء بموجب للاحتياط الذي يتحقّق بإتيان الأكثر أو حصول المصلحة واللطف في العبادات يترتّبان على إتيانها على وجه الإطاعة. ومن الواضح أن إتيانهما على وجه الامتثال والإطاعة يتوقّف على معرفة أجزاءها تفصيلا أن هذا الجزء واجب ، وذاك الجزء مستحب ، وذلك ركن ، أو غير ركن ، ليؤتى بها مع

٤٢

قصد الوجه فاعتبار المعرفة في تحقّق الامتثال الذي يعتبر في صحّة العبادة وفي حصول الغرض منها.

وعلى ضوء هذا إذا احتاط وأتى بالأكثر فلا يمكن أن يدعى أن عمل العبادي أوتى على وجه الامتثال وعلى وجه الاطاعة لاشتمالها على الجزء المشكوك على تقدير الإتيان بالأكثر فلا يؤتى مع قصد الوجه ، إذ حال السورة غير معلوم فلا يوجد الطريق الواصل بحصول المصلحة التي تكون داعية إلى الأمر والبعث إلّا بالإتيان بالشيء الذي قطع المكلّف بتعلّق التكليف به ويحكم العقل بوجوبه وإن لم يكن فيه مصلحة ولطف ، إذ امتثاله بواسطة تعلّق العلم الاجمالي به يكون حتميا وقطعيا.

وأمّا الأكثر فلا يجب إتيانه وإن كان واجبا في الواقع ، بل يجوز مخالفته وليست العقوبة مترتّبة عليها لأنّها تكون من قبيل العقوبة بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ، وهما قبيحان عقلا ، والقبيح لا يصدر من المولى الحكيم.

فالنتيجة اختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره البراءة عن وجوب الأكثر في مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، وذلك كالصلاة مع السورة ، أو بلا سورة إذ لا نعلم انّها مركبة من عشرة أجزاء ، أو تسعة أجزاء وتبعه جمع من الأعاظم (رض).

جواب المصنّف قدس‌سره عنه

قوله : وذلك ضرورة أن حكم العقل بالبراءة على مذهب الأشعري لا يجدي من ...

قال المصنّف قدس‌سره : ان حكم العقل بالبراءة عن وجوب الأكثر فيما نحن فيه بناء على مذهب الأشعري القائل بعدم المصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه لا ينفع من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها ، إذ لا يحصل له القطع بتحقّق المصلحة إلّا بالإتيان بالأكثر.

٤٣

فكذلك لا ينفع حكم العقل بالبراءة المذكورة من ذهب إلى ما عليه غير المشهور من العدلية من كون المصالح والمفاسد في نفس الأوامر والنواهي لتجويزه وجود المصلحة في المأمور به ووجود المفسدة في المنهي عنه ، إذ كون المصلحة والمفسدة في المأمور به والمنهي عنه يكون عند غير المشهور من العدلية بعنوان لا بشرط.

ومن الواضح انّه عام من بشرط والعام يتحقّق في ضمن الخاص ، فالمصلحة والمفسدة لا بدّ أن تكونا في نفس الأمر والنهي عند غير المشهور من العدلية سواء كانا في المأمور به والمنهي عنه ، أم لم تكونا فيهما.

وعلى هذا فلا يحصل له القطع أيضا بتحقّق المصلحة إلّا بالإتيان بالأكثر. هذا مضافا إلى كون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية ، فهذا متّفق عليه عند العدلية وهو يقتضي الإتيان بالأكثر كي يحصل للمكلف القطع بتحقّق اللطف الذي يقرّب العباد بساحة المولى (جلّ وعلى).

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أنّ من ذهب إلى كون المصلحة في الأمر فقط ، كالأوامر الامتحانية ، ولا يحتملها في المأمور به كالأمر بذبح إسماعيل النبي على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام.

وعلى ضوء هذا كما أن العقل يحكم بالبراءة عن وجوب الأكثر بناء على مذهب الأشعري المنكر للمصلحة والغرض والحسن فكذلك يحكم بها بناء على مذهب بعض العدلية القائل بوجود المصلحة في نفس الأمر فقط دون المأمور به.

هذا تمام الجواب عن التفصّي الأوّل للشيخ الأنصاري قدس‌سره.

قوله : وحصول اللطف والمصلحة في العبادة وإن كان يتوقّف على الإتيان ...

قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره : ان حصول اللطف والمصلحة في العبادة يتوقف

٤٤

على الإتيان بها على وجه الامتثال والإطاعة وهو يتحقّق بإتيان كل جزء جزء منها على وجه الامتثال والاطاعة. وهذا لا يمكن إلّا أن يكون لنا علم تفصيلا بجزئية كل واحد منها ولكن الاحتياط الذي يتحقّق بإتيان الأكثر لا يوجب إتيان كل واحد من الأجزاء على وجهه لاشتماله على الجزء المشكوك جزئيته «وهو السورة مثلا» هذا فلا جرم من أن نقول بالبراءة عن الأكثر هذا كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

أجاب المصنّف قدس‌سره عنه نعم يتوقّف حصول اللطف والمصلحة على إتيان العبادة على وجه الامتثال والاطاعة ومع ذلك نقول : ان المعتبر في باب العبادة إتيان مجموع أجزاءها من حيث المجموع على وجه الامتثال والاطاعة ولا يعتبر فيها إتيان كل جزء جزء منها على وجه الامتثال وبقصد وجهه كي يتنافى الاحتياط الذي يتحقق باتيان الأكثر ، أي لا يعتبر في حصول اللطف والمصلحة على إتيان العبادة معرفة أجزائها تفصيلا وإتيانها على وجهها. ويدل على هذا الأمر عدم إشكال أحد من الأعلام (رض) في إمكان الاحتياط الذي يتحقّق بإتيان الأكثر فيما نحن فيه كما لا يستشكل أحد منهم في إمكانه في المتباينين كما مرّ شرحه في بحث دوران الأمر بين المتباينين.

ومن الواضح انّه لو كان معرفة الأجزاء تفصيلا شرطا في حصول اللطف والمصلحة لما أمكن الاحتياط في العبادات أصلا فلا محل لتصحيح الاحتياط فيها كما لا يخفى.

هذا جواب الأوّل عن التفصّي الثاني.

قوله : هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك ...

أجاب المصنّف قدس‌سره عن التفصّي الثاني ثانيا بأن احتمال اعتبار قصد الوجه من الوجوب والندب بأن ينوي المكلف الوجوب في الاجزاء الواجبة والندب في الاجزاء المندوبة باطل قطعا ، إذ لا دليل عليه لا عقلا ولا نقلا كما مرّ تفصيل هذا

٤٥

البحث في التعبّدي والتوصّلي.

فإن قيل : قد صرّح بعض الأصحاب (رض) بوجوب ايقاع الواجب على وجهه وبوجوب اقتران الواجب بقصد الوجه ولعل المراد منه إتيان أجزاء العبادة على وجهها بأن ينوي الوجوب في الاجزاء الواجبة والندب في الأجزاء المندوبة ويؤتى بها على وجهها.

قلنا : إنّ المراد من هذا وجه نفس الواجب بمعنى أن يأتي المكلف بالواجب ، وذلك كصلاة الظهر مثلا ، بنيّة أنّه واجب من قبل المولى الجليل ، فيأتي بالصلاة بقصد وجوبها النفسي ، وليس المراد منه قصد وجه اجزاء الصلاة من وجوبها الغيري وجوبها الضمني فلا يعتبر قصد ذلك أصلا للاجزاء.

توضيح في طي الوجوب الغيري والوجوب الضمني

وهو إذا لاحظنا جانب مقدّمية الأجزاء للواجب فيكون وجوبها غيريا من جهة كون وجوب المقدّمة غيريا ترشحيا.

وعليه فوجوب الاجزاء ليس لمصلحة في نفسها كي يكون وجوبها نفسيا بل المصلحة في المركب والكل فيكون كل واحد من الأجزاء مقدّمة لتحقّق الكل. وإذا لاحظنا كون المتصف بالوجوب أولا وبالذات هو الكل والمركب كما في قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أمّا وجوب الاجزاء فيكون ثانيا وبالعرض ، كعروض الحركة على جالس السفينة.

ومن المعلوم أن إتيان الواجب حال كونه مقترنا بوجهه على نحو الغاية بأن ينوي المكلف اني أفعل صلاة الظهر لوجوبها ، أو على نحو التوصيف بأن ينوي انّي أفعل الصلاة الواجبة بإتيان الأكثر بمكان عال من الامكان ، وذلك لأجل انطباق الواجب على المأتي به. ولو كان الواجب واقعا هو الأقل فيتمكّن من المكلف مع

٤٦

الإتيان بالأكثر قصد الوجه واقتران الواجب بوجهه غاية ، أو وصفا.

فإن قيل : انّ الأكثر مشتمل على ما يحتمل أن لا يكون جزءا للمأمور به ، ومعه كيف يمكن للمكلف قصد الوجه بإتيان الأكثر؟

قلنا : احتمال اشتماله على ما ليس من أجزاء المأمور به ليس بضائر في قصد الوجه إذا قصد المكلف وجوب المأتي به على إجماله من غير تعيينه وتقييده بالأقل أو الأكثر ، أي ينوي إتيان الواجب الواقعي بما له دخل في تحقّق الواجب من أجزائه على وجهه بلا تميز ما له دخل في الواجب من أجزائه بحيث يعلم أن هذا الجزء واجب ، وذاك الجزء مندوب ، لا سيما إذا دار أمر الزائد بين كونه جزء الماهية المأمور به والواجب وجزء الفرد الواجب ، وجه الخصوصية ، كونه جزءا قطعا فيتمكّن المكلّف من قصد الوجه حينئذ قطعا.

غاية الأمر أنّه يشك في كونه جزء للماهية إن كان واجبا ، أو جزءا للفرد إن كان مستحبّا ، وذلك كالسورة مثلا ، بالإضافة إلى الصلاة الواجبة.

فإن قيل : ما الفرق بين جزء الماهية ، وبين جزء الفرد؟

قلنا : ان الفرق بينهما من وجهين :

الأوّل : ان جزء الماهية واجب وجزء الفرد مستحب ، كما علم هذا سابقا.

الثاني : أن جزء الماهية ما تنتفي الماهية بانتفائه ، وذلك كالركوع والسجود ونحوهما من الأجزاء الواجبة سيما الأركان منها ، وأن جزء الفرد ما ينتفي بانتفائه الفرد ، وذلك كالأجزاء المندوبة كالاستعاذة والقنوت وجلسة الاستراحة مثلا. ولكن لا تنتفي الماهية بانتفائها لأنّ الصلاة تصدق على الواجدة للاستعاذة وعلى الفاقدة لها ولكن لا تصدق على الفاقدة للركوع والسجود مثلا.

وعلى ضوء هذا ، ينطبق الواجب على المأتي به حين دوران أمر الزائد بين

٤٧

كونه جزءا للماهية وجزءا للفرد بتمام المأتي به وكماله لأنّ الكلّي الطبيعي يصدق على الفرد مع مشخّصاته وخصوصياته ، وذلك كالإنسان الذي يصدق على زيد فيقال : زيد إنسان باعتبار انّه فرد للحيوان الناطق لأنّ الإنسان حيوان ناطق ، فإذا صدق على زيد إنسان فقد صدق عليه أنّه حيوان ناطق مع ان له مشخّصات الفردية.

فالنتيجة : أن قصد التميز في المقام متعذّر لا قصد الوجه على تقدير اعتباره ولا قصد القربة برجاء وجوبه الواقعي لأنّ المكلف إذا أتى بالجزء المشكوك بقصد القربة والوجه جميعا برجاء وجوبه الواقعي ، فقد وقع متقرّبا به وعلى وجهه.

قوله : نعم لو دار بين كونه جزءا ، أو مقارنا لما كان منطبقا عليه بتمامه ...

نعم ، لو دار أمر المشكوك بين كونه جزءا للعبادة ، أو كونه مقارنا بالواجب بحيث يكون الواجب ظرفا له كالقنوت مثلا ، إذ أمره دائر بين أن يكون جزءا للواجب ، أو شيئا مقارنا به لما كان الواجب منطبقا على المأتي به بتمامه وكماله لكن عدم الانطباق غير ضائر بقصد الوجه ، أي إتيان الواجب بقصد وجوبه النفسي لا الإتيان بالاجزاء التي تتصف بالوجوب الغيري تارة ؛ وبالوجوب العرضي اخرى بقصد وجوبها الغيري العرضي لانطباق الواجب على المأتي به وإن لم يكن الزائد المشكوك جزءا للواجب واقعا باعتبار الاجزاء التي تكون جزئيتها معلومة لنا تفصيلا. غاية الأمر يكون الانطباق لا بتمامه وكماله ثابتا لعدم إحراز كون الزائد المشكوك جزءا للواجب تفصيلا.

الجواب الثالث عن التفصّي الثاني

قوله : هذا مضافا إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس ممّا يقطع بخلافه ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن الجواب الأوّل والثاني شرع في الجواب الثالث

٤٨

وقال رحمه‌الله : ولا يخفى عليك أن المصنّف قدس‌سره قد منع عن احتمال اعتبار معرفة الاجزاء وعن الإتيان بكل منها على وجهه في الجواب الأوّل. وقد ادّعى بطلان اعتبار الإتيان بكل جزء على وجهه في الجواب الثاني ؛ وقد منع عن أصل اعتبار قصد الوجه في العبادات مطلقا ، أي سواء كان وجه الواجب بنفسه ، أم كان وجه اجزائه وابعاضه لعدم الدليل على اعتباره لا من جانب العقل ولا من جهة الشرع الأقدس ، كما مرّ هذا في مبحث التعبّدي والتوصلي. أمّا بخلاف قصد القربة فانّ العقل حاكم باعتباره في العبادات كما لا يخفى.

الجواب الرابع

قوله : مع أن الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لا بد ...

أجاب المصنّف قدس‌سره عنه رابعا بأن البحث لا ينحصر في الأقل والأكثر الارتباطيين اللذين يعتبر فيهما قصد القربة ، أي العبادات حتى يحتمل فيهما اعتبار قصد الوجه والتميز بل يجري في كل أمر ارتباطي سواء كان عباديا ، أم كان توصليا قد دار أمره بين الأقل والأكثر ؛ أما مثال العبادات فواضحة ، واما مثال التوصليات فكما إذا أمر المولى عبده باحضار المعجون الذي لا يعلم أنّه مركّب من تسعة أجزاء أو من عشرة أجزاء قد دار أمره بين الأقل والأكثر الارتباطيين وجرى فيه النزاع المذكور من البراءة والاشتغال. قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره بالبراءة واختار المصنّف قدس‌سره إجراء اصالة الاشتغال بالاضافة إلى الأكثر وتبعهما جماعة من الأعلام (رض) ولا يحتمل في التوصلي اعتبار قصد الوجه والتميز ؛ كما لا يشترط فيها قصد القربة كي لا يحصل القطع بحصول المصلحة واللطف والغرض بدونه بل بدونهما في التوصليات.

٤٩

الجواب الخامس

قوله : مع أنّه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردّد ...

أجاب المصنّف قدس‌سره عن التفصّي الثاني خامسا بأنّه لو قلنا باعتبار قصد الوجه في العبادات على النحو الذي ينافيه التردّد بين الأقل والأكثر ، أي قلنا باعتبار قصد وجه أجزاء العبادات والواجب لا وجه نفس الواجب بما هو واجب فحينئذ لو فرضنا أن الغرض الأقصى لا يحصل أصلا بلا قصد الوجه فلا وجه لمراعاة التكليف المعلوم بالاجمال ولو بإتيان الأقل ، وأمّا إذا فرضنا أن الغرض يحصل قطعا نظرا إلى عدم دخل قصد الوجه مع التعذّر لأجل التردّد الذي ينافيه فلا محيص عن الإتيان بالأكثر ليحصل القطع معه بحصوله لاحتمال أن لا يحصل القطع بحصوله بإتيان الأقل فالاحتياط الذي يتحقّق بإتيان الأكثر لازم ليحصل القطع للمكلّف بالفراغ للذمة بعد القطع بالاشتغال والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني والبراءة اليقينية إذ نحتمل بقاء الأمر بسبب بقاء غرض الأمر مع الإتيان بالأقل.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أن حصول الغرض بالأكثر الموجب للاحتياط بإتيانه خلاف الفرض لأن المفروض اعتبار قصد الوجه وهو منوط بمعرفة أجزاء الواجب تفصيلا.

وعلى طبيعة الحال يكون مقتضى توقف الغرض على قصد الوجه بهذا النحو عدم احراز حصول الغرض بإتيان الأكثر فلا موجب لإتيانه.

هذا ولكن أجاب المصنّف قدس‌سره عن اعتبار قصد الوجه بأنّه غير معتبر في العبادات ، هذا مضافا إلى ان اعتبار قصد الوجه مع عدم الدليل عليه إنّما هو في الواجبات الاستقلالية دون الواجبات الضمنية ، أي الاجزاء.

٥٠

البراءة الشرعية

قوله : وامّا النقل فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك ...

قال المصنّف قدس‌سره : وامّا النقل فهو يقضي برفع جزئية ما شك في جزئيته وذلك كالسورة مثلا.

وبعبارة اخرى : إنّ جميع ما تقدّم من أوّل البحث إلى هنا كان بيانا لعدم جريان البراءة العقلية وهي عبارة عن قبح العقاب بلا بيان ، واما البراءة النقلية فهي تجري عن جزئية ما شك في جزئيته لأنّ عموم حديث الرفع نحو «رفع عن امّتي الخطأ والسهو والنسيان وما لا يعلمون» والعموم مستفاد من كلمة ما الموصولة قاض برفع جزئية مشكوك الجزئية وكذا حديث السعة مثل الناس في سعة ما لا يعلمون حرفا بحرف فبمثله ، أي بمثل حديث الرفع يرتفع الاجمال والتردّد عن الماهية التي دار أمرها بين الأقل والأكثر ، إذ حديث الرفع ومثله كحديث السعة يعيّنان الماهية في الأقل كما لا يخفى.

وعلى طبيعة الحال اختار المصنّف قدس‌سره في هذا المقام التفصيل بين البراءة العقلية وبين البراءة النقلية ، إذ الاولى لا تجري والثانية تجري.

قوله : لا يقال ان جزئية السورة المجهولة مثلا ليست بمجعولة ...

فإن قيل : ان عنوان الجزئية ليس أمرا مجعولا شرعا بل المجعول شرعا هو نفس الجزء والجزئية حكم وضعي انتزاعي ولا موضوعا ذا حكم شرعي.

والحال أنّه لا بدّ أن يكون المرفوع بحديث الرفع حكما شرعيا ، أو موضوعا ذا حكم شرعي لأنّ وضعهما يكون بيد الشارع المقدّس فيكون رفعهما بيده أيضا ، امّا بخلاف الجزئية فانّ وضعها ليس بيد الشارع المقدّس فلا يكون رفعها بيده ، إذ من الواضح ان كلّما ليس وضعه بيده فليس رفعه بيده أيضا ، وعليه كيف يمكن أن ترفع

٥١

الجزئية بحديث الرفع والسعة؟

قلنا : ان جزئية الجزء في حدّ نفسها ليست أمرا مجعولا شرعا ، ولكن يكون منشأ انتزاعها ، أي نفس الاجزاء بما هي أمرا مجعولا شرعا ، فهذا المقدار من الجعل يكفي في رفع الجزئية لا بما هي بل باعتبار منشإ الانتزاع. وعلى هذا يصح رفعها بهذا العناية والاعتبار.

فإن قيل : ان المقصود من جزئية السورة للصلاة المكتوبة وجوب إعادتها أداء في الوقت إذا أتى المكلف الصلاة بلا سورة ، ولا ريب في أن وجوب الإعادة أثر شرعي فرفع الجزئية انّما يكون برفع أثرها ، وهو وجوب الإعادة. فيرفع المحذور المذكور والإشكال المزبور. بمعنى أن المكلّف لا يعلم بكون السورة جزءا للصلاة ولهذا أتاها بلا سورة ثم علم بكونها جزءا لها ، والحال أن الوقت باق لم ينقض فيجب عليه الإعادة.

قلنا : ان وجوب الإعادة انّما يكون أثر بقاء الأمر الأول الذي تعلّق بالمركب ولا يكون أثرا شرعيا للجزئية الانتزاعية ، ولكن يكون وجوب الإعادة أثر بقاء الأمر الأوّل بعد التذكر والعلم بجزئية السورة.

هذا مضافا إلى أن وجوب الإعادة للصلاة التي ليست السورة بمقرونة فيها مع سائر أجزاءها والإطاعة لا تتحقّق على نحو اليقين إلّا إذا أتى المكلّف الصلاة بتمام أجزائها وبكمال شرائطها.

قوله : لا يقال إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعي ...

زعم المتوهّم ان رفع جزئية السورة للصلاة باعتبار منشأ انتزاعها يتوقف على رفع منشأ انتزاعها ومنشأ انتزاعها يكون بالأمر الأول الذي تعلّق بالصلاة ، وإذا ارتفع هذا الأمر فلا يكون الأمر الآخر للصلاة وتبقى بلا أمر.

وبعبارة اخرى : وهي يكون الأمر الواحد المتعلّق بالصلاة من قبل الشارع

٥٢

المقدّس مع السورة ، أو بدونها موجودا لأن الشارع (المقدّس) إمّا قال صلّ مع السورة وإمّا قال صلّ بلا سورة ، فلو رفع حديث الرفع الأمر الأوّل فلا يكون الأمر من قبل الشارع (المقدّس) بالإضافة إلى سائر الأجزاء غير السورة بموجودة حتى تجب إطاعته وامتثاله فإن تعلّق الأمر واقعا بالصلاة مع السورة فيرتفع بحديث الرفع أمر الصلاة وان تعلّق الأمر واقعا بالصلاة بلا سورة فلا يكون المحل حينئذ لحديث الرفع والسعة.

الجواب عنه

قوله : لأنّه يقال نعم وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه ...

قال المصنّف قدس‌سره : نعم يكون رفع جزئية السورة برفع منشأ انتزاعها ، إذ رفع الأمر الانتزاعي انّما يكون برفع منشأ الانتزاع ، وذلك كرفع الزوجية برفع الأربعة مثلا والفردية برفع الثلاثة مثلا.

والشارع المقدّس أمر بالصلاة بقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) والروايات المأثورة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام تبيّن كمياتها وكيفياتها وأجزائها وشرائطها ولكن حديث الرفع حاكم بالاضافة عليها مثلا الرواية تدل على جزئية فاتحة الكتاب للصلاة وعلى شرطية الطهارة لها لأنّ المعصوم عليه‌السلام قال : لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، ولا صلاة إلّا بطهور ، في حال العلم والجهل والنسيان والذكر والاختيار والاضطرار ، وحديث الرفع يختص جزئيتها بحال العلم والذكر والتذكّر والاختيار ، ولكن الأمر بالصلاة باق على حاله.

والروايات التي تدل على جزئيتها تقيد بحديث الرفع بهذه الامور ، أي تكون فاتحة الكتاب جزءا للصلاة في حال العلم والذكر والاختيار.

وعلى طبيعة الحال تكون نسبة حديث الرفع الناظر إلى الأدلّة الدالّة على

٥٣

بيان أجزاء الصلاة من باب الحكومة والتصرّف إلى هذه الأدلّة كنسبة الاستثناء إلى المستثنى منه في تضييق الموضوع نحو (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء إلّا إبليس من الملائكة موجب لتضييق الموضوع ـ وهو الملائكة ـ أي الملائكة غير إبليس سجدت لآدم (على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام) كذا الحديث الشريف : لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، أي لا صلاة في حال العلم والذكر والاختيار إلّا بفاتحة الكتاب ، اما في حال الجهل والنسيان والاضطرار فهي صلاة لرفع جزئية الفاتحة في حين عروض هذه الحالات على المكلف ، إذ بضميمة حديث الرفع إلى أدلّة الاجزاء والشرائط يحكم باختصاص الجزئية بغير حال الجهل والنسيان والاضطرار كما لا يخفى.

التمسك بالاستصحاب

قوله : فتدبّر جيّدا ...

وهو إشارة إلى الواجب الواقعي اللوح المحفوظي مردّد بين ما هو مقطوع البقاء ، وما هو مقطوع الارتفاع فإنّ التكليف لو كان متعلّقا بالأقل ، فهو مرتفع بالإتيان به يقينا ، ولو كان متعلّقا بالأكثر فهو باق يقينا.

أمّا بعد الإتيان بالأقل فنشك في سقوط التكليف المتيقّن ثبوته قبل الإتيان به فيستصحب بقاؤه على نحو القسم الثاني من استصحاب الكلي ، ولا يخفى أنّ بعد جريان هذا الاستصحاب وبعد الحكم ببقاء التكليف تعبّدا يحكم العقل بوجوب الإتيان بالأكثر تحصيلا للعلم واليقين بفراغ الذمة.

٥٤

الشك في القيد للمأمور به

قوله : وينبغي التنبيه على أمور ، الأوّل : أنّه قد ظهر ممّا سبق حال دوران الأمر ...

هذا شروع في حكم الشك في شرطية شيء للمأمور به ؛ وفي حكم الدوران في الواجب بين التعيين والتخيير ، مثلا إذا دار أمر المكلّف به بين المطلق كالرقبة وبين المشروط كالرقبة المؤمنة ، ولا نعلم تفصيلا بكفاية عتق مطلق الرقبة في كفارة الظهار مثلا ، أو خصوص الرقبة المؤمنة فقط والشك إنّما يكون في شرطية وصف الايمان للعتق الذي هو مأمور به.

وفي هذا الدوران يحكم العقل بوجوب الاحتياط وبلزوم إتيان المشروط ، إذ لا مجال لانحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب المطلق ، وإلى الشك البدوي بلزوم المقيّد المشروط حتّى يقال بالبراءة العقلية بالنسبة إلى وجوب المشروط ، وكذا إذا دار أمر المكلف به بين الخاص كالإنسان ، وبين العام كالحيوان. وفي هذا الدوران يحكم العقل أيضا بوجوب الاحتياط وبلزوم إتيان الخاص ، إذ لا مجال للانحلال المذكور هنا أيضا.

والسرّ في ذلك ، أي في عدم انحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب المطلق والعام وإلى الشك البدوي بوجوب المشروط والخاص أن الاجزاء للمأمور به على قسمين :

الأوّل : جزء خارجي كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود و ...

الثاني : جزء ذهني وهو التقيد لا القيد فإنّه أمر خارجي كالجزء الخارجي بعينه ، والجزء الخارجي هو ما يتركّب منه المأمور به كالتكبيرة والركوع والسجود والتشهّد مثلا والجزء الذهني هو الاتصاف الحاصل للصلاة من الوضوء ، أو التستر أو الاستقبال ، فالاتصاف حاصل للمأمور به من فعل خارجي ، وهو الوضوء والتستر والاستقبال ، مثلا أن وجود الطبيعي كالرقبة والحيوان في ضمن المقيّد كالرقبة

٥٥

المؤمنة ، والإنسان لأن الإنسان مقيّد بوصف الناطقية ، إذ هو حيوان ناطق متّحد معه بل هو عينه خارجا فلا انفكاك بينهما خارجا.

ومن الواضح أن وجود الطبيعي في ضمن غير المقيد مباين للطبيعي الذي يوجد في ضمن هذا المقيّد كالحيوان الذي يوجد في ضمن الإنسان فهو مباين للحيوان الذي يوجد في ضمن الفرس ولهذا لا يحمل أحدهما على الآخر فلا يصح أن يقال : حيوان الصاهل حيوان ناطق ؛ وبالعكس ، وكذا الرقبة التي تتحقّق في ضمن الرقبة المؤمنة مباينة للرقبة التي تتحقّق في ضمن الرقبة الكافرة.

حكم الشك في الشرطية والخصوصية

وعلى ضوء هذا فلا يكون هناك قدر متيقّن في البين لينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب القدر المتيقّن ؛ وإلى الشك البدوي بالإضافة إلى وجوب الزائد عليه ، امّا بخلاف دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين فلوجود القدر المتيقّن في البين وهو وجوب الأقل على كل تقدير ، أي سواء وجب الأكثر ، أم لم يجب ، وإذا لم ينحل العلم الاجمالي فلا تجري البراءة العقلية عن وجوب القيد فالأقل إمّا يكون واجبا نفسيا واقعا إذا لم يجب الأكثر واقعا ، وامّا يكون واجبا غيريا مقدّميا إذا يجب الأكثر واقعا ، أمّا بخلاف دوران الأمر بين المشروط بشيء وبين مطلقه وبين الخاص المطلق وبين عامّه فانّ الاجزاء التحليلية العقلية كالحيوانية والرقية ، انتزعت عن ذات المأمور به ونفسه فليست بمقدّمة كي تجب بالوجوب غيري المقدمي ، إذ تشترط الاثنينية بين المقدّمة وبين ذيها فلا تتصف باللزوم من باب المقدّمة عقلا.

نعم تتصف الأجزاء الخارجية باللزوم من باب المقدّمة عقلا لأنّها قائمة برأسها من دون توقف بعضها على بعض في الوجود الخارجي.

٥٦

وعليه فلا يمكن أن يقال : ان وجوب المطلق والعام متيقن ووجوب القيد والخاص كالايمان والإنسان مشكوك فندفعه بالأصل ، وإذا لم يكن وجوب المقدمي ثابتا لها فلا يصح أن يقال : وجوبها متيقن امّا نفسيا وامّا غيريا مقدّميا ووجوب القيد والخاص مشكوك فلا ينحل العلم الاجمالي في هذين الدورانين كما لا يخفى.

فإن قيل : يمكن هاهنا تصوير انحلال العلم الاجمالي بهذا البيان بأن الرقبة والحيوان مطلوبان قطعا ، امّا نفسا وامّا مع الغير فيكون طلبهما متيقّنا. واما مطلوبية القيد والخاص فمشكوكة.

فالنتيجة ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب المطلق والعام ؛ والشك البدوي بوجوب القيد والخاص.

قلنا : ان وجود المطلق في ضمن المقيّد غير وجوده في ضمن المقيّد الآخر كالرقبة التي توجد في ضمن المؤمنة مباينة للرقبة التي تتحقّق في ضمن الكافرة ، وكذا الحيوان الذي يوجد في ضمن الإنسان مثلا مباين للحيوان الذي يتحقّق في ضمن الفرس مثلا ، كما تقدّم وجهه ، وكذا الصلاة المشروطة كالصلاة مع التستر مثلا مباينة للصلاة التي تكون خالية عن التستر ، وكذا الصلاة الخاصّة كصلاة الآيات مباينة للصلاة التي تتحقّق في ضمن صلاة العيدين.

وعلى ضوء هذا لا يكون وجود الطبيعي ممتازا عن وجود أفراده ومصاديقه في الخارج لأن وجود الطبيعي بمعنى وجود أشخاصه كي يكون وجوب المقيد والخاص مشكوكا ووجوب الطبيعي متيقّنا. وعلى طبيعة الحال فلا انحلال هاهنا أصلا.

فالأمر في هذين الدورانين أظهر من الأمر في الأقل والأكثر الارتباطيين أو وجود الأقل فيهما ممتاز عن وجود الأكثر في الخارج لأنّ الصلاة بلا سورة ممتازة من حيث الوجود الخارجي عن الصلاة مع السورة ، اما بخلاف الطبيعي فان وجوده

٥٧

عين وجود أفراده ومصاديقه في الخارج فليس وجوده ممتازا عن وجود القيد والخاص كما لا يخفى. كي يكون وجوبه متيقنا ووجوبها مشكوك.

قوله : نعم لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الأمر بين ...

ولا يخفى عليك أن غرض المصنّف قدس‌سره من كلامه هذا بيان الفرق بين المقيّد والمطلق وبين العام والخاص ، بجريان البراءة النقلية في الأوّل دون الثاني لأنّ القيد ينتزع عن أمر الشارع المقدّس ، كقوله : اعتق رقبة مؤمنة ، إذ شرطية ايمان الرقبة تستفاد من أمر الشارع المقدّس.

وعليه فلا مانع من نفي شرطيته بحديث الرفع ، عند الشك في شرطية القيد وهو وصف الايمان. اما بخلاف خصوصية الإنسان فانّها منتزعة عن ذات المأمور به وشخصه ولا تنتزع من أمر خارج عن ذات المأمور به حتى تنفى بالأصل.

وعلى طبيعة الحال يدور الأمر بين وجوب الخاص ؛ ووجوب العام فيكونان من قبيل المتباينين كالظهر والجمعة ، فالعقل يحكم بالاحتياط الذي يتحقق باتيان الظهر والجمعة معا وبإتيان الخاص والمقيّد لاشتمالهما على المأمور به مع مزية وخصوصية كما إذا دار أمر التسبيحات الأربعة بين الواحدة والثلاث فالعقل يحكم بإتيان الثلاث تحصيلا للفراغ اليقيني.

قوله : فتأمّل جيّدا ...

وهو إشارة إلى أنّه لا تناقض بين كون الأجزاء واجبة نفسية وبين كونها واجبة غيرية لأنّ لحاظها على نحوين :

الأوّل : أن تلحظ منضمّة بعضها مع بعض.

الثاني : أن تلحظ منفردة ، فهي بلحاظ الأوّل واجبة نفسية لأنّها حينئذ عين المركب المأمور به والمركب عينها فلا اثنينية بينهما.

وبلحاظ الثاني واجبة غيرية لأنّها حينئذ مقدّمة وجودية للمركّب المأمور به

٥٨

والمقدّمية تقتضي الاثنينية كي يكون شيء مقدّمة والآخر ذيها.

في نقيصة الجزء سهوا

قوله : الثاني أنّه لا يخفى أن الأصل فيما إذا شك في جزئية شيء للمأمور به ...

قد وضع الشيخ الأنصاري قدس‌سره المسائل الثلاث لاختلال الجزء نقيصة وزيادة :

إحداها : لنقيصة الجزء سهوا.

وثانيتها : لزيادة الجزء عمدا.

وثالثتها : لزيادة الجزء سهوا.

وامّا نقيصة الجزء عمدا فلا إشكال في بطلان العبادة بها وإلّا فلا يكون الجزء جزءا لأنّ المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه ، وكذا الشروط حرفا بحرف ، إذ الكلام فيها كالكلام في الأجزاء عينا.

المسألة الاولى ان المكلف إذا نقص جزء من أجزاء العبادة سهوا فهل القاعدة تقتضي بطلانها ، أم لا؟

قال المصنّف قدس‌سره : انّا نعلم بجزئية الفاتحة والسورة الكاملة بعدها للصلاة الواجبة في حال الذكر ونعلم بشرطية الستر والاستقبال لها في حاله بحيث لو تركها عامدا متذكّرا لبطلت الصلاة قطعا ، ولكن لا نعلم بالجزئية ، أي بجزئيتهما لها في حال النسيان ، وكذا لا نعلم بشرطيتهما حاله بحيث إذا تركها نسيانا بطلت الصلاة.

ومقتضى القاعدة في هذه المسألة أن الشك فيها كالشك في أصل الجزئية والشرطية ، أي كما قلنا في الشك في أصل الجزئية كالسورة ، وفي أصل الشرطية كجلسة الاستراحة مثلا بالاحتياط الذي يقتضيه الأصل العقلي لأنّ العقل يحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل وهو لا يدفع إلّا بالاحتياط الذي يتحقّق بالإعادة في

٥٩

الوقت مع الجزء المنسي بعد التذكر ، ومع الشرط المنسي بعده ، أو القضاء في خارج الوقت والعقل يحكم بالاشتغال بالإضافة إلى الجزء والشرط وهو يقتضي الفراغ اليقيني وهو لا يتحقّق إلّا بالإعادة ، أو القضاء على النحو المذكور ، ولكن شرعا حديث الرفع وحديث السعة وحديث الحجب تجري ويكون مقتضاها عدم جزئية المنسي وعدم شرطية المنسي للصلاة حال النسيان بل تختصان بحال الذكر ، وكذا يجري في هذا المقام الحديث الشريف : لا تعاد الصلاة إلّا من خمس الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود (١).

وعليه إذا شككنا في الجزئية للسورة على نحو الاطلاق في حال الذكر وفي حال النسيان فيمكن لنا أن نتمسك بحديث الرفع ونقول : ان السورة ليست بجزء حال النسيان ، إذ الناسي لا يعلم جزئيتها حال النسيان كما لا يعلم الجاهل بجزئيتها جزئيتها حال الجهل فلا تلزم الإعادة ولا القضاء للصلاة التي قرأها بلا سورة نسيانا ، وكذا حال الشرط المنسي حرفا بحرف. وكذا يجوز لنا التمسّك لعدم الإعادة بحديث لا تعاد الصلاة ... الحديث ، لأنّ الصلاة بلا سورة وبلا شرط داخلة في المستثنى منه لا المستثنى.

توضيح الاستدلال بحديث لا تعاد يحتاج إلى بيان الأمرين :

الأوّل : ان الاستثناء في الحديث الشريف يكون مفرغا لأنّ المستثنى منه مقدر محذوف ، أي لا تعاد الصلاة من شيء إلّا من خمسة الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود.

والثاني : ان الحديث الشريف انّما يكون لبيان حكم السهو والنسيان لا العمد.

وعلى ضوء هذا فيشمل ما نحن فيه شمولا واضحا ، وعليه فلا تلزم الإعادة

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ج ١ باب ٣ من أبواب الوضوء ح ٨ / ٢٦٠.

٦٠