البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-94105-2-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٣٣

وامّا مثال الدخيل في متعلّق التكليف فكالجزئية والشرطية للمكلف به مثل جزئية القراءة وشرطية الاستقبال للصلاة ، وامّا مثال المانعية له فكاللبس ما لا يؤكل لحمه في حال الصلاة.

وامّا مثال الدخيل في موضوع التكليف كالزوجية والمالكية مثلا اللّتين يترتّب عليها آثار شرعية من جواز الاستمتاع ووجوب النفقة وجواز التصرّف وغيرها من جواز الهبة واشتراء المملوك للعتق الواجب وغيرهما من الآثار المترتّبة على الملكية.

وامّا مثال غير الدخيل في التكليف ولا في متعلّقه ولا في موضوعه فكالولاية لاجراء عقد النكاح مثلا ، إذ لا يترتّب على هذه الوكالة حكم تكليفي.

فإن قيل : يترتّب عليها جواز إجراء الصيغة ، أي صيغة النكاح مثلا.

قلنا : ان جواز اجراء الصيغة كان متحقّقا قبل الوكالة فضولا أيضا والعقد الفضولي نافذ مع الإجازة من الزوج والزوجة ، أو وليهما بالاجماع.

ضرورة أنّه لا وجه لتخصيص أحكام الوضعية بالمذكورات بعد كثرة إطلاق الحكم ، في كلمات الأصحاب (رض) على غير المذكورات مثل الحديث والرقيب مثلا مع أنّه لا تكاد تظهر ثمرة مهمّة علمية ، أو عملية للنزاع في ذلك ، أي في حصر أحكام الوضعية بالمذكورات وعدم حصرها بها ، إذ لنا علم بأنّها غير التكليفية بلغت ما بلغت ، وكذا لا ربط للحصر وعدمه في مقام العمل بحيث إذا كانت محصورة في عدد معيّن كالثلاثة ، أو الخمسة ، أو التسعة نعمل بها وإلّا فلا ، وليس الأمر كذلك إذ نعمل على طبق الأحكام الوضعية في مواردها سواء كانت محصورة ، أم كانت غير محصورة.

قوله : وانّما المهم في النزاع هو أن الوضع كالتكليف ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان الامور الثلاثة المتقدّمة شرع في تحقيق الحكم

٢٤١

الوضعي وقال : ان النزاع ثابت بين الأصوليين قدس‌سرهم في أن الأحكام الوضعية مجعولة بالجعل التشريعي كالأحكام التكليفية ، إذ لا إشكال ولا نزاع في كون الأحكام التكليفية مجعولة استقلالا تشريعا بحيث يصحّ اعتبارها من مجرّد جعلها بقوله هذا واجب ، أو حرام ، أو مستحب ، أو مكروه ، أو مباح فيكون واجبا ، أو حراما ، أو مستحبّا أو مكروها ، أو مباحا بمجرّد الجعل ، فهل الأحكام الوضعية كذلك فيصح انتزاع السببية واعتبارها من قول الجاعل دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة اليومية وعقد النكاح سبب لحليّة الوطي و ....

أو هي منتزعة من التكليف ومجعولة بتبعه ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل تفصيل فيها.

قال المصنّف قدس‌سره : والتحقيق ان الأحكام الوضعية بأسرها على انحاء ثلاثة :

الأوّل : ان منها ما لا يتطرّق إليه الجعل تشريعا أصلا ولا يقبله لا استقلالا ولا تبعا وان كان مجعولا تكوينا عرضا. وثانيا بتبع جعل موضوعه تكوينا ، كجعل دهنية الدهن وكجعل رطوبة الماء وكجعل حرارة النار و ....

الثاني : لا يقبل الجعل التشريعي استقلالا وأصالة ولكن يقبله تبعا وعرضا كالجزئية والشرطية والمانعية ، إذ ايجاب مركب خاص يوجب قهرا اتصاف كل واحد من أجزائه بالجزئية لهذا المركّب الخاص ، واتصاف الخصوصية الوجودية كالستر والاستقبال بالشرطية للمركّب ، واتصاف الخصوصية العدمية مثل لبس ما لا يؤكل لحمه والحرير للرجال بالمانعية.

الثالث : أن منها ما يمكن فيه الجعل استقلالا واصالة بانشائه بأن ينشأ الحكم الوضعي مستقلا كالحكم التكليفي ويمكن فيه الجعل تبعا للتكليف كأن يكون التكليف منشأ لانتزاع الوضع ، وان كان الصحيح في القسم الثالث انتزاع الوضع من انشائه استقلالا واصالة وكون التكليف من آثاره وأحكامه ، أي من آثار الوضع وأحكامه كما تأتي الإشارة إلى هذا القسم عن قريب إن شاء الله تعالى. وذلك

٢٤٢

كالزوجية التي يصح جعلها ابتداء بأن يقول الشارع المقدّس : هند زوجة زيد كما يمكن للشارع المقدّس جعلها تبعا ، كأن يقول : يبيح نظر زيد إلى هند ويبيح وطئه لها ، وتجب نفقتها عليه وترثه ويرثها فينتزع من هذه الامور عنوان الزوجية.

ولكن المختار عند المصنّف قدس‌سره في القسم الثالث انتزاع الوضع من انشائه استقلالا وأصالة مثلا يصح أن ينشئ الشارع المقدّس عنوان الزوجية استقلالا وأصالة واباحة النظر والاستمتاع ووجوب النفقة والكسوة والمسكن والتوارث من آثارها وأحكامها وكذا الكلام في مثل القضاوة والولاية والحرية والرقية والملكية ونحوها.

قوله : وامّا النحو الأوّل فهو كالسببية والشرطية والمانعية ...

وليعلم ان سبب التكليف عبارة عمّا فيه اقتضاء التكليف كدلوك الشمس في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)(١).

وشرط التكليف عبارة عمّا له دخل في تأثير السبب في التكليف كالبلوغ والعقل والحياة والقدرة.

وامّا المانع فهو كالحيض قبل الوقت لأنّه مانع عن توجه التكليف إلى الحائض ، وامّا الرافع فهو كالحيض بعد الوقت ، إذ هو رافع للتكليف عنه من حين حدوثه. فالقسم الأوّل من قيود التكليف فانّ المولى يجعل التكليف تارة بلا قيد فيكون مطلقا ، واخرى يجعله مقيّدا بوجود شيء في الموضوع فيكون شرطا ، وثالثة بعدمه فيكون مانعا.

وأمّا الفرق بين السبب والشرط فهو مجرّد اصطلاح فانّهم يعبّرون عمّا اعتبر وجوده في الحكم التكليفي بالشرط ويقولون : ان البلوغ شرط لوجوب الصلاة مثلا ،

__________________

(١) سورة الاسراء آية ٧٨.

٢٤٣

والاستطاعة شرط لوجوب الحج والنصاب شرط لوجوب الزكاة.

ويعبّرون عمّا اعتبر وجوده في الحكم الوضعي بالسبب ويقولون : ان الملاقاة سبب للنجاسة والحيازة سبب للملكية ، فكلّما اعتبر وجوده في الحكم فهو شرط في باب التكليف وسبب في باب الوضع سواء عبّر عن اعتباره بالقضية الشرطية أو الحملية فانّه لا فرق بين قول المولى : من كان مستطيعا وجب عليه الحجّ ومن كان بالغا عاقلا وجبت عليه الصلاة ، وبين قوله : المستطيع يجب عليه الحجّ والبالغ العاقل تجب عليه الصلاة لرجوع الشرطية إلى الحملية. كما ان القضية الحملية ترجع إلى الشرطية التي كان مقدّمها تحقّق الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له.

وبالجملة كلّما اعتبر وجوده في الموضوع فهو شرط للتكليف كالاستطاعة لوجوب الحج ، وكلّما اعتبر عدمه في الموضوع فهو مانع عن التكليف ، كالحيض مثلا.

قال المصنّف قدس‌سره : حيث انّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين للسببية والشرطية والمانعية والرافعية من التكليف المتأخّر عنها ذاتا حدوثا ، أو ارتفاعا ، فالأوّل كما في السبب والشرط والمانع ، والثاني كما في الرافع.

وعلى هذا البيان فالسببية والشرطية والمانعية والرافعية منتزعة عن الخصوصية التكوينية القائمة بما هو سبب ، أو شرط ، أو مانع ، أو رافع فليست مجعولة بالاستقلال ولا منتزعة عن التكليف خلافا للمشهور حيث ذهب إلى أنّها مجعولة بالاستقلال وخلافا لبعض حيث ذهب إلى أنّها منتزعة عن التكليف المترتّب على موضوعاتها كانتزاع السببية عن وجوب الصلاة المترتّب على الدلوك نحو قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ). وعلى ضوء هذا فصار الأقوال في النحو الأوّل ثلاثة. ولكن اختار المصنّف قدس‌سره القول الثالث وأبطل الأوّل والثاني.

امّا بيان بطلان القول الثاني فلأنّ لازمه تأثير المتقدّم في المتأخّر حيث إن

٢٤٤

اجزاء العلّة متقدّمة على المعلول ، فإذا فرض توقّف بعض أجزائها على وجود المعلول للزم تأثير المتأخر.

وتطبيقه على المقام : أن الأمر الانتزاعي متأخّر عن منشأ الانتزاع ، إذ لو لا وجود المنشأ لا معنى لانتزاع شيء منه. وهذا معيار الفرق بين الأمر الانتزاعي والأمر الاعتباري ، إذ لا يعتبر في الثاني تحقّق محل الاعتبار خارجا هذا مع أن مقتضى سببية شيء ، وذلك كالدلوك ، للتكليف الذي هو عبارة عن وجوب الصلاة هو تقدّمه عليه لكون السبب في مرتبة العلّة والتكليف في مرتبة المعلول.

وفي ضوء هذا فالالتزام بانتزاع السببية عن التكليف يستلزم كون المتأخّر عن التكليف متقدّما عليه ، والمتقدّم عليه متأخّرا عنه ، وهذا معنى اجتماع المتقابلين ، وهذا مستحيل جدّا ، مثلا إذا انتزعنا سببية الدلوك عن وجوب الصلاة ونقول : ان الدلوك سبب لوجوب الصلاة ، فهذا الانتزاع يستلزم كون المتأخّر عن التكليف متقدّما على التكليف لأنّ في مرحلة الاولى جعل الوجوب للصلاة. وفي مرحلة الثانية جعل الدلوك سببا لوجوبها لأنّه متى لم يجعل الوجوب للصلاة لم يجعل الدلوك سببا لوجوبها. ويستلزم كون المتقدّم على التكليف متأخّرا عنه ، لأنّ السبب في مرتبة العلّة هذا وجه كون السبب متقدّما على التكليف.

هذا وجه كون السبب متأخّرا عن منشأ الانتزاع وعن التكليف ، هذا في السببية ، وكذا الأمر في الشرطية والمانعية ، فانّ شرط التكليف ومانع التكليف متقدّمان على المشروط والممنوع طبعا.

وعليه فالالتزام بانتزاعيتهما يستلزم تأخّرهما عنهما لأنّ الأمر المنتزع بالفتح متأخّر عن منشأ الانتزاع.

فالنتيجة ان الالتزام بانتزاع الشرطية والمانعية عن التكليف المترتّب على موضوعاتهما كانتزاع الشرطية عن وجوب الصلاة المترتّب على الستر والاستقبال

٢٤٥

في مثل الستر شرط لصحّة الصلاة ، وفي مثل لبس أجزاء ما لا يؤكل لحمه حال الصلاة مانع عن صحّتها يستلزم كون المتأخّر عن التكليف متقدّما عليه لأنّه متى لم يجعل الوجوب للصلاة فلم يجعل الاستقبال والستر شرطين لصحّتها ، والمتقدّم عليه متأخّرا عنه لأنّ الأمر المنتزع متأخّر عن منشأ الانتزاع ، كما لا يخفى.

وأمّا بطلان القول المشهور ، وهو عدّ القول الأوّل ، فلأنّ هذه الأشياء لو كانت مجعولة بالاستقلال للزم الخلف ، إذ لو كانت دائرة مدار الجعل المستقل كما قال به المشهور فيلزم حينئذ امتناع انتزاعها عن غيرها وللزم اجتماع المتقابلين والحال انّه لصح انتزاعها عن غيرها وان لم تنشأ السببية للدلوك والشرطية للاستقبال والستر والمانعية للبس أجزاء ما لا يؤكل ، بل انشئ الوجوب للصلاة عند الدلوك بأن قال المولى : إذا زالت الشمس فصل الظهر وإذا صلّيت فاستقبل القبلة وإذا صلّيت فلا تلبس أجزاء ما لا يؤكل لحمه.

ولا ريب في أن المنشأ هو الوجوب للصلاة عند الدلوك ويصح انتزاع السببية للدلوك من نفس هذا الانشاء وانتزاع الشرطية للاستقبال والستر من نفس هذا الانشاء وكذا الكلام في المانعية حرفا بحرف ، ولكن يلزم عدم صحّة انتزاع السببية للدلوك ان لم يترتّب وجوب الصلاة عليه ، أي على الدلوك ، وإن انشئت السببية له ، ويقال ان الدلوك سبب لوجوب الصلاة فالسببية فرع الوجوب.

وبعد وضوح بطلان هذين القولين يتعيّن المصير إلى القول الثالث وهو عبارة عن كون منشأ انتزاع السببية والشرطية والمانعية والرافعية هي الخصوصية الذاتية القائمة بذات السبب والشرط وعدم المانع وعدم الرافع وكل واحد منها من أجزاء العلّة ، إذ لو لم تكن تلك الخصوصية الموجبة للربط الخاص بين السبب والمسبّب الذي هو يقتضي لتأثير السبب في المسبب لأثر كل شيء في كل شيء ، وذلك كتأثير الماء في الاحراق والنار في التبريد.

٢٤٦

ومن المعلوم فساد تأثير كل شيء في كل شيء للزوم السنخية بين العلّة والمعلول ووجود الربط الخاص التكويني بين أجزاء العلّة وهي عبارة عن وجود المقتضى وتحقّق الشرط وعدم المانع وبسبب هذا الربط الخاص تؤثر هذه الاجزاء في المعلول ولو لا هذا الربط الخاص والعلقة اللزومية فقد لزم اختصاص بعض الاسباب ببعض المسبّبات بلا مخصص وهذا يئول إلى الترجيح بلا مرجح.

فالنتيجة ان أجزاء العلّة تؤثر في معلولها لا في غيره كالنار الذي يقتضي الاحراق مع تحقّق الشرط وهو عبارة عن لصوق الجسم به ومع تحقّق عدم المانع الذي هو عبارة عن رطوبة الجسم تؤثر في الاحراق لا في التبريد ، وكذا لا يؤثر الماء في الاحراق ولا النار في التبريد ، وحيث ان المناط في السببية تلك الخصوصية الذاتية المقتضية للتأثير فلا يعقل تحقّقها بالإنشاء والجعل ، إذ انشاؤها لا يؤثر في تحقّق تلك الخصوصية التكوينية.

فقوله ، أي قول المولى الدلوك سبب لوجوب الصلاة انشاء لا اخبارا لا يقتضي حدوث السببية للدلوك تعبّدا وتشريعا إذ سببية الدلوك لا ترتبط بعالم التشريع والتقنين لأنّها أمر تكويني مثل سببية النار للحرارة فالنار يكون موضوعا للحرارة تكوينا وسببيته للحرارة تكون أمرا تكوينيا كما أن مسببه أمر تكويني ، ولكن فيما نحن السبب والسببية أمران تكوينيان والمسبب الذي هو عبارة عن وجوب الصلاة يكون أمرا تشريعيا.

وعليه فاذا قال الشارع المقدّس دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة فهو اطلعنا بالتكليف الوجوبي ولم يجعل السببية للدلوك ، إذ لا يتغيّر حال الدلوك عمّا هو عليه قبل انشاء السببية له من كونه واجدا لخصوصية تكوينا مقتضية لوجوبها ، أي لوجوب الصلاة ومن كونه فاقد الخصوصية.

وعلى هذا فلو كان الدلوك واجدا لتلك الخصوصية لم يؤثر الانشاء في جعل

٢٤٧

السببية للدلوك ، أمّا لو كان فاقدا لها فكذلك ، أي لم يؤثر الإنشاء في جعل السببية له إذ الانشاء لا يعطي الدلوك خصوصية تقتضي سببيته لوجوب الصلاة ، فقول دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة لا يقتضي جعل السببية له لوجهين :

الأوّل : ان الدلوك باق على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له.

الثاني : ان الصلاة لا تكون واجبة عند الدلوك ما دام لم تكن تلك الخصوصية التي هي قائمة بالدلوك ومع تلك الخصوصية تكون واجبة لا محالة وان لم ينشأ الشارع المقدّس السببية للدلوك أصلا فخصوصية الدلوك دخيلة في وجوب الصلاة لا سببيته له ، وكذا الكلام في الشرطية والمانعية والرافعية حرفا بحرف.

ولكن الانصاف ان الشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف منتزعان من جعل المولى التكليف مقيّدا بوجود شيء في الموضوع ، أو عدمه فتكون الشرطية والسببية والمانعية مجعولة بتبع التكليف.

فقول المصنّف قدس‌سره في هذا المقام خلط بين الجعل والمجعول فانّ ما ذكره صحيح بالنسبة إلى أسباب الجعل وشروطها من المصالح والمفاسد والإرادة والكراهة والميل والشوق فانّها أمور واقعية باعثة لجعل المولى التكليف وليست بقابلة للجعل التشريعي ، لكونها من الامور الخارجية التي لا يعقل تعلّق الجعل التشريعي بها ، بل ربّما تكون غير اختيارية كي يتعلّق بها الجعل وذلك كالميل والشوق والمصلحة والمفسدة مثلا ، وهي خارجة عن محل الكلام فانّ الكلام في الشرطية والسببية والمانعية بالنسبة إلى المجعول وهو التكليف وقد ذكرنا انّها مجعولة بتبع التكليف ، فكلّما اعتبر وجوده في الموضوع ، فتنتزع منه السببية والشرطية وكلّما اعتبر عدمه فيه فتنتزع منه المانعية.

فالنتيجة أن هذه الامور لا يتعلّق بها الجعل التشريعي الاستقلالي والوجه كما تقدّم ولكن بالنسبة إلى المجعول قابلة لجعل التبعي وانّما قال المصنّف قدس‌سره انشاء لا

٢٤٨

اخبارا لأنّ مقصوده قدس‌سره ان امتناع ايجاد السببية للدلوك بقول المولى الدلوك سبب لوجوب الصلاة انّما هو إذا كان الكلام انشاء ، أي قصد به تحقّق السببية بمجرّد هذا الجعل ممّن بيده أمر التشريع.

وامّا إذا قصد بهذا الكلام الاخبار عن ثبوت الخصوصية الذاتية للدلوك والاستقبال ونحوهما فعدم تحقّق السببية للدلوك بهذا الكلام واضح لعدم اقتضاء الأخبار والحكاية تحقّق هذا العنوان أصلا ، إذ لو كان هذا العنوان موجودا في الواقع لكان الاخبار صدقا وإلّا فهو كذب ، والحال أنّه ليس شأن الخبر إيجاد ما ليس بموجود في الخارج بل انّما هو شأن الانشاء.

قوله : ومنه انقدح أيضا عدم صحّة انتزاع السببية له ...

هذا إشارة إلى فساد القول بكون السببية والشرطية والمانعية والرافعية مجعولات بتبع التكليف ، وقد سبق توضيحه في المتن وأعاد المصنّف قدس‌سره هذا القول لأجل توضيح أمر آخر وهو عبارة عن إطلاق عنوان السبب على الدلوك في بعض الأخبار ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ووجه فساد انتزاع السببية للدلوك عن وجوب الصلاة لأنّ إيجاب الصلاة عند الدلوك لا يوجب تغييره عمّا هو عليه في الواقع وايجاد الخصوصية التي تلزم في كل سبب وعلّة.

نعم إذا كان الدلوك ذا خصوصية في الواقع فهو سبب واقعا وان لم ينشأ الشارع المقدّس السببية له ، ولكن لما كان الدلوك مقارنا مع إيجاب الصلاة بل هو ملازم له بحيث لا ينفك عنه فلا بأس في اطلاق السبب عليه مجازا وعناية لأنّه ملازم له ومعرف لوجوبها كما ان انشاء الوجوب لشيء سبب لتحقّق المصالح الواقعية في موضوعات الوجوب ، أو في متعلّقاته وانشاء الحرمة سبب لتحقّق المفاسد الواقعية في المتعلّقات والموضوعات وهما ، أي المصالح والمفاسد سببان

٢٤٩

لإرادة الايجاب والتحريم.

فعلم من جميع ما ذكر أن أجزاء العلّة من المقتضى والسبب والشرط والمانع والرافع دائرة مدار الخصوصية الواقعية التي تحقّقت بينها ومعلولها واقعا. وامّا لو لم تكن الخصوصية فيها فعنوان السببية والشرطية والمانعية والرافعية لا يعلق على السبب والشرط والمانع والرافع إلّا مجازا وعناية ، والعلاقة المصحّحة للتجوّز هي العلاقة الملازمة ، إذ ليس هذا القسم من الأحكام الوضعية بقابل للجعل التشريعي أصلا لا استقلالا وأصالة ولا تبعا على مبنى المصنّف قدس‌سره.

فقال المصنّف قدس‌سره : كما لا بأس بأن يعبّر عن انشاء وجوب الصلاة عند الدلوك بأن الدلوك سبب لوجوب الصلاة وهذا التعبير يكون كنائيا لأنّه عبّر عن الملزوم الذي هو عبارة عن سببية الدلوك للوجوب واريد منه اللازم الذي هو عبارة عن وجوب الصلاة عند الدلوك.

وفي ضوء المطلب المذكور فقد ظهر لك انّه لا منشأ لانتزاع السببية ولسائر أجزاء العلّة كالشرط وعدم المانع إلّا الخصوصية الذاتية التي وجدت فيها واقعا وهي موجبة لدخل كل واحد من أجزاء العلّة بحيث تكون دخالة السبب في التكليف غير دخالة الشرط فيه وتكون دخالة الشرط فيه غير دخالة المانع فيه وتكون دخالة المانع فيه غير دخالة الرافع فيه ، إذ دخالة السبب فيه بعنوان السببية ودخالة الشرط فيه بعنوان الشرطية بحيث يلزم من وجود السبب وجود التكليف ومن عدمه عدمه ويلزم من عدم الشرط عدم التكليف ولا يلزم من وجوده وجوده ويلزم من وجود المانع عدم التكليف ولا يلزم من عدمه وجوده وكذا الكلام في الرافع حرفا بحرف أي بحرف المانع.

وأمّا الفرق بين المانع وبين الرافع فقد سبق فلا حاجة إلى الإعادة ، وانّما قال المصنّف قدس‌سره أيضا : لأنّه كما انقدح ممّا ذكر ان هذه الامور غير قابلة للجعل استقلالا

٢٥٠

كذا انقدح ممّا ذكر انّها غير قابلة للجعل تبعا.

قوله : فتدبّر جيدا ...

وهو تدقيقي بقرينة كلمة الجيّد أوّلا وثانيا لظهور كلمة التدبّر في التدقيق والدقّة إشارة إلى دقّة المطلب السابق كما هو أحق بالتدقيق والدقّة كما لا يخفى.

التحقيق في الأحكام الوضعية

قوله : وامّا النحو الثاني فهو كالجزئية والشرطية والمانعية ...

وامّا القسم الثاني من الأحكام الوضعية التي تقبل الجعل تبعا للتكليف ولكن لا تقبله اصالة واستقلالا فهو كالجزئية للمأمور به كالفاتحة مثلا ، والشرطية له كالطهور مثلا ، والمانعية له كلبس أجزاء غير المأكول ، والقاطعية له كالحدث في اثنائها والاستدبار والقهقهة والتكلّم عمدا ونحوها.

والفرق بين المانع وبين القاطع ان الأوّل عدمه شرط للمأمور به من دون أن تنقطع به الهيئة الاتصالية للاجزاء السابقة مع الاجزاء اللاحقة.

والثاني عدمه شرط للمأمور به من جهة انقطاع الهيئة الاتصالية به بحيث إذا طرأ في الأثناء سقطت الاجزاء السابقة عن قابلية الانضمام مع اللاحقة ، ولا يخفى ان اتصاف شيء بعنوان الجزئية للمكلف به ، أو بعنوان الشرطية له لا يتحقق إلّا بواسطة الأمر بمجموع الأمور يقيد تارة بأمر وجودي واخرى بأمر عدمي.

وحاصل الكلام ان الجزئية لجزء المكلف به كجزئية الركوع للصلاة والشرطية للصلاة كشرط المكلف به كشرطية الطهار وان المانعية لمانع المكلف به ككون المكان غصبا لأنّه مانع عن صحّة الصلاة وان القاطعية لقاطع المكلف به كقاطعية الفعل الكثير بالإضافة إلى الهيئة الاتصالية لأجزاء الصلاة فليس كل واحد

٢٥١

منها بقابل للجعل اصالة وللإنشاء مستقلّا بل تجعل هذه الامور بتبع انشاء التكليف وجعله.

وامّا بيان عدم جعلها مستقلا فلأنّه لمّا لم يكن المأمور به موجودا فلا يكون الجزء له قطعا وإذا لم يكن الجزء له بموجود فليس عنوان الجزئية بموجود التي تكون للجزء.

وعلى هذا فتكون هذه الامور بعد الأمر وبعد انشاء التكليف بحيث لا يكون لها ، أي للجزء والشرط والمانع والقاطع رسم ولا أثر قبل جعل التكليف وإنشائه وان انشأ الشارع المقدّس لكل واحد الامور المذكورة الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية بقوله : انّي جعلت الجزئية للجزء والشرطية للشرط والمانعية للمانع والقاطعية للقاطع ، إذ انشاء هذه الامور انّما يكون في موطنه وزمان تحقّقها لا قبل الموطن والموطن انّما يكون بعد جعل التكليف وانشائه.

قوله : وجعل الماهية واجزائها ليس إلّا ...

ولا ريب في أن الماهية المخترعة كالصلاة والصوم والحج وأمثالها مجعولة الشارع المقدّس لأنّ الشارع اخترع ألفاظ العبادات وابتكر الماهيات المباركات في الشريعة المقدّسة ويكفي نفس الجعل والاختراع في لحاظ الجزئية للجزء والشرطية للشرط والمانعية للمانع والقاطعية للقاطع وان لم يتعلّق بالماهيات المخترعة أمر المولوي من قبل الشارع المقدّس ، إذ ليس اعتبار عنوان الجزئية للأجزاء بتابع للأمر بل هو تابع للاختراع. وكذا الكلام في اعتبار الشرطية والمانعية والقاطعية.

فالنتيجة ان هذه الامور ليست بتابعة للتكليف في الجعل لأنّ الشارع المقدّس إذا اخترع أمرا مركبا من عدّة أمور مقيّدة بأمور خاصّة فبمجرّد ابتكاره لها واختراعه إيّاها ينتزع لكل جزء من أجزائها عنوان الجزئية ولكل قيد من قيودها

٢٥٢

عنوان الشرطية ولكل مانع من موانعها عنوان المانعية ولكل قاطع من قواطعها عنوان القاطعية فهي مجعولات بتبع التكليف.

قلنا : ان جعل الماهية واختراعها ليسا إلّا تصوّرها باجزائها وقيودها وشرائطها وإلّا تصوّرها بأنّها ممّا فيه مصلحة ملزمة مقتضية للأمر بها ولايجابها على آحاد المكلف.

ومن الواضح انّ مجرّد تصوّرها كذلك لا يوجب اتصاف شيء من أجزائها ولا شيء من قيودها وشرائطها بالجزئية للمأمور به ، أو الشرطية ، أو المانعية له القاطعية له ما لم يؤمر بتلك الماهية ولم يتعلّق بها التكليف والأمر.

وخلاصة الكلام أنّ ما لم يتعلّق الأمر المولوي بالماهية المركبة المخترعة لم يتصف شيء من أجزائها ولا شرائطها ولا موانعها ولا قواطعها بكونه جزءا ، أو شرطا أو مانعا ، أو قاطعا للماهية المتصوّرة ذهنا ، أو للماهية المشتملة على المصلحة الملزمة ، كما لا يخفى.

وليعلم أن ذكر الماهية المشتملة على المصلحة الملزمة فهو من قبيل ذكر الخاص بعد العام لشدّة الاهتمام به لأنّ الماهية المتصوّرة تشمل جميع الماهيات المخترعة ولكن الماهية التي تشتمل على المصلحة الملزمة فعلا تشتمل الواجبات فقط ، أو تركا تشتمل المحرّمات فقط.

ولا يشتبه الأمر في هذا المقام ويقال : انّ المصنّف قدس‌سره حيث عدّ المانع من القسم الأوّل والثاني معا ، لأنّ المانع عن التكليف كعروض الحيض ، أو النفاس قبل الوقت فهو مانع عن التكليف وبعد الوقت فهو رافع له يكون من القسم الأوّل ومانع المكلف به كلبس أجزاء ما لا يؤكل لحمه مثلا يكون من القسم الثاني ، فكم فرق بينهما ، فلا شائبة التكرار ، أو التناقض في العبارة ، أي عبارة كفاية الاصول.

قوله : وامّا النحو الثالث فهو كالحجّية والقضاوة والولاية والنيابة والحرية

٢٥٣

والرقية والزوجية والملكية ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن تحقيق القسمين الأوّلين ، شرع في تحقيق القسم الثالث من الأحكام الوضعية ، وهذا قابل للجعل استقلالا وتبعا للتكليف كالحجّية والقضاوة والولاية وغيرها من الامور المذكورة في كلامه لأنّه يمكن للمولى أن ينشئ الحجّية أولا لشيء كالبيّنة والظن بأن يقول : انّي جعلت البيّنة حجّة والظن حجّة وتترتّب عليهما آثار الحجّية عقلا وشرعا من وجوب المتابعة وحرمة المخالفة والمثوبة عند الموافقة والعقوبة عند المخالفة وغيرها من الآثار ، وكذا في سائر الامور المذكورة حرفا بحرف.

وكذا يمكن انتزع؟؟؟ عن التكاليف التي جعلها الشارع المقدّس في موارد البيّنة والظن الحاصل يمكن كلا النحوين في جميع المذكورات مثلا كما إذا حكم الشارع المقدّس بملكية شيء لشخص بأن يقول : ان هذا الدار ملك زيد ، أو يقول : ان مريم زوجة محمّد مثلا ، أو يقول : ان بكرا قاض ، فقد جعل الشارع المقدّس للمالك جواز التصرّف كيف يشاء من نفوذ البيع والتمليك والوديعة والعارية والصلح مع العوض وللزوج جواز الوطي وجواز سائر التمتّعات والاستمتاعات ، فالشارع المقدّس ـ وهو الله تعالى ـ جعلها على نحو الاستقلال في مواردها ، أو جعلها على نحو الاستقلال والاصالة في مواردها من بيده الأمر والحكم والجعل من قبل الله تعالى يتحقّق من جعل هذه الامور بانشاء نفس هذه الأشياء وكذا يمكن انتزاعها من جعل التكاليف والأحكام في موارد هذه الأشياء بأن يقول الشارع المقدّس ، أو يقول من بيده الأمر من قبل الله تعالى ، وذلك كالنبي والولي عليهما الصلاة والسلام تجوز تصرّفات هذا الشخص في الدار واستمتاعات هذا الرجل من هذه المرأة ويصح انتزاع الملكية والزوجية من التكليف والحكم.

قوله : إلّا أنّه لا يكاد يشك في صحّة انتزاعها من مجرّد جعله تعالى ، أو من بيده

٢٥٤

الأمر من قبله جل وعلى لها بانشائها ...

فقد شرع المصنّف قدس‌سره في الاستدلال على قابلية القسم الثالث من الأحكام الوضعية للجعل الاستقلالي فقط دون التبعي وقد استدل لهذا الدعوى بأمرين :

أحدهما : يرتبط بقابلية هذا القسم للجعل الاستقلالي.

وثانيهما : لعدم قابليته للجعل التبعي ، امّا الاحتجاج على الأوّل فانّه لا شك في صحّة انتزاع هذه الامور المذكورة من مجرّد جعل الله تعالى لها ، أو من مجرّد جعل من بيده الأمر من قبله لها كما في الحجّية والقضاوة والولاية ، أو من مجرّد العقد ، أو الايقاع ممّن بيده الاختيار كما في النيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية والطلاق والعتاق ونحوها ، كل ذلك بلا ملاحظة التكليف والآثار التي في موردها من جواز النظر والمس والدخول والاضطجاع ونحو ذلك في الزوجية ، ومن جواز أنحاء التصرّفات في الملكية ومن حفظ العدّة واختيار التبعل في الطلاق ومن نفاذ التصرّفات والتملّك في الحرية ومن جواز التصرّفات فيما ينوب به في النيابة وهكذا فلو كانت هذه الامور منتزعة من التكاليف التي هي في موردها بدعوى ان المجعول أولا بوسيلة العقد ، أو الايقاع التكاليف التي قد ذكرت آنفا ، ثم تنتزع هذه الامور من تلك التكاليف المجعولة بالعقد ، أو الايقاع للزم أمران :

أحدهما : أن لا يصح انتزاع هذه الامور المذكورة بمجرّد جعلها بلا ملاحظة تلك التكاليف مع انّها تنتزع بلا ملاحظتها قطعا.

ثانيها : أن لا يقع ما قصد من العقد ، أو الايقاع من هذه الامور الوضعية وأن يقع ما لم يقصد منهما من تلك التكاليف المجعولة بوسيلة العقد ، أو الايقاع مثلا لو قلنا بمجعولية الملكية بتبع التكليف للزم أن يكون المقصود غير واقع والواقع غير مقصود ، إذ المقصود من قول البائع للمشتري بعتك داري بمائة دينار هو جعل الملكية للمشتري وانشاء مفهوم البيع أعني منه التمليك وليس المقصود منه انشاء

٢٥٥

جواز التصرّفات له لأن المفروض ان التمليك لا يتحقّق بمجرّد الإنشاء الذي يتحقّق بقول بعت ، بل يتحقّق بتبع الأحكام ، فاللّازم حينئذ أن يكون الواقع بقوله بعت هو التكليف وجواز انحاء التصرفات.

والحال أن المفروض عدم قصده ، إذ المقصود هو إيجاد الملكية والمفروض عدم وقوعها لكونها تابعة للتكليف على الفرض.

والحال ان العقود تابعة للقصود. وفي ضوء هذا لا محيص عن القول بكون الملكية ونحوها من الامور المذكورة في قوله من الامور المجعولة اصالة واستقلالا لا تبعا للتكاليف ولا منتزعا عنها ، فلا تنتزع الحجّية من وجوب العمل على طبق قول الثقة ، أو العادل ، أو المفتي ، وكذا لا تنتزع البينونة في الطلاق من وجوب حفظ العدة ومن وجوب الاعتداد ولا ينتزع الضمان من وجوب الدفع بالمثل ، أو القيمة بالاتلاف ، والوجه في ذلك كلّه هو انفكاك الوضع عن التكليف وعدم استلزام التكليف له دائما.

فانقدح لك ان مثل هذه الاعتبارات التي قد ذكرت آنفا انّما تكون مجعولة بنفسها بحيث يصحّ انتزاعها بمجرّد انشائها كالتكليف ، أي كما ان التكاليف مجعولة بالاستقلال كذا هذه الامور مجعولة مستقلا وليست بمجعولة بتبع التكليف ولا منتزعة عنه.

قوله : وهم ودفع (اما الوهم) فهو ان الملكية كيف ...

امّا الوهم فخلاصته : ان الملكية كيف تكون من الأحكام الوضعية والاعتبارات الحاصلة بالجعل والانشاء والاعتبارات المذكورة تكون هي من خارج المحمول ليس بحذائها شيء في الخارج سوى منشأ انتزاعها كما في الفوقية والتحتية والابوة والبنوة والعمومة والخؤولة ونحوها من الإضافات والاعتبارات التي تكون خارج المحمول وهو المسمّى في اصطلاح أرباب المنطق بالمحمول

٢٥٦

بالضميمة مع ان الملك هو إحدى المقولات التسعة التي تكون من المحمولات بالضميمة التي يكون ما بازائها شيء في الخارج ، كالكم ، والكيف ، والفعل ، والانفعال ، والاضافة ، والمتى ، والأين ، والوضع ، وكل واحد منها يكون من الاعراض المتأصلة التي لها حظّ من الوجود في الخارج وليست هي من الاعتبارات المحضة الحاصلة بالجعل والانشاء.

وكذا مقولة الملك حرفا بحرف فانّ الملك هو عبارة عن إحاطة شيء بشيء بحيث ينتقل المحيط بانتقال المحاط كالتعمّم والتقمّص مثلا ، فالحالة الحاصلة من التعمّم والتقمّص والتنعّل للإنسان المتعمّم والمتقمّص والمتنعّل بالكسر هو الملك وأين هذه من الاعتبار الحاصل بمجرّد انشائه وإيجاده.

قوله : وامّا الدفع فحاصله ان لفظ الملك مشترك لفظي ...

قد يطلق على المقولة التي يعبّر عنها بالجدة تارة وبله اخرى وقد يطلق على الإضافة التي قد تحصل بالعقد من العقود سواء كان عقد البيع ، أم كان عقد الاجارة وعقد الهبة وعقد التمليك ونحوها وقد تحصل بغير العقد من نحو ارث ونحوه من مثل حيازة المباحات واحياء الموات ، فالذي هو من الأحكام الوضعية والاعتبارات الحاصلة بالجعل والانشاء ويكون من خارج المحمول هو الملك بالمعنى الثاني والذي هو من الاعراض المتأصلة ويكون من المحمولات بالضميمة ، أي التي لا تحصل بالجعل والانشاء هو الملك بالمعنى الأوّل ومنشأ الوهم اشتراكه اللفظي واطلاقه على هذا مرّة وعلى ذاك اخرى.

ومن هنا يعلم أن أسباب الملك على نحوين :

أحدهما : اختياري ، كالعقد من العقود.

ثانيهما : غير اختياري ، كالارث والارتداد الفطري المورث بالإضافة إلى الوارث غير اختياري.

٢٥٧

فالتوهّم المذكور انّما نشأ من اطلاق الملك على مقولة الجدة أيضا ، كما يطلق على الاختصاص الذي يكون من مقولة الاضافة ومن الغفلة عن كونه مشتركا بين الجدة ، وبين الاختصاص الخاص والاضافة الخاصة الاشراقية إذا كان المضاف إليه هو الله تعالى فقط كملكه تعالى للعالم جميعا ، أو الإضافة المقولية إذا كان المضاف إليه هو غير الله تعالى كملك غيره تعالى بسبب من الأسباب سواء كان اختياريا أو كان غير اختياري وتفصيل كل واحد منهما قد سبق آنفا فلا حاجة إلى الإعادة فيكون شيء ملكا لأحد من الأشخاص بمعنى وملكا لشخص آخر بالمعنى الآخر ، مثلا الله تعالى مالك فلان كتاب بمعنى الاضافة الإشراقية والإفاضة الوجودية ، ولكن في عين الحال كان زيد مالكا لفلان كتاب بمعنى الاضافة المقولية فقد جمع الملكان لحظة في شيء واحد ، امّا بالمعنيين ، أو إذا لبس عمرو عمامة زيد وعمّم بها فيتحقّق لعمرو الملك بمعنى الجدة ولزيد بمعنى الإضافة المقولية والأمر الاعتباري كما لا يخفى.

قوله : فتدبّر ...

وهو إشارة إلى ان اختصاص شيء بشيء خاص يحصل بثلاثة طرق :

الأوّل : أن يحصل الاختصاص من ناحية اسناد وجود شيء إلى وجود شيء خاص نحو : العالم ملك الباري تعالى ، إذ اختصاص العالم بالله تعالى يحصل من ناحية الاضافة الاشراقية.

الثاني : أن يحصل من ناحية التصرّف والاستعمال كما يقال : الفرس لزيد اختصاص الفرس بزيد بن أرقم حصل من ناحية الركوب وسائر تصرّفاته فيه كالبيع والهبة ونحوهما.

الثالث : أن يحصل الاختصاص بواسطة السبب الاختياري كالعقد ، أو بالسبب غير الاختياري كالارث مثلا ، كحصول ملكية الأراضي والعقار للمشتري

٢٥٨

بالعقد أو الارث.

فانقدح لك عمّا ذكر ان الملك بمعنى الجدة غير قابل للانشاء لأنّه من الامور الواقعية ، وبمعنى الاختصاص قابل للانشاء. وهذا واضح لا غبار عليه. وقد تمّ الكلام إلى هنا في تحقيق الوضع.

قوله : إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل فقد عرفت ...

أي قد عرفت أنّه لا مجال للاستصحاب في القسم الأوّل من الأحكام الوضعية ، إذ لا يتطرّق إليه الجعل التشريعي لا استقلالا ولا تبعا أصلا ، وعليه فلا يستصحب دخل ما له الدخل في التكليف امّا بنحو السببية ، أو الشرطية ، أو المانعية ، أو الرافعية. وذلك لما يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب حكما شرعيا ، أو موضوعا ذا حكم شرعي كما سيأتي هذا المطلب في التنبيه العاشر إن شاء الله تعالى.

فالنحو الأوّل من الوضع من السببية والشرطية والمانعية والرافعية ليس هو أمرا مجعولا شرعا لا استقلالا ولا تبعا كي يكون حكما شرعيا ولا هو ذو أثر مجعول شرعا ، بل هو من الامورات التكوينية.

وامّا النحو الثاني من الوضع الذي قد ادّعى تطرّق الجعل التبعي إليه فقط دون الاستقلالي كالجزئية لما هو جزء المكلف به والشرطية لما هو شرط المكلف به والمانعية لما هو مانع المكلف به والرافعية لما هو رافع المكلف به فلا مانع عن استصحابه نظرا إلى كفاية الجعل التبعي في صحّة استصحاب المجعول بالتبع ، إذ أمر وضعه ورفعه انّما يكون بيد الشارع المقدّس ، أو بيد من يكون اختيار الجعل والوضع والرفع من قبل الشارع المقدّس بيده.

نعم لا مجال لاستصحابه من ناحية اخرى وهي عبارة عن كون الأصل الجاري فيه مسببيا ومع جريان الأصل السببي لا تصل النوبة إلى الأصل المسببي

٢٥٩

فانّ الشك في بقاء جزئية الجزء ناش عن الشك في بقاء الأمر بالكل الذي قد انتزع منه جزئية الجزء فيجري الأصل في السبب دون المسبّب وإن كانا متوافقين وليسا بمتخالفين وسيأتي تحقيق السببي والمسببي مفصّلا في أواخر بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وامّا النحو الثالث من الوضع الذي ادّعى المصنّف قدس‌سره تطرّق الجعل الاستقلالي إليه فقط دون التبعي وان صرّح المصنّف قدس‌سره في بدو الأمر بقابليته للجعل الاستقلالي والتبعي معا كالحجّية والقضاوة والولاية ونحوها فلا مانع عن استصحابه فانّه كالتكليف بعينه فكما يصحّ استصحاب بقاء التكليف إذا شك في بقائه وزواله فكذا يصحّ استصحاب القسم الثالث من الوضع ولكن الانصاف ان الشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف منتزعة من جعل المولى التكليف مقيّدا بوجود شيء في الموضوع ، أو عدمه ، فتكون الشرطية والسببية والمانعية مجعولة بتبع التكليف فهذا القسم قابل للجعل التشريعي تبعا.

وعلى طبيعة الحال فلا مانع عن استصحابه ، أي القسم الأول ، كما في النحو الثاني والثالث حرفا بحرف وقد سبق هذا الأمر فلا حاجة إلى التكرار.

قوله : والتكليف وإن كان مترتّبا عليه إلّا انّه ليس ...

قال المصنّف قدس‌سره : إذا علم ممّا سبق اختلاف الوضع في عالم الجعل من حيث الأحكام فليعلم انّه لا مجال لاستصحاب دخل ما له الدخل في التكليف من السببية والشرطية في القسم الأوّل من الوضع ، إذ التكليف وإن كان مترتّبا على نفس السبب كترتّب وجوب الصلاة على الدلوك وعلى نفس الشرط كترتّب وجوب العبادات على البلوغ والحياة والعقل والقدرة وعلى نفس المانع والرافع كترتّب عدم وجوب الصلاة والصوم على الحيض والنفاس ، وكترتّب رفع التكليف على الحيض الذي يعرض على المرأة في أثناء الوقت.

٢٦٠