البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-94105-2-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٣٣

العمل على الشك بل له أن يتم العمل على اليقين ، أي أضاف إلى الثالثة الرابعة.

قال المصنّف قدس‌سره : ان الاستدلال بهذا الحديث على حجّية الاستصحاب مبتن على ان مقصود الإمام عليه‌السلام من اليقين السابق هو اليقين بعدم إتيان الركعة الرابعة ، ومن الشك هو الشك في إتيانها.

وعلى هذا يكون المعنى بهذا النحو ان قاطعا لثلاث ركعات وشاكّا في كون صلاته ثلاث ركعات ، أو أربع ركعات وهو قد أحرز الثلاث ، ولكن هو كان متيقّنا في عدم إتيان الركعة الرابعة قبل الدخول في الصلاة وبعد الدخول فيها شك في إتيانها فيجري الاستصحاب لتمامية أركانه وهي اليقين السابق والشك اللاحق لأنّه لا يجوز له نقض اليقين بالشك بل يلزم عليه البناء على يقينه ويحكم بأن صلاته ثلاث ركعات ويضاف إليها الرابعة.

ولا يخفى ان صدر الحديث الشريف يدل على حكم الشك بين الاثنتين والأربعة بعد إكمال السجدتين وحكمه هو البناء على الأربع والاحتياط بركعتين قائما ووسطه إلى ذيله يدلّان على بيان الشك بين الثلاث والأربع وحكمه هو الاربع والاحتياط بركعة قائما ، أو بركعتين جالسا والتفصيل في الفقه الشريف.

قوله : وقد أشكل بعدم إمكان إرادة ذلك على مذهب الخاصّة ...

خلاصة الإشكال أنّه إن كان المراد من قوله عليه‌السلام : قام فأضاف اليها اخرى هي الركعة المنفصلة كما عليه مذهب الإمامية (رض) فليس المراد من اليقين هو اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة ، بل المراد منه اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر ثم الإتيان بركعة اخرى منفصلة فانّه حينئذ يتيقّن ببراءة ذمّته ، إذ على تقدير الإتيان بالثلاث تكون هذه الركعة متمّمة لها ولا تقدح زيادة التكبير والتشهد والتسليم ، وعلى تقدير الإتيان بالأربع تكون هذه الركعة نافلة ، بخلاف ما إذا بنى على الأقل وأضاف ركعة متّصلة فانّه يحتمل حينئذ الإتيان بخمس ركعات ، أو بنى على الأكثر

٢٢١

ولم يأت بركعة منفصلة لاحتمال النقصان فلا يقين له بالبراءة.

وفي ضوء هذا فقد علّمه الإمام عليه‌السلام طريق الاحتياط وطريق تحصيل اليقين بالبراءة كما صرّح الإمام عليه‌السلام بهذا المطلب في رواية اخرى بقوله : ألا أعلمك شيئا إذا صنعته ثم ذكرت انّك نقصت ، أو أتممت لم يكن عليك شيء ، وقد أطلق اليقين على الاحتياط واليقين بالبراءة في روايات أخر كما في قوله عليه‌السلام : وإذا شككت فابن على اليقين.

فالنتيجة ان الصحيحة هذه تدل على وجوب الاحتياط وأجنبية عن الاستصحاب.

هذا كلّه : على تقدير أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام : فأضاف إليها اخرى الركعة المنفصلة ، وامّا إذا كان المراد هو الركعة المتصلة فلا بد حينئذ من حمل الجملة على التقية لكون مفادها مخالفا للمذهب وموافقا للعامة.

وعليه ؛ فالمراد باليقين وإن كان هو اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة إلّا أنّه لا يمكن الاستدلال بها على حجّية الاستصحاب لورودها مورد التقية.

هذا خلاصة الإشكال على الاستدلال بالصحيحة الثالثة.

الجواب عنه

وأجاب عنه المصنّف قدس‌سره : بأن الصحيحة ساكتة عن كون الركعة الاخرى متصلة ، أو منفصلة ، بل تدل على عدم جواز نقض اليقين بالشك وتدل على البناء على الأقل والإتيان بركعة اخرى بلا قيد الاتصال ، أو الانفصال وأخذنا قيد الانفصال من روايات أخر دالة على وجوب البناء على الأكثر والإتيان بالمشكوك فيها منفصلة فمقتضى الجمع بين الصحيحة هذه وبين هذه الروايات التي تدل على الانفصال هو تقييد الصحيحة بها والحكم بوجوب الإتيان بركعة اخرى منفصلة.

٢٢٢

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى ان الاستصحاب في الشك في عدد الركعات غير جار في نفسه مع قطع النظر عن الأخبار الخاصّة الدالّة على وجوب الاحتياط. وذلك لوجوب التشهّد والتسليم في الركعة الرابعة وفي الشك بين الثلاث والأربع ، غاية ما يثبت بالاستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة ، وبعد الإتيان بركعة اخرى لا يمكن إثبات كونها هي الركعة الرابعة ليقع التشهّد والتسليم فيها إلّا على القول بالأصل المثبت ولا نقول به ولعلّ هذا هو السرّ في الغاء الفقهاء (رض) الاستصحاب في الشكوك الواقعة في عدد الركعات على ما هو المعروف بينهم.

الإشكال الثاني

قوله : ربّما أشكل أيضا بأنّه لو سلم دلالتها على الاستصحاب كانت من الاخبار ...

ولا ريب في ان هذه الصحيحة مختصة بالشك في عدد الركعات ، بل بخصوص الشك بين الثلاث والأربع لأنّ الضمائر الغائبة في قول الإمام عليه‌السلام قام فأضاف ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين وغيرها ممّا هو مذكور إلى انتهاء الصحيحة راجعة إلى المصلّي الشاك الذي لا يدري في ثلاث هو ، أو أربع.

وعليه فلا وجه للتعدّي عن المورد إلى غيره ، إذ ليس فيها إطلاق ، أو عموم نتمسّك بأحدهما كعموم التعليل في الصحيحتين السابقتين هذا مضافا إلى ضرورة ظهور الفقرات المذكورة فيها في الشك في عدد الركعات لكونها مبنية للفاعل بقرينة العطف على قام. والحال ان الضمائر التي تكون مستترة فيها راجعة إلى المصلّي الشاك ـ كما قد سبق هذا آنفا ـ بل ضمائر صدر الحديث الشريف عبارة عن قول الإمام عليه‌السلام : من لم يدر في أربع هو ، أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين يركع بركعتين وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه ، راجعة إلى المصلّي الذي لا يدري

٢٢٣

انّه في الثلاث ، أو في الأربع.

هذا فإذا كان الفاعل لهذه الأفعال هو المصلّي الشاك كان المراد من اليقين فيها خصوص يقينه بعدم الإتيان بالرابعة ليستفاد من هذه الصحيحة حجّية الاستصحاب في عموم الأبواب لا جنس اليقين.

فإن قيل : انّا نلغي خصوصية المورد فنتمسّك بهذا الحديث الشريف في موارد أخر.

قلنا : ان الغاء خصوصية المورد ليس بواضح بحيث يجوز الاعتماد عليه ، وإن كان له مؤيّد في الحديث الشريف وهو عبارة عن تطبيق قضية لا تنقض اليقين بالشك ، وقضية لا يدخل الشك في اليقين ، وقضية لا يختلط أحدهما بالآخر في غير هذا المورد كما في الصحيحتين المتقدّمتين ، وهذا يكون مؤيّدا لالغاء خصوصية المورد في الصحيحة الثالثة ، هذا أوّلا.

وثانيا : أن الظاهر من نفس قضية لا تنقض ان ملاك حرمة النقض إنّما هو ما في نفس اليقين والشك لا لما في المورد من الخصوصية حتى يختص الحكم الذي هو عبارة عن حرمة نقض اليقين بالشك بمورد الخاص دون غيره كي تثبت حجّية الاستصحاب بمورد خاص.

قال المصنّف قدس‌سره : هذه الدعوى غير بعيدة عن الانصاف والحق وانّما جعلها مؤيّدا على المدعى لا دليلا عليها لأجل احتمال أن يكون المراد هو يقينه ، أي يقين المصلي الشاك ويحتمل أيضا أن يكون المراد منه جنس اليقين.

الاستدلال برواية محمّد بن مسلم رضى الله عنه

قوله : ومنها قوله من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه ...

وفي الخصال باسناده عن مولانا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في حديث

٢٢٤

الاربعمائة قال : من كان على يقين ثم شك فليمض على يقينه فإنّ الشك لا ينقض اليقين ، أو بأن اليقين لا يدفع بالشك.

الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهّروا وإيّاكم والكسل فان من كسل لم يؤدّ حقّ الله (عزوجل) الحديث (١).

ومن الروايات التي قد استدل بها على حجّية الاستصحاب هذه الرواية ، إذ هي تدل صراحة على من تيقن بشيء سواء كان وضوء ، أم كان غيره فشك فيه فليعمل على يقينه لأنّ الشك لا يكون ناقضا لليقين ولكن استشكل في دلالتها على حجّية الاستصحاب بأن صريحها سبق زمان اليقين على زمان الشك بقرينة الفاء الدالّة على الترتيب باتصال ، فهي دليل على قاعدة اليقين لاعتبار تقدّم اليقين على الشك فيها ، امّا بخلاف الاستصحاب ، فان المعتبر فيه كون المتيقّن سابقا على المشكوك فيه ، امّا اليقين والشك فيه فقد يكونان متقارنين في الحدوث ، بل قد يكون الشك فيه سابقا على اليقين فهي ظاهرة في قاعدة اليقين من حيث دلالتها على اختلاف زمان اليقين والشك ، إذ يعتبر في قاعدة اليقين اختلاف زمانهما بأن نتيقّن أوّلا بعدالة زيد مثلا في يوم الجمعة ثم نشك بعدا في نفس عدالته في يوم الجمعة.

ولكن لا يعتبر ذلك في الاستصحاب قطعا ، إذ من الجائز أن نتيقّن ونشك في زمان واحد كما إذا تيقّنا في الحال أن زيدا كان عادلا في يوم الجمعة ، وفي عين الحال شككنا أيضا في عدالته في هذا الحال. والسرّ فيه أن الشك في الاستصحاب متعلّق ببقاء ما تيقن به.

وعليه فيتعدّد متعلّق اليقين والشك دقّة فلا بأس باجتماع الوصفين في زمان واحد ، بخلاف قاعدة اليقين فانّ الشك فيها يتعلّق بأصل ما تيقّن به لا في بقائه ، فيتّحد متعلّق اليقين والشك فلا يجتمع الوصفان فيها في زمان واحد. هذا خلاصة

__________________

١ ـ الوسائل ج ١ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ح ٦ ص ١٧٥.

٢٢٥

الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين.

فالنتيجة ان الشك يسري في القاعدة بأصل المتيقّن لا ببقائه وان الشك يسري في الاستصحاب إلى بقاء المتيقّن في الآن اللاحق لا بأصله.

وأجاب عنه المصنّف قدس‌سره : بأن اليقين طريق إلى المتيقن والمتداول في التعبير عن سبق المتيقن على المشكوك فيه هو التعبير بسبق اليقين على الشك لما بين اليقين والمتيقّن من نحو من الاتحاد.

فالتعبير بمن كان على يقين فأصابه شك انّما يكون بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين الذين هما عبارتان عن المتيقن والمشكوك لأنّ زمان المتيقّن سابق وزمان المشكوك مسبوق في الاستصحاب.

ومن أجل هذا عبّر في الرواية الشريفة باختلاف زمان الوصفين الذين هما عبارتان عن اليقين والشك ، وهذا التعبير يكون بملاحظة الاتحاد الذي استقرّ في ما بين اليقين والمتيقن والشك والمشكوك.

وعليه فاختلاف زمان اليقين والشك في الرواية لا يوجب تعيّن حملها على قاعدة اليقين.

هذا مضافا إلى ان ظهور الراية في الاستصحاب انّما يكون لأجل قوله عليه‌السلام :

فانّ الشك لا ينقض اليقين ، أو : فانّ اليقين لا يدفع بالشك ، لأنّه إشارة إلى القضية المرتكزة في أذهان العقلاء الواردة في أدلّة حجّية الاستصحاب أعني منها الصحاح الثلاثة المتقدّمة.

توضيح : في طي الاتحاد بين اليقين والمتيقن والشك والمشكوك

وهو عبارة عن كون اليقين كاشفا عن المتيقّن والشك كاشفا عن المشكوك. وعليه فالمراد من الاتحاد هو علاقة الكاشفية والمكشوفية بينهما ، أي بين اليقين

٢٢٦

والمتيقن فاسناد اختلاف الزماني إلى اليقين والشك انّما يكون بلحاظ المتيقن والمشكوك كاسناد الوصف إلى الموصوف بلحاظ متعلّقه ، نحو : جاءني زيد العالم أبوه فاسناد العالم إلى زيد مجازي وإلى الأب حقيقي. هكذا اسناد الاختلاف إلى اليقين والشك مجازي وإلى المتيقّن والمشكوك حقيقي فخصوصيات المتيقّن والمشكوك تسري إلى اليقين والشك ، ومن جملتها اختلاف الزماني كما لا يخفى.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى ان الزمان قيد في قاعدة اليقين ، وظرف في الاستصحاب وحيث ان الأصل في الزمان هو الظرفية فكونه قيدا يحتاج إلى الاثبات والدليل ولم يدل دليل على كون الزمان قيدا في المقام ، فالمتعيّن كونه ظرفا.

وفي ضوء هذا تكون الرواية المذكورة دالّة على حجّية الاستصحاب دون قاعدة اليقين ، فلا بد من اتحاد زمان اليقين والشك واختلاف زمان متعلّقهما في الاستصحاب كما تيقّن عمرو يوم الجمعة بوجود زيد بن خالد مثلا يوم الخميس وشك يوم الجمعة بوجوده يوم الجمعة ، وقاعدة اليقين بالعكس ، كأن تيقّن يوم الجمعة بوجود زيد يوم الخميس ويشك في يوم السبت بوجوده يوم الخميس فيختلف زمان اليقين والشك ويتّحد زمان متعلّقهما في قاعدة اليقين ، بعكس الاستصحاب. ولكن يسهل الأمر علينا ضعف سند هذه الرواية لكون قاسم بين يحيى في سندها وعدم توثيق أهل الرجال إيّاه ، بل ضعّفه العلّامة رضى الله عنه.

قوله : ومنها خبر الصفار عن علي بن محمّد القاساني قال كتبت إليه ...

روى الكليني قدس‌سره عن محمد بن الحسن الصفار عن علي بن محمد القاساني قال : كتبت إليه وانا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : اليقين لا يدخل فيه الشك صمّ للرؤية وافطر للرؤية (١).

__________________

(١) الوسائل ج ٧ الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان المبارك ح ١٣.

٢٢٧

وتقريب الاستدلال بها ان الامام عليه‌السلام قد حكم بأن اليقين بشيء لا ينقض بالشك ولا يزاحم به ، أي لا تصم يوم الشك بعنوان انّه من رمضان المبارك لأنّ الصوم فريضة لا بدّ فيها من اليقين ولا يدخلها الشك.

فالنتيجة إذا كان شعبان متيقّنا ورمضان (المبارك) مشكوكا فيه فلا يدخل في المتيقّن المشكوك ، فيترتّب حكم الشعبان على يوم الشك ، ولا يترتّب عليه حكم رمضان (المبارك) حتى يحصل اليقين بدخول رمضان (المبارك) بسبب الرؤية رؤية هلاله.

ثم فرّع على هذه الكبرى الارتكازية قوله عليه‌السلام : صمّ للرؤية وأفطر للرؤية. وعليه تدل على اعتبار الاستصحاب ، إذ عدم جواز صوم يوم الشك بعنوان رمضان (المبارك) انّما يكون بسبب استصحاب بقاء شعبان (المعظّم) كما لا يخفى. ولكن المصنّف قدس‌سره قال : ان صاحب الوسائل قدس‌سره انعقد بابا مستقلّا لليقين بدخول شهر رمضان (المبارك) وبخروجه.

وفي ضوء هذا فالمراد من اليقين هو اليقين بدخول رمضان (المبارك) لا اليقين ببقاء الشعبان فلا دخل لهذا الخبر بالاستصحاب أصلا ، ومن أراد الاطّلاع على هذا المطلب فليراجع الوسائل (١). فالصحيح ان المراد من قوله عليه‌السلام : اليقين لا يدخله الشك ، أن اليقين لا ينقض بالشك فلا يجب الصوم في يوم الشك في آخر شعبان (المعظّم) ويجب الصوم في يوم الشك في آخر شهر رمضان (المبارك) ، لأنّ الإمام عليه‌السلام قال : صمّ للرؤية وافطر للرؤية ، ولليقين بعدم وجوب الصوم في الأوّل ، ولليقين بوجوبه في الثاني.

والحال ان اليقين لا ينقض بالشك ، وهذا تفريع بالنسبة إلى قوله عليه‌السلام : صم للرؤية ، وبالنسبة إلى قوله عليه‌السلام : وافطر للرؤية. فاليقين بعنوان الموضوع دخيل في

__________________

١ ـ الوسائل ج ٧ باب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان المبارك ح ١٣ ص ١٨٤.

٢٢٨

الحكم بوجوب الصوم وبوجوب الافطار في أوّل رمضان المبارك وفي أوّل شوال (المكرّم) فهذا الخبر من حيث السند تام مقبول ولكن من حيث الدلالة قاصر على المدعى.

قوله : ومنها قوله عليه‌السلام كل شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر ، وقوله : الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه نجس ، وقوله : كلّ شيء حلال حتّى تعرف انّه حرام ...

ومن جملة ما استدل به على حجّية الاستصحاب روايات تدل على طهارة كل شيء ما لم تعلم النجاسة كقوله عليه‌السلام : كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر (١) وعلى طهارة خصوص الماء ما لم تعلم النجاسة كقوله عليه‌السلام : الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه نجس (٢) وعلى حلية كلّ شيء ما لم تعلم الحرمة كقوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام (٣).

والاحتمالات المتصوّرة في مثل هذه الروايات سبعة :

الأوّل : أن يكون المراد منها الحكم بالطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية ، بأن يكون العلم المأخوذ غاية فيها طريقيا محضا ، والغاية في الحقيقة هو عروض النجاسة فيكون المراد أن كل شيء بعنوانه الأولي طاهر حتّى تعرضه النجاسة وأخذ العلم غاية لكونه طريقا إلى الواقع ليس بعزيز كما في قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(٤).

فإنّ المراد منه بيان الحكم الواقعي وجواز الأكل والشرب إلى طلوع الفجر ، وذكر التبين انّما يكون لمجرّد الطريقية بناء على كونه بمعنى الانكشاف كما هو

__________________

١ ـ الوسائل ج ٢ الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٤ ص ١٠٥.

٢ ـ الوسائل ج ١ الباب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٢ و ٥ ص ١٠٠.

٣ ـ مستدرك الوسائل ج ١ الباب ٢٤ من أبواب النجاسات ح ٤ ص ١٦٤.

(٤) ـ سورة البقرة آية ١٨٧.

٢٢٩

الأشهر عند المفسّرين (رض) وان أمكن حمل التبيّن على معنى آخر مذكور في محلّه.

الثاني : أن يكون المراد منها هو الحكم بالطهارة الظاهرية للشيء المشكوك كما عليه المشهور بأن يكون العلم قيدا للموضوع دون المحمول فيكون المعنى : أنّ كلّ شيء لم تعلم نجاسته طاهر وإنّ كل ماء لم تعلم نجاسته طاهر وإنّ كلّ شيء لم تعلم حرمته حلال.

الثالث : أن يكون المراد بها قاعدة الاستصحاب ، بأن يكون المعنى أن كلّ شيء طهارته مستمرّة إلى زمان العلم بالنجاسة ، أي كل شيء ثبتت طهارته الواقعية أو الظاهرية فطهارته مستمرّة إلى زمان العلم بالنجاسة.

الرابع : أن يكون المراد بها الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، بأن يكون المعنى ان كل شيء معلوم العنوان ، أو مشكوكه طاهر بالطهارة الواقعية في الأوّل وبالطهارة الظاهرية في الثاني إلى زمان العلم بالنجاسة.

الخامس : أن يكون المراد منها الطهارة الظاهرية والاستصحاب كما عليه صاحب الفصول رضى الله عنه بأن يكون المعنى أن كلّ شيء مشكوك العنوان طاهر ظاهرا وطهارته مستمرّة إلى زمان العلم بالنجاسة فيكون المعنى في قوله عليه‌السلام : طاهر ، إشارة إلى الطهارة الظاهرية. والغاية إشارة إلى استصحاب تلك الطهارة إلى زمان العلم بالنجاسة.

السادس : أن يكون المراد بها الطهارة الواقعية والاستصحاب «وهذا مختار صاحب الكفاية قدس‌سره» بأن يكون المعنى إشارة إلى الطهارة الواقعية وأن كل شيء بعنوانه الأولي طاهر. وقوله عليه‌السلام : حتى تعلم ، إشارة إلى استمرار الحكم إلى زمان العلم بالنجاسة.

السابع : أن يكون المراد منها الطهارة الواقعية والظاهرية والاستصحاب وهذا

٢٣٠

مختار المصنّف قدس‌سره في هامش الرسائل ، ويجري جميع ما ذكر من الصور والاحتمالات في قوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه ، فكلمة كل شيء شاملة لما هو معلوم العنوان كالماء والخبز مثلا ، ولما هو مشكوك العنوان كالمائع المردّد بين الماء والبول مثلا. فحكم الإمام عليه‌السلام بالطهارة في الجميع فلا محالة تكون الطهارة بالنسبة إلى الأوّل واقعية وبالإضافة إلى الثاني ظاهرية ، ويكون قوله عليه‌السلام : حتّى تعلم ، إشارة إلى استمرار الطهارة والحلّية إلى زمان العلم بالنجاسة والحرمة. هذا توجيه الوجه السابع.

وفيه : ان الحكم الواقعي والظاهري لا يمكن اجتماعهما في جعل واحد ، لأنّ الحكم الظاهري متأخّر عن الحكم الواقعي بمرتبتين ، لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي ، والشك في الحكم الواقعي متأخّر عن الحكم الواقعي ، كما ان موضوع الحكم الظاهري متأخّر عن موضوع الحكم الواقعي بمرتبتين ، فانّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي والشك في الحكم الواقعي متأخّر عن الحكم الواقعي من باب تأخّر الشك عن المشكوك فيه ، والحكم الواقعي متأخّر عن موضوعه الواقعي من باب تأخّر الحكم عن موضوعه ، وبعد كون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي لا يمكن تحقّقهما بجعل واحد وانشاء فارد ، وإلّا يلزم كون المتأخّر عن الشيء بمرتبتين معه في رتبة واحدة وفي رتبته ، وهذا خلف ظاهر كما لا يخفى.

وهذا الإشكال متين جدّا ولا دافع له إذا قلنا : بأن الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ كما هو المشهور ، فانّه لا يمكن إيجاد شيئين يكون أحدهما في طول الآخر بجعل واحد وانشاء فارد ، وهذا المبنى مختار المصنّف والمحقّق النائيني قدس‌سرهما.

قال المصنّف قدس‌سره : وتقريب دلالة مثل هذه الأخبار على الاستصحاب ان الغاية فيها تكون لبيان استمرار الحكم للموضوع واقعا من الطهارة والحلية إلى زمان العلم

٢٣١

بعروض ضدّه ، أو نقيضه ، فهذا الحكم محكوم بالاستمرار والبقاء ظاهرا.

فثبوت الطهارة والحلية للأشياء متيقّن وقطعي ، وفي صورة الشك فيهما لأجل احتمال عروض الضد كالنجاسة ، أو النقيض كالحرمة فالموضوع محكوم بالطهارة والحلية الظاهرتين إلى أن يحصل العلم بالضد ، أو النقيض.

وعلى هذا فدلالة هذه الأخبار على حجّية الاستصحاب ظاهرة. وليست الغاية فيها لتحديد الموضوع ، إذ لا معنى لطهارة كل ماء مشكوك الطهارة والنجاسة ولحلية كل شيء مشكوك الحلية والحرمة ولطهارة كلّ شيء مشكوك الطهارة والقذارة حتى تستفاد من هذه الروايات قاعدة الطهارة وقاعدة الحلية.

والدليل على ذلك ، أي على كون الغاية فيها لتحديد الحكم ان المعنى فيها يكون في بيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية ، ولا يكون في بيان حكمها بعنوان كونها مشكوكة الطهارة والقذارة والحلية والحرمة كي تستفاد منها قاعدة الطهارة والحليّة. ولأجل هذا المطلب ذكرت كلمة شيء فيها بلا قيد المشكوك كما هو ظاهر.

وخلاصة تقريب دلالة هذه الأخبار على حجّية الاستصحاب أنّه يلزم أن يكون الشيء متيقّنا سابقا ومشكوكا لاحقا ، ولأجل هذا فقد تعرّضت أدلّة الاستصحاب حكم المتيقّن وحكم زمان الشك.

وعليه إذا دلّ الدليل على هذا المعنى فهو يدل على اعتبار الاستصحاب كالروايات الثلاث المذكورة ، إذ هي واجدة لهذه الدلالة ، إذ هي مشتملة على المعنى والغاية الأوّل يتعرّض حكم المتيقّن ، الثاني يدل على استمرار حكم المذكور بحسب الظاهر في ظرف الشك ، وهذا واضح لا غبار عليه.

قوله : فهو وإن لم يكن له بنفسه مساس بذيل القاعدة ولا الاستصحاب ...

قال المصنّف قدس‌سره : ان المعنى لو خلى وطبعه لا يدل على قاعدة الطهارة والحلية ولا على الاستصحاب ، ولكن بملاحظة الغاية التي ذكرت فيها يدل على

٢٣٢

اعتبار الاستصحاب من أجل أن الغاية ظاهرة في استمرار ذاك الحكم الواقعي بحسب الظاهر ما لم يعلم بعروض ضدّه ، أو نقيضه وجه ظهورها في استمرار الحكم هو كونها قيدا للمحمول ، أي طهارة شيء وماء مستمرّة إلى زمان العلم بالنجاسة.

والفرق بين الضدّ والنقيض أن الأوّل لوحظ في بين أمرين وجوديين والثاني لوحظ في بين أمر وجودي وأمر عدمي ، فالطهارة والنجاسة امّا أمران وجوديان مجعولان شرعا ، وامّا الطهارة أمر عدمي ، أي الطهارة عبارة عن عدم النجاسة ، والنجاسة أمر وجودي ، فعلى الأوّل يتحقّق الضدّ بينهما ، وعلى الثاني يتحقّق التناقض بينهما ، كما أنّه على الأوّل يكون التقابل بينهما بالتضادّ وعلى الثاني يتحقّق التقابل بالملكة والعدم كالعمى والبصر. وكذا الكلام في الحلية والحرمة.

وفي ضوء هذا البيان قد دلّت الغاية على استمرار الحكم كما ان الحكم الواقعي لو صار مغيا بغاية مثل الملاقاة بالنجاسة كما إذا قيل : الماء القليل طاهر بنفسه مطهّر لغيره إلى أن يلاقي النجس ، أو قيل : ان العصير العنبي حلال إلى أن يغلى بالنار فيحرم لدلّت هذه الغاية على استمرار الحكم الواقعي واقعا ، ولا دلالة لشيء من المغيّى والغاية على حجّية الاستصحاب حينئذ ، أي حين كون الغاية مثل الملاقاة بالنجس ، أو مثل الغليان كما في المثال المذكور. فالغاية مثل العلم إذا كانت لتحديد المحمول تدل على استمرار حكم الواقعي إلى زمان العلم بالنجاسة والقذارة ، وامّا إذا كانت الغاية مثل الملاقاة بالنجس ، أو مثل الغليان لدلّت على استمرار حكم الواقعي واقعا.

قوله : ولا يخفى أنّه لا يلزم على ذلك استعمال اللفظ في معنيين أصلا ...

واعترض المصنّف على الشيخ الأنصاري قدس‌سرهما ، إذ قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره :

إذا دلّت الروايات الثلاث على قاعدة الطهارة والحلية وعلى حجّية الاستصحاب ، فهذا يوجب استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين في اطلاق واحد ، وهذا

٢٣٣

لا يجوز ، فلا تستفاد منها قاعدة الطهارة والحلية والاستصحاب معا.

وهذا تعريض بصاحب الفصول قدس‌سره من قبل الشيخ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره حيث قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره : نعم إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب استعمال اللفظ في معنيين ، إذ المقصود في القاعدة مجرّد إثبات الطهارة في المشكوك ، وفي الاستصحاب خصوص ابقائها في معلوم الطهارة السابقة والجامع بينهما غير موجود فيلزم ما ذكرناه.

ولا يخفى أن مراده من المعنيين مفاد القاعدة ، أي قاعدة الطهارة والحلية ومفاد الاستصحاب.

جواب المصنّف قدس‌سره

قوله : ولا يخفى أنّه لا يلزم على ذلك استعمال اللفظ في معنيين أصلا ...

قال المصنّف قدس‌سره : إنّ إرادة القاعدة والاستصحاب معا من هذه الروايات الثلاث لا توجب استعمال اللفظ في معنيين ، بل يلزم هذا الاستعمال إذا كانت الغاية فيها مع كونها من حدود الموضوع وقيوده غاية لاستمرار الحكم فيدل المغيّى على القاعدة وتدل الغاية على الاستصحاب من غير تعرّض لحكم الواقعي الأشياء.

والحال أنّه من الواضح أن عبارة كل شيء حلال وعبارة كل شيء طاهر تدلّان على حكم الواقعي للأشياء بعناوينها الأوّلية ، وكذا حديث : الماء كلّه طاهر حرفا بحرف. هذا مضافا إلى ان الغاية فيها تكون غاية للحكم لا الموضوع.

فإن قيل : ان الروايات الثلاث تدل على حجّية الاستصحاب في خصوص باب الطهارة والحلية والمدعى كونه حجّة في جميع الأبواب. وعليه يكون الدليل أخصّ من المدعى والدليل الأخص لا يثبت المدعى الأعم بتمامه.

قلنا : انّا أثبتنا حجّيته على نحو العموم بضميمة عدم القول بالفصل وحينئذ

٢٣٤

نقول بحجّيته في تمام الأبواب.

والتوضيح : ان كل من قال بحجّيته في باب الطهارة والحلّية قال بحجيته في جميع أبواب الفقه الشريف ، وكل من لم يقل بحجّيته فيهما لم يقل بحجّيته في غيرهما. فالقول بحجيته فيهما وبعدم حجّيته في غيرهما قول بالفصل وخرق للاجماع المركّب ، وهو لا يجوز.

فتلخّص ممّا ذكر ان في الروايات احتمالات وهي ثلاثة :

الاحتمال الأوّل : أن تكون الغاية قيدا للموضوع ، فالمراد من الطهارة هو الطهارة الظاهرية فالروايات مبيّنة لقاعدة الطهارة والحليّة ، ولا تدل على الاستصحاب ، ولا على الحكم الواقعي.

وهذا الاحتمال مردود من وجهين :

ألف) لأنّ ظاهر الروايات بيان الأحكام الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية. وعلى هذا يكون المراد من الطهارة والحلية الطهارة الواقعية والحلية الواقعية ، ولا يكون المراد منهما الطهارة الظاهرية والحلية الظاهرية.

ب) لأنّ ظاهر الروايات ان الغاية ـ وهي كلمة تعلم ـ قيد للحكم لا الموضوع.

الاحتمال الثاني : ان الروايات الثلاث تدل بحسب الصدر على قاعدة الطهارة والحلية وبحسب الذيل على الاستصحاب فصدرها يدل على اثبات الطهارة الظاهرية وذيلها يدل على استمرارها إلى زمان العلم بالنجاسة والحرمة ، إذ الغاية قيد للموضوع والحكم معا.

وهذا الاحتمال فاسد أيضا لاستلزامه استعمال اللفظ الواحد في معنيين وهو محال عند المصنّف قدس‌سره كما سبق تحقيق هذا في الجزء الأوّل.

الاحتمال الثالث : وهو مختار المصنّف قدس‌سره وهو ان الغاية قيد للحكم فقط. وعلى طبيعة الحال تدل على الاستصحاب ، أي الطهارة الواقعية مستمرّة إلى زمان

٢٣٥

العلم بالنجاسة ، وهذا منطبق على الاستصحاب.

فالنتيجة أن مغيّا هذه الروايات الثلاث يبيّن الحكم الواقعي وغايتها تبيّن الحكم الظاهري. وعلى هذا الاحتمال لا يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين ولا يلزم ارتكاب خلاف الظاهر أصلا.

قوله : فتأمّل جيّدا ...

وهو تدقيقي بقرينة كلمة الجيد ، كما مرّ هذا مرارا.

قوله : ولا يذهب عليك أنّه بضميمة عدم القول بالفصل قطعا بين الحلية ...

وهذا إشارة إلى دفع أخصّية الدليل عن المدعى ، أي أنّه على تقدير تمامية دلالة الروايات الثلاث على اعتبار الاستصحاب في باب الطهارة والحلية يمكن بضميمة عدم القول بالفصل استفادة القاعدة الكلية فتعم الروايات جميع الموارد والأبواب ، إذ لم يقل أحد بالفصل بين استصحاب الطهارة والحل وبين استصحاب غيرهما والتوضيح قد سبق آنفا فلا حاجة إلى الإعادة.

قوله : ثم لا يخفى أن ذيل موثقة عمّار فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك ...

قال المصنّف قدس‌سره : إنّ ذيل الموثقة يؤيّد ما استظهرناه من الروايات من كونها دليلا اجتهاديا واستصحابا ، وتوضيح هذا التأييد يحتاج إلى تمهيد مقدّمة وجيزة وهي : ان المغيّى على مختار المصنّف قدس‌سره دليل اجتهادي فقول الإمام عليه‌السلام : كل شيء طاهر يثبت الطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأولية ، وتلك كالماء والتراب والحجر والمدر مثلا ، وليس هو مربوطا بالغاية أصلا ، وليست هي مغياة بالعلم بالنجاسة والقذارة كي تكون الطهارة ظاهرية ويكون المغيى قاعدة الطهارة والحلية ، واما الغاية فهي لبيان استمرار تلك الطهارة الواقعية الثابتة للأشياء بعناوينها الاولية إلى زمان العلم بالقذارة فينتهي الاستمرار ثم ينقطع ، فإذا علمت هذه المقدّمة فيقال : انّ

٢٣٦

حاصل قول المصنّف قدس‌سره يؤيّد ما اخترناه من كون المغيى دليلا اجتهاديا غير مربوط بالغاية أصلا ظهور ذيل الموثقة في كونه متفرعا على الغاية وحدها ، إذ قوله عليه‌السلام : فإذا علمت فقد قذر متفرّع على منطوق الغاية ، وقوله عليه‌السلام : وما لم تعلم فليس بمتفرّع على مفهوم الغاية.

وفي ضوء هذا فلو كان المغيى مرتبطا بالغاية وكان مجموعهما قاعدة الطهارة لكان الذيل متفرّعا على المجموع لا على الغاية وحدها كما لا يخفى على المتأمّل الصادق ، هذا إشارة إلى دقّة المطلب وإلى تحقيق منطوق الغاية ومفهومها ، فالأوّل عبارة عن حكم منفي ، أي عدم ثبوت القذارة للأشياء ، والثاني عبارة عن حكم مثبت أي ثبوت القذارة والنجاسة لها.

استدلال النافين لحجّية الاستصحاب

واحتج المنكرون لحجّية الاستصحاب بوجهين :

الأوّل : ان الاستصحاب مفيد للظن لا القطع والمتابعة عن الظن حرام محرم لقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ، و (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

الثاني : أن الأخبار التي نقلت في حجّية الاستصحاب غير مقرونة بقرينة الصدق وهي لا تثبت المراد.

قوله : ثمّ انّك إذا حقّقت ما تلونا عليك من الأخبار فلا حاجة إلى ...

قال المصنّف قدس‌سره : حيث تمّ الدليل المعتبر سندا ودلالة على حجية الاستصحاب كصحاح زرارة بن أعين قدس‌سرهما وخبر الخصال ورواية الحل والطهارة فلا حاجة حينئذ إلى التعرّض للقول بعدم الحجّية مطلقا وإلى التعرّض للتفاصيل

٢٣٧

وإلى النقض والاشكال والابرام والجواب ، ومن أراد الاطّلاع عليها فليراجع إلى فرائد الاصول لأنّ كتابي هذا بني على الايجاز والاختصار فلا ينبغي فيه نقل الأقوال وذكر التفاصيل في مسألة الاستصحاب وبيان الاستدلالات لأنّ ذكر هذه الامور يوجب إطالة الكلام والبحث ، ولكن لا بأس بصرف الكلام والبحث إلى تحقيق حال الوضع من جهة دفع تفصيل الفاضل التوني رحمه‌الله في المقام حيث قال الفاضل بحجّية الاستصحاب في الأحكام الوضعية دون التكليفية ولأجل هذا تعرّض المصنّف قدس‌سره هذا التحقيق في هذا المقام.

امّا تحقيق حال الوضع من حيث كونه حكما مستقلا بالجعل كالتكليف أو منتزعا عنه وتابعا له في الجعل ، أو فيه تفصيل وملخّصه : أنّه على أقسام : فمنها : ما لا يتطرّق إليه الجعل لا استقلالا ولا تبعا أصلا.

ومنها : ما يكون مجعولا تبعا.

ومنها : ما يكون مجعولا مستقلا ـ كما سيأتي تفصيل هذا قريبا إن شاء الله تعالى ـ أي لا بأس بصرف الكلام إلى تحقيق حال الوضع حتّى يظهر حال ما ذكر هنا ، أي حال التفصيل الذي نسب إلى الفاضل التوني رضى الله عنه بين التكليف والوضع من التفصيل.

فنقول وبالله تعالى الاستعانة لأنه خير معين : لا خلاف كما لا إشكال في اختلاف التكليف والوضع مفهوما كما انّه لا إشكال في اختلافهما مصداقا حتّى على القول بكون الاحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفيّة.

فقد ذكر المصنّف قدس‌سره قبل تحقيق حال الوضع أمورا ثلاثة :

الأول : اختلافهما مفهوما ومصداقا وموردا في بعض الموارد لبداهة ما بين مفهوم السببية ، أو الشرطية ومفهوم الايجاب ، أو الاستحباب من المخالفة والمباينة ويدل على ذلك عدم صحّة حمل أحدهما على الآخر ، فلا يقال : ان الايجاب سبب أو

٢٣٨

شرط ، أو ان السبب ايجاب ، أو استحباب مثلا ، وكذا سائر الموارد.

وفي ضوء هذا البيان تكون النسبة بين التكليف والوضع من النسب الأربع تباينا كليّا كالإنسان والحجر مثلا.

اختلاف التكليف والوضع

قوله : واختلافهما في الجملة موردا ...

فقد يكون الوضع ولا تكليف كما في المحجور عليه لسفه ، أو فلس فالأموال هي ملكه ولا يجوز له التصرّف فيها لتعلّق حق الغرماء فيها إذا كان الحجر لفلس أو من جهة السفه.

وقد يكون التكليف ولا وضع كما إذا أجازنا المالك في التصرّف في ماله ، ولكن ليس لنا الملك كالطعام الذي يحضر المضيف للضيف ، وقد يجتمعان معا ، كي يقال : الافطار في رمضان المبارك بلا عذر حرام وسبب لوجوب الكفارة ، فالافطار العمدي حرام وسبب كفارة معا ففيه تتحقّق الحرمة والسببية معا.

قوله : كما لا ينبغي النزاع في صحّة تقسيم الحكم الشرعي ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن الأمر الأوّل شرع في الأمر الثاني وقال : ولا نزاع بين الأعلام في صحّة تقسيم الحكم الشرعي إلى التكليفي والوضعي ضرورة أنّ الحكم الشرعي إذا كان بمعنى خطاب الله تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين ، من حيث الاقتضاء والتخيير فلا يشمل الوضع بل يختص بالتكليف ، وأمّا إذا كان بمعنى المحمولات الشرعية المأخوذة من الشارع المقدّس بما هو شارع فيشمله فيصح تقسيمه إليهما بهذا المعنى ، كما لا يخفى.

ويشهد بصحّة التقسيم إطلاق الحكم عليه كثيرا في كلمات الأصحاب (رض) ومحاوراتهم ومخاطباتهم حيث يقولون ان الأحكام الشرعية امّا تكليفية وامّا

٢٣٩

وضعية فيقولون أحكاما وضعية.

فإن قيل : يحتمل أن يكون اطلاقها عليه مجازيا كاطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع.

قلنا : ان اطلاق المجازي يحتاج إلى قرينة صارفة وإلى علاقة مصحّحة للتجوّز وليست القرينة المذكورة بموجودة في إحدى الاستعمالات والاطلاقات فضلا عن جميعها.

وفي ضوء هذا فاحتمال المجاز بعيد انصافا ، هذا مضافا إلى ان العلاقة التجوّز ليست بموجودة بين التكليف والوضع. فالالتزام بالتجوّز مردود.

قوله : وكذا لا وقع للنزاع في أنّه محصور في أمور مخصوصة ...

شرع المصنّف قدس‌سره في الأمر الثالث وقال :

قال العلّامة قدس‌سره : ان الاحكام الوضعية منحصرة في الشرطية والسببية والمانعية وزاد بعض الآخر العلّية والعلامية ، وأضاف عليها بعض المحقّقين (رض) الصحّة والبطلان والعزيمة والرخصة ، وذهب بعض الآخر إلى ان الجزئية والكلية من الأحكام الوضعية.

ولكن الأظهر ان غير الأحكام التكليفية أحكام وضعية سواء كانت دخيلة في التكليف ، أم كانت دخيلة في متعلّقه ، أم كانت دخيلة في موضوعه ، أم كانت غير دخيلة في أحدها ، ولكن اطلق الحكم الوضعي على الامور المذكورة في كلمات الأصحاب (رض).

وعلى طبيعة الحال فلا ينبغي أن يكون النزاع بينهم في عددها.

ولا بأس بذكر المثال في هذا المقام ؛ اما مثال الدخيل في التكليف فكالنصاب الدخيل في وجوب الزكاة وكالاستطاعة الدخيلة في وجوب الحج وكالزوال الدخيل في وجوب الصلاة و ...

٢٤٠