البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-94105-2-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٣٣

يكون الاضطرار على نحو التعيين ، أو على نحو التخيير ، سابقا على حدوث العلم الاجمالي ، أو لا حقا به. والوجه في ذلك كلّه أن التكليف الذي يكون موجودا بين الأطراف محدود من أوّل الأمر ومقيّد ابتداء بعدم عروض الاضطرار بمتعلّق العلم الإجمالي.

فالنتيجة : إذا اضطر المكلّف إلى بعض الأطراف فعلا ، أو تركا فينكشف من هذا الاضطرار ان متعلّق العلم الاجمالي لا يكون فعليا من جميع الجهات لأنّه يحتمل أن يكون الطرف المضطر إليه متعلّق العلم الاجمالي والاضطرار يوجب سقوط التكليف ؛ وأمّا بالإضافة إلى الطرف الآخر فأصل ثبوت التكليف فيه مشكوك وهو يكون مشمولا لأدلّة البراءة كحديث الرفع والوضع والحجب ، هذا كلّه إذا كان الاضطرار إلى بعض المعيّن.

وأمّا إذا كان الاضطرار إلى غير المعيّن فكما إذا علم أن أحد إناءيه لاقى النجس وبعد الملاقاة عرض العطش على المكلف ـ وهو فاقد للماء ـ لكونه في الصحراء مثلا فلا بدّ له أن يشرب أحدهما لحفظ نفسه من الهلاك ، ففي جميع الموارد يكون الاضطرار مانعا عن فعلية التكليف ولا يكون العلم الاجمالي منجزا للتكليف.

ولهذا لا يجب الاحتياط في الطرف الآخر ، والوجه كما سبق وهو عبارة عن أن التكليف المعلوم بالاجمال محدود بعدم طروّ الاضطرار في المعلوم وفي متعلّق التكليف فإذا عرض على بعض الأطراف الاضطرار سواء كان إلى بعض المعيّن ، أم ان إلى بعض غير المعيّن ، إذ لا يبقى للمكلّف حينئذ العلم بالتكليف ، إذ يحتمل أن يكون أن يكون التكليف في الطرف المضطر إليه ، أو يحتمل أن يكون في الطرف الذي اختاره لرفع الاضطرار وفي الطرف الآخر يكون مشكوكا فيه.

قوله : لا يقال الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس كفقد بعضها ...

«واستشكل المستشكل» بأنّه إذا فقد بعض الأطراف فالعلم الاجمالي منجز

٢١

للتكليف لأنّه يبقى بحاله في الطرف الآخر فلا بد أن يجتنب عن الطرف الباقي ولا يمكن أن يقال ان لنا بالإضافة إلى الطرف الموجود شكّا بدويا وهو مجرى البراءة ، وهذه المقالة غير صحيحة ، فكذا الاضطرار حرفا بحرف.

غاية الأمر أنّ العلم الاجمالي تحقّق أوّلا ثم عرض الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف ، أو إلى ارتكابه ، وكذا العلم الاجمالي تحقّق أوّلا ثم فقد ، فلا فرق بين الاضطرار وبين الفقدان وكذا تحقّق العلم الاجمالي لا حقا بعروض الاضطرار مقارنا به ، إذ الاضطرار بأيّ نحو كان موجب لسقوط التكليف عن الفعلية التامّة.

أمّا بخلاف الفقدان فانّه إذا عرض على بعض الأطراف قبل العلم الاجمالي فهو يوجب رفع الاحتياط في الطرف الآخر لأنّه يصير مشكوكا فيه ، إذ نحتمل أن يكون الطرف المفقود موضوعا للتكليف من الوجوب والحرمة والاحتياط يتحقّق بالفعل في الشبهة الوجوبية وبالترك في الشبهة التحريمية والاحتياط مسبب عن العلم الاجمالي ولا دليل على ارتفاعه ويحتمل بقائه في الطرف الباقي مثلا إذا علمنا أن أحد الإناءين حرام ثم فقد أحدهما ، أو علم أن أحد الميتين واجب الدفن ثم أكل السبع أحدهما ولا ريب في وجوب الاحتياط في الطرف الموجود كي يحصل الفراغ اليقيني عن عهدة التكليف المنجز اليقيني وكذا الاضطرار الحاصل بعد العلم الاجمالي حرفا بحرف.

الاضطرار إلى بعض الأطراف

قوله : فإنّه يقال : حيث إنّ فقد المكلف به ليس من حدود التكليف ...

أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا الاشكال بالفرق بين فقد بعض الأطراف والعجز عنه والاضطرار إليه مع اشتراك هذه الثلاثة في كون عدمها دخيلا في التكليف في الجملة ـ بحيث يصحّ أن يقال : يعتبر في التكليف عدم الاضطرار وعدم العجز ، وكون

٢٢

موضوع التكليف في مقام الابتلاء بحيث يكون موجودا لا مفقودا.

ولكن وجه الفرق بينها : أن مقام شرطية عدم هذه الامور الثلاثة للتكليف مختلف جدّا ؛ فإنّ شرطية عدم الاضطرار راجعة إلى شرطية عدم المزاحم للمصلحة المقتضية لجعل الحكم فإن المفسدة في النجس مثلا إنّما تصلح للتأثير في حرمة شربه إذا لم تزاحم بمصلحة أهم ملاكا ؛ كما إذا توقّف حفظ النفس من الهلاك على شربه ، وهو معنى الاضطرار إلى شرب النجس. أمّا إذا زاحمت بها فقد كان شرب النجس أرجح من تركه وشرطية القدرة راجعة إلى شرطية عدم المانع من تعلّق الإرادة من جهة قصور المكلف من حيث عدم القدرة لا المكلف به من حيث الاستحالة ، وذلك كالطيران في الهواء مثلا ، وشرطية وجود الموضوع راجعة إلى شرطية عدم المانع من اشتغال ذمّة المكلف فإن الاناء المفقود ممّا لا قصور في مفسدته ؛ ولا في تعلّق الكراهة بشربه إلّا أن العلم بكراهته لا يصلح أن يكون موجبا لاشتغال الذمّة به ، فيمتنع أن يكون وجوده شرطا للتكليف الذي هو في الحقيقة شرط نفس الإرادة والكراهة ذاتا كما في القدرة ، أو عرضا كما في عدم الاضطرار فوجود الموضوع والابتلاء به نظير وجود الحجّة على التكليف ليس شرطا للتكليف وإن كان شرطا للاشتغال في نظر العقل.

وعلى ضوء هذا فالتكليف الواقعي ليس بمقيّد بعدم فقدان متعلّقه ، إذ لا يقول الشارع المقدّس اجتنب عن النجس إذا لم يفقد فيكون التكليف الواقعي مطلقا. وعليه فلا جرم يكون باقيا على فعليته وتنجزه ويكون ذمّة المكلّف مشغولا بوجوب الاجتناب قطعا والشغل اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.

فالنتيجة إذا فقد بعض الأطراف ، فالتكليف باق على حاله وبقاءه يقتضي الاجتناب عن الطرف الباقي.

أمّا إذا فرض عروض الاضطرار إلى بعض الأطراف فالتكليف مقيّد ابتداء بعدم

٢٣

الاضطرار إلى المخالفة بحيث لو اضطر إليها لما كان التكليف ثابتا.

فالنتيجة إذا اضطر المكلف إلى بعض الأطراف فالتكليف ساقط بخصوص الطرف المضطر إليه قطعا فلا يشتغل ذمة المكلف به بل يفرغ ذمته عنه ؛ وامّا بالنسبة إلى الطرف الآخر فيكون ثبوت أصل التكليف مشكوكا فيه فلا جرم ينفى بأدلّة البراءة الشرعية والعقلية ، وهذا معنى قوله قدس‌سره حيث إن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده ، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه.

وعلى طبيعة الحال فانقدح الأمران :

الأوّل : أن المراد من المكلف به في المقام هو الموضوع الذي يتعلّق به فعل المكلف مثل الاناء النجس ، وفعل المكلف هو شربه وهو يتعلّق به.

الثاني : أنّه إذا حصل الاضطرار إلى بعض الأطراف فيكون الاحتياط فعلا أو تركا إلى الطرف الآخر من قبيل الاحتياط في الشبهة البدوية ونحن لا نقول به فيها مطلقا ، أي سواء كانت تحريمية ، أم كانت وجوبية.

فافهم الفرق بين الفقدان والاضطرار والعجز فان هذا الفرق دقيق ، فالتأمّل فيه حقيق جدّا ، إذ لم يقل المولى اجتنب عن الحرام ما دام موجودا ، إذ لا يقين باشتغال الذمة بالتكليف بالمكلف به إلّا إلى حدّ الاضطرار ، اما بخلاف الاضطرار فانّه قال اجتنب عن الحرام إذا لم تضطر إليه.

قوله : الثاني أنّه لما كان النهي عن الشيء إنّما هو لأجل أن يصير داعيا ...

ولا ريب في أنّ النهي عن الشيء إنّما يكون لأجل إيجاد الداعي في نفس المكلف لترك المنهي عنه ، وهذا الايجاد يصحّ إذا لم يكن له داع آخر لتركه كما إذا لم يكن المنهي عنه موردا للابتلاء وفي هذا الفرض يترك المنهي عنه قهرا بلا صدور النهي عن المولى بل يكون صدوره عنه حينئذ لغوا وبلا فائدة ، إذ هو طلب لأمر الحاصل ، فإطلاق المنهي عنه على الشيء الذي لا يكون موردا للابتلاء مجاز بعلاقة

٢٤

الأوّل نظير من قتل قتيلا فله سلبه ، أي مقتولا فاطلاق المقتول على الحي مجاز بعلاقة الأوّل.

وعليه فيشترط في تأثير العلم الاجمالي في تنجيز التكليف إذا كان جميع أطرافه موردا للابتلاء غالبا عادة.

وعلى طبيعة الحال لا يكون النهي داعيا للمكلف نحو ترك المنهي عنه إلّا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به.

واما ما لا ابتلاء فيه بحسب العادة فليس للنهي عنه مورد أصلا كما عرفت هذا آنفا.

إذ بدون الابتلاء بجميع الأطراف لا علم بالتكليف الفعلي لاحتمال تعلّق الخطاب بما لا ابتلاء به ، إذ نحتمل أن يكون نجسا واقعا وحراما ؛ فتعلّق خطاب اجتنب عن النجس ، أو عن الحرام بمورد الابتلاء مشكوك فيه فتشمله أدلّة البراءة لحديث الرفع والحجب والسعة.

قوله : ومنه قد انقدح ان الملاك في الابتلاء المصحّح لفعلية الزجر ...

قال المصنّف قدس‌سره : قد ظهر من كون النهي عن الشيء إنّما يكون لأجل احداث الداعي في نفس المكلف إلى الترك ما هو الملاك في الابتلاء وعدمه ؛ يعني قد انقدح لك ممّا ذكرنا الميزان الذي يعرف به كون الموضوع مبتلى به ؛ وغير مبتلى به هو كون العلم بالموضوع موجبا لحدوث الداعي في نفس العبد إلى الترك إن كانت الشبهة تحريمية ، أو إلى الفعل إن كانت وجوبية كان الموضوع مبتلى به ، وإن لم يكن موجبا لذلك فالموضوع غير مبتلى به.

فالنتيجة يشترط في تنجز العلم الاجمالي أن تكون أطرافه موردا للابتلاء. وعلى ضوء هذا لو نشك في الابتلاء لكان المرجع هو البراءة في الأطراف لعدم القطع باشتغال الذمة بالمعلوم بالاجمال ليجب فيه الاحتياط من جهة الشك في

٢٥

شرط الاحتياط «وهو الابتلاء».

وليس المرجع حينئذ اطلاق الخطاب شامل لمورد الابتلاء وعدمه ضرورة أن التمسّك بالاطلاق إنّما يكون في صورة أن يكون الاطلاق صحيحا بلا قيد مثل اكرم العالم ، إذ اطلاق العالم من غير تقييده بالعدالة صحيح مقبول ، ولا يكون التمسك بالاطلاق صحيحا إذا شك في صحته لأجل احتمال اعتبار الشيء في الخطاب ، وذلك كالابتلاء بالنجس في خطاب اجتنب عن النجس إن ابتليت به.

وعليه إذا شككنا في تحقّق الابتلاء وعدمه فلا جرم يرجع هذا الشك في صحّة الاطلاق ولا يحرز الاطلاق حينئذ حتّى يتمسّك به عند الشك في الابتلاء وعدمه.

فالنتيجة : أنّ التمسك بالاطلاق منوط باحراز صحّة اطلاق الخطاب ثبوتا في مشكوك القيدية ، وذلك كالايمان بالاضافة إلى الرقبة لأنّه يصح الاطلاق في قول المولى إن ظاهرت فاعتق رقبة ثبوتا ، ولا يصح التمسّك به إذا لم يصح الخطاب ثبوتا بدون ذلك القيد المشكوك فيه ، وذلك كالابتلاء في مقام البحث وإلّا لزم خلوّه عن الفائدة كما عرفت سابقا.

وعلى ضوء هذا البيان فالقيد على نحوين :

الأوّل : أن يكون مصحّحا للخطاب ، كالابتلاء في خطاب اجتنب عن النجس إن ابتليت به.

الثاني : أن لا يكون مصححا للخطاب ، كالايمان مثلا في خطاب أعتق رقبة فالتمسك بالاطلاق في الثاني صحيح مقبول في صورة الشك في الاطلاق والتقييد.

وفي الأوّل لا يصح التمسك بالاطلاق عند الشك فيهما ، تأمّل لعلّك تعرف إن شاء الله تعالى ، وهو إشارة إلى انّا نتمسّك بالاطلاق بمقدّمات الحكمة ونثبت بها الاطلاق وهو لا يصح في المقام ، إذ هو يصح فيما إذا شككنا في تقييد التكليف بشيء بعد الفراغ عن صحّة الاطلاق بدون ذلك الشيء المشكوك من حيث القيدية

٢٦

وعدمها كما إذا أمر المولى بعتق رقابه ثم حصل لنا الشك والترديد في انّها مطلقة ، أو مقيّدة بقيد الايمان ، فيجوز التمسّك بمقدّمات الحكمة لإثبات الاطلاق لا فيما شك في القيد الذي يعتبر في صحّة الاطلاق فلا يصحّ التمسّك بالاطلاق إذا كان الشك في قيد لا يصح الاطلاق بدونه كما فيما نحن فيه ، فإنّ الابتلاء قيد لا يصح الاطلاق بدونه كما إذا كان أحد الإناءين خارجا عن محل الابتلاء فلا يصح أن يقول المولى : اجتنب عن الاناء النجس الذي يكون خارجا عن مورد ابتلائك بل يصح أن يقول لعبده : اجتنب عن الاناء النجس الذي يكون خارجا عن محل ابتلاءك فعلا إذا ابتليت به.

وقد بيّن المصنّف قدس‌سره إلى هنا شرطين من شرائط فعلية الحكم المعلوم بالاجمال وتنجّزه وهما عدم الاضطرار إلى المكلف به ، والابتلاء به فعلا ، الأول منهما قد ذكره في التنبيه الأوّل ، الثاني منهما قد بيّنه في طي التنبيه الثاني.

الشبهة غير المحصورة

قوله : الثالث أنّه قد عرفت أنّه مع فعلية التكليف المعلوم لا تفاوت ...

وقد عرفت سابقا أنّه إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال فعليا من جميع الجهات فلا فرق بين أن تكون الأطراف محصورة ، أم كانت غير محصورة.

نعم ربّما كثرة الأطراف توجب عدم وجوب الموافقة لا قطعية وعدم فعلية التكليف المعلوم بالاجمال. لوجوه :

الأوّل : لتوجّه الضرر من ناحية الموافقة القطعية الحاصلة بارتكاب جميع الأطراف ، أو باجتناب تمامها.

الثاني : للزوم العسر والحرج الشديدين من جهة الموافقة القطعية.

الثالث : لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ، وإلّا فكثرة الأطراف من

٢٧

حيث هي هي لا ترفع فعلية المعلوم بالاجمال ولا الوجوب الاحتياط عقلا عن الأطراف كما يمكن عروض أحد هذه الموانع المذكورة في الشبهة المحصورة أيضا. وعليه فلا خصوصية في عدم حصر الأطراف.

وعلى هذا فلا بد من ملاحظة الموجب لرفع التكليف المعلوم بالاجمال ولا يكون معه التكليف فعليا بعثا كما إذا كانت الشبهة وجوبية ، أو زجرا كما إذا كانت تحريمية ، وأن الموجب يكون ، أو لا يكون في هذا المورد ، أو يكون الموجب لرفع التكليف المعلوم بالاجمال لكن مع كثرة أطراف العلم الاجمالي ، أو المعلوم بالاجمال ، دون قلتها ؛ ومن ملاحظة أن الرافع مع أيّة مرتبة من كثرتها ، إذ قد يكون بعض مراتب الكثرة موجبا لرفع التكليف المعلوم بالاجمال ؛ وبعض مراتبها غير موجب للرفع كما لا يخفى. مثلا إذا تردّد الماء المطلق بين ألف الماء المضاف ولا ريب في أن هذه المرتبة من الكثرة توجب العسر الشديد على تقدير وجوب الاحتياط في الأطراف ، فهو رافع للتكليف بالوضوء.

وامّا إذا تردّد الماء المطلق بين ثلاثة من الماء المضاف مثلا فهذه الكثرة لا توجب العسر والحرج ، فالتكليف بالوضوء باق على حاله ولا محيص من الاحتياط في هذا المورد بتكرار الوضوء ثلاث مرّات. وفي كل وضوء تكرّر الصلاة ، فالميزان في رفع التكليف المعلوم بالاجمال هو العسر على تقدير وجوب الاحتياط الذي يتحقّق بالاجتناب عن جميعها إذا كانت الشبهة تحريمية وبالارتكاب لجميعها إذا كانت وجوبية.

ولو شك في عروض الموجب لرفع التكليف كما لو كان أطراف العلم كثيرة لكنّا شككنا في أن الكثرة هل وصلت إلى حد العسر ، أم لم تصل إلى حدّه ، وفي أن الكثرة هل توجب خروج أكثر الأطراف ، أو بعضها عن محل الابتلاء ، أم لا ، فالمنبع حينئذ هو إطلاق دليل التكليف إن كان موجودا في البين وإلّا يرجع إلى

٢٨

البراءة لأجل الشك في التكليف الفعلي ، وهو مجرى البراءة كما أن مجرى الاشتغال الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف ، كما تقدّم هذا في الشك في الابتلاء وعدمه ، ولا يخفى أنّه إذا جاز التمسك بالاستصحاب في مورد فهو مقدّم على البراءة.

قوله : هذا هو حق القول في المقام ...

هذا إشارة إلى فساد قول الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

عند المصنّف قدس‌سره أمّا بيان فساده فلأنّه لا ريب في ان التكليف مقيّد بعدم العسر والحرج ، وعليه فإذا شك في تحقّق العسر وعدمه بنحو الشبهة المصداقية فلا مجال للتمسّك بالاطلاق بلا كلام لأنّه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية وهو لا يجوز قطعا ، بل لا بدّ من الرجوع إلى البراءة لأنّ الشك في عروض العسر يكون بمعنى الشك في أصل التكليف وهو مجرى البراءة باتفاق الأصوليين. اللهمّ إلّا أن يقال : انّا نتمسّك باستصحاب عدم العسر فيما كان له حالة سابقة عدم العسر فيقدم على البراءة لأنّه أصل موضوعي والبراءة أصل حكمي ، ولا ريب في تقدّم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي ، كما سيأتي هذا في مبحث الاستصحاب السببي والمسببي إن شاء الله تعالى.

قوله : وما قيل في ضبط المحصور وغيره لا يخلو من الجزاف ...

قد ذكر لتعريف الشبهة غير المحصورة ولتحديدها وجوه :

الأوّل : انّ غير المحصورة ما يعسر عدّه عند العداة ، وفيه :

أوّلا : أن عسر العد لا انضباط له من جهة اختلاف الأشخاص واختلاف زمان العدّ ، إذ الألف يعسر عدّه في خمس دقائق مثلا ولا يعسر عدّه في ساعة مثلا ، وكذا يعسر عدّه في مدّة خمس دقائق لزيد بن أرقم ولا يعسر عدّه فيها لعمرو بن خالد. وعليه فكيف يمكن أن يكون عسر العد ميزانا للشبهة غير المحصورة.

وثانيا : إذا تردّدت شاة واحدة مغصوبة بين شياة البلد التي تكون ألفا بلا زيادة

٢٩

فهذا من الشبهة غير المحصورة عند الاعلام (رض) ؛ وإذا تردّد حبّة واحدة مغصوبة من الحنطة بين آلاف منها مجتمعة في إناء واحد ، فهذا لا تعد عندهم من الشبهة غير المحصورة مع أن عدّ الحبّات وإن كانت في اناء واحد أشكل وأعسر بمراتب من عدّ الشياة وإن كانت في بلدة متعدّدة.

وعلى ضوء هذا فيستكشف بذلك أن عسر العدّ ليس بضابط للشبهة غير المحصورة.

الثاني : أن الشبهة غير المحصورة ما كان احتمال التكليف في كل واحد واحد من الأطراف موهوما لكثرة الأطراف. وفيه أن موهومية احتمال التكليف لا يمنع من التنجيز لأنّ مجرّد احتمال التكليف بأيّ مرتبة كان يساوق احتمال العقاب ، وهذا هو الملاك في تنجيز التكليف على المكلف ما لم يحصل المؤمن منه.

الثالث : أن الشبهة غير المحصورة ما يعسر موافقته القطعية لكثرة الأطراف ، وفيه أن العسر إنّما يوجب ارتفاع التكليف بمقدار يرتفع به العسر لا مطلقا ، وعليه فالعسر لا يمنع عن تنجيز العلم الاجمالي على الاطلاق ، كما هو المدعى للقائل بعدم التنجيز في الشبهة غير المحصورة.

الرابع : أن الميزان في كون الشبهة غير محصورة هو الصدق العرفي فما صدق عليه عرفا أنّه غير محصور فيترتّب عليه حكمه ، ولكن يختلف ذلك باختلاف الموارد.

وفيه أن العرف لا ضابطة لهم لتميز المحصور عن غيره ؛ والسرّ في ذلك أن عدم الحصر ليس من المعاني المتأصلة ، إذ هو أمر إضافي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان كما لا يخفى.

ولأجل هذا قال المصنّف قدس‌سره : لا يخلو الضبط لغير المحصورة بما ذكر من الوجوه الأربعة المذكورة من الجزاف ، أي من دعوى بلا دليل وبرهان ، فالأولى هو

٣٠

الموكول إلى الابتلاء بتمام الأطراف وعدم الابتلاء بتمام الاطراف.

فالنتيجة أن كثرة أطراف الشبهة ليست بمانعة عن فعلية التكليف المعلوم بالاجمال ، فالأول هو المحصورة ، والثاني هو غير المحصورة.

الملاقي لأحد أطراف العلم الاجمالي

قوله : الرابع : أنّه إنّما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف ...

هل الاجتناب عن ملاقي الشبهة المحصورة واجب شرعا ، أم لا ، ويمكن أن يكون الاجتناب عنه واجبا في بعض الموارد ولا يجب في بعضها.

وقبل الشروع في المقصد لا بدّ من تمهيد مقدّمة ، وهي : أن الثابت في كل واحد من المشتبهين هو وجوب الاجتناب عنهما لأجل العلم الاجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما ؛ وان الثابت عقلا رعاية الاحتياط المتحقّق باجتناب الأطراف إذا كانت الشبهة تحريمية ، أو بارتكابها في الشبهة الوجوبية ، لكن في خصوص الأطراف ممّا يتوقّف على اجتنابه في التحريمية ، أو يتوقف على ارتكابه في الشبهة الوجوبية حصول العلم بإتيان الواجب ، أو ترك الحرام المعلومين في البين بالعلم الاجمالي.

فالنتيجة يتوقّف العلم بالاجتناب عن البول الواقع في أحد الإناءين على اجتنابهما معا كما يتوقّف العلم بإتيان الصلاة في ثوب طاهر على الاتيان بصلاتين فيما إذا اشتبه الثوب الطاهر بالثوب النجس ولا يمكن تطهيرهما لمانع يمنع عنه دون غير الأطراف فانّه لا يجب الاجتناب عن ذلك الغير وان كان حاله واقعا كحال بعض الأطراف في كون هذا الغير محكوما بحكم بعض الأطراف واقعا مثلا إذا لاقى يد زيد بن عمر الاناء الأبيض مثلا ، فيما إذا اشتبه الاناء النجس بينه وبين الاناء الأصفر

٣١

مثلا فقد كانت اليد محكومة بحكم الاناء الأبيض واقعا.

والتفصيل فإن كان نجسا واقعا كانت اليد نجسة ، وإن كان طاهرا واقعا كانت طاهرة واقعا لكنّه لا يجب الاجتناب عن اليد الملاقية ، إذ هي بعد ما لم يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليها فلا مقتضى للاحتياط فيه ، وإن وجب الاجتناب عن الإناءين الأبيض والأصفر معا.

ومن هذا البيان يظهر الحال في مسألة ملاقاة الملاقي مع بعض أطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

ولتوضيح المقام يقال : إنّ لمسألة الملاقاة ثلاث صور :

الاولى : أنّه يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح وصاحبه دون الملاقي بالكسر إذا حصلت الملاقاة بعد العلم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين : والسرّ في ذلك أن المكلّف إذا اجتنب عن الملاقى وصاحبه فيصدق في حقّه أنّه اجتنب عن الحرام الواقعي والنجس الواقعي النفس الأمري الذي كان في الأطراف وإن لم يجتنب عن الملاقي بالكسر لأنّ نجاسته على فرض نجاسة الملاقى واقعا فرد آخر من النجاسة وهو مشكوك فيه فتمسّك باصالة البراءة ، مثلا إذا علم المكلّف إجمالا بنجاسة أحد الإناءين مثلا : ثم علم بملاقاة إناء ثالث لأحدهما فلا ريب في أنّه بعد العلم بالملاقاة يحدث علم إجمالي بنجاسة الملاقي بالكسر ، أو صاحب الملاقى بالفتح ، فيكون حينئذ علمان يشتركان في طرف واحد وهو صاحب الملاقى بالفتح ويختلفان بالملاقى والملاقي ، إذ العلم الاجمالي الأوّل قد تعلّق بالملاقى بالفتح وصاحبه ، والعلم الاجمالي الثاني تعلّق بالملاقي بالكسر وصاحب الملاقى بالفتح فصاحب الملاقى بالفتح يكون معلوما بالاجمال بعلمين الأول والثاني.

أمّا العلم الأول فقد تعلّق بالملاقى بالفتح والعلم الاجمالي الثاني يكون أحد طرفيه الملاقي بالكسر لا الملاقى بالفتح. ولا يخفى أن مقتضى حجّية العلم

٣٢

الاجمالي وجوب الاحتياط في الملاقي بالكسر كما يجب في الملاقى بالفتح وصاحبه ولكن يدفع وجوب الاحتياط فيه بأن التكليف بالاجتناب عنه تكليف زائد على التكليف المعلوم بالاجمال ، والأصل فيه البراءة ، وإن احتمل التكليف وهو وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر أيضا فيكون الملاقي كشيء آخر إذا شك في نجاسته لسبب فنجري البراءة عن نجاسته وندفع بها وجوب الاجتناب عنه فكذا الملاقي بالكسر حرفا بحرف.

فإن قيل : ان مقتضى تنجّز وجوب الاجتناب عن المعلوم بالاجمال الذي يعدّ منه الملاقى بالفتح وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر أيضا لصيرورته بالملاقاة في حكم الملاقى بالفتح.

قلنا : قد ظهر ممّا سبق أن العلم الاجمالي يوجب تنجّز الاجتناب عن أطرافه فقط لا عن شيء آخر لا علم لنا بحدوث النجاسة فيه ، وإن كنّا نحتمل حدوثه وتحقّقه فيه.

هذا مضافا إلى أن العقل يحكم بلزوم رعاية الاحتياط في متعلّق العلم الاجمالي ، أي المعلوم بالاجمال.

قوله : واخرى يجب الاجتناب عمّا لاقاه دونه فيما لو علم إجمالا نجاسته ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان حكم الصورة الاولى أخذ في بيان حكم الصورة الثانية ، وقال واخرى يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح في المورد الذي علمنا بنجاسة الملاقي بالكسر ، أو نجاسة شيء آخر ، ثم حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى بالفتح ، أو نجاسة صاحب الملاقى مثلا علمنا إجمالا إما تكون اليد نجسة ، وامّا الاناء الأحمر ثم لاقت اليد الاناء الأبيض ثم حدث لنا العلم الاجمالي بنجاسة الاناء الأبيض ، أو بنجاسة الاناء الأحمر فيجب

٣٣

الاجتناب عن اليد وعن الاناء الأحمر ، ولكن لا يجب الاجتناب عن الاناء الأبيض فانّ حال الملاقى في الصورة الثانية مثل حال الملاقي بالكسر في الصورة الاولى في كون كل واحد منهما خارجا عن طرف العلم الاجمالي لأنّ العلم الاجمالي في هذه الصورة على الفرض قد تعلّق باليد والاناء الأحمر دون الاناء الأبيض ، أي تعلّق بالملاقي بالكسر وصاحبه وعدله دون الملاقى بالفتح.

وعلى ضوء هذا فيكون الملاقى بالفتح فردا آخر يشك في نجاسته والأصل البراءة من نجاسته وإن احتملنا نجاسة واقعا على تقدير نجاسة ملاقيه واقعا ولكن ندفع هذا الاحتمال بأصل البراءة بل بأصالة الطهارة فلا علم لنا بنجاسته لا تفصيلا ولا إجمالا.

أمّا تفصيلا فواضح وإمّا إجمالا فلخروج هذا عن الطرف العلم الاجمالي ، وكذا يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر ، وذلك كاليد ، مثلا دون الملاقى بالفتح فيما لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي بالفتح ، أو شيء آخر ولكن خرج الملاقى بالفتح عن محل الابتلاء في حال حدوث العلم الاجمالي بنجاسته ، أو صاحبه وصار مبتلى به بعد حدوث العلم الاجمالي المذكور ، مثلا علمنا ابتداء إجمالا بنجاسة اليد ، أو بنجاسة الاناء الأحمر ثم لاقت اليد الاناء الأبيض ولكن خرج الاناء الأبيض عن محل الابتلاء حال حدوث العلم الاجمالي بنجاسة هذا ، أو الاناء الأحمر ثم صار الاناء الأبيض مبتلى به بعد حدوث العلم الاجمالي المذكور ، فيجب الاجتناب عن اليد الملاقية والاناء الأحمر ولا يجب الاجتناب عن الاناء الأبيض فانّ طرفي العلم الاجمالي الاول اليد والاناء الأحمر والاناء الأبيض خارج عن الطرف فيكون هذا فردا آخر يشك في نجاسته والأصل البراءة عن نجاسته.

٣٤

وعليه تكون الصورة الثانية عكس الصورة الاولى ، إذ في الصورة الاولى يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح وصاحبه ، وفي الثانية يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر وشيء آخر دون الملاقى بالفتح لأنّ العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح ، أو صاحبه لا أثر له لخروجه عن محل الابتلاء فإذا اتفق أن صار في محل الابتلاء لا يجب الاجتناب عنه لما تقدّم في الملاقي بالكسر في الصورة السابعة من أنّه فرد آخر مشكوك بدوا وليس طرفا لعلم إجمالي منجز.

قوله : وثالثة يجب الاجتناب عنهما فيما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم ...

وقد يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر والملاقى بالفتح معا فيما لو حصل العلم بالملاقاة أوّلا ثم حدث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي بالكسر ، أو شيء آخر ، مثلا لاقى الاناء الأخضر الاناء الأبيض ثم حصل لنا العلم الاجمالي بنجاسة الاناء الأخضر ، أو الاناء الأسود.

وفي هذه الصورة يجب الاجتناب عن الاناءات الثلاث الأخضر الملاقي بالكسر ؛ والأبيض الملاقى بالفتح والأسود ضرورة أنّه حينئذ نعلم إجمالا امّا بنجاسة المتلاقيين الملاقي بالكسر والملاقى بالفتح ، أو بنجاسة الاناء الآخر وهو الأسود ، فيكون كلّها من أطراف العلم الاجمالي ، فلا جرم يكون التكليف بالاجتناب على نحو المنجز عن النجس بين الثلاث وهو الواحد على تقدير نجاسة الاناء الأسود واقعا ، أو هو الاثنان على فرض نجاسة الاناء الأخضر والاناء الأبيض في المثال المذكور.

٣٥

الأقل والأكثر الارتباطيين

قوله : المقام الثاني في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ...

المراد من الأكثر الارتباطي هو المركب من أمرين ، أو أمور يترتّب عليها غرض واحد ، أو أغراض متعدّدة متلازمة في مقام الثبوت والسقوط بحيث لا يترتّب الأثر المقصود على بعضها إلّا في ظرف وجود الباقي ؛ ومن هنا لا يسقط الأمر ببعضها إلّا في ظرف سقوط الأمر بالباقي ، وذلك كما علمنا بالتكليف ولكن كان المكلف به مردّدا بين الأقل والأكثر ، مثل الصلاة مع السورة ، أو بلا سورة ، إذ نعلم علما قطعيا أن صلاة الظهر مثلا واجبة علينا قطعا ، ولكن تكون هذه الصلاة المأمور بها مردّدة بين كونها عشرة أجزاء ، أو تسعة أجزاء لأنّه لو كانت السورة بعد الحمد جزئها فأجزاؤها عشرة ؛ ويقابله الأكثر الاستقلالي ، وذلك كالقضاء الفوائت المردّد بين الأقل والأكثر فانّ كل واحد من أجزائه يترتّب عليه الفرض ولو في ظرف عدم الباقي فانّ قضاء كل صلاة يترتّب عليه الفرض ولو مع عدم قضاء صلوات بقيّة الأيّام ، أو كصوم شهر رمضان المبارك ، فانّ صوم كل يوم يترتّب عليه الفرض ولو مع عدم صوم بقيّة أيّامه.

وفي الأكثر الارتباطي خلاف بين الأعلام (رض) من حيث البراءة والاشتغال ، الأول هو مختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، والثاني هو مختار المصنّف قدس‌سره قال الحق أن العلم الاجمالي بثبوت التكليف بين الأقل والأكثر أيضا يقتضي الإتيان بالأكثر كما يقتضي بثبوته بين المتباينين كالجمعة والظهر الاحتياط عقلا والإتيان بهما معا لأجل تنجّز التكليف بسبب العلم الاجمالي حيث تعلّق العلم الاجمالي بثبوت التكليف فعلا ونقدا.

٣٦

وانقدح من كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره عدم كون العلم الاجمالي بثبوت التكليف بين الأقل والأكثر منجزا له فلا يجب الإتيان بالأكثر وبالصلاة مع السورة لانحلاله إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل وإلى الشك البدوي بالنسبة إلى الأكثر فيكون الدليل موجودا على نفي وجوب الاحتياط المتحقّق بإتيان الأكثر ، وهو الانحلال المذكور.

والتوضيح أن الأمر إذا دار بين الأقل والأكثر الارتباطيين فنسلّم وجوب الأقل قطعا سواء كان الأكثر واجبا واقعا ، أم لم يكن واجبا واقعا أمّا إذا فرض كون الأكثر واجبا واقعا فلا ريب في كون الأقل جزء الأكثر وإذا وجب الأكثر فقد وجب الأقل بالوجوب الغيري في ضمن الأكثر وهو لازم الإتيان كي يتحقّق الأكثر الواجب ، وامّا لو فرض كون متعلق التكليف الأقل فحسب فقد وجب الأقل مستقلّا بالوجوب النفسي.

وعلى كل تقدير نقطع بوجوب الأقل إمّا غيريا وإمّا نفسيا تفصيلا ، ولكن وجوب الأكثر مشكوك فيه وهذا يوجب أن يكون وجوبه مشكوكا بدوا ، ولا ريب في انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقل ، أو وجوب الأكثر إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل ؛ وإلى الشك البدوي بوجوب الأكثر. ولا يخفى أن الأقل على هذا الفرض محكوم بالوجوب النفسي ، أو محكوم بالوجوب الغيري شرعا إذا تعلّق الوجوب بالأكثر والأقل يكون لازم الإتيان من باب وجوب مقدّمة الواجب المطلق شرعا ، كما قال به بعض الأعلام (رض) ، أو يكون الأقل محكوما بالوجوب الغيري عقلا من جهة وجوب مقدّمة الواجب المطلق عقلا ومع وجوب الأقل تفصيلا لا يوجب العلم الاجمالي تنجز التكليف لو كان التكليف متعلّقا بالأكثر لكونه مشكوكا بدوا بالاضافة إليه والأصل البراءة من وجوبه.

٣٧

قوله : فاسد قطعا ...

قال المصنّف قدس‌سره : ان هذا التوهّم فاسد قطعا لان الانحلال المذكور مستلزم لأمر المحال ضرورة أن لزوم الأقل ووجوبه بالفعل سواء كان لنفسه ، أم كان لغيره موقوفان على تنجّز التكليف سواء كان متعلّقه هو الأقل ، أم كان هو الأكثر.

وعليه فلو قلنا بأن إتيان الأقل لازم لا الأكثر لكان هذا مستلزما لعدم تنجّز التكليف إلّا إذا كان متعلّقه هو الأقل فقط ، وهذا خلاف الفرض ، إذ فرض المتوهّم أولا وجوب الأقل مطلقا ، أي نفسيا كان ، أو غيريا يعني الأقل كان له وجوبان : الأوّل النفسي ، والثاني الغيري ، وثانيا فرض المتوهّم وجوب النفسي للأقل ، وهذا خلف ، والمتوهّم هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله.

هذا مضافا إلى أنّه يلزم من وجود الانحلال عدمه ، إذ لازم الانحلال المذكور تسليم عدم تنجّز التكليف على كل تقدير وحال ، إذ معنى الانحلال عدم وجوب الأكثر وعدم وجوبه مستلزم لعدم تنجّز التكليف على تقدير كون التكليف متعلّقا بالأقل ؛ وعلى تقدير كون التكليف متعلّقا بالأكثر.

فعدم التنجّز على كل حال وتقدير مستلزم لعدم لزوم الأقل مطلقا ، أي الوجوب الغيري والنفسي لأن الانحلال يقتضي عدم تنجّز التكليف النفسي على تقدير كون التكليف متعلّقا بالأكثر ، وعدم تنجّز التكليف النفسي يقتضي عدم تنجّز الأقل مطلقا ولو كان واجبا غيريا لما عرفت في بحث مقدّمة الواجب المطلق من تبعية تنجّز الوجوب الغيري لتنجّز الوجوب النفسي وإذا لم يتنجّز وجوب الأقل لو كان غيريا امتنع الانحلال لأنّه يتوقّف على تنجّز وجوب الأقل مطلقا ، أي كان وجوبه نفسيا ، أو غيريا.

والحال أنّ وجوبه الغيري غير محرز وغير معلوم لنا ، وهذا معنى استلزام

٣٨

وجود الانحلال عدم الانحلال ، وما يلزم من وجوده عدمه محال لأنّه تناقض وكل تناقض محال ، فهذا محال قطعا.

وقد تحصّل ممّا سبق ؛ ان الانحلال المذكور يستلزم عدم تنجّز التكليف النفسي بالإضافة إلى الأكثر وهذا يستلزم عدم تنجّز وجوب الغيري للأقل وهذا يستلزم عدم الانحلال لأنّه يتوقف على لزوم الأقل مطلقا ولو كان غيريا ، فتأمّل فيه فانّه دقيق.

قوله : نعم انّما ينحل إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة فانّ وجوبه حينئذ ...

قال المصنّف قدس‌سره : نعم يكون الانحلال المذكور تامّا إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة بحيث يجب على المكلف تحصيلها وبحيث لا يرضى المولى بفواتها على المكلف فيكون وجوبه معلوما لنا قطعا والشك بينه وبين الأكثر انّما يكون لأجل كون الأكثر ذا مصلحتين ، أو مصلحة واحدة أقوى من مصلحة الأقل ، أو لا يكون كذلك.

ومن الواضح أن العقل يحكم في هذا الفرض بالإضافة إلى الأكثر بالبراءة بلا كلام ، إذ كون الأكثر ذا مصلحتين ، أو ذا مصلحة أقوى مشكوك فيه والشك فيه مستلزم للشك في وجوبه والشك في وجوبه يكون بمعنى الشك في أصل التكليف وهو مجرى البراءة العقلية والنقلية ولكن لنسلم أن هذا الفرض خارج عن محل النقض والابرام في المقام لأنّ محل البحث في هذا المقام يكون في الأقل والأكثر الارتباطيين. وهذا الفرض إنّما يكون في الأقل والأكثر الاستقلاليين.

هذا هو الوجه الأوّل لوجوب الاحتياط المتحقّق بإتيان الأكثر في مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

٣٩

شبهة الغرض

قوله : هذا مع أن الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلّا بالأكثر ...

أما الوجه الثاني لوجوب الاحتياط عقلا في هذا الدوران ، فهو أن المشهور بين العدلية أن الأمر بالشيء ناشئ عن غرض للآمر في ذلك الشيء.

وعليه يكون الأمر دائما معلولا لذلك الغرض فالعلم بالأمر يستلزم العلم بالغرض لأنّ العلم بالمعلول يستلزم العلم بالعلّة.

وحينئذ فيجب بحكم العقل العلم بحصول ذلك الغرض ولكن مع الاقتصار على فعل الأقل يشك في حصوله فلا بد من الاحتياط ليحصل العلم بحصوله ، فالشك في المقام راجع إلى الشك في محصل الغرض بعد الجزم بثبوته لا في أصل ثبوته مع العلم بمحصله على تقدير ثبوته كما في الشبهة البدوية ، ولا يخفى أن الشك في المحصل موضوع لقاعدة الاشتغال لا لاصالة البراءة.

هذا بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها.

أمّا بناء على ما ذهب إليه جماعة من كون الغرض يحصل بنفس الأمر لا بفعل المأمور به فلا موجب للاحتياط حينئذ للعلم بحصول الغرض بمجرّد الأمر وإن لم يؤت بالمأمور به.

قوله : وكون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية ...

الألطاف جمع تكسير لطف ، وهو يطلق على الشيء الذي يقرّب العباد إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية ، فالواجبات الشرعية مقرّبات للواجبات العقلية ومبعّدات عن خلافها ، أي الواجبات الشرعية تقرّب العباد إلى الواجبات العقلية ، وهي وجوب إطاعة المولى وحرمة معصيته ، والقرب إليه جلّ وعلى ، إذ فعل

٤٠