البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-94105-2-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٣٣

ولا الدليل.

وعليه يبتني جواز استصحاب بقاء الحكم الشرعي بارتفاع بعض القيود المأخوذة في لسان الدليل في موضوع الحكم ، كما لو دل الدليل على نجاسة الماء المتغيّر بسبب النجاسة لونا ، أو طعما ، أو ريحا ، فإذا زال تغيّره بنفسه فيشك حينئذ في بقاء نجاسته فانّه يجوز استصحاب النجاسة لذات الماء بعد زوال التغير بنفسه. لعدم كون التغير مقوما للموضوع عرفا ولا يكون زواله موجبا للتعدّد وحينئذ فإذا جاز الاستصحاب في ذلك الماء جاز مع اختلال بعض القيود التي ترجع إلى الموضوع إذا كانت ليست مقوّمة للموضوع في نظر العرف لأنّ بعض الخصوصيات التي تلحظ في الموضوعات بحيث تبقى الاحكام بتحققها وتنعدم بانعدامها ولكنّها بنظر العرف تعدّ من حالاتها وإن كانت بحسب الواقع من قيودها ومقوّماتها.

وعلى هذا المبنى والأساس يمكن جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية التي تكون مشكوكة البقاء من جهة انتفاء بعض الامور التي تحتمل دخالتها في بقاء الموضوع لاحتمال كونها من قيود الموضوعات ومقوّماتها ، ولكن العرف يراها من حالاتها بحيث لا يكون ارتفاعها موجبا لارتفاع الموضوع ، كما هو شأن القيود.

وبالجملة مبنى هذه الشبهة كون المرجع في بقاء الموضوع في الاستصحاب هو العقل وسيأتي إن شاء الله تعالى ان المرجع في بقائه هو العرف.

فالنتيجة إذا كان الاتحاد بنظر العرف كافيا في تحقّق الاتحاد وفي صدق الحكم ببقاء ما نشك في بقائه من الحكم الشرعي ، والحال أنّه كان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيات التي يقطع معها بثبوت الحكم للموضوع وبعض الخصوصيات يعدّ بنظر أهل العرف من حالات الموضوع وان كان بعض الخصوصيات واقعا من قيود الموضوع ومقوّماته لكان جريان الاستصحاب في

١٦١

الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك في بقائها لأجل عروض انتفاء بعض ما احتمل دخله في الموضوعات ممّا عدّ عرفا من حالاتها لا من مقوّماتها بمكان عال من الامكان ضرورة صحّة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تعبّدا على تمام الوجوه الأربعة التي ستأتي إن شاء الله تعالى في محلّها.

ولا بأس بالإشارة إليها وهي عبارة عن اعتبار الاستصحاب ببناء العقلاء تعبّدا ، أو لكون البقاء مظنونا في الآن اللاحق سواء كان الحكم مظنونا البقاء بالظن الشخصي ، أم كان مظنونا البقاء بالظن النوعي وعن اعتبار الاستصحاب من جهة دلالة النص المعتبر عليه وعن اعتباره من جهة قيام الاجماع عليه لأنّه يجري كل واحد منها عند طرو انتفاء بعض ما احتمل دخله في الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها ممّا عدّ عرفا من حالات الموضوعات لا من مقوّماتها لأنّ المدار في صحّة جريان الاستصحاب على صدق الشك في البقاء ، ومن الواضح صدقه على الاتحاد العرفي موضوعا ومحمولا بين القضية المتيقّنة والمشكوكة على تمام الوجوه الأربعة المذكورة بلا تفاوت في بنائهم على البقاء بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا خلافا للشيخ الأنصاري قدس‌سره حيث ذهب إلى التفصيل في الأحكام الشرعية الكلية بين ما كان مدركها العقل فلا يعتبر الاستصحاب فيه ، وبين ما كان مدركها النقل فيعتبر الاستصحاب فيه فردّ المصنّف قدس‌سره هذا التفصيل.

وخلاصة كلام المصنّف قدس‌سره ان عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية يكون من جهة الشك في بقاء الموضوع من جهة تغيير بعض أجزاء الموضوع وقيوده يحتمل دخلهما في حدوث الموضوع ، أو في بقائه ، وهذا الأمر يوجب الترديد في بقائه.

ومن الواضح أنّه ما لم يحرز الموضوع وجدانا ، أو تعبّدا وما لم يحرز عدم الموضوع بأحدهما فلا يصح استصحاب بقاء الحكم ، أو زواله ، إذ يشترط في

١٦٢

الاستصحاب أن تكون القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة متّحدتين موضوعا ومحمولا.

وعليه فإذا تغيّر قيد الموضوع وجزءه فيمكن أن يقال : ان الموضوع في القضية المشكوكة تكون متباينة مع الموضوع في القضية المتيقّنة وفي ضوء هذا فلا محل للاستصحاب حينئذ في الأحكام الشرعية الكلّية.

خلاصة جواب المصنّف قدس‌سره : عن هذا الاشكال انّا سلّمنا كون شرط الاستصحاب اتحاد القضية المشكوكة والمتيقّنة موضوعا ومحمولا وسلمنا أيضا كون تغير قيد الموضوع موجبا لتغير الموضوع في القضية المتيقنة ، ولكن نقول : أن أهل العرف لا يرى تغير القيد الذي لا يحرز كونه مقوّما للموضوع موجبا لتغيّر الموضوع ولتبدّله فلا جرم يكون اتحاد القضيتين محفوظا بنظر العرف فشرط الاستصحاب موجود فلا مانع من جريانه فيها فلا وجه حينئذ لتفصيل الاخباريين (رض) ومنعهم عن جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية.

تفصيل الشيخ الأنصاري قدس‌سره بين ما كان مدركه العقل ، أو النقل

قوله : بلا تفاوت في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا ، أو عقلا ...

ذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره إلى التفصيل بين ما كان مدركها العقل وذلك كقبح التصرف في مال الغير عدوانا لانه ظلم وكل ظلم قبيح ، فهذا قبيح ثم عرض الاضطرار بالتصرّف المذكور واحتمل به انتفاء قبح التصرف عدوانا فاذن نحتمل انتفاء حكم العقلي من جهة انتفاء القيد الذي يكون ملحوظا في موضوع حكم العقل.

ومن الواضح انّه إذا انتفى قيد الموضوع انتفى الحكم لاحتمال دخل القيد في مناط التقبيح العقلي بحيث إذا انتفى القيد انتفى التقبيح العقلي بالنسبة إلى التصرّف العدواني لمال الغير.

١٦٣

قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره : وامّا إذا كان مدرك الحكم دليل النقل فلا مانع حينئذ من جريان الاستصحاب لأنّ الموضوع يكون بيد الشارع المقدّس يتصرّف فيه بقاء وزوالا كيف يشاء فاذا تغيّر بعض قيود الموضوع وبعض أجزائه لم يحرز لنا كونه مقوّما للموضوع فهو لا يوجب تغيّر الموضوع وزواله فلا جرم يكون الاتحاد بين القضيتين محفوظا من حيث الموضوع والمحمول بنظر العرف فيكون شرط الاستصحاب موجودا فلا مانع من جريانه فيها والشارع المقدّس يكون من أهل العرف بل رئيسهم وإمامهم.

امّا المصنّف صاحب الكفاية قدس‌سره فقد ذهب إلى بقاء الموضوع بحاله إذا تغيّر بعض قيوده وأجزائه سواء كان مدرك الحكم دليل العقل ، أم كان دليل النقل.

أمّا الثاني فواضح لأنّ تشخيص وحدة الموضوع في القضيتين انّما يكون بيد أهل العرف قطعا لأنّه مقصود بفهم الأحكام الشرعية وهو مخاطب بها.

وعليه فإذا كان الموضوع باقيا فلا إشكال حينئذ في جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية.

وأمّا الأوّل فلأنّ الحكم الشرعي الذي يستكشف بالعقل ، وذلك كقبح الظلم وحسن العدل لأنّهما يستكشفان بالعقل ولهذا حكم الشارع المقدّس بحرمة الأوّل ووجوب الثاني ، ولكن إذا عرض الاضطرار والضرورة إلى إتيان الأوّل وترك الثاني فينتفي حينئذ ما احتمل دخله في موضوع الحكم الشرعي وذلك كعنوان الضرر بالنسبة إلى حرمة الكذب المضر.

فإنّ الضرر ممّا يحتمل دخله في الموضوع لكنّه ليس مقوّما للموضوع لأنّ الكذب حرام شرعا سواء كان مضرّا ، أم لم يكن مضرّا ، وكذا عنوان النفع بالإضافة إلى وجوب الصدق فانّه ممّا يحتمل دخله في الموضوع لكنّه ليس مقوّما للموضوع لأن الصدق واجب شرعا سواء كان نافعا ، أم لم يكن بنافع ، وكذا عنوان القبح

١٦٤

بالإضافة إلى حرمة الظلم فانّه ممّا يحتمل دخله في الموضوع لكنّه ليس بمقوّم للموضوع لأنّ الظلم حرام شرعا سواء كان قبيحا ، أم لم يكن بقبيح.

وكذا وصف الحسن بالنسبة إلى وجوب العدل شرعا حرفا بحرف فالعرف لا يرى هذه الامور مقوّمات للموضوع وإن كانت هذه الامور مقومات للموضوع بالنظر الدقي العقلي لأنّه لو لا دخلها فيه لكان أخذها فيه لغوا ومستدركا.

وفي ضوء اعتبار بقاء الموضوع بنظر أهل العرف ففي صورة انتفاء ما يحتمل دخله في الموضوع حدوثا وبقاء فيحكم ببقاء الموضوع ويكون مشكوك البقاء عرفا لاحتمال عدم دخله فيه واقعا وإن كان لا حكم للعقل بدون قيد الموضوع قطعا مثلا إذا تنجس الماء بالتغيّر ولكن زال تغيّره بنفسه فذات الماء مقيّد بالتغيّر ، فبعد زوال التغيّر لا يحكم العقل بنجاسته ، ولكن قد حكم الشرع الأقدس بعد زوال التغيّر بنجاسته امّا بخلاف الجاري والنابع إذا زال تغيّره بنفسه فقد طهرا لاتصالهما بالمادة. وفي ضوء هذا فقد انقدح لك أن هذا حكم الراكد كالكرّ.

وخلاصة كلام المصنّف قدس‌سره : أن حكم العقلي بعد الشك في موضوعه يكون مقطوع العدم ، أي لا حكم للعقل حينئذ ولكن الحكم الشرعي الذي استفيد من الملازمة بين حكم العقل والشرع باق ، فلذا استكشفنا ان الشارع المقدّس أوجب رد الوديعة مثلا وإن كان الضرر في الرد فلا حكم للعقل بوجوب ردّها حينئذ وإذا شككنا في بقاء الوجوب وفي ارتفاعه فقد استصحبنا بقاء وجوب ردّها ، إذ نحتمل أن لا يؤخذ عدم الضرر في موضوع وجوب ردّها شرعا.

فلا إشكال في ان كل قيد من القيود المأخوذة في موضوع الحكم العقلي يكون ممّا ينتفي بانتفائه الحكم العقلي ، لكن لا يلزم من انتفائه انتفاء ملاكه ومناطه إذ يجوز أن الشيء ممّا له دخل في حصول القطع بوجود الملاك ولا يكون له دخل في وجود الملاك واقعا بحيث لا يحرز العقل وجود ملاك حكمه إلّا في ظرف القيد ، وإن

١٦٥

لم يكن لوجود القيد دخل واقعا في نفس وجود الملاك ، ولازم ذلك المطلب انّه إذا انتفى مثل القيد المذكور ينتفي حكم العقل جزما ويكون ملاكه محتمل البقاء واحتمال بقاء الملاك ملزوم لاحتمال بقاء الحكم الشرعي لأنّه تابع له. وعليه فإذا فرض أن انتفاء القيد لا يوجب تعدّد الموضوع في نظر العرف يصدق على الشك في الحكم أنّه شك في بقائه فيشمله دليل الاستصحاب فلا نسلم ان ارتفاع القيد موجب لارتفاع الملاك واقعا فلا مانع من جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي.

هذا مضافا إلى أنّه لو سلم أن ارتفاع القيد موجب لارتفاع الملاك واقعا لكن لا مانع من احتمال وجوب ملاك آخر للحكم الشرعي لم يطلع عليه العقل فيحتمل لأجله بقاء الحكم.

غاية الأمر ان الحكم الشرعي بحدوثه يستند إلى الجامع بين الملاكين وببقائه يستند إلى الملاك الآخر الذي لم يرتفع بارتفاع القيد واختلاف علّة الحدوث والبقاء لا يوجب تعدّدا في وجود المعلول فضلا عمّا إذا كان بهذا المقدار من الاختلاف الاستناد ليس إلّا إلى الجامع.

غاية الأمر ان الجامع كان موجودا أوّلا في ضمن فردين ثم صار موجودا في ضمن أحدهما. وعلى طبيعة الحال فلا اصطكاك بين حكم العقل وبين حكم الشرع.

قوله : إن قلت كيف هذا مع الملازمة بين الحكمين ...

فإن قيل : كيف يستصحب الحكم الشرعي الذي يستكشف من حكم العقل عند طرو انتفاء ما احتمل دخله فيه مع وجود الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بحيث كلّما حكم به العقل حكم به الشرع وكلّما حكم به الشرع حكم به العقل ، أي يكونان معا وجودا وعدما.

وعليه فإذا استصحب حكم الشرعي في مورد فلا بدّ من أن يستصحب حكم العقلي أيضا فلم قلت باستصحاب حكم الشرعي في الماء المتغيّر إذا زال تغيّره

١٦٦

بنفسه وكذا في وجوب رد الوديعة إذا كان في ردّها ضرر على الودعي ولم تقل باستصحاب حكم العقلي.

الجواب عنه

قوله : قلت ذلك لأنّ الملازمة انّما تكون في مقام الاثبات والاستكشاف ...

نعم انّما تكون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع وجودا وعدما في مقام الإثبات بحيث لو حكم العقل في مورد علم منه حكم الشرع لا في مقام الثبوت ، أي لا يصدق قولنا لو لم يكن حكم للعقل في مورد لم يكن حكم للشرع الأقدس فيه لعدم الدليل عليه ، بل الدليل على خلافه ضرورة صدق قولنا قد يكون حكم الشرع ولا يكون حكم العقل كما إذا كان ملاك الحكم العقلي موجودا ، ولكن لم يطّلع عليه العقل فإنّه لا حكم للعقل حينئذ لعدم احراز ملاكه ، ولكن يثبت حكم الشرع لأجل احراز ملاكه عند الشارع المقدّس. وقد يكون للشرع حكم ولا يكون للعقل حكم إذا كان ملاك حكم العقل موجودا ولكن لم يطّلع عليه العقل حتى يحكم بحكم ولكن يكون الملاك محرزا عند الشرع فيحكم قهرا بحكم فوجه انفكاك حكم الشرع عن حكم العقل بحيث يجوز استصحاب حكم الشرع ولا يمكن استصحاب حكم العقل عدم تلازمهما في مقام الثبوت.

قوله : فعدم استقلال العقل إلّا في حال غير ملازم لحكم الشرع ...

فعدم استقلال العقل بالحكم إلّا في حال وجدان جميع قيود الموضوع غير ملازم لعدم حكم الشرع في حال انتفاء بعض قيوده وشروطه كي لا يكون للشرع حكم في حال انتفاء بعض قيوده وشروطه ، ويدل على عدم هذه الملازمة بين الحكمين ثبوتا احتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة في الواجبات ومن المفسدة في المحرّمات وهما تكونان باقيين على حالهما في كلتا

١٦٧

الحالتين حالة وجود قيد الموضوع وحالة عدم قيد الموضوع وانتفائه ولكن العقل لم يدرك ذاك الملاك إلّا في حال وجود قيد الموضوع وتحقّقه ويدل على ذلك المطلب احتمال عدم دخل تلك الحالة التي كانت سابقا كالتغير ، أو كالقبح ، أو الحسن مثلا في ملاك حكم الشرع فالحكم الشرعي باق بحاله مع ذهاب تلك الحالة أو احتمال أن يكون مع الملاك الموجود في حال التغير والقبح والحسن ملاك آخر بأن كان لنجاسة الماء المتغيّر ملاكان أحدهما ملازم للتغير بحيث ينتفي بانتفائه ويذهب بذهابه ويبقى الملاك الثاني بلا دخل لتلك الحالة الزائلة في الملاك الآخر أصلا وإن كان لتلك الحالة الزائلة دخل في الحكم الذي لو اطلع العقل عليه ، أي على ملاكه ، لحكم بهذا الحكم وذلك كالتغير والاضطرار فانّهما دخيلان في موضوع حكم العقل بالنجاسة والقبح ولكن انّهما غير دخيلين في المفسدة الواقعية التي لم يطلع عليها العقل.

وبالجملة حكم الشرع انّما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا من المصلحة والمفسدة ولا يتبع ما هو مناط حكمه فعلا بحيث إذا حكم العقل فعلا حكم الشرع أيضا وإلّا فلا ، بل يكون حكم الشرع تابعا للمصلحة الواقعية والمفسدة النفس الامرية سواء اطلع عليهما العقل ، أم لم يطلع عليهما العقل.

وموضوع حكم العقل فعلا ممّا لا يكاد يتطرّق إليه الاهمال والاجمال لأنّ العقل إذا أدرك المناط وأحرز الموضوع احرازا تامّا كاملا فيحكم حكما بتيا جزميا فلا يتطرّق الشك في الأحكام العقلية كي تستصحب مع تطرق الاهمال والاجمال في موضوع حكمه الشأني لاحتمال وجود مصالح ومفاسد في الأفعال واقعا ولكن لم يطلع عليها العقل كما كان الأمر كذلك في أكثر الأحكام الشرعية.

وقد انقدح لك ان للعقل حكمين : أحدهما شأني ، والآخر فعلي. فالاهمال لا يكون في حكمه الفعلي ، والوجه كما تقدّم آنفا.

١٦٨

وبتقرير آخر وهو ان للعقل حكما واقعيا تعليقيا بحيث لو أدرك العقل المصلحة والمفسدة لحكم بالوجوب ، أو الحرمة وحكما واقعيا فعليا وهو الذي لا يكون إلّا بعد إدراك المصلحة والمفسدة.

فملاك حكم الأوّل هو نفس المصلحة والمفسدة بما هما هما من دون دخل للإدراك فيه أصلا.

وملاك حكم الثاني هي المصلحة والمفسدة المحرزتان للعقل احرازا تامّا لا بما هما هما ، فإذا لم يدركهما العقل لم يحكم على طبقهما بالوجوب والحرمة حكما فعليا.

هذا معيار الفرق بين الحكمين الشأني التعليقي والواقعي الفعلي.

والتفصيل : فإن كان الغرض انكار الاهمال في حكمه الفعلي فهذا متين لأنه إذا أحاط بمناط حكمه حكم وإلّا فلا يحكم لكن زوال الوصف وهو التغير والقبح انّما يوجب انتفاء الحكم الفعلي ولا يوجب انتفاء الملاك الواقعي. وان كان الغرض انكار الاهمال في حكم العقل الشأني فهذا غير ظاهر لاحتمال وجود مصالح ومفاسد في الأفعال واقعا لم يطّلع عليها العقل كما تقدّم هذا الوجه آنفا وحيث احتمل وجود ملاك الواقعي مع زوال الوصف فالشك في بقاء الحكم متحقّق ومع هذا يجري الاستصحاب.

فالنتيجة ربّ خصوصية لها دخل في استقلال العقل في حكمه الفعلي ، وتلك كالتغير مثلا ، مع احتمال بقاء ملاك العقل واقعا بعد زوال الوصف. ولا ريب في أنّه بقاء الملاك واقعا يحتمل بقاء حكم الشرع جدّا لأجل دوران حكم الشرع مدار الملاك الواقعي وجودا وعدما وهذا واضح لا غبار عليه ، وليس دورانه مدار الملاك المعلوم وجودا وعدما كما لا يخفى.

فتلخّص ممّا أفاده المصنّف قدس‌سره أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب في

١٦٩

الشبهات الحكمية بين ما إذا كان دليل الاستصحاب عقلا ، أو نقلا إذا صدق اتحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا عرفا.

قوله : فافهم جيّدا ...

وهو تدقيقي بقرينة التقييد بكلمة الجيّد.

قوله : ثم انّه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب قدس‌سرهم في حجية الاستصحاب ...

ذهب بعضهم بل أكثرهم إلى حجّيته مطلقا وذهب بعض الآخر إلى عدم حجّيته مطلقا ، واختار بعض الثالث التفصيل بين الموضوعات وبين الاحكام وارتضى بعض الرابع التفصيل بين الشك في المقتضى وبين الشك في الرافع. ومن هذا علم ان الاطلاقين الأوّلين يكونان في قبال التفصيلين المتقدمين ، فالتفصيل الأوّل عبارة عن حجّية الاستصحاب في الموضوعات وعدم حجّيته في الاحكام الشرعية ، كما ان التفصيل الثاني عبارة عن حجّية الاستصحاب إذا كان الشك في المقتضى وعدم حجّيته إذا كان الشك في الرافع.

وفي المقام تفاصيل الأخر الكثيرة :

ومنها تفصيل الاخباريين قدس‌سرهم بين الأحكام الشرعية الكلّية وبين غيرها.

ومنها تفصيل الشيخ الأنصاري قدس‌سره في الأحكام الشرعية بين ما كان مدركها العقل ، أو النقل.

ومنها تفصيل الفاضل التوني قدس‌سره بين استصحاب الأحكام التكليفية والوضعية وبين استصحاب السبب والشرط ، أو المانع وسيأتي شرح هذه التفاصيل إن شاء الله تعالى.

ولكن قال المصنّف قدس‌سره : لا فائدة لنا في نقلها ونقل الاستدلالات والبراهين عليها ، كما لا فائدة لنا في استقصاء الأقوال في المسألة ، بل المهم والمفيد لنا إثبات الحجّية مطلقا ، أو عدم إثبات الحجّية مطلقا ، فلا بد لنا حينئذ بيان الاستدلال على

١٧٠

المختار من الحجّية مطلقا على نحو يثبت المدعى ويظهر استدلال سائر الأقوال وبطلانها. فاستدل على المختار بوجوه أربعة :

الأوّل : استقرار بناء العقلاء من الإنسان بل ذوي الشعور من كافة أنواع الحيوانات على العمل على طبق الحالة السابقة لأنّ العقلاء بما هم عقلاء سواء كانوا متدينين ، أم كانوا غير متدينين على العمل على طبق الحالة السابقة ، مثلا كان زيد في السنة الماضية حيّا ولكن نحتمل موته في السنة الحاضرة فلا يرفعون اليد من حياته ومن آثار حياته ويعاملون معه ارسال المرسول ولا يتصرّفون في أموالهم ولا تختار زوجته بعلا آخر ، وكذا إذا كان البلد موجودا في محل ، ولكن نحتمل هدمه وغرقه مثلا ولا يرفعون اليد بهذا الاحتمال من آثار بقائه ، بل جميع الوحوش والطيور يرجع في الليل إلى المحل المألوف ، وحيث لم يردع عن هذا البناء الشارع المقدّس فلا جرم يكون هذا البناء ممضي وماضيا عنده وإلّا لوصل إلينا وحيث لم يصل إلينا فنكشف من عدم الوصول عدم الردع عنه ثم نكشف منه رضاءه.

الجواب عنه

قوله : وفيه أوّلا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبّدا بل امّا رجاء واحتياطا ...

أجاب المصنّف قدس‌سره بالمنع عن استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة تعبّدا ، يستقرّ بنائهم عليه بملاكات متعدّدة ؛ فقد يكون رجاء واحتياطا وقد يكون اطمينانا بالبقاء ، وقد يكون ظنّا ولو نوعا ، وقد يكون غفلة كما هو الحال في الحيوانات دائما لاختصاص اليقين والشك بالإنسان فلا يستند عمل الحيوان بالحالة السابقة إلى الاستصحاب ، بل يكون عمل الإنسان على طبق محض العادة الناشئة من تكرّر العمل. وكذا يكون عمل الإنسان أحيانا بمحض العادة المذكورة.

قوله : وثانيا سلمنا استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة ...

١٧١

لكنه لم يعلم ان الشارع المقدّس يكون بهذا البناء راضيا وهذا عنده ماض ويكفي في الردع عن مثل هذا البناء ما دل من الكتاب الكريم والسنّة الشريفة على النهي عن اتباع غير العلم ، نحو قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وغيره من الآيات الأخر. ويعلم من هذا النهي عدم رضاء الشارع المقدّس بالعمل على الحالة السابقة تعبّدا ، أو من باب الظن النوعي. ومن الواضح ان الاستصحاب لا يفيد إلّا الظن.

هذا مضافا إلى ان الشارع المقدّس قد جعل في مورد الشك قواعد أخر كالأدلة الدالّة على البراءة ، أو الاحتياط في الشبهات ، وهي تدل بعمومها على ان حكم المشكوك عند الشارع المقدس مطلقا براءة ، أو احتياط سواء كان له حالة سابقة ، أم لم يكن له حالة سابقة.

نعم يصح التمسك باخبار الاستصحاب على امضاء العمل على طبق الحالة السابقة واليقين السابق.

فإن قيل : ان أخبار البراءة وأخبار الاحتياط تكون في قبال أخبار الاستصحاب فتكون بصدد المعارضة مع أخبار الاستصحاب فيرجع حينئذ إلى قانون التعارض من المرجحات المنصوصة سندا ، أو دلالة وسيأتي بيانها في بحث التعادل والتراجيح إن شاء الله تعالى فلا يعمل بأخبار الاستصحاب لاحتمال ترجيحها عليها سندا ، أو دلالة.

قلنا : ان أخبار الاستصحاب حاكمة عليها ، إذ لسان أخبار البراءة براءة ذمّة المكلّف عن الحكم المشكوك فيه سواء كان مسبوقا باليقين ، أم لم يكن مسبوقا به ولسان أخبار الاحتياط اشتغال ذمّة المكلّف بالحكم المجهول سواء كان مسبوقا بالعلم ، أم لم يكن مسبوقا به ، ولسان أخبار الاستصحاب اشتغال ذمة المكلف بالحكم المشكوك فيه إذا كان مسبوقا باليقين. فأخبار الاستصحاب مضيقة

١٧٢

لموضوعهما فلا يكتفى بالسيرة التي لا يكون الامضاء فيها بمعلوم فلا وجه لاتباع هذا البناء في المورد الذي لا بد أن يكون فيه الدليل المسلّم على الامضاء.

قوله : فتأمّل جيّدا ...

وهو إشارة إلى عدم لزوم الدور لو ثبتت حجّية الاستصحاب بالسيرة العقلاء بأن يقال في المقام ان رادعية الآيات الناهية عن اتباع غير العلم متوقفة على عموم الآيات المذكورة لحجّية الاستصحاب وعمومها لها يتوقف على عدم تخصيص الآيات ببناء العقلاء وعدم تخصيصها يتوقف على عدم حجّية بناء العقلاء وسيرتهم ، إذ لو كان حجّة لخصص بناء العقلاء عموم الآيات.

فإثبات عدم حجّية بنائهم على الاستصحاب بأصالة عموم الآيات الناهية يتوقف على عموم الآيات الناهية عن اتباع غير العلم وعمومها يتوقف على عدم حجّية بناء العقلاء وسيرتهم ، كما قيل هذا الدور في مسألة حجية خبر الواحد بالسيرة ، أي سيرة العقلاء.

وقد تقدّم هذا في بحث حجّية خبر الواحد ، ولكن الفرق موجود بين مسألة حجّية خبر الواحد ومسألة حجّية الاستصحاب ، إذ حجّية سيرة العقلاء ثابتة على طبق العمل على الخبر الثقة ، ولكن حجّية السيرة على العمل على طبق الحالة السابقة تتوقف على حجّية الاستصحاب وهي لم تثبت بعد فحجيّة السيرة لم تثبت إذ لا دليل على اعتبار هذه السيرة على الحالة السابقة.

فالنتيجة ان عموم الآيات يتوقّف على عدم حجّية بناء العقلاء وعدم حجّية بنائهم لا يتوقف على عمومها ، إذ عدم حجّيته ثابت سواء كانت الآيات عامة بحيث تشمل كل ظن من الظنون ، أم لم تكن بعامة لأنّ عدم حجّيته انّما يكون لأجل عدم الدليل المعتبر في هذا المورد.

وفي ضوء هذا فكيف تخصص الآيات الرادعة عن اتباع غير العلم بالسيرة

١٧٣

التي لم تثبت حجّيّتها شرعا.

الوجه الثاني

قوله : الوجه الثاني ان الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق ...

قال المصنّف قدس‌سره : الدليل الثاني لحجّية الاستصحاب ان ثبوت المستصحب في الزمن السابق ، وذلك كعدالة زيد مثلا ، موجب للظن ببقائه في الزمن اللاحق ، ولهذا يعامل العقلاء معه آثار البقاء من نفاذ قضائه وجواز الائتمام به وقبول شهادته وجواز التقليد منه إذا كان مجتهدا ، أو وجوب التقليد منه إذا كان أعلم إلى أن يعلموا بزوالها.

الجواب عنه

قوله : وفيه منع اقتضاء مجرّد الثبوت للظن بالبقاء فعلا ولا نوعا ...

قال المصنّف قدس‌سره : انّا لا نسلم ان صرف ثبوت المستصحب في الزمن السابق موجب للظن الشخصي ، أو النوعي ببقائه في الزمن اللاحق ، إذ غالب الأشياء التي هي قابلة للدوام والاستمرار يمكن فيه عدم الدوام والاستمرار.

والحال انّه ليس لنا العلم بدوامه وعدم دوامه ، بل ليس لنا الظنّ بواحد منهما بالخصوص وعلى تقدير حصول الظن بالدوام والاستمرار في غالب الأشياء لا يكون الدليل على اعتباره من باب اعتبار الظن الخاص ، بل الحجّة العامة قائمة على عدم اعتباره ، وهي الآيات الناهية عن اتباع غير العلم.

وبالجملة فهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : لا نسلم كون ثبوت الشيء في الزمن السابق موجبا للظن الشخصي أو النوعي ببقائه في الزمن اللاحق.

١٧٤

وثانيا : سلمنا ذلك ، ولكن ليس الدليل على اعتبار هذا الظن بل يكون الدليل على عدم اعتباره ، إذ الأصل الأولي حرمة العمل بالظن إلّا ما خرج بالدليل.

الوجه الثالث

قوله : الوجه الثالث دعوى الاجماع عليه كما عن المبادى ...

قد ادعى صاحب المبادى الاجماع على حجية الاستصحاب لأنّ الفقهاء (رض) قد أجمعوا على ان الحكم إذا ثبت في زمان وشك في بقائه وزواله في زمان آخر هل عرض عليه ما يزيله ، أم لا؟ فالواجب هو الحكم ببقائه.

وعليه فلو لم يكن الاستصحاب حجّة للزم ترجيح أحد طرفي الممكن الوجود والعدم على الآخر من غير مرجح فعلم ان العلماء (رض) اتفقوا على حجّية الاستصحاب ، وكذا ادعاه المحقّق قدس‌سره صاحب المعارج في المعارج ، انتهى كلامه.

في ردّه

قوله : وفيه ان تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة ممّا له مبان ...

وفيه ان تحصيل الاجماع على نحو يستكشف من هذا الاجماع رأي الامام عليه‌السلام في مثل هذه المسألة التي تكون بها مبان مختلفة بين الأعلام (رض) ولها مدارك متعدّدة يكون في غاية الإشكال ولو مع الاتفاق في هذه المسألة لأنّ الذاهب إلى الحجّية انّما يذهب إليها على تقدير صحّة مبناه وإلّا فهو يذهب إلى عدم الحجّية.

وعليه فكيف يكون هذا الاجماع كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام لأنّه مدركي والاعتماد عليه هذا مضافا إلى انّه ليس الاتفاق من الكل بمتحقّق لأنّ معظم الأصحاب (رض) قد ذهبوا إلى عدم حجّية الاستصحاب مطلقا ، أو إذا كان الشك في المقتضى فنقل الاجماع في هذا المقام موهون وضعيف جدّا لأجل خلاف المعظم.

١٧٥

ولو قيل بحجّية الاجماع المنقول على تقدير عدم الخلاف في البين.

فخلاصة الكلام : ان الاجماع المحصل وإن كان حجّة لكن هو غير حاصل في هذا المقام لأجل تحقّق الخلاف من المعظم ، والمنقول من الاجماع ليس بحجّة أولا ولو سلمنا حجّيته فهذا مدركي ليس بكاشف عن رأي الإمام عليه‌السلام ثانيا ، ولو سلمنا عدم كونه مدركيا فهذا غير متحقّق في المقام لأجل اختلاف المعظم (رض).

وفي ضوء هذا قد انقدح لك فساد الوجوه الثلاثة التي اقيمت على حجّية الاستصحاب.

الاستدلال على حجّية الاستصحاب بالأخبار

قوله : الوجه الرابع وهو العمدة في الباب الأخبار المستفيضة ...

منها : صحيحة زرارة بن أعين رضى الله عنه قال : قلت له الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فإنّ حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا حتى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن وإلّا فانّه على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين أبدا بالشك وانّما تنقضه بيقين آخر (١).

وهذه الرواية وإن كانت مضمرة يعني لم يذكر اسم المعصوم عليه‌السلام فيها ، أي قال قلت له ولم يعلم ان زرارة نقل هذا الخبر عن الإمام المعصوم عليه‌السلام ولكن اضمارها لا يضرّ باعتبارها حيث كان مضمرها مثل زرارة بن أعين مرادي رضى الله عنه وهو أعلم تلامذة إمامنا الصادق عليه‌السلام فهو لا يروي قانونا إلّا عن الإمام المعصوم عليه‌السلام كما انّه لا يستفتي من غير الإمام عليه‌السلام لما ذكر آنفا لا سيما مع هذا الاهتمام الذي استفيد من تكرير السؤال المذكور في متن الحديث بل إثبات الشيخ الطوسي قدس‌سره في كتب

__________________

١ ـ الوسائل ج ١ ص ١٧٥ ح ١.

١٧٦

الحديث وإثبات حمّاد بن عيسى رضى الله عنه في أصله راويا لها عن حريز شهادة قطعية على كونها رواية عن المعصوم عليه‌السلام.

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية أن قول المعصوم عليه‌السلام وإلّا فانّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ظاهر في انّه لا يجوز نقض اليقين بشيء بالشك وظاهر في انّ المعصوم عليه‌السلام في صدد بيان علّة الحكم الذي بيّن الإمام عليه‌السلام بقوله في جواب سؤال بقول الراوي فان حرّك في جنبه شيء يعني قال الإمام عليه‌السلام فلو وجدت امارة النوم لما رفع الرجل يده من الوضوء لأنّه على يقين من وضوئه وهو قد شك في النوم ولا ينبغي له أن يرفع اليد من اليقين بالشك وأن ينقض اليقين بالشك ، إذ قاعدة كلية ارتكازية عقلائية عدم نقض اليقين السابق بالشك اللاحق بل نقضه باليقين الآخر.

وعلى هذا التقريب فالرواية تامّة من حيث الاستدلال ولا تختص بباب الوضوء فقط ، إذ لم يبيّن الإمام عليه‌السلام لزرارة بن أعين رضى الله عنه علّة تعبدية لأنّه لو كان البناء على التعبّد لكفى قوله عليه‌السلام لا بل بيّن له قاعدة كلّية ارتكازية عقلائية وهي عبارة عن عدم جواز نقض اليقين بالشك ، فالإمام عليه‌السلام أعلم لزرارة رضى الله عنه ان هذا الرجل كان على يقين من الوضوء وشك في النوم ومن الارتكازي انّه لا ينقض اليقين بالشك أبدا فالإمام عليه‌السلام بيّن له تطبيق الكبرى المسلّمة على مورد السؤال فيستفاد من بيانه عليه‌السلام قاعدة كلية ارتكازية من بيان من كان على يقين في شيء سواء كان وضوءا ، أم كان غيره فشك فليمض على يقينه.

فالشرط عبارة عن جملة وان لم يستيقن أنّه قد نام وهي مستفادة من كلمة وإلّا في الحديث والجزاء عبارة عن جملة فليس عليه إعادة الوضوء وهي مستفادة من كلمة لا في قول الإمام عليه‌السلام وعلّة الجزاء عبارة عن اندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضية المرتكزة في أذهان العقلاء ، أي ارتكز في أذهانهم مناسبة

١٧٧

العلّة للحكم كما يقال : أكرم زيدا لأنّه عالم فهو تعليل بأمر ارتكازي لأنّ صفة الطول لا تناسب في نظر العقلاء علّة لوجوب الاكرام بخلاف صفة العلم ، وفي المقام حيثية اليقين الذي يطرأ ويعرض على موضوعه الشك ممّا يرتكز في أذهان العقلاء صلاحيته للحكم بعدم جواز النقض ولا ريب في أنّ هذا الارتكاز لا يختص بباب دون باب والقضية الارتكازية لا تختص بموضوع دون موضوع ، بل تعمّ جميع الأبواب والموضوعات فلا بد حينئذ من تعميم الحكم ، إذ لو بنى على تخصيصه بباب دون باب ، أي بباب الوضوء فقط ، لكان التعليل المذكور في قوله عليه‌السلام فانّه على يقين من وضوئه تعبديا لا ارتكازيا وهو خلاف الأصل العقلائي في التعليل لأنّ الغرض من التعليل تنبيه المتكلّم المخاطب على وجه الحكم بحسب ما عند المخاطب.

وعليه فلو كان تعبّديا محضا فلم يترتّب عليه الغرض المذكور من التنبيه للمخاطب على القاعدة المرتكزة في الأذهان وهي عدم جواز نقض اليقين بالشك.

تقريب الاستدلال بالاخبار

قوله : واحتمال أن يكون الجزاء هو قوله فانّه على يقين ولا ينقض اليقين بالشك ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن الاحتمال الأوّل في الرواية شرع في الاحتمال الثاني وقال : وامّا احتمال أن تكون جملة فانّه على يقين نفس الجزاء للشرط ولا تكون علّة الجزاء الذي تنوب علّته منابه ولا يكون الجزاء هو المعنى الذي استفيد من كلمة (لا) ، أي فلا يجب عليه إعادة الوضوء.

وعلى هذا فالحديث لا يدل على حجّية الاستصحاب على نحو الكلي. والتوضيح : ان الامام عليه‌السلام كان مراده من قوله فانّه على يقين من وضوئه إثبات حكم اليقين بالوضوء ولا يكون مراده منه صرف بيان الموضوع.

١٧٨

وبتقرير آخر : ان الامام عليه‌السلام بيّن بلسان جعل الموضوع حكمه ، وعليه فتكون جملة ولا ينقض اليقين بالشك ، عطفا تفسيريا لجملة : فانّه على يقين من وضوئه.

وعلى هذا المعنى فالحديث لا يدل على حجّية الاستصحاب على نحو القانون الكلي والقاعدة الكلية ، بل يدل على حجّية الاستصحاب في باب الوضوء فقط ، لأنّ الظاهر من كلمة اليقين في قوله : ولا ينقض اليقين يقين بالوضوء.

قال المصنّف قدس‌سره : ان هذا الاحتمال مدفوع ، إذ هذا الاحتمال صحيح تام إذا اريد من جملة خبرية «فانّه على يقين من وضوئه» معنى انشائي ويكون مراد الإمام عليه‌السلام لزوم العمل على طبق اليقين السابق ، وإذا اريد من جملة الخبرية معنى إنشائي فهو بعيد غاية البعد ، إذ هذا التصرّف يكون على خلاف الظاهر ، وهذا ظاهر.

فإن قيل : لأي داع اريد من الخبر معنى إنشائي كي يلزم التصرّف على خلاف الظاهر؟

قلنا : ان الداعي على هذا التصرّف عدم ارتباط الجزاء بالشرط لأنّ الشرط لا بدّ أن يكون سببا للجزاء الذي هو مسبّب عن الشرط نحو : ان تضرب زيدا اضربه فضرب المخاطب سبب لضرب المتكلّم في هذا المثال ، وكذا في سائر الموارد والأمثلة.

ومن الواضح ان عدم اليقين بالنوم ليس بسبب لليقين بالوضوء سابقا لأنّ اليقين بالوضوء سابقا ثابت سواء استيقن بالنوم ، أم لم يستيقن به.

نعم يكون عدم اليقين بالنوم بواسطة الخفقة ، أو الخفقتين سببا للزوم العمل على طبق يقينه السابق.

قوله : وأبعد منه كون الجزاء قوله ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان احتمال الثاني أخذ في احتمال الثالث ، إذ في قوله عليه‌السلام : فإنّه على يقين من وضوئه احتمالات ثلاثة :

١٧٩

الأوّل : ان يكون هذا علّة للجزاء المقدّر في نظم الحديث وهو مستفاد من قوله عليه‌السلام لا ، أي فلا يجب عليه إعادة الوضوء.

الثاني : أن يكون جزاء للشرط المستفاد من قوله عليه‌السلام وإلّا ، أي وان لم يستيقن أنّه قد نام وقد سبق توضيحهما مفصّلا.

الثالث : أن يكون الجزاء للشرط قوله عليه‌السلام : ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ، وقوله عليه‌السلام : فإنّه على يقين من وضوئه قد ذكر توطئة للجزاء كذكر المبدل منه في الكلام فانّ ذكره توطئة لذكر البدل لأنّه مقصود بالحكم والمبدل منه يكون في حكم السقوط نحو جاءني زيد أخوك ، أي جاءني أخوك وكذا فيما نحن فيه ، أي وإن لم يستيقن أنّه نام فانّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك ، أي وإن لم يستقين انّه نام ولا ينقض اليقين بالشك أبدا.

قال المصنّف قدس‌سره هذا الاحتمال أبعد من سابقه من وجهين :

أحدهما : مربوط باللفظ وهو عبارة عن اقتران جملة ولا ينقض بالواو ، إذ لو كانت جزاء للشرط للزم خلوّها عن الواو واقترانها بالفاء الجزائية.

وثانيهما : مربوط بالمعنى وهو أنّه يلزم كون القضية من قبيل القضية الشرطية المساقة لتحقيق الموضوع مثل : إن رزقت ولدا فاختنه لامتناع فرض الجزاء في هذه الشرطية إلّا في فرض تحقّق الشرط ، إذ يجب الختان مع تحقّق الولد في الخارج. وكذا فيما نحن فيه ، إذ يحرم نقض اليقين بالشك مع تحقّق عدم اليقين بالنوم بسبب الخفقة ، أو الخفقتين.

هذا مضافا إلى ان الظاهر أن تكون جملة فانّه على يقين من وضوئه علّة للجزاء وليس ذكرها بتمهيد له مع لزوم كون الكلام وهو جملة ولا ينقض اليقين بالشك بمنزلة التأكيد لما قبله وهو عبارة عن جملة فانّه على يقين من وضوئه كما في الاحتمال الثاني.

١٨٠