البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-94105-2-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٣٣

والضررية نفي واقعي ونفي البقية نفي ظاهري بمعنى أن المرفوع فيها خصوص مرتبة التنجّز فقط لا الحكم من أصله.

ومن هنا يظهر أن حكومة أدلّة الحرج والضرر بناء على كونها لنفي الأحكام الحرجية والضررية حكومة واقعية من قبيل قوله عليه‌السلام : «لا شك لكثير الشك» ، وفي البقية حكومة ظاهرية من قبيل حكومة قاعدة الطهارة على دليل اشتراط الصلاة والطواف بها.

ولكن ذهب المصنّف قدس‌سره في الجميع إلى التوفيق العرفي وسيأتي شرح الحكومة الواقعية والظاهرية في آخر بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

فالنتيجة : أن وجه تقدّم قاعدة لا ضرر ولا ضرار على سائر أدلّة الأحكام بعناوينها الاولى فعليتها والضرر عنوان ثانوي ، ولا ريب في أن أهل العرف يعدّون العنوان الأوّلي اقتضائيا والعنوان الثانوي فعليا ، وهم يقدّمون الفعلي على الاقتضائي كما يقدّمون العنوان الثانوي على العنوان الأوّلي في صورة المعارضة بينهما مثل تقدّم عنوان الحرج والاضطرار والاكراه على العناوين الأوّلية مثلا الآية الشريفة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(١) تقتضي وجوب الصوم وجوبا اقتضائيا شأنيا بحيث ان الصوم مع قطع النظر عن طرو الضرر والاكراه ، أمّا إذا طرأ عليه عنوان الضرر فلا تقتضي وجوبه ، إذ يقدم العنوان الثانوي على العنوان الأوّلي ، وكذا عنوان الاكراه والحرج والسهو والنسيان والجهل وعدم الطاقة تقدّم على العناوين الأوّلية.

قوله : نعم ربّما يعكس الأمر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ...

وقد يكون الأمر بالعكس ، أي قد يقدّم دليل الحكم الأوّلي ، أو دليل الحكم الثانوي على قاعدة لا ضرر ولا ضرار فيما احرز بوجه معتبر ان الفعل بعنوانه الأولي ،

__________________

١ ـ سورة البقرة آية ١٨٣.

١٤١

أو الثانوي علّة تامّة للحكم ، وذلك كالدفاع نفسا ومالا عن الدين الحنيف عن بيضة الاسلام ، أو عن النفس لأنّه علم من الخارج ان هذا الموضوع وهو عبارة عن الامور المذكورة علّة وجوب الدفاع مطلقا ، أي سواء كان مستلزما للضرر ، أم لم يستلزمه.

ففي هذه الموارد لا بد أن يكون دليل لا ضرر مقيّدا بعدم كون الموضوع علّة للحكم ، وامّا إذا كان دليل وجوب الدفاع دالّا على العلية المذكورة فهو يقدّم على دليل لا ضرر ولا ضرار كما لا يخفى. وكذا حرمة قتل المؤمن فانّها حكم بعنوان أولي بنحو العلية التامّة ، ولكن لا ترتفع حرمة القتل بعنوان ثانوي كالضرر والحرج والاضطرار والاكراه إلّا بالخطإ والنسيان وبعدم العلم ، إذ لم يعهد من قبل الشارع المقدّس ثبوت حكم على حاله وإن كان الحكم في مرتبة العليا من القوّة مع تحقّق أحد العناوين الثلاثة المذكورة آنفا ، بل يرتفع بها ولو رفعا ظاهريا بمعنى رفع تنجّزه فقط لا رفع الحكم الواقعي من أصله المشترك بين الخاطي والعامد والذاكر والناسي والعالم والجاهل جميعا.

قوله : وبالجملة الحكم الثابت بعنوان أولى تارة يكون بنحو العلية ...

الحكم الثابت بالعنوان الأوّلي لا يخلو من وجهين :

ألف) أن يكون الحكم فعليا مطلقا ، أي سواء عرض على موضوعه عنوان من العناوين الثانوية ، أم لم يعرض عليه ، ففي هذا الفرض لا يجوز الاغماض ورفع اليد عن دليل حكم أولى بسبب دليل الحكم الذي يكون مخالفا له ، وذلك كعروض الضرر والضرار على عنوان الدفاع عن بيضة الإسلام الحنيف مثلا فلا يرفع اليد عن وجوب الدفاع المذكور بسبب دليل لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

ب) أن يكون الحكم فعليا بشرط أن لا يوجد دليل مخالف له ، وامّا إذا وجد الدليل المخالف له فيجوز رفع اليد عن دليل حكم الأوّلي.

وبعبارة اخرى : اجتماع حكم الأوّلي مع حكم الثانوي قرينة على أن الحكم

١٤٢

الأوّلي يكون اقتضائيا شأنيا والحكم العارض يكون مانعا عن الحكم الأوّلي لأنّ الحكم العارض مبيّن لحكم الفعلي.

فالحكم الاولي على ثلاثة أنحاء :

الأوّل : فعلي مطلقا ، ومثاله قد سبق آنفا.

الثاني : فعلي بالإضافة إلى عارض دون عارض ، وذلك كحرمة قتل المؤمن فانّها لا ترتفع بعروض الضرر والحرج والاضطرار والاكراه ، ولكن ترتفع بالخطإ والنسيان وما لا يعلمون ، إذ لا يعقل ثبوت حكم على حاله مع وجود أحد العناوين الثلاثة ، بل يرتفع بها لا محالة ، ولهذا لا يكون القصاص ثابتا على قتل الخطائي.

الثالث : اقتضائي مطلقا إذا لم يعرض على موضوعه عنوان ثانوي ، وذلك كوجوب الصوم والوضوء والغسل لأنّه إذا عرض عليها عنوان الضرر فيسقط وجوبها ويبدّل وجوبها بالحرمة العرضية.

قوله : هذا لو لم نقل بحكومة دليله على دليله لعدم ثبوت نظره ...

هذا الذي ذكرنا من تقديم أدلّة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام على أدلّة حكم الأوّلي لو لم نقل بحكومة دليل لا ضرر ولا ضرار على دليل حكم الأوّلي بعدم ثبوت نظره إليه ، أي إلى مدلوله كما قال بعدم الحكومة الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، وأمّا إذا قلنا بحكومته عليه لنظره إليه فمن الواضح ان قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الاسلام تقدّم على أدلّة الاحكام الاولية لوضوح تقديم دليل الحاكم على دليل المحكوم. وامّا وجه حكومتها عليها فلانّها تضيق دائرة موضوعات الأحكام الأولية والحاكم امّا مضيّق وامّا موسّع لدائرة موضوع دليل المحكوم فالأوّل نحو : لا شك لكثير الشك مثلا ، والثاني نحو : الطواف بالبيت صلاة ، لأنّ الشارع المقدّس نزّل الطواف منزلة الصلاة ، أي كأنّ الطواف صلاة.

قوله : ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين ...

١٤٣

ثم ظهر لك بما تقدّم آنفا من بيان حال توارد العناوين الثانوية مع العناوين الأوّلية حال توارد العنوانين الثانويين كما إذا دار الأمر بين لزوم الضرر ولزوم العسر ، فالمالك إذا حفر البالوعة في داره ولكن تضرّر بها جاره. والحال أنّه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وإذا لم يحفرها وقع المالك في الحرج الشديد والحال انّه قال الحكيم في كتابه الكريم (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) فيعامل معهما معاملة المتعارضين إن لم يثبت المقتضى إلّا في أحدهما ويعامل معهما معاملة المتزاحمين إذا ثبت المقتضى في كليهما جميعا فيقدم الأقوى منهما مناطا وان كان أضعف سندا وإلّا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وان كان دليل الآخر أرجح وأولى. ولكن لا يبعد أن الغالب من توارد العارضين أن يكون من باب التزاحم لثبوت المقتضى فيهما فتوارد العارضين يكون غالبا من صغريات كبير التزاحم وليس غالبا من صغريات باب التعارض الذي يكون المقتضى فيه في أحد الدليلين فقط.

هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أولي ، أو مع عنوان ثانوي غير عنوان الضرر من التوفيق العرفي بين تعارض عنوان الضرر مع عنوان أوّلي ومن اجراء حكم التزاحم ، أو التعارض إذا تعارض عنوان الضرر مع عنوان العسر والحرج مثلا.

تعارض الضررين

قوله : واما لو تعارض مع ضرر آخر فمجمل القول فيه ...

وقد علم ممّا سبق حال عنوان الضرر وحال مطلق العناوين الثانوية كعنوان الخطأ وعنوان الاضطرار والاكراه والسهو والنسيان مع العناوين الأوّلية وقد علم

__________________

١ ـ سورة الحج آية ٧٨.

١٤٤

أيضا ممّا سبق ان المصنّف قدس‌سره ذهب إلى تقديم العناوين الثانوية على العناوين الأوّلية بالتوفيق العرفي بينهما في صورة تعارضهما وتواردهما. والشيخ الأنصاري قدس‌سره ذهب إلى حكومتها عليها وكذا علم ممّا تقدّم أيضا حال توارد العنوانين الثانويين بعضهما مع بعض ، وعلم انّه يقدّم الأهم ملاكا وأقوى مناطا إذا كانا من باب تزاحم المقتضيين وإلّا فيعامل معهما معاملة المتعارضين.

وامّا الفرق بين المتزاحمين والمتعارضين فسيأتي إن شاء الله تعالى في بحث التعادل والتراجح. ولكن بقي في المقام بيان حال توارد ضرر مع ضرر آخر.

قال المصنّف صاحب الكفاية قدس‌سره : انّ مجمل القول وخلاصة الكلام في الضررين دوران الأمر بينهما على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن يدور الأمر بين ضرري شخص واحد ، كما إذا دار أمر زيد بن أرقم بين أن يلقي نفسه من أعلى الجبل فيتكسّر حينئذ رجله ، أو جنبه ، أو رأسه ، وبين أن يبقى في مكانه ومحله فيحترق جسمه ويموت.

الثاني : أن يدور الأمر بين ضرري زيد وعمرو كما إذا دخلت دابة زيد في دار عمرو بحيث لا تخرج منها إلّا بهدم بابها.

الثالث : أن يدور الأمر بين ضرر نفس شخص زيد وبين ضرر غيره ، كما لو كان تصرّف المالك في ملكه موجبا لتضرّر جاره وترك تصرّفه فيه موجبا لضرر نفسه وشخصه ، كما إذا دار الأمر بين أن يحفر بالوعة في بيته فيتضرّر جاره في بئره التي يستسقى منها وبين أن لا يحفرها فيتضرّر المالك في جدران بيته ، إذ تهدم بترك الحفر.

أمّا المصنّف قدس‌سره فقد قال في الاولين انّه يجب اختيار الضرر الأقل وتلزم مراعاة الضرر الأقوى إذا اختلفا في الرتبة ، وامّا إذا تساويا فيها فالمكلف يتخيّر عقلا

١٤٥

بين ارتكاب أحدهما امّا هذا وامّا ذاك.

وفي الثالث قال : انّه لا يجب على الإنسان المكلف أن يتحمّل الضرر لئلا يتضرّر غيره وإن كان ضرر الغير أقوى من ضرر نفسه وأكثر منه. وقد علّله بأن نفي الضرر عن الأمّة يكون على نحو الامتنان والمنة ولا منة على تحمّل الضرر لأجل دفع الضرر عن الشخص الآخر وإن كان الضرر الوارد على الآخر أكثر من ضرر نفسه وأقوى منه.

قوله : نعم لو كان الضرر متوجّها إليه ليس له دفعه عن نفسه ...

هذا استدراك عن قوله السابق فالأظهر عدم لزوم تحمله الضرر ولو كان ضرر الآخر أكثر ، وقال : نعم إذا كان الضرر بطبعه الأوّلي متوجّها إلى نفس زيد كما إذا توجّه السيل إلى داره ، أو أرضه مثلا ، لكن إذا غيّر المجرى توجّه إلى دار غيره أو أرض غيره وقد أفتى المصنّف قدس‌سره في هذه الصورة بعدم جواز دفعه عن نفسه وايراده على الآخر ، كما قال : نعم لو كان الضرر متوجّها إليه ليس له دفعه عن نفسه بايراده على الآخر ، امّا إذا لم يكن الضرر لو خلى وطبعه متوجّها إلى شخص بالخصوص كما في حفر البالوعة فله أن لا يتحمّل الضرر لدفعه عن الجار وان كان ضرر الجار أكثر وأقوى من ضرر نفسه.

قوله : اللهمّ إلّا أن يقال : ان نفي الضرر وإن كان للمنة إلّا انّه بلحاظ النوع ...

هذا استدراك عن قول المصنّف قدس‌سره : ولا منة على تحمّل الضرر لدفعه عن الآخر وقال متمسكا بكلمة اللهمّ أن ذلك الأمر ، أي عدم الامتنان على تحمّل الضرر لأجل دفعه عن الآخر انّما يتمّ لو لوحظ كل واحد من الأمة في قبال غيره وذلك كملاحظة زيد في قبال عمرو وكملاحظة بكر في قبال خالد مثلا و ... وامّا إذا لوحظ مجموع الأمّة أمرا واحدا فقد كان الحال في تحقّق الامتنان على الأمة برفع أكثر

١٤٦

الضررين كما لو تعارض ضررا شخص واحد فالعقل يحكم برفع أكثر الضررين وكذا امتنان رفع الضرر يحكم برفع أكثرهما.

قوله : فتأمّل ...

وهو إشارة إلى أن الظاهر كون الامتنان بلحاظ كل واحد واحد من أفراد الامة في نفسه وعليه.

ثم انّه حيث بنى على جواز التصرّف الذي يؤدّي إلى ضرر الغير إذا كان يلزم من ترك التصرّف الضرر على المالك فالمعروف بين الأعلام (رض) عدم الضمان لقاعدة السلطنة لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم وكأنّ الوجه عدم الدليل عليه بعد البناء على جواز تصرّف كل مالك في ملكه.

ولكنّه لا يخلو عن الإشكال لأنّ جواز التصرّف أعم من عدم الضمان. وفي ضوء هذا فلا موجب لرفع اليد عن عموم ما يقتضي الضمان من قاعدة الاتلاف وهي عبارة عن قول المعصوم عليه‌السلام : من أتلف مال الغير فهو له ضامن.

كما أنّه يشكل التصرّف الذي يؤدي إلى ضرر الغير إذا لم يكن في تركه ضرر على المالك بل كان في هذا التصرّف منفعة عائدة إلى المالك لعموم نفي الضرر والضرار في الإسلام.

فإن قيل : ان ترك التصرف في هذا الفرض حرج على المالك وهو منفي في الشريعة المقدّسة.

قلنا : ان هذه الدعوى ممنوعة في الفرض المذكور ، إذ يلزم على المالك على هذا الفرض فوت المنفعة ولا يلزم الحرج عليه أصلا ، ومنه يظهر المنع عن التصرّف فيما إذا كان التصرّف لغير منفعة عائدة إلى المالك مع تضرّر الغير بذلك التصرّف.

إذا اعتقد المكلف كون استعمال الماء ضررا عليه فيتمّم وصلّى ، ثم انكشف الخلاف فهل يحكم بصحّة صلاته بحيث لا يجب عليه الإعادة في الوقت ولا القضاء

١٤٧

في خارجه ، أم لا؟

نسب المحقّق النائيني قدس‌سره الحكم بالصحّة إلى المشهور وقد ذكر في تقريبه أن موضوع التيمّم من لم يتمكّن من استعمال الماء لكونه ضرريا فالموضوع محرز بالوجدان فصح تيمّمه حينئذ ، وكذا الحال في معتقد فقدان الماء حرفا بحرف.

إلى هنا انتهى الكلام فيما قصد توضيحه من مباحث البراءة والاشتغال والحمد لله سبحانه وتعالى على كل حال. وكان ذلك في قم المقدّسة ليلة السبت العاشر من شوّال المكرّم من السنة الثمانية والعشرة بعد الألف والأربعمائة هجرية على مهاجرها أفضل الصلاة وأكملها وأتمّ السلام على يد الأحقر علي بن قربانعلي الزارع غفر الله تعالى لي وله وللمؤمنين يوم يقوم الحساب آمين.

١٤٨

الاستصحاب وتعريفه

قوله : فصل في الاستصحاب وفي حجّيته إثباتا ونفيا أقوال للأصحاب (رض) ...

وهو مصدر باب الاستفعال كما يقال استصحب يستصحب استصحابا على وزن استخرج يستخرج استخراجا ، وله معنى اللغوي والاصطلاحي. امّا اللغوي فهو بمعنى الملازمة وأخذ الشيء مصاحبا ، كما يقال : استصحب زيد الشيء ، أي لازمه وصاحبه. ومنه استصحاب أجزاء ما لا يؤكل في حال الصلاة.

وفي الاصطلاح هو بمعنى بقاء ما كان على ما كان. وللأصحاب (رض) في الاستصحاب من حيث كونه حجّة ومن حيث كونه غير حجّة أقوال :

الأوّل : هو القول بالحجّية مطلقا.

الثاني : هو القول بعدم الحجّية مطلقا.

الثالث : هو القول بالتفصيل بين الوجودي والعدمي فيعتبر في الثاني دون الأوّل.

الرابع : هو القول بالتفصيل بين الحكم الشرعي وبين الأمور الخارجية فيعتبر في الأوّل دون الثاني.

الخامس : هو القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعية الكلية وبين غيرها فلا يعتبر الاستصحاب في الأوّل ويعتبر في الثاني ، وكل هذه الأقوال سيأتي في محلّها إن شاء الله تعالى.

قوله : ولا يخفى أن عباراتهم في تعريفه وإن كان شتى ...

عرّفه أكثر الأصحاب (رض) بأنّه ابقاء ما كان على ما كان. وعرّفه بعضهم بأنّه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأوّل. وعرّفه بعضهم

١٤٩

الآخر : بأنّه كون حكم ، أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق وغيرها من التعاريف التي هي مذكورة في المطوّلات.

ولكن قال المصنّف قدس‌سره : ان التعاريف المتعدّدة للاستصحاب تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد وهو عبارة عن الحكم ببقاء حكم ، أو موضوع ذي حكم شك في بقاء كل واحد منهما مثلا كانت صلاة الجمعة واجبة في زمان الحضور يقينا وفي عصر الغيبة شك في وجوبها فنستصحب بقاء وجوبها في عصر الغيبة هذا مثال بقاء الحكم على ما كان وكان زيد عادلا في شهر شعبان المعظّم. أمّا في شهر رمضان المبارك فنشك في بقاء عدالته فنستصحب بقاء عدالته في شهر رمضان المبارك هذا مثال بقاء موضوع ذي حكم ، إذ يترتّب على عدالته جواز الائتمام به وجواز قبول شهادته وجواز التقليد منه إن كان مجتهدا جامعا للشرائط.

ويدل على الحكم بالبقاء أمور :

أحدها : بناء العقلاء بما هم عقلاء على البقاء في أحكامهم العرفية ، بل من ذوي الشعور من كافّة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة مطلقا ، أو في الجملة تعبّدا إشارة إلى بعض التفصيلات الآتية.

ثانيها : هو الظن بالبقاء الناشئ عن ملاحظة ثبوت الشيء سابقا.

ثالثها : هو دلالة النص المعتبر على بقاء الشيء بعد ثبوته سابقا وهو لا تنقض اليقين بالشك ، كما يأتي الإشارة إلى ذلك الأمر كذلك ، أو في الجملة.

رابعها : دعوى الاجماع على البقاء في الزمان اللاحق وكل هذه الوجوه ستأتي مفصلة إن شاء الله تعالى ، فكل من قال بالحجّية فقد تمسّك بأحد الوجوه المذكورة آنفا.

وقد تعرّض المصنّف قدس‌سره قبل الخوض في بيان أدلّة الاستصحاب وحجّيته أمورا ثلاثة :

١٥٠

الأوّل : تعريف الاستصحاب.

الثاني : اثبات كون الاستصحاب مسألة أصولية.

الثالث : اعتبار وحدة القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة موضوعا ومحمولا.

واختلف الأصوليون (رض) بأن الحكم بالبقاء هل يكون ببناء العقلاء تعبّدا عقلا من دون ملاحظة الظن بالبقاء ، أو يكون الحكم بالبقاء بملاحظة الظن به غالبا من جهة وجود السابق الشيء. قال أكثرهم بالأوّل وذهب بعضهم إلى الثاني ، فالاختلاف في جهات :

الجهة الاولى : انّهم اختلفوا في حجّيته وعدم حجّيته.

الجهة الثانية : انّهم اختلفوا في مدرك حجّيته هل هو بناء العقلاء بالبقاء تعبّدا أو هو بناءهم به بملاحظة حصول الظن ببقاء الحكم ، أو الموضوع الذي له حكم من الأحكام ، أو هو نص ، أو هو دعوى الاجماع عليها ، أي على الحجية.

الجهة الثالثة : انّهم اختلفوا في حجّيته مطلقا ، أي في جميع الموارد ، أو في بعض الموارد وسيأتي تفصيل هذا إن شاء الله تعالى.

ولا يخفى أن الحكم بالبقاء هو القابل لأن يقع فيه النزاع والخلاف في نفي هذا المعنى وإثبات ذاك المعنى مطلقا ، أو في الجملة وأن يقع فيه النزاع في وجه ثبوته هل دليل ثبوت الحكم ببقاء الحكم ، أو الموضوع الذي له حكم من الأحكام هو النص ، أو بناء العقلاء ، أو الاجماع على أقوال ؛ امّا بخلاف ما لو عرّفنا الاستصحاب بأنّه بناء العقلاء على البقاء ، أو بأنّه هو الظن بالبقاء الناشئ من العلم بثبوت البقاء سابقا ، فلا تقابل فيه الأقوال يعني الأقوال في ثبوت الاستصحاب ونفيه. فالقائل بثبوت الاستصحاب قد لا يثبت البناء المذكور بل يقول بثبوته من الأخبار والقائل بنفيه قد لا ينفى البناء المذكور لكنّه لا يرى البناء حجّة وكذا لو كان هو الظن ، إذ القائل بثبوت الاستصحاب قد لا يعترف بثبوت الظن المذكور والقائل بنفيه قد

١٥١

لا يلتزم بنفي الظن بل يمنع الدليل على حجّيته.

وبالجملة أن حاصل مرام المصنّف قدس‌سره في هذا المقام من أوّل الفصل إلى هنا ان عبارات الأصحاب (رض) وان كانت هي مختلفة في تعريف الاستصحاب ولكنّها تشير إلى معنى واحد وهو الحكم ببقاء حكم ، أو موضوع ذي حكم شك في بقاء كل واحد منهما.

وهذا المعنى هو القابل لأن يقع فيه النزاع والخلاف نفيا وإثباتا مطلقا ، أو في الجملة ضرورة أن معنى الاستصحاب لو كان يختلف باختلاف مداركه ووجوه الاستدلال عليه فلو كان الأمر كذلك لما تقابل الأقوال في المسألة ولما كان النفي والاثبات واردين على مورد واحد بل على موردين لأنّه كان مراد النافي معنى ومراد المثبت معنى آخر ومراد المفصل الأول معنى ثالث ومراد المفصل الثاني معنى الرابع ومراد المفصل الثالث معنى خامس ، وهذا واضح لا سترة فيه.

قوله : بل في موردين ...

لأنّ القائل بثبوت الاستصحاب لم يعترف بثبوت بناء العقلاء ، بل هو قائل بثبوته من جهة دلالة الأخبار على ثبوته والمنكر لم ينف بناء العقلاء بل يقبله ولكن لم يكن حجّة عنده ، كما ان الاستصحاب إذا كان نفس الظن ببقاء ما كان على ما كان فالقائل بثبوت الاستصحاب لم يعترف بثبوت هذا الظن. وامّا النافي فلم ينف هذا الظن بل يقول انّه ليس الدليل على حجيته.

خلاصة الكلام ان الاستصحاب لو كان نفس البناء المذكور ، أو نفس الظن بالبقاء لكان محل النفي والاثبات أمرين ، إذ القائل بثبوت الاستصحاب يقول بثبوت البناء والظن. وامّا المنكر فلم يستشكل بثبوتهما بل ينكر حجّيتهما.

قوله : وتعريفه بما ينطبق على بعضها وإن كان ربّما يوهم أن لا يكون ...

١٥٢

ولا يخفى أنّه ليس في التعاريف المتقدّمة على الظاهر ما ينطبق على نفس بناء العقلاء على البقاء ، أو على الظن بالبقاء ، وإن كان فيها ما قد يوهم أن لا يكون الاستصحاب هو الحكم بالبقاء.

وعليه كيف تقول أيّها المصنّف ان جميع التعاريف يشير إلى معنى واحد.

والحال ان بعضها لا ينطبق على البناء وعلى الظن بالبقاء مثل تعريف المحقّق القمّي قدس‌سره بان الاستصحاب عبارة عن كون حكم ، أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق ولم يتعرّض الحكم بالبقاء كما رأيت رؤية واضحة ، بل يكون الاستصحاب نفس ذاك الوجه المذكور في التعريف. والحال انّه ليس نفس ذاك الوجه.

ولهذا قال المصنّف قدس‌سره : ولا بأس بموجود ، إذ ليس هذا التعريف بحدّ ولا برسم بل يكون من قبيل شرح الاسم ، أي ليس بالجنس القريب والفصل القريب كي يكون حدّا تامّا ولا بالجنس البعيد والفصل القريب ، أو بالفصل القريب وحده كي يكون حدّا ناقصا ، ولا بالجنس القريب مع الغرض الخاص حتّى يكون رسما تامّا ولا بالجنس البعيد والعرض الخاص ، أو بالعرض الخاص وحده حتى يكون رسما ناقصا بل هو تعريف لفظي جيء به لحصول الميز في الجملة ، أي لحصول الميز والامتياز عن بعض ما عداه لأن العلم بحقيقة الأشياء مختص بعلّام الغيوب كما هو الحال في التعريفات والحدود غالبا لم يكن لها دلالة على ان هذا التعريف نفس وجه المعرّف بالفتح وكنهه وحقيقته ، إذ غالبها لفظي.

وتبديل لفظ بلفظ أوضح كقولك السعدانة نبت والثناء دواء بل المقصود من هذا التعريف الإشارة إلى الشيء الذي قصد تعريفه من هذا الوجه والطريق ومن أجل كون التعريف لفظيا لا وقع للاشكال على ما ذكر في تعريف الاستصحاب بعدم الطرد وبعدم مانعية الاغيار وبعدم العكس وبعدم جامعية الافراد ، إذ لا بأس بهذا

١٥٣

الاشكال الوارد على تعريف الاستصحاب من عدم الطرد ومن عدم العكس لأنّه ليس بحد ولا برسم والحال ان الطرد والعكس مختصان بالتعريف الحقيقي الواقع في جواب (ما) الحقيقية.

واما التعريف اللفظي فهو الواقع في جواب (ما) الشارحة ولا بأس بالإشارة إلى إشكال عدم الطرد والعكس في هذا المقام فيقال :

ومن جملة تعريفه بإثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأول وهذا غير منعكس لخروج استصحاب بقاء الموضوع الذي له حكم ، وذلك كاستصحاب عدالة زيد وحياة عمرو مثلا ، إذ يترتّب على الأول جواز الائتمام وجواز التقليد ، أو وجوبه إذا كان مجتهدا وصار أعلم.

وعلى الثاني وجوب نفقة أهله من ماله إذا كان له مال مع اعسار أهله. ومن جملة تعريفه بأنّه ابقاء ما كان في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمن الأول فهذا يشمل لقاعدة اليقين أيضا ، مثلا إذا علمنا يوم الخميس بعدالة زيد يوم الاربعاء ولكن شككنا يوم الجمعة في عدالته يوم الاربعاء لاحتمال أن يكون علمنا السابق جهلا مركّبا وهذا مورد قاعدة اليقين.

فانقدح أن ذكر التعريفات ، أي تعريفات القوم للاستصحاب وما ذكر فيها من الاشكال والنقض والابرام بلا حاصل وتطويل بلا طائل بعد كون تعريفات القوم لفظيا.

وامّا قيد الغالب فلا خراج تعريف العقود والايقاعات مثلا إذا عرّفنا البيع بأنّه عبارة عن مبادلة مال بمال على التراضي من جانب البائع ومن جهة المشتري بعقد خاص فهذا حقيقة البيع ، وكذا إذا عرّفنا الطلاق بأنّه عبارة عن إزالة علقة الزوجية بصيغة خاصة مع العوض ، أو بلا عوض فهذا حقيقة الطلاق و ...

١٥٤

كون المسألة أصولية

قوله : ثم لا يخفى ان البحث في حجّيته مسألة أصولية ...

قال المصنّف قدس‌سره : انّه لا يخفى أن البحث في حجّية الاستصحاب مسألة أصولية لأنّ المقصود هو البحث عنها لتأسيس القاعدة التي تقع في طريق الاستنباط الأحكام الفرعية وهذا الأمر خاصية المسألة الأصولية ، ولا يخفى أن مفاد حجّية الاستصحاب ليس حكم العمل ، أي ليس الاستصحاب بمسألة فرعية مربوطة بعمل المكلف بلا واسطة فالمقصود عن حجّيته أنّه لا يتعلّق بعمل المكلّف بلا واسطة كي تكون مسألة فرعية ، ولكن لا ينكر كون حجّية الاستصحاب أمرا ينتهي بالاخرة بعمل المكلف بحيث يستفيد في مقام العمل من الاستصحاب فالمقصود أن الاستصحاب لا يتعلّق بعمل المكلف بلا واسطة كتعلّق الوجوب بإقامة الصلاة وكتعلّق الحرمة بشرب الخمر مثلا ، وليس الاستصحاب كذلك لأنّه يتعلّق بعمل المكلّف بواسطة اليقين السابق ، فمسألة الاستصحاب ليست بفرعية لعدم تعلّقه بالعمل بلا واسطة بل هي مسألة أصولية لانطباق قاعدتها عليها وهي وقوع نتيجتها في طريق استنباط الأحكام الفرعية الكلية وربّما لا يكون مجرى الاستصحاب إلّا حكما أصوليا كالحجّية مثلا كانت قبلا حجية العام محرزا ومسلما ثم نشك في بقائها بواسطة الأمر الذي يكون كونه مخصصا مشكوكا فنستصحب بقاء حجّيته.

ومن الواضح أن عنوان الحجّية ليس من الامور التي تتعلّق بعمل المكلف بلا واسطة كي تكون من المسائل الفرعية الفقهية فكيف يكون مفاد مسألة الاستصحاب حكم العمل بلا واسطة ، وقد لا يكون المستصحب إلّا حكما أصوليا كحجيّة هذا عدم حجية ذاك لا حكما فرعيا متعلّقا بالعمل بلا واسطة كوجوب هذا ، أو عدم وجوب ذاك.

ثم قال المصنّف قدس‌سره : انّ كون الاستصحاب من المسائل الاصولية لو كان

١٥٥

عبارة عن الحكم ببقاء ما ثبت سابقا وامّا لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته ، أو كان الاستصحاب عبارة عن الظن بالبقاء الناشئ من ملاحظة ثبوته وتحقّقه قبلا ، فلا إشكال حينئذ في كون الاستصحاب مسألة أصولية لأنّ بناء العقلاء والظن بالبقاء لا يرتبطان بعمل المكلف بلا واسطة.

توضيح : وهو بيان الفرق بين المسائل الثلاث مسألة عملية فقهية ، ومسألة أصولية ، ومسألة اعتقادية.

فيقال : قد اشتهر تعريف الحكم الفرعي بأنّه ما يتعلّق بالعمل بلا واسطة.

وتعريف الحكم الأصولي بأنّه ما يتعلّق بالأدلّة لا بالعمل.

وتعريف الحكم الاعتقادي بأنّه ما يتعلّق بالعمل بواسطة اعتبار موضوعه في صحّة العمل مثلا يتعلّق بصحّة العمل اعتقاد المبدأ والرسالة.

ومن هنا قد انقدح لك أن تقييد التعلّق بالعمل في تعريف الحكم الفرعي انّما يكون لاخراج الأحكام الأصولية فانّها تتعلّق بالأدلّة ، وأن تقييد العمل بعدم الواسطة لاخراج الاحكام الاعتقادية فانّها تتعلّق بالعمل بواسطة اعتبار موضوعها في صحّة العمل.

الامور المعتبرة في الاستصحاب

قوله : وكيف كان فقد ظهر ممّا ذكرنا في تعريفه اعتبار الأمرين ...

قال المصنّف قدس‌سره : فقد ظهر من تعريف الاستصحاب اعتبار الأمرين بل اعتبار أمور :

الأوّل : هو اليقين بثبوت شيء وهذا يستفاد من كلمة شك في بقاء الحكم في بقاء موضوع ذي حكم في الزمن اللاحق لأنّ الشك في البقاء يستلزم حدوث البقاء وحدوث البقاء يستلزم أصل البقاء وأصل البقاء يستلزم تيقن البقاء.

١٥٦

الثاني : هو الشك في البقاء وهذا مصرّح به في تعريفه.

الثالث : أن يكون الشك متعلّقا ببقاء ما تيقّن به مثلا كان زيد عادلا في الأمس ونشك في بقاء عدالته في هذا اليوم فنستصحب بقاء عدالته فيه ولا يتعلّق بأصل ما تيقّن به كما في قاعدة اليقين ، كما تيقّن عمرو بعدالة زيد في يوم الجمعة ثم شك في أصل عدالته في ذلك اليوم لزوال منشأ علمه بعدالته فهذه القاعدة قاعدة أخرى غير الاستصحاب تسمى بقاعدة اليقين وقد يطلق عليها الشك الساري وسيأتي بحثها في أخير بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

الرابع : بقاء الموضوع في الاستصحاب بمعنى أنّه يعتبر في الاستصحاب اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة موضوعا كما يعتبر اتحادهما محمولا ، من تيقّن بقيام زيد مثلا فلا يجوز له استصحاب علمه فانّه محمول آخر فكذا لا يجوز له استصحاب قيام عمرو فانّه موضوع آخر.

ويدل على اعتبار الاتحاد المذكور انّه لا يتحقّق الشك في البقاء إلّا مع اتحاد القضيتين موضوعا ومحمولا ، إذ من تقيّن بعدالة زيد إذا شك في علمه فهو ليس بشك في بقاء ما تيقّن به فكذلك إذا شك في بقاء عدالة عمرو فهو ليس بشك في بقاء ما تيقن به ، وهذا الشرط ممّا لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة كعدالة زيد مثلا ، أو اجتهاده ، أو فقره ، أو غناه ونحو ذلك في الجملة ، أي في غالبها.

اما بخلاف الزمان وبعض الزمانيات كالدم الخارج من أنف زيد مثلا فانّها وإن لم تكن مجتمعة الأجزاء بحسب الوجود الخارجي لتصرمها ، ولكن الانصاف ان وحدتها حقيقة لا تنثلم بذلك ما دامت الأجزاء متصلة لم يتخلّل العدم بينها ولأجل هذا يجوز استصحاب الليل والنهار ويجوز استصحاب جريان الماء من منبعه والدم من مجراه ، هذا مثال الزمانيات ، فملاك الاتحاد هو نظر العرف وقيل : ان المعيار في الاتحاد هو نظر العقل.

١٥٧

نعم لا يجري الاستصحاب في بعض الموضوعات الخارجية لعدم صدق بقاء الموضوع بنظر أهل العرف كما إذا كان الماء قليلا فاضيف إليه مقدار من الماء يحتمل بلوغه حد الكر فانّه لا يجري استصحاب الموضوع في هذا المقام لشك أهل العرف في بقاء الموضوع حينئذ فالتقييد بكلمة انّما يكون لاخراج ما إذا شك أهل العرف في بقاء الموضوع كالمثال المتقدّم آنفا.

تفصيل الاخباريين بين الحكم الشرعي وغيره

قوله : وامّا الأحكام الشرعية سواء كان مدركها العقل ، أم كان النقل ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان جريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية شرع في بيانه في الاحكام الشرعية.

وأمّا الاخباريون (رض) فقد فصّلوا بين الحكم الشرعي الكلّي فلا يعتبرون الاستصحاب فيه إلّا في عدم النسخ وبين غيره فيعتبرون الاستصحاب فيه.

وامّا الاصوليون (رض) فيقولون بأن جريانه فيها مشكل سواء كان مدركها العقل مثل حسن الصدق وقبح الكذب ، إذ العقل يدرك حسن الأوّل ثم يحكم به وقبح الثاني فيحكم به ، أم كان مدركها النقل كالكتاب الشريف والسنّة الشريفة ، إذ هما يكونان مدركين لأغلب الأحكام الشرعية ، لأنّ الشك في بقاء الحكم انّما يكون في زمان الشك في بقاء الموضوع بواسطة تغير الشيء الذي يحتمل أن يكون دخيلا في حدوث الموضوع ، أو بقائه وإلّا يكن كذلك فلا بد أن يكون الحكم باقيا لبقاء علّته وهي موضوعة.

ومن الواضح انّه إذا بقيت العلّة فقد بقي المعلول كما انّه إذا زالت العلّة فقد زال المعلول.

١٥٨

فالنتيجة لا يتخلّف الحكم عن موضوعه أصلا إلّا بنحو البداء الذي يستحيل في حق الباري عزّ اسمه المبارك.

وليعلم ان البداء بالمعنى الذي يستحيل في حق الباري جلّ وعلى عبارة عن ظهور الخطأ والاشتباه في حكم الحاكم وجعل الجاعل وتقنين المقنن مع بقاء الموضوع بحاله ، ولهذا يعدل عنه وجعل حكما آخر.

ومن الواضح ان هذا المعنى مستلزم لجهل الحاكم ابتداء والجهل مستحيل في حقّه (جلّ جلاله) تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وبتقرير أخصر وهو أن البداء بمعنى ظهور الشيء بعد خفائه مستحيل في حق الباري (جلّت عظمته) لاستلزامه الجهل بعواقب الحكم والجعل والتقنين.

وامّا البداء بمعنى اظهار الشيء بعد اخفائه فليس بمستحيل في حقّه (عزّ اسمه) لعدم استلزامه الجهل بل يستلزم العلم بالعواقب والنتائج ، كما لا يخفى.

ولأجل هذا يكون النسخ بحسب الحقيقة والواقع دفعا لا رفعا وإن كان بحسب الظاهر رفعا ، ولا بد هنا من بيان الأمرين :

الأوّل : هو توضيح دخل الشيء حدوثا في الموضوع ودخله فيه بقاء. أمّا دخل الشيء حدوثا فكالأعلمية في مرجع التقليد.

وعليه فإذا قلّده زيد مثلا حال كونه أعلم من غيره ثم صار غيره أعلم فالأعلمية ممّا يحتمل دخله في وجوب التقليد حدوثا كما يحتمل دخله فيه بقاء.

وأمّا دخل الشيء بقاء فكما إذا احتمل دخل عدم فسخ الصبي الذي عقد له الولي في بقاء العقد بعد بلوغه ورشده. وعليه فإذا فسخه بعد البلوغ والرشد فلا يمكن اجراء الاستصحاب ، أي استصحاب بقاء أثر العقد لاحتمال دخل عدم فسخ المعقود له ، وهو الصبي في بقاء أثر العقد وحينئذ فلا يحرز بقاء الموضوع مع الفسخ المذكور كما لا يمكن اجراء استصحاب بقاء وجوب تقليد زيد الأعلم بعد

١٥٩

صيرورة عمرو أعلم منه لزوال الموضوع. ومن الواضح أنّه إذا زال الموضوع زال الحكم قهرا.

الثاني : هو توضيح الفرق بين الدفع والرفع وهو ان الدفع عبارة عن اعدام الشيء قبل وجوده وتحقّقه ، والرفع عبارة عن اعدام الشيء بعد وجوده وتحقّقه ولهذا يقال : ان الدفع أسهل من الرفع.

وعليه يقال في النسخ : ان الحكم المجعول لم يكن شاملا لما بعد وقت النسخ واقعا ، وإن كان في الظاهر شاملا له وهذا لا يستلزم الجهل أصلا. وأمّا لو كان النسخ رفعا فالحكم المجعول كان شاملا لما بعد وقت النسخ ثم يرفع به وهذا غير ممكن في حق الباري (جلّ جلاله) فإنّه مستلزم للجهل ـ وهو محال في حقّه سبحانه وتعالى ـ والاستمرار والدوام.

وعليه فلا يقتضي جعل الحكم وتقنين القانون بل يكونا مقتضيين لهما إلى زمان التغيير والتبديل والنسخ. اما بخلاف الرفع فانّه يقتضي الدوام والاستمرار في جعل الحكم وتقنين القانون ، ولكن الجاعل عدل عنه ووضع غيره موضعه فهذا مستلزم للجهل ، إذ يبدو للجاعل الخطأ في جعله وللحاكم الاشتباه في حكمه من دون اختلاف في موضوعه أصلا.

استصحاب حكم الشرع المستند إلى حكم العقل

قوله : ويندفع هذا الإشكال بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما ...

قال المصنّف قدس‌سره : يمكن أن يندفع الإشكال الوارد في جريان الاستصحاب بالإضافة إلى الأحكام الشرعية بهذا البيان وهو أنّه سيأتي إن شاء الله تعالى ان المدار في اتحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة وفي تعددهما هو العرف لا العقل

١٦٠