البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-94105-2-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٣٣

وعلى طبيعة الحال فانقدح لك الفرق بين حكم المسألة باعتبار حالة علم المكلف وجهله بحيث يحكم في صورة الجهل بحكم وفي صورة العلم بحكم آخر.

قوله : وقد صار بعض الفحول بعد بيان إمكان كون المأتي في غير موضعه ...

وقد تصدّى كاشف الغطاء قدس‌سره تعلّق الأمر المولوي بالصلاة الواقعي وهي القصر ، والجهر ، أو الاخفات ، وبضدّها وهو التمام ، أو الجهر ، أو الاخفات على نحو الترتيب بحيث يكون الأمر بالصلاة الواقعي مطلقا وبلا شرط ، وبضدّها مقيّدا بعصيان الأمر الذي تعلّق بالصلاة الواقعي ولكن أمرها بواسطة العصيان ساقط ولو كان العصيان جهلا.

والدليل على هذا التقييد أن الأمر بضدّين في الآن الواحد ليس بصحيح ، وامّا الأمر بهما على نحو الترتّب فهو صحيح كما تقدّم هذا المطلب مشروحا في مسألة الضدّ في تصحيح فعل غير الأهم من الواجبين المضيقين إذا ترك المكلف الامتثال بالأهم كالصلاة الواجبة إذا ضاق وقتها وكالإزالة فالمكلف إذا أتى بالصلاة الواقعي فلم يتوجّه الخطاب أصلا بضدّها ، إذ شرط خطاب هذه الصلاة عصيان الأمر الذي تعلّق بالصلاة الواقعي وإذا اختار بسوء اختياره عصيان الأمر الاولي فيتحقق شرط الأمر الثاني ، وإذا خالفه أيضا فيستحق العقاب على عصيانهما معا ، إذ توجه المكلف الخطاب إلى نفسه بهما بسوء اختياره فالأمر بضدين على نحو الترتّب بحيث يكون الأمر بأحدهما مطلقا وبالآخر مقيّدا ومشروطا بعصيان الأمر الأوّل ، فعصيان الأمر الأوّل شرط الأمر الثاني على نحو الشرط المتأخّر ، هذا خلاصة الترتب في هذا المقام.

أجاب المصنّف قدس‌سره عن الترتّب بأنّه لا ينفع في رفع استحالة طلب الضدّين في آن واحد ضرورة أن خطاب القصر فعلي بحيث لا يتوقّف على شيء ، ولكن خطاب التمام بالعزم على العصيان يصير فعليا أيضا.

فالنتيجة أنّه في ظرف العزم على العصيان يجتمع الطلبان بالضدّين في آن

١٢١

واحد ، إذ لا يسقط خطاب القصر إلّا باتمام التمام.

فمتى اشتغل المكلف بقراءة التمام فالأمر بالقصر متوجّه إليه وهو فعلي ، إذ لا يتحقق عصيان أمر القصر إلّا بالفراغ عن التمام. وفي ضوء هذا فلا يتمكّن لنا صحّة المأتي به كالتمام في موضع القصر وكالجهر في موضع الاخفات ، أو بالعكس من طريق الترتّب ، إذ حقّق المصنّف قدس‌سره في مبحث الضد امتناع الأمر بضدين ولو بنحو الترتّب بما لا مزيد عليه فلا موقع لإعادته في هذا المقام لأنّه تكرار.

شروط البراءة

قوله : ثم انّه ذكر لأصل البراءة شرطان آخران أحدهما ...

قد ذكر الفاضل التوني قدس‌سره لأصل البراءة شرطان آخران غير شرط الفحص واليأس :

أحدهما : أن لا يكون اجراء أصل البراءة مستلزما لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى ، مثلا إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة في أحد الإناءين واشتبها فالتمسّك باصالة عدم وجوب الاجتناب عن أحدهما المعيّن يستلزم وجوب الاجتناب عن الاناء الآخر بعينه ، وكذا الحكم في الثوبين بحيث يكون أحدهما طاهرا والآخر نجسا واشتبه الطاهر منهما بالنجس.

وكذا ، إذ لاقى الماء المشكوك الكرية نجسا فالتمسك بأصالة عدم كرية هذا الماء يستلزم وجوب الاجتناب عنه ونجاسته ففي هذه الموارد لا تجري اصالة البراءة التي يكون شأنها نفي التكليف والحكم لا إثباته.

فإن قيل : أي شيء مانع من إجرائها فيها؟

قلنا : المانع منه معارضة لأن اصالة عدم وجوب الاجتناب عن الاناء الآخر

١٢٢

تعارض مع اصالة عدم وجوب الاجتناب عن أحد الإناءين ، وكذا في الثوبين المشتبهين حرفا بحرف وهكذا سائر الموارد.

قوله : ثانيهما أن لا يكون موجبا للضرر على آخر ...

قال الفاضل التوني رحمه‌الله : الشرط الثاني لاجراء أصل البراءة أن لا يكون إجراؤها موجبا للضرر على شخص آخر مثلا كما إذا فتح انسان قفس طائر فقد طار في الهواء ، أو حبس شاة فقد مات ولدها ، أو أمسك رجلا في مكان فقد هربت دابته فان اجراء البراءة فيها يوجب تضرّر المالك. وعلى هذا يحتمل اندراجه تحت قاعدة الاتلاف وعموم قول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» فان المراد نفي الضرر من غير جبران شرعا وإلّا فالضرر غير منفي ، فلا علم حينئذ ولا ظن بموجود بأن الواقعة المذكورة غير منصوصة فلا يتحقّق شرط التمسّك بالأصل من فقدان النص بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعي بالضار ولكن لا يعلم انّه مجرّد التعزير ، أو الضمان ، أو هما معا فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح ، هذا بحسب القواعد الفقهية.

فالنتيجة انّه لا تجري البراءة في الموارد المذكورة وذلك لأمرين :

أحدهما : أنّها ممّا توجب الضرر على المالك ، أي مالك الطير ومالك الشاة ومالك الدابة ، وحينئذ يحتمل اندراج المورد تحت قاعدتي الاتلاف والضرر والضرار فتكون هذه الموارد ممّا فيه النص لا ممّا لا نصّ فيه كي تجري فيه البراءة عقلا ونقلا.

ثانيهما : أنّه يعلم إجمالا بتعلّق حكم بالضار الفاتح الحابس الممسك ، امّا التعزير ، واما الضمان ، واما هما معا. ومن الواضح انّه مع هذا العلم الاجمالي لا تجري البراءة لا عقلا ولا شرعا ، فيجب عليه تحصيل العلم ببراءة الذمة ولو بالصلح كما لا يخفى.

١٢٣

ففي المقام يجب الاحتياط ، إذ يجب الاحتياط في موارد :

أحدها : في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي.

ثانيها : في الشبهة البدوية قبل الفحص واليأس.

وثالثها : في الشبهة البدوية بعد الفحص واليأس إذا كان المورد محلّا لاهتمام الشارع المقدّس بحيث لا يرضى بترك الاحتياط فيه وذلك كالدماء والفروج والأموال الخطيرة.

ورابعها : في مورد دوران الأمر بين العام والخاص مثلا أمرنا المولى بإتيان الدابة فنحتاط بإتيان الإنسان لا الحيوان لتحقّق العام في ضمن الخاص ولا يتحقّق الخاص في ضمن العام لانطباقه في ضمن الخاص الآخر كالفرس مثلا.

خامسها : في دوران الأمر بين التخيير والتعيين ، مثلا يعلم إجمالا امّا صلاة الظهر واجبة في يوم الجمعة ، وامّا صلاة الجمعة واجبة على التخيير ، وامّا صلاة الجمعة واجبة على التعيين.

قوله : ولا يخفى أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص ...

قال المصنّف قدس‌سره : ان البراءة العقلية والنقلية تجريان في الشبهات البدوية بعد الفحص واليأس.

ومن الواضح أن مفاد البراءة العقلية عدم استحقاق العقاب كما أن مفاد البراءة النقلية إباحة الشيء ورفع التكليف ، يعني فإذا جرت البراءة العقلية والنقلية وثبت بعد جريانها مضمونها أعني عدم استحقاق العقوبة ورفع التكليف وكان مضمونهما ملزوما لحكم شرعي ، أو ملازما له ، ولا بدّ حينئذ من العلم بذلك الحكم الشرعي لأنّ العلم بالملزوم يوجب العلم باللازم ، وكذا العلم بالملازم يوجب العلم بملازمه ، مثلا إذا علمنا بطلوع الشمس فقد علمنا بوجود النهار ، وكذا إذا علمنا بوجود النهار فقد علمنا بضياء العالم.

١٢٤

وعليه فإن كان مقصود المشترط انّها لا تجري أصلا بعد الفحص واليأس في مثل هذا المقام ، أي إذا كان اجراء اصالة البراءة موجبا لثبوت حكم شرعي فذاك خلاف أدلّتها ، وان كان مقصوده أنّها تجري لكن لا يترتّب الحكم اللّازم ، أو الملازم فذاك خلاف الدليل الدال على اللزوم ، أو الملازمة فعدم استحقاق العقاب إن كان موضوعا لحكم شرعي وكذا الاباحة إذا كان موضوعا له كما إذا دخل وقت الظهرين مثلا ، ولكن شك المكلف في اشتغال ذمّته بواجب فوري وذلك كالدين المعجل فانّه تجري البراءة هنا لكون الشك في أصل التكليف وهو مجرى البراءة وبواسطة جريانها يثبت وجوب الصلاة فعلا وهو ملازم لنفي الدين ظاهرا ، وكذا أثبتنا بالأصل الشرعي حلية شرب التبغ وكذا يدل الدليل الشرعي على جواز بيع كل ما كان حلالا.

فالنتيجة : ان رفع التكليف ظاهرا الثابت بالبراءة لو كان ملازما لحكم شرعي فلا محيص عن ترتّب ذلك الحكم الشرعي ، فإذا دخل على المكلف الوقت وشك في دين حال بحيث يجب اداءه الآن على نحو يسقط به تنجّز الأمر بالصلاة فعلا لفورية الدين وسعة وقت الصلاة تجري البراءة ويثبت بها الحكم الشرعي الملازم للنفي الظاهري فإنّ مجرّد انتفاء الدين وإن كان ظاهرا بحسب الأصل وبوسيلته يكفي في وجوب الصلاة فعلا بعد دخول وقتها. نعم لا يثبت بها الحكم الشرعي الملازم للنفي الواقعي ، وذلك لابتنائه على القول بالأصل المثبت ولا نقول به كما سيأتي هذا إن شاء الله تعالى في محلّه.

قوله : فان لم يكن مترتّبا عليه بل على نفي التكليف واقعا ...

أي فان لم يكن الحكم الشرعي مترتّبا على رفع التكليف ظاهرا الثابت بالبراءة بل كان مترتّبا ، أو ملازما لنفي التكليف واقعا كما في مثال الإناءين المشتبهين ، إذ وجوب الاجتناب عن الآخر ملازم لنفي وجوب الاجتناب عن

١٢٥

أحدهما واقعا لا ظاهرا بالبراءة ونحوها كما لا يخفى.

قوله : وهذا ليس بالاشتراط ...

أي عدم ترتّب ذاك الحكم لعدم ثبوت ما يترتّب عليه بالبراءة ليس بشرط للبراءة فعدم ترتّب حكم شرعي على نفي التكليف بالبراءة انّما هو لأجل انتفاء موضوع ذلك الحكم ، إذ موضوعه بالفرض عدم الحكم واقعا وهذا لا يثبت بالبراءة لأنّ الثابت بها نفي الحكم ظاهرا ـ كما مرّ هذا في بحث البراءة ـ وذلك كعدم ترتّب وجوب الحج على نفي وجوب اداء الدين بأصل البراءة وذلك انّما هو لعدم موضوعه أعني عدم الدين واقعا لا لأجل اشتراط جريان البراءة بعدم ترتّب حكم شرعي عليه.

وفي ضوء هذا فالمراد بالموصول هو الموضوع والمراد من الضمير المستتر في جملة يترتّب هو الحكم والضمير في عليه عائد الموصول والضمير في بها راجع إلى البراءة ، أي عدم ترتّب الحكم إنّما يكون لعدم ثبوت الموضوع الذي يترتّب الحكم على هذا الموضوع.

فالنتيجة ان حكم الشرعي إذا كان لازما لجريان البراءة ، أو ملازما له فلا محيص عن ترتّبه على جريان البراءة ، إذ الحكم يترتّب على موضوعه بعد احرازه وفي ضوء هذا فالشرط فاسد.

قوله : واما اعتبار ان لا يكون موجبا للضرر فكل مقام تعمه ...

ولا ريب في أن المورد إذا كان ممّا تجري فيه قاعدة الضرر فلا مجال حينئذ لجريان البراءة في هذا المورد لكون هذه القاعدة دليلا اجتهاديا والبراءة أصلا عمليا.

ومن الواضح انّه لا مجال للأصل العملي مع الدليل الاجتهادي لوروده عليه كما سيأتي هذا في بحث التعادل والتراجح إن شاء الله تعالى.

١٢٦

وإذا كان ممّا لا تجري فيه قاعدة الضرر فلا مانع حينئذ من جريان البراءة فيه فالكبرى مسلّمة وانّما الكلام في احراز الصغرى ، ولكن مجرّد احتمال صغروية المورد لهذه القاعدة لا يمنع عن جريان البراءة فيه مع الفحص واليأس عن الدليل على حكم الضرر ، فكل مقام تشمله قاعدة نفي الضرر فلم يكن مجال في هذا المقام لاصالة البراءة لأنّ الدليل الاجتهادي رافع لموضوعها ، كما ان عدم المجال حال البراءة مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية وهي عبارة عن قاعدة : من أتلف مال الغير فهو له ضامن ، وقاعدة : على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه ، ونحو : كل امرئ بما كسبت رهينة ونحوها.

فالنتيجة مع وجود الدليل الاجتهادي سواء كان قاعدة الضرر والضرار ، أم كان غيرها لا مجال للبراءة أصلا ، وذلك لعدم المقتضى لها حينئذ فعدم جريانها مع وجود الدليل الاجتهادي انّما هو لعدم المقتضى لها لا لعدم شرطها ضرورة أن الشرط متأخّر رتبة عن المقتضى فلا يطلق الشرط إلّا مع احراز المقتضى أوّلا فجريان البراءة موقوف بعدم الدليل الاجتهادي سواء كان دليل نفي الضرر ، أم كان غيره ، وهذا لا يختص بالبراءة بل كل أصل عملي يتوقّف جريانه على فقد الدليل الاجتهادي في مورده.

قوله : فإن كان المراد من الاشتراط ذلك ...

فإن كان مراد الفاضل التوني قدس‌سره من الاشتراط الثاني عدم بقاء مورد للأصل مع تحقّق قاعدة نفي الضرر فلا بد من اشتراط عدم مطلق دليل اجتهادي على خلاف أصالة البراءة لا خصوص قاعدة نفي الضرر والضرار ، إذ الوجه في عدم جريانها مع تحقّق قاعدة نفي الضرر والضرار هو كونها رافعة لموضوع البراءة.

ولا ريب في أن هذا الوجه جار في جميع الأدلّة الاجتهادية لا خصوص قاعدة الضرر لعدم الفرق بينها وبين سائر الأدلّة الاجتهادية والقواعد الاجتهادية في

١٢٧

رفع الشك الذي هو موضوع البراءة فتدبّر والحمد لله على كل حال والشكر له على كل نعمة «وهو تدقيقي» لظهور كلمة فتدبّر في التدقيق مثل كلمة فافهم أما بخلاف كلمة فتأمّل فانّها ظاهرة في التمريض وهذا لو خلى وطبعه ، وأمّا إذا كانت قرينة دالّة على العكس فمفادها متبع بلا إشكال.

قاعدة نفي الضرر

قوله : ثم انّه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار ...

قال المصنّف قدس‌سره : إذا انتهى الكلام بذكر الضرر والضرار فلا بأس بذكر قاعدة الضرر والضرار على نحو الايجاز وتوضيح مدركها وشرح مفادها وايضاح نسبتها ومعارضتها مع الأدلّة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّلية كثبوت الوجوب للصلاة بما هي صلاة والصوم بما هو صوم مثلا والحرمة للقتل بما هو قتل مثلا ، أو مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الثانوية مثل ثبوت الوجوب للصلاة في حال المرض ، أو الخوف وكأدلّة نفي العسر والحرج كثبوت الحرمة للغنم في حال كونه موطوء الإنسان وكيفية تقديم هذه القاعدة على الأدلّة ولكن شرح المطالب المذكورة خارج عن مقاصد الرسالة والكتاب لكون قاعدة الضرر والضرار من القواعد الفقهية فمحل بحثها هو الفقه الشريف ونتعرّض لهذه المطالب إجابة لالتماس بعض الأحبّة.

ثم انّه قد استدل على هذه القاعدة بأخبار كثيرة وشرع المصنّف قدس‌سره في بيان مدركها وهو روايات كثيرة منها ما هو أشهرها قصّة وأصحّها سندا وأكثرها طرقا ، ما رواه في الوسائل في احياء الموات في باب عدم جواز الاضرار بالمسلم عن عدّة من أصحابنا مسندا عن عبد الله بن بكير عن زرارة بن أعين قدس‌سره عن أبي جعفر

١٢٨

الباقر عليه‌السلام ان سمرة بن جندب ـ وهو رجل بخيل ، بل من المنافقين ـ كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة فلمّا يأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا إليه وخبّره الخبر فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخبره بقول الأنصاري وما شكا وقال : إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى ، فلما أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى أن يبيع ، فقال : لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة فأبى أن يقبل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانّه لا ضرر ولا ضرار (١).

وفي رواية الحذاء عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام مثل ذلك إلّا أنّه فيها بعد الإباء ما أراك يا سمرة إلّا مضارا اذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه. إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصّة سمرة بن جندب وهي كثيرة كرواية عبد الله بن مسكان عن زرارة بن أعين رحمه‌الله عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وكرواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام وقد ادعى تواترها مع اختلافها لفظا وموردا.

امّا اختلافها لفظا فلأنّ في بعضها كلمة في الاسلام موجودة وفي بعضها كلمة على مؤمن موجودة وفي بعضها ليست هذه موجودة ولا تلك موجودة.

وأمّا اختلافها موردا فان مورد بعض نصوص الباب قصة سمرة بن جندب ومورد بعضها الآخر هو حق الشفعة لأحد الشريكين في غير المنقول ومورد بعضها الآخر منع فضل الماء والكلاء على كراهة عن البيع ، إذ قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل المدينة في مشاوب النخل أنّه لا يمنع نفع شيء ، وقضى بين أهل البادية أنّه

__________________

١ ـ الوسائل ج ١٧ كتاب احياء الموات الباب ١٢ ح ٣ ص ٣٤٠.

١٢٩

لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ضرر ولا ضرار.

فإن قيل : ان التواتر اما لفظي واما معنوي ، فالأوّل : عبارة عن حصول التواتر بألفاظ المخصوصة ، أو بلفظ خاص كحديث الغدير وكحديث انّما الأعمال بالنيّات مثلا ، وهذا غير حاصل في قضية نفي الضرر لوضوح عدم تحقّق التواتر على كلمة لا ضرر ولا ضرار.

والثاني : عبارة عن شمول كل واحد من الأخبار على قدر مشترك بينها تضمنا أو التزاما فيحصل العلم بذلك القدر المشترك ويسمّى القدر المشترك بالتواتر المعنوي. أما مثال التضمن فكما إذا أخبر رجل بأن زيدا ضرب عمروا وأخبر بكر بأن زيدا ضرب خالدا وأخبر فرعون بأن زيدا ضرب شدادا وهكذا فيحصل العلم من مجموع هذه الأخبار بأن زيدا رجل ضارب ، إذ كل واحد منها متضمّن للضرب. وأمّا مثال الالتزام فكما إذا أخبر أبو ذر الغفاري رضى الله عنه بأن أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام قتل في غزوة الخندق عمرو بن عبد ود (لع) وأخبر سلمان الفارسي رضى الله عنه بأن أمير المؤمنين علي عليه وعلى أولاده المعصومين السلام قتل في غزوة خيبر مرحب الخيبري والحارث الخيبري ، وأخبر المقداد بن الأسود الكندي رضى الله عنه أن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قتل في غزوة أحد كذا وكذا فيحصل لنا العلم من مجموعها بأن أمير المؤمنين عليه‌السلام رجل شجاع ، إذ كل واحد منها يدل بالالتزام على شجاعته ، إذ لازم القتل شجاعة القاتل.

قلنا : ان المراد من التواتر هنا إجمالي بمعنى القطع بصدور بعضها عن الإمام المعصوم عليه‌السلام وهو يحصل بالقطع بصدور بعض الروايات عن المعصوم عليه‌السلام وان لم يحصل لنا القطع بصدور جميعها عنه فملاك الفرق بين التواتر اللفظي والتواتر المعنوي والتواتر الاجمالي بعد اشتراك كل واحد منها في كثرة الرواة بحيث يمتنع

١٣٠

عادة اتفاقهم على الكذب وبحيث يستحيل عادة تواطئهم على الاشتباه وبعد اشتراك ورود كل واحد منها في قضايا متعدّدة غير مرتبط بعضها مع بعض انّه في الأوّل يشترط الاتفاق في اللفظ ، وفي الثاني الاتفاق في المعنى التضمّني ، أو الالتزامي ، وفي الثالث ليس الاتفاق في اللفظ ولا في المعنى ، كما إذا وردت رواية في وجوب سجدة السهو في صورة القيام في غير محلّه مثلا ، ورواية في وجوب القصر على المسافر ورواية في وجوب التمام على العاصي بسفره فانّا نعلم إجمالا بصدور بعضها ، وكذا فيما نحن فيه ، إذ نعلم إجمالا بصدور رواية من روايات نفي الضرر والضرار.

قال المصنّف قدس‌سره : والانصاف أنّه ليس في دعوى تواتر أخبار الباب إجمالا جزاف ـ وكلمة الجزاف مثلثة الجيم بمعنى التكلّم من غير قانون وبدون تبصّر ـ

على ثبوت التواتر الاجمالي مع استناد المشهور من الفقهاء (رض) إلى تلك الروايات في مقام الافتاء والفتوى في موارد الضرار والضرر وهذا الأمر يوجب لكمال الوثوق بها ولانجبار ضعفها من حيث السند ، إذ أكثرها نبوي عامّي ، ولكن عمل المشهور على طبقها موجب لضعفها سندا. هذا ، أي خذ ذا مع أن بعضها موثق وذلك كخبر زرارة بن أعين قدس‌سره وموثقته عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وقد تقدّم.

وفي ضوء هذا فلا مجال حينئذ للإشكال في تلك الروايات من جهة سندها كما لا يخفى.

بيان مفاد القاعدة

قوله : وأمّا دلالتها فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن الجهة الاولى شرع في الجهة الثانية من الجهات الثلاث.

١٣١

قال صاحب النهاية والقاموس : ان الضرر هو ما يقابل النفع ، كما قال صاحب الصحاح والمصباح : ان الضرر اسم مصدر كالغسل بالضم مثلا والمصدر هو الضر مثل ضرّ يضرّ ضرّا كمدّ يمدّ مدّا.

وعليه فالضر فعل الضار ، والضرر نتيجته كالتوضؤ وهو فعل المتوضئ والوضوء نتيجته ، أي نتيجة التوضؤ وكذا الغسل بالضم والغسل بالفتح ، والضرر عبارة عن النقص الوارد في النفس ، أو الطرف كاليد والرجل والاذن مثلا ، أو في العرض ، أو المال. فالتقابل بين النفع والضرر هو تقابل العدم والملكة كالتقابل بين العمى والبصر والفقر والغنى مثلا لأن الضرر لا يطلق إلّا على محل قابل للوجودي وهو النفع كما لا يطلق العمى إلّا على محل قابل للبصر ولا يطلق الفقر إلّا على محل قابل للغناء فالضرر لا يطلق إلّا على محل قابل للنفع.

قوله : كما أن الأظهر أن يكون الضرار بمعنى الضرر ...

قال بعض اللغويين : ان الضرار فعل الاثنين والضرر فعل واحد ، وقال بعضهم الآخر : ان الضرار هو الجزاء على الضرر ، وقال أكثرهم : أن الضرار والضرر بمعنى واحد ، واختاره المصنّف قدس‌سره. وقال بعض الثالث : ان الضرر ما تضر صاحبك وتنتفع به وأن الضرار ما تضر صاحبك ولا تنتفع به.

ولكن الأظهر أن يكون الضرار بمعنى الضرر جيء به تأكيدا من باب التأكيد اللفظي مثل جاءني زيد زيد مثلا ويشهد بهذا المطلب اطلاق عنوان المضار على سمرة بن جندب كما في رواية الحذاء ، وقد سبق ، وكذا في رواية ابن مسكان.

ومن الواضح أن الضرر كان من ناحية سمرة فقط لا الأنصاري كما صرّح صاحب الصحاح أن ضرّه وضارّه بمعنى واحد كما يشهد به أيضا حكاية اتحادهما معنى عن كتاب النهاية لابن أثير لا أن يكون الضرار فعل الاثنين ، وإن كان فعل الاثنين هو الأصل في باب المفاعلة والظاهر في بابها كضارب زيد عمرا وقاتل بكر

١٣٢

خالدا ، وكذا يكون فعل الاثنين ظاهرا في باب التفاعل نحو تضارب زيد عمرو ونحو تقاتل بكر خالد. وامّا الفرق بين البابين فانّه في الأوّل يكون الاسم الأول مرفوعا والثاني منصوبا ، وفي الثاني يكون الاسم الأوّل والثاني مرفوعين ، وان البادي في الفعل في الأول يكون الاسم المرفوع ، وان البادي في الفعل في الثاني ليس بمعلوم لنا بل نحتمل أن يكون الاسم الاول ، أو الثاني.

وفي ضوء هذا فالفرق بينهما من جهة اللفظ ، إذ الاسمان معا مرفوعان في الثاني امّا بخلاف الأوّل فان الأوّل فقط مرفوع.

والانصاف ان فعل الاثنين يكون في باب المفاعلة غالبي لا كلّي مثل : سافر زيد في طهران ومثل سافرت الدهر وعاقبت اللص.

ومن الواضح ان المسافرة ليس من الطرفين وكذا المعاقبة حرفا بحرف ، وكذا لا شبهة في ان الضرار يكون مصدر باب المفاعلة كالقتال فانّه يقال ضارّ يضارّ مضارّة ضرارا وضيرارا كما يقال : قاتل يقاتل مقاتلة وقتالا وقيتالا ، ولكن لا يكون فعل الاثنين كليا في باب المفاعلة بل هو غالبي فيه.

وليس معنى الضرار لغة الجزاء على الضرر لعدم تعاهد هذا المعنى من باب المفاعلة أصلا لأنّ هذا المعنى متفرّع على تحقّق الاثنين على نحو الكلّي في باب المفاعلة.

ومن الواضح انّه إذا لم يتحقّق المتفرّع عليه لم يتحقّق المتفرع. خلاصة الكلام : أنّه لم يثبت للضرار معنى آخر غير الضرر.

قوله : كما أنّ الظاهر أن يكون لا لنفي الحقيقة كما هو الأصل في هذا ...

لا ريب في أن الأصل في كلمة (لا) أن تكون لنفي جنس مدخولها نحو : لا رجل في الدار ، أي ليس جنس الرجل في الدار ، ولكن حيث تعذّر حملها على نفي الجنس والحقيقة فيما نحن فيه لوجود الضرر والضرار كثيرا في العالم فلا بد

١٣٣

حينئذ من التصرّف فيها بحملها على ما هو أقرب إلى نفي الجنس من المعاني المجازية بمقتضى القاعدة المشهورة ، وهي إذا تعذّرت الحقيقة وتعدّدت المجازات فأقرب المجازات أولى بالإرادة فيدور الأمر بدوا بين معان :

الأوّل : نفي الحقيقة ادعاء بلحاظ نفي الخواص والآثار كما هي كذلك في مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد».

الثاني : نفي نوع من الحقيقة حقيقة وهو خصوص الضرر الآتي من قبل الحكم الشرعي فانّه ممّا يمكن نفيه حقيقة بنفي سببه ، وهو الحكم.

الثالث : نفي نوع منها حقيقة وهو عبارة عن الضرر غير المتدارك فيستكشف منه أن كل ضرر متدارك بجعل الشارع المقدّس للضمان ، أو للخيار ، أو غيرها.

الرابع : جعل مدخلوها هو الحكم على نحو المجاز في الحذف ، أو في الكلمة باستعمال لفظ الضرر في الحكم المؤدى إليه بعلاقة السببية.

الخامس : جعلها ناهية بأن يكون المقصود من نفي الضرر في الخارج هو الزجر عنه واحداث الداعي إلى عدمه في الخارج نظير قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وإذا علم معنى الضرر والضرار فليعلم أن المراد من هذا التركيب هل هو نفي الحكم الضرري يعني أن الشارع المقدّس لم يجعل الحكم الضرري في الشريعة المقدّسة ، أو يكون المراد نفي الضرر غير المتدارك. يعني ان الشارع المقدّس لم يجعل الضرر غير المتدارك في الشريعة المقدّسة ، وكل واحد منهما يحتمل في هذا المقام ، إذ إرادة المعنى الحقيقي من هذا التركيب غير ممكن لاستلزامه الكذب والخلاف للواقع فلهذا لا بد أن يكون المراد منه أحد هذين المعنيين ، أو يكون المراد منه نهيا عن الضرر والزجر عنه.

وأمّا المصنّف قدس‌سره فقد قال : ان الظاهر منه نفي الضرر في الإسلام ادعاء على نحو الكناية عن نفي الآثار والخواص نظير : لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد ،

١٣٤

ونظير : يا أشباه الرجال ولا رجال فيكم ، أي ليس قرب على نحو الأكمل والزلفى التامّة والقربانية الكاملة والمعراجية التامّة لصلاة جار المسجد إذا لم تفعل في المسجد بل تفعل في المنزل مثلا ، وكذا ليس أوصاف الرجال وخواصهم في جماعة أهل الكوفة الحاضرين في الكرب والبلاء لقتال ابن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روحي له الفداء وجسمي له الوقاء.

فهذان الكلامان كنايتان عن نفي جميع الآثار والخواص ، فكذا ما نحن فيه كناية عن نفي جميع الآثار والخواص ، يعني رفع آثار الأفعال كانت لها على تقدير عدم كونها ضررية إذا صارت ضررية ، وهذا المعنى أقرب إلى المعنى الحقيقي وأبلغ في مقام البلاغة لأنّ الشيء إذا لم يكن له آثار وخواص فهو في حكم المعدوم كأنّه ليس بشيء.

وليس المراد نفي الحكم على تقدير المضاف ، أي لا حكم ضرري في الإسلام ، وليس المراد نفي الضرر غير المتدارك على تقدير الصفة ، أي لا ضرر غير المتدارك في الإسلام.

أما الأوّل ـ أي حذف المضاف ـ فهو بعيد عن طريقة البلاغة لأنّه بعيد نفي الضرر ظاهرا وفي الحقيقة يكون المراد نفي سبب من أسباب الضرر ، وهو حكم الشارع المقدّس ، إذ أسباب الضرر كثيرة.

وامّا الثاني ـ أي حذف الصفة ـ فلا تكون القرينة عليه موجودة ومجرّد تعذّر معنى الحقيقي ليس بمعيّن لهذا ، وعليه فالأظهر أن تكون لا النافية لنفي الحقيقة ادعاء ومبالغة ، إذ الغرض نفي آثار شرعي الضرر ، ولكن إرادة التحريم من النفي على أن تكون اللا في كلمة لا ضرر ولا ضرار ناهية لا نافية وإن كان هذا ممكنا غير معهود في كلام العرب بلا قرينة ، وهي مفقودة هذا مضافا إلى أن لا الناهية لا تدخل إلّا على الفعل المضارع.

١٣٥

فالنتيجة أن نفي الحقيقة ادعاء بلحاظ نفي الحكم حقيقة كما هو مختار المصنّف قدس‌سره ، أو بلحاظ نفي الصفة كما هو مختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في التقدير ، أو في الكلمة.

والمصنّف قدس‌سره قد استدل لترجيح إرادة نفي الحقيقة ادعاء بلحاظ نفي الحكم ، كما في لا ضرر ولا ضرار ، أو بلحاظ نفي الصفة كما في نحو : لا صلاة لجار المسجد إلّا في لمسجد ، على إرادة نفي الحكم ، أو الصفة ابتداء بوجهين :

الأوّل : ان قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء على نحو الكناية لا نفي الحكم ولا نفي الصفة وإلّا لما دلّ هذا التركيب نحو : لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، ولا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد وأمثالهما على المبالغة كناية عن نفي الآثار والخواص ، كما قد سبق هذا المطلب في بحث الصحيح والأعم.

وفي ضوء هذا فلا يتوهّم في المقام أنّه كما يمكن إرادة نفي الحقيقة ادعاء كناية عن نفي الآثار والخواص فكذلك يمكن نفي الحكم ابتداء ، أو نفي الصفة من الصحّة ، أو الكمال كما في نحو : لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، أي لا صلاة صحيحة إلّا بالفاتحة ، وفي نحو : لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد ، أي لا صلاة كاملة لجار المسجد إلّا في المسجد.

فأجاب المصنّف عن هذا التوهّم بقوله : فإنّ قضية البلاغة في الكلام إلى الأخير.

الثاني : لزوم التجوز ، اما في التقدير ، كما إذا قدرنا لفظ الحكم ، أي لا حكم ضرري. واما في الكلمة بأن يراد من لفظ الضرر الحكم الضرري ، ومن لفظ الصلاة الصلاة الكاملة فالتجوّز خلاف الأصل فيقال حينئذ بإرادة نفي الحقيقة ادعاء كناية عن نفي الآثار والخواص على سبيل المبالغة.

فإن قيل : الكناية عبارة عن ذكر الملزوم وإرادة اللازم مع جواز إرادة الملزوم أيضا مثل : زيد كثير الرماد ، فذكر الملزم وهو كثرة الرماد واريد لازمها وهو جود زيد

١٣٦

وفي المقام ، أي شيء يكون ملزوما وأي شيء يكون لازما حتى تصح الكناية؟

قلنا : ان الملزوم في قاعدة نفي الضرر والضرار هو نفي الحقيقة ويكون لازمه نفي الآثار والخواص ، أي لا آثار للضرر في الإسلام ، مثلا إذا كان الصوم ضرريا فليس له آثار وخواص من الوجوب والرجحان والثواب و ...

قوله : وقد انقدح بذلك بعد إرادة نفي الحكم الضرري ، أو الضرر غير المتدارك ...

ولا يخفى أن الوجوه الثلاثة موجودة في قاعدة لا ضرر ولا ضرار :

الأوّل : أن تكون لنفي الحكم الضرري ، بمعنى نفي الحكم الشرعي الذي يلزم منه ضرر على العباد تكليفيا كان ، أو وضعيا كوجوب الصوم مع المرض وكلزوم البيع مع الغبن ونحو ذلك.

الثاني : أن تكون لنفي الضرر المجرّد عن التدارك ، أي لا ضرر لم يحكم الشارع المقدّس بلزوم تداركه وجبرانه.

الثالث : أن يكون النفي فيها للنهي ، كما في قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ لا يَمَسُّهُ إِلَّا (١) الْمُطَهَّرُونَ).

ثم ان الوجه الأوّل يقع على نحوين :

فتارة : ينفي حقيقة الضرر والضرار وماهيته ادعاء كناية عن نفي الآثار والحكم الضرري.

واخرى : ينفي نفس الحكم الضرري ابتداء مجازا امّا في التقدير ، أو في الكلمة على التفصيل المتقدّم آنفا.

وقد استدل المصنّف قدس‌سره على فساد الوجه الأوّل : بأنّ نفي الحكم الضرري ابتداء مجازا ، اما في التقدير ، واما في الكلمة وعلى بطلان الوجه الثاني بقوله : أو خصوص إرادة غير المتدارك من الضرر بأنّه قبيح غير متعارف. وعلى بطلان الوجه الثالث بأنّه غير متعارف بعيد عن البلاغة.

١٣٧

قوله : ومثله لو اريد ذاك بنحو التقييد ...

ومثل استعمال الضرر وإرادة خصوص الضرر غير المتدارك في البشاعة والقباحة لو اريد ذلك بنحو التقييد وبنحو تعدّد الدال والمدلول ، كما في نحو : اعتق رقبة مؤمنة ، فالمقيّد هو الرقبة قد اريد من لفظها والقيد هو الايمان من لفظ آخر وهو لفظ المؤمنة. فهذا وإن لم يكن ببعيد ولكنّه بلا دلالة وقرينة على القيد غير سديد ، إذ لا قرينة في خبر النبوي تدل على تقييد الضرر بغير المتدارك كما لا يخفى.

قوله : وإرادة النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز إلّا انّه لم يعهد ...

ولا يخفى أن إرادة النهي من النفي الداخل على الفعل ليس بعزيز كما في قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) وكما في قوله عليه‌السلام : «لا يغتسل ولا يعيد» ولكنّها لم تعهد في مثل هذا التركيب ممّا كان المدخول عليه هو اسم المصدر والمصدر ذلك كالضرر والضرار ، إذ الأوّل اسم المصدر ، والثاني مصدر باب المفاعلة كالقتال مثلا ، فإرادة النهي من النفي معهود إذا كان المدخول عليه فعلا مضارعا ، وامّا إذا كان المدخول عليه اسما فهو غير معهود في كلام العرب والفصحاء والبلاغاء وعدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة من مثل لا ضرر ولا ضرار في الاسلام لا يكون قرينة على إرادة واحد من الامور الثلاثة المتقدّمة بعد إمكان حمل النفي على نفي الحقيقة ادعاء ، بل كان حمله على نفيها ادعاء هو الغالب في موارد الاستعمالات استعمالات هذا النفي كما لا يخفى على أهل التتبّع والاستقراء.

فالنتيجة ان لحمل النفي على نفي الحقيقة ادعاء قرينتين :

إحداهما : أقربيته إلى البلاغة من سائر المعاني المجازية المذكورة آنفا.

ثانيتهما : غلبة إرادة نفي الحقيقة ادعاء كناية عن نفي الآثار والخواص بحسب موارد الاستعمالات فهاتان موجبتان لتعين إرادة نفي الحقيقة ادعاء.

قوله : ثم الحكم الذي اريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت

١٣٨

ولا ريب في أنّ الحكم الذي تنفيه قاعدة نفي الضرر والضرار هو الحكم الثابت للفعل بعنوانه الأولي قبل عروض عنوان الضرر عليه ، ولا تنفى الحكم المترتّب على نفس عنوان الضرر بما هو ضرر.

وعليه فالوضوء ، أو الغسل قبل طرو عنوان الضرر عليهما قد تعلّق بهما حكم شرعي وهو الوجوب الغيري ، أو الندب النفسي ، وكل واحد منهما ثابت لهما في الشريعة المقدّسة. أمّا إذا طرأ عليهما عنوان الضرر فيرتفع به هذا الحكم الشرعي ولا يمكن أن يرتفع به الحكم الشرعي المترتّب على نفس عنوان الضرر كما إذا ضرّ زيد بعمرو مثلا فعليه كذا وكذا ، فإنّ الموضوع ، وهو الضرر والاضرار إذا تحقّق فلا يمكن رفع حكمه بل يقتضيه على نحو اقتضاء العلّة لمعلولها لأنّ الموضوع علّة للحكم وهو معلولها ، كما ان عنوان الضرر علّة لنفي الحكم وهو معلولها.

قوله : أو المتوهّم ثبوته لها كذلك ...

فالضرر في مثل الوضوء والغسل والصوم ممّا يرتفع به الوجوب الثابت لكل واحد منها بعنوانها الأولي لأنّ الوضوء بما هو وضوء واجب والغسل بما هو غسل واجب في الشريعة المقدّسة وكذا الصوم. أمّا في مثل الدعاء عند رؤية الهلال ونحوه ممّا هو شبهة بدوية للوجوب كالإقامة مثلا يرتفع بعروض عنوان الضرر عليه الوجوب المتوهّم ثبوته للدعاء عند الرؤية وللإقامة بعنوانهما الأوّلي.

بيان نسبة القاعدة مع أدلّة الأحكام الأولية ، أو الثانوية

قوله : ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلّة نفيه وأدلّة الاحكام ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان الجهة الاولى وهي بيان سندها والجهة الثانية وهي بيان دلالتها شرع في بيان الجهة الثالثة وهي توضيح نسبة القاعدة مع الأدلة الأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأوّلية كأدلّة وجوب الصلاة والصيام

١٣٩

ونحوهما ، الثانوية كأدلّة نفي العسر والحرج مثلا.

أمّا بيان نسبتها مع الأدلّة الأحكام المتكفّلة للأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الثانوية فسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى. وشأن العامين من وجه الرجوع في مورد المعارضة لهما إلى قواعد التعارض ، أو الأصل العملي.

وأمّا مع الأولية فخلاصتها : أن وجه تقديم دليل نفي الضرر على أدلّة الأحكام الأولية مع ان النسبة بينهما من النسب الأربع عموم من وجه ومادة الافتراق عن جانب الضرر إذا كان الضرر في غير الصوم ومادة الافتراق عن جانب الصوم إذا كان الصوم موجودا بلا ضرر ، وكذا في الوضوء والغسل حرفا بحرف حيث أنّه يوفق بينهما عرفا بحمل احدهما على الاقتضائي والآخر على العلية التامّة والتوفيق العرفي ليس إلّا فيما كان الدليلان على نحو بحيث لو عرضا على أهل العرف لوفّق بينهما بحمل أحدهما على الاقتضائي والآخر على العلية التامة.

واما إذا عرض الضرر على العناوين الأوّلية فهو رافع لفعلية ذلك الحكم الثابت للعنوان الأوّلي كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلّة المثبتة ، أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية والأدلّة المتكفّلة لحكمها بعناوينها الاولية فيوفق بينهما بحمل العناوين الأولية على الاقتضائية والثانوية على العلية التامة.

ثم انّ الأدلة المثبتة لحكم الأفعال بالعناوين الثانوية هي مثل أدلّة وجوب الوفاء بالشرط ، أو النذر ، أو العهد ، أو اليمين ، أو أدلّة وجوب إطاعة الوالدين ، أو الزوج ، أو المولى ونحو ذلك.

وأمّا الأدلّة النافية للأحكام بالعناوين الثانوية فهي مثل أدلّة نفي الحرج والضرر ، أو دليل رفع الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما استكرهوا عليه ونحو ذلك.

غاية الأمر ؛ أن نفي الحرج والضرر بناء على كونهما لنفي الأحكام الحرجية

١٤٠