البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-94105-2-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٣٣

العقل عدم وجوب الفحص أيضا مثلا إذا قال المولى لعبده : أكرم المؤمنين ، فإنّه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في هذا المثال نعم من الشبهات الموضوعية التحريمية ما احرز اهتمام الشارع المقدّس به جدّا كما في الفروج والدماء والأموال الخطيرة فلا تجري فيها البراءة حتّى بعد الفحص بحدّ اليأس.

وعليه فإذا احتمل احتمالا معتدّا به ان هذه المرأة اخته من الرضاعة ، أو بنته من الرضاعة مثلا لم يجز له تزويجها ولو بعد الفحص وبعد اليأس وكذا الشبهات الموضوعية الوجوبية التي أحرز فيها اهتمام الشارع المقدّس كحقوق الناس وجب فيها الفحص بعد اليأس.

فخلاصة الكلام : انّ الشبهات الموضوعية التحريمية على نحوين :

الأوّل : ما لم تحرز شدّة اهتمام الشارع المقدّس به فتجري فيه البراءة عقلا ونقلا من غير اعتبار الفحص في جريانها كما إذا تردّد أمر المائع بين كونه خمرا ، أو خلّا ، أو بين كونه طاهرا ، أو نجسا.

الثاني : ما احرز فيه اهتمام الشارع المقدّس وفي مثله لا تجري البراءة لا عقلا ولا نقلا حتّى بعد الفحص بحدّ اليأس إذا لم تزل الشبهة وبقيت على حالها ، وان الشبهة الموضوعية الوجوبية على قسمين :

الأوّل : ما احرز فيه اهتمام الشارع المقدّس وتجري فيه البراءة بعد الفحص وذلك كحقوق الآدمي.

الثاني : ما لم يحرز فيه اهتمام الشارع المقدّس فلا يجب فيه الفحص وتجري فيه البراءة عقلا ونقلا قبل الفحص فلا يجب الفحص في الشبهات الموضوعية التي لم يحرز فيها اهتمام الشارع المقدّس بل تجري فيها البراءة لأنّ موضوعها مجرّد عدم العلم بالواقع وهو حاصل قبل الفحص كما هو حاصل بعد الفحص.

وفي ضوء هذا فلا ثمرة في الفحص ، نعم لو كان موضوع البراءة عدم الدليل

١٠١

على الواقع لأشكل تطبيق أدلّتها في الشبهات قبل الفحص لأجل الشك في الدليل ، بل وبعد الفحص أيضا إلّا مع العلم بعدم الدليل بعد الفحص وإلّا مع جعل اليأس عن الدليل طريقا إلى عدمه.

ولكن استدل بعض أرباب التحقيق على وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية بالاجماع أوّلا وبالدليل العقلي ثانيا. أمّا تفصيل الدليل العقلي فانّه لا موقع للبراءة قبل الفحص لأنّا نعلم إجمالا بثبوت التكاليف بين موارد الشبهات بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها.

ومن الواضح ان العقل لا يجوّز اجراء البراءة ، والحال هذا بل حكم العقل بلزوم الفحص.

قوله : ولا يخفى ان الاجماع هاهنا غير حاصل ونقله لوهنه بلا طائل ...

فقد ردّ المصنّف قدس‌سره الاجماع بأنّه لا يخفى أن الاجماع على نوعين : المحصل والمنقول ، والمحصل منه في هذا المقام غير حاصل ، إذ لا يمكن لنا استيفاء أقوال جميع العلماء (رض) في هذا المقام لتفرّقهم في البلاد النائية المتعدّدة.

وامّا الاجماع المنقول فيقال : ان مثل هذا الاجماع بملاحظة وهنه وضعفه غير مفيد لعدم كونه حجّة كما قد سبق هذا في بحث حجّية الاجماع.

وامّا الاجماع المحصّل فيقال : انّه غير ممكن في الواقعة التي يكون الحاكم فيها العقل ، بل يكون مستحيلا عادة فيها ، إذ نحتمل احتمالا قويّا أن يكون مستند كثير من العلماء (رض) وجلّهم لو لا كلّهم حكم العقل ، أي العلم الاجمالي بالتكليف.

وتوضيحه : ان لنا علما إجماليا بالتكليف فهو لا جرم يكون مانعا عن اجراء البراءة.

وفي ضوء هذا يكون المستند لجلّهم هو العلم الاجمالي بالتكليف في بين المشتبهات لا رأي الإمام المعصوم عليه‌السلام بحيث يدّعون وصوله إليهم خلفا عن سلف

١٠٢

وجيلا بعد جيل.

إذا تمهّد هذا فليعلم ان عدم حصول الإجماع لوجهين :

الأوّل : من جهة حكم العقل والعلم الاجمالي بالتكليف.

الثاني : وهو عدم إمكان استيفاء جميع أقوال العلماء (رض).

فالنتيجة : أن هذا الاجماع على تقدير حصوله مدركي فالاعتبار بالمدرك لا الإجماع.

جواب المصنّف عنه

قوله : وأن الكلام في البراءة فيما لم يكن علم موجب للتنجّز امّا لانحلال العلم الاجمالي ...

قد أجاب المصنّف قدس‌سره عنه بأنّه لا علم إجمالي يوجب التنجيز للتكليف ويمنع عن جريان البراءة ، امّا لانحلاله بالظفر على التكاليف بمقدار المعلوم بالاجمال ، وامّا لعدم الابتلاء إلّا بموارد خاصّة من الشبهات التي لا علم لنا بالتكليف فيها أصلا.

وقد ثبت في محله أن احكام غير مورد الابتلاء غير منجزة ولا تجب إطاعتها وإن كان عدم الابتلاء من جهة عدم الالتفات إلى الاحكام التي في بين الشبهات.

فالنتيجة أن اجراء البراءة في الشبهات الموضوعية ليس بمشروط بالفحص ، وهذا أوضح لمن أمعن النظر.

وجوب التعلّم

قوله : فالأولى الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات والأخبار ...

واستدل لوجوب الفحص في الشبهات الموضوعية ثالثا بالآيات المباركات

١٠٣

والأخبار الشريفة وهي دالّة على وجوب التفقّه وعلى وجوب التعلّم وعلى ثبوت المؤاخذة على ترك التعلّم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١) ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢) وغيرهما من الآيات الدالّة على لزوم التفقّه وعلى وجوب التعلّم.

وأمّا الأخبار الدالّة على وجوب التفقّه والتعلّم فهي كثيرة ، مثل قوله عليه‌السلام ـ أي قول أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ـ «تفقّهوا في الدين فانّ من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي» ، ومثل قول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنّة وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى به وأنّه ليستغفر لطالب العلم من في السماوات ومن في الأرض حتى الحوت في البحر.

وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر وأنّ العلماء ورثة الأنبياء ان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن انّما أورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظّ وافر» ، ومثل قول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم ألا ان الله يحب بغاة العلم» وغيرها من الروايات الدالّة على وجوب التفقّه والتعلّم بل بعضها يدل على الذم على ترك السؤال عن الامور والمسائل مثل قول إمامنا الصادق عليه‌السلام : «هل يسع الناس ترك المسألة عمّا يحتاجون إليه؟ قال عليه‌السلام : لا».

ثم انّ مقتضى الجمع بين الآيات والروايات الدالّة على وجوب التفقّه والتعلّم وبين ما دلّ باطلاقه على البراءة ، وذلك كأحاديث البراءة هو وجوب تحصيل العلم

__________________

١ ـ سورة التوبة آية ١٢٢.

٢ ـ سورة النحل آية ٤٣.

١٠٤

وإزالة الجهل أوّلا.

وعليه فإذا تفحّصنا ولم نتمكّن من إزالة الجهل فعند ذلك يكون المجهول مرفوعا شرعا وموضوعا عنّا ونكون في سعة ما لا نعلم وراحة عنه.

قوله : والمؤاخذة على ترك التعلّم في مقام الاعتذار عن عدم العمل ...

واستدلّ على وجوب الفحص عن الدليل الشرعي بالمؤاخذة على ترك التعلّم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(١) ، (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٢) ويستفاد منهما ان العبد يؤاخذ يوم القيامة على ترك العمل حال كون العبد معتذرا بعدم العلم ، وهذا العذر منه لا يقبل ، لأنّه يؤاخذ على ترك التعلّم كما في الخبر المروي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو أنّه يقال له يوم القيامة هل علمت فيقال له لم عملت وان قال : ما علمت فيقال له : لم تعلّمت يستفاد منه عدم اجراء البراءة.

فالنتيجة أنّه يقيّد بها اخبار البراءة ، إذ نسبة هذه النصوص إلى اخبار البراءة نسبة المقيّد إلى المطلق من حيث شمول أخبار البراءة لما قبل الفحص وبعده واختصاص هذه النصوص المذكورة بالأوّل فتقدّم عليها كما يقدّم المقيّد على المطلق ، نحو إن ظاهرت فاعتق رقبة وإن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وكذا ما نحن فيه ، فالمقيّد هذه النصوص والمطلق أخبار البراءة فيقيد اجراء البراءة بما بعد الفحص ، إذ يكون المراد من المطلق هو المقيد ، إذ هي أظهر وأقوى دلالة منها حال كونها مقيّدة بالاجماع والعقل.

وامّا وجه كونها أظهر وأقوى من أخبار البراءة فلأنّها تدل مطابقة على لزوم

__________________

١ ـ سورة النساء آية ١٦٥.

٢ ـ سورة الأنعام آية ١٤٩.

١٠٥

التفقّه والتعلّم واخبار البراءة تدل على البراءة بما قبل الفحص تضمّنا.

ومن المعلوم ان الدلالة المطابقية أظهر وأقوى من الدلالة التضمّنية كما لا يخفى وقد سبق هذا المطلب مكرّرا في الأجزاء المتقدّمة.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى ان النسبة بينها هي المباينة لأن مورد هذه النصوص ترك العمل فيما علم وجوبه مثلا ولو اجمالا. ومورد اخبار البراءة عدم العلم أصلا. ومن الواضح ان بين العلم بوجوب الشيء مثلا وبين عدم العلم تباين وتضاد. وفي ضوء هذا فلا موجب لتقييد الثانية بالاولى.

فإن قيل : ان الآيات والروايات الدالّة على وجوب التفقّه والتعلّم وعلى المؤاخذة على ترك التعلّم انّما هي محمولة على ما إذا علم إجمالا بالتكليف لا على الشبهات البدوية كي يقيد بها اطلاق اخبار البراءة ويرفع بها اليد عن إطلاقها إذ لا ربط بينهما أصلا.

وقد دفعه المصنّف قدس‌سره بأنّ الآيات والأخبار المذكورة لها ظهور قوي في المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلّم والتفقّه في الشبهات البدوية وفيما لم يعلم بالتكليف تفصيلا ولا إجمالا وليس لها ظهور قوي بترك العمل فيما علم من التكليف ولو إجمالا.

وعليه فلا مجال للتوفيق بينهما بحمل الآيات والأخبار المذكورة على الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي دون الشبهات البدوية بل تحمل عليها فيقع التعارض بينها وبين اخبار البراءة بما قبل الفحص ويجمع بينهما بتقييد اخبار البراءة بما بعد الفحص فتكون سالمة عن المعارض بما بعده.

قوله : فافهم ...

١٠٦

وهو إشارة إلى أن الذي له ظهور قوي في المؤاخذة والاحتجاج على ترك التعلّم فيما لم يعلم لا بترك فيما علم إجمالا هو خصوص الخبر الأخير فقط ، ولكن صحّة سنده غير معلومة كي يقيد به اخبار البراءة فليس مجموع الآيات والروايات بظاهرة في الشبهات البدوية حتى يصح تقييد اخبار البراءة بها بما بعد الفحص.

اشتراط التخيير العقلي بالفحص

قوله : ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا بعين ما ذكر في البراءة ...

كما يعتبر الفحص عن الدليل في جريان اصالة الاحتياط والبراءة الشرعية والبراءة العقلية ، فكذا يعتبر في اجراء اصالة التخيير في دوران الأمر بين المحذورين من جهة علم المكلف بجنس الالزام ، امّا وجوب الفعل وامّا وجوب لزوم الترك ولكن لا يمكن للمكلّف الجمع بين الفعل والترك من باب الاحتياط.

وفي ضوء هذا فيجب فيه الفحص لذلك سواء قلنا بوجوبه في البراءة العقلية والنقلية ، وفي مورد اصالة الاحتياط والاشتغال ، أم لم نقل به فيها ، إذ قبل الفحص لا يحكم العقل بالتخيير بين الأخذ جانب الفعل ، أو جانب الترك لأنّه يحتمل أن يكون الدليل على ترجيح أحدهما على الآخر وعلى تعيين أحدهما ، فلا يمكن استقلال العقل بالتخيير قبل الفحص ففي التخيير العقلي يشترط الفحص عن الدليل كما يشترط في البراءة العقلية ، إذ الفحص يكون محرزا لموضوع البراءة العقلية ، وهو عدم البيان كذا يكون محرزا لموضوع اصالة التخيير العقلي ، وهو تساوي الاحتمالين احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ، فلا تغفل.

١٠٧

بيان العمل بالبراءة قبل الفحص من الاحكام

قوله : ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص ...

يقع الكلام في أمور :

الأول : أنّه لا ينبغي التأمّل في عدم حسن العقاب بترك التعلم إذا كان عمل المكلف موافقا للاحتياط ، إذ لا وجه له بعد تحقّق الانقياد وعدم المخالفة إلّا دعوى وجوب التعلّم نفسيا وهو خلاف ظاهر الأدلّة.

الثاني : أنّه لا ينبغي التأمّل في استحقاق العقاب بترك التعلم إذا كان العمل مخالفا للواقع مع التفات المكلف إليه حال العمل ، وهذا مقتضى النصوص الكثيرة.

الثالث : هل يدور العقاب مدار مخالفة الواقع مطلقا ، أي سواء كان على خلافه طريق معتبر بحيث يعثر عليه المكلف بالفحص ، أم لم يكن على خلافه طريق معتبر ودليل تام العيار ، أو يختص بما إذا لم يكن على خلافه طريق معتبر ، قولان أقواهما الثاني.

الرابع : لو ترك التعلم فغفل عن الواقع وعمل حال غفلته فخالف الواقع فصريح المصنّف قدس‌سره انّه لا شبهة في استحقاق العقاب والغفلة حال المخالفة لا تمنع من حسن العقاب عليها وإن كانت المخالفة حينئذ بلا اختيار لاستنادها إلى تقصيره في ترك التعلم وقد تقرّر في علم الكلام حسن العقاب على ما ليس بالاختيار إذا كان منتهيا إلى ما هو الاختيار ، إذ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار لأنّ المكلف ترك التعلم بالاختيار والفحص بالإرادة حين التفاته إلى عدم خلو الواقعة عن حكم فيصح العقاب على الغفلة لانتهائها إلى ترك التعلّم والفحص وهو أمر اختياري المكلف فالانتهاء إلى الاختيار كاف في صحّة العقوبة بل مجرّد ترك التعلّم والفحص

١٠٨

كاف في صحّة العقوبة وان لم يكن ترك التعلّم والفحص مؤدّيا إلى مخالفة الواقع ، كما إذا شرب التبغ من غير فحص عن حكمه الواقعي ومن غير تعلّمه عنه ثم انكشف عدم حرمته واقعا ، ولكن مع احتمال المكلف أداء ترك التعلّم والفحص إلى المخالفة للواقع لأجل التجري وعدم مبالاة المكلف بمخالفة الواقع.

فالنتيجة أن المحقّق الخراساني قدس‌سره قد اختار استحقاق تارك التعلّم والفحص للعقاب سواء أدّى تركهما إلى مخالفة الواقع ، أم لم يؤد إليها ، امّا إذا أدّى إليها فواضح لتحقّق العصيان والمعصية ، وامّا في صورة عدم ادائه إليها فلأجل التجري وعدم المبالاة بها بناء على كون التجرّي موجبا لاستحقاق العقوبة كما هو مختار المصنّف قدس‌سره. ولا يخفى ان المراد من التبعة هو العقوبة.

قوله : نعم يشكل في الواجب المشروط والموقت ...

نعم يصح استحقاق العقاب على ترك التعلم والفحص في الواجبات المطلقة إذ تركهما يوجب تركها ، فلهذا يصحّ على تركهما فيها ، ولكن يشكل استحقاق العقاب على تركهما في الواجب المشروط وذلك كالحج بالنسبة إلى الاستطاعة ، وفي الواجب الموقت نحو الحج بالإضافة إلى الموسم وكصلاة الجمعة ، ولهذا فاستدرك المصنّف قدس‌سره كلام السابق بأنّه يقع في مورد الاشكال في الواجب المشروط وفي الواجب الموقت سواء انجر تركهما قبل حصول الشرط في الواجب المشروط وقبل تحقّق الوقت في الواجب الموقت بمخالفة الواقع ، أم لم ينجر قبلهما إليها بأنّ المكلف في الواجب المشروط قبل حصول الشرط لم يكن بصدد التعلّم والفحص وكذا في الواجب الموقت قبل تحقّق الوقت ، أي وقت الواجب لم يكن متعلّما لأحكامه ولا متفحّصا عنها فالمكلف مستحق لعدم العقوبة على الترك ، إذ قبل حصول الشرط وقبل تحقّق الوقت ليس التكليف بالواجب المشروط والموقت بفعلي وعليه فكيف يعقل أن تكون مقدّمته وهي عبارة عن التعلّم والفحص

١٠٩

والتفحّص محكومة بالوجوب الفعلي كي يكون تركهما موجبا لاستحقاق العقوبة.

بل يقال كما انّه قبل حصول الشرط والوقت لا يكون التكليف بالواجب فعليا ، كذا لا يكون به فعليا بعد حصول الشرط وبعد تحقّق الوقت ، بل يكون التكليف به منتفيا ، إذ الفرض ترك المكلّف تعلّم أحكام الواجب ، فهو لا يقدر على اتيانه ولا يتمكن من امتثال أمره. ومن الواضح أن التكليف بغير المقدور قبيح عقلا.

وعلى طبيعة الحال ان الواجب ليس وجوبه بفعلي بحيث يستحق فاعله المثوبة وتاركه العقوبة قبل حصول الشرط في الواجب المشروط وقبل تحقّق الوقت في الواجب الموقت لأنّ الوجوب المشروط والموقت انّما يكونان بعد الشرط والوقت على مبنى المشهور.

وعليه فلا يمكن أن يترشّح منهما وجوب غيري يتعلّق بالتعلّم قبل الشرط والوقت.

إشكال وجوب التعلّم في المشروط والموقت

وامّا بعد حصول الشرط وبعد تحقّق الوقت فليس إتيان الواجب بمقدور للمكلّف لأجل كون المكلّف غافلا عن الواجب.

فالنتيجة يجوز تركه ، ولهذا لأجل هذا الاشكال التجأ المحقّق الأردبيلي والسيّد السند صاحب المدارك قدس‌سرهما إلى الالتزام بوجوب التفقّه والتعلّم نفسيا تهيئيّا.

وعليه فتكون العقوبة على ترك التعلّم نفسه من حيث هو هو ولا تكون على مخالفة الواقع انجرّ ترك التعلّم والتفقّه إليها ، وفي ضوء كونه واجبا نفسيا تهيئيا فلا إشكال حينئذ في الواجب المشروط والموقت أصلا كما لا يخفى.

ثم قال المصنّف قدس‌سره : إذا ارتفع الإشكال بهذا البيان في الواجب المشروط

١١٠

والموقت فإذا استشكل أحد من الأعلام (رض) في حسن العقاب على ما ليس بالاختيار لانتهائه إلى ما بالاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلا مغفولا عنه وليس بالاختيار يعني أن توجّه النهي من قبل المولى إلى الغافل حين غفلته عن الواقع قبيح ، وهذا ممّا لا ريب فيه.

وعليه فلا يحسن العقاب على مخالفة الواقع المغفول عنه ، إذ ليس تركه بالاختيار كي يحسن العقاب عليه ، ولا ينتهي تركه إلى ما هو بالاختيار.

أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذه الصعوبة والعويصة : بأن العقاب انّما يكون على ترك تعلّم أحكام الواجب الواقعي وترك التفحص عنها وهو أمر اختياري. وامّا عقاب الكفّار على ترك تعلّم أحكام الواجب الواقعي وترك التفحّص عنها وهو أمر اختياري. وامّا عقاب الكفّار على ترك الواجبات كالصلاة والصوم والحج وأمثالها والحال انّهم لا يقدرون على الصحيحة منها ما بقيت على كفرهم بسوء اختياره حسن فلانتهائه إلى ما بالاختيار وهو ترك اختيار الاسلام الحنيف بالاختيار فينتهي بالاخرة عقابهم إلى أمر اختياري ، إذ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

فانقدح لك بمبنى المحقّقين الفاضلين الأردبيلي وصاحب المدارك قدس‌سرهما سهولة العويصة والصعوبة.

قوله : ولا يخفى انّه لا يكاد ينحل هذا الإشكال إلّا بذاك ، أو الالتزام ...

انّه لا يكاد ينحل إشكال استحقاق العقاب في الواجب المشروط والموقت إلّا بأحد وجهين على سبيل منع الخلو امّا ان نلتزم بكون وجوب التعلّم والتفقّه نفسيا ليكون العقاب على تركه من حيث هو هو كما هو مختار المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك قدس‌سرهما لا على مخالفة الواقع.

وامّا أن نلتزم بكون الواجبات المشروطة ، وتلك كالحج بالنسبة إلى الاستطاعة ، وكالزكاة بالإضافة إلى النصاب ، وكالصلاة بالإضافة إلى الوقت ، والموقتة

١١١

وتلك كالحج بالنسبة إلى الموسم وكصلاة الجمعة بالإضافة إلى يومها ، كلّها واجبات مطلقة معلّقة حتى يكون الوجوب فيها حاليا من قبل حصول الشرط ومن قبل تحقق الوقت فيترشّح منها الوجوب الغيري إلى الفحص والتعلّم والتفقّه. وعليه فإذا تركهما بسوء اختياره فعلا فيكون هو المصحّح للعقاب على الواقع المغفول عنه في محلّه بعدا.

فالنتيجة إذا قلنا ان الشرط إذا كان من قيود المادة لا الهيئة كي يكون الوجوب مشروطا ، بل يكون الوجوب حاليا مطلقا والواجب استقباليا وحينئذ نقول بترشّح الوجوب الغيري إلى التفحّص والتعلّم.

وامّا إذا قلنا ان الشرط من قيود الهيئة لا المادّة فيكون الوجوب مشروطا وقبل حصول الشرط لا وجوب أصلا كي يترشّح الوجوب الغيري إلى التعلّم والتفحّص لكن الواجب المطلق المعلّق قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدّماته الوجودية بالوجوب عقلا قبل حصول الشرط ، أو الوقت غير التعلّم والتفحّص فيكون الايجاب حاليا والواجب استقباليا قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرط الوجوب وهو الاستطاعة والوقت والنصاب ولا غير التعلّم من مقدّماته قبل شرطه ، أو وقته.

حكم العمل قبل الفحص

فانقدح لك الفرق بين مقدّمات وجودية الواجب وبين التعلّم بحيث يكون التعلّم واجبا قبل حصول زمان الواجب وشرطه دون سائر مقدّماته الوجودية وعليه فلو ترك المكلف التعلّم في ظرف وجوبه لاستحق العقوبة.

نعم ، لو قلنا بأن الشرط وسائر المقدّمات يكونان قيدا للهيئة بحيث لا يتصف الواجب بالوجوب قبل حصول الشرط وقبل تحقّق سائر المقدّمات بل يتّصف به بعد حصول الشرط وبعد تحقّق الزمان ومقدّماته الوجودية كما هو ظاهر الأدلّة وفتاوى

١١٢

المشهور.

فلو قلنا باستحقاق العقاب على ترك التعلّم والتفحّص فلا محيص من أن يكون وجوبه نفسيا تهيئيا كي يترتّب العقاب على تركهما ، ولا يترتّب على ما أدّى تركها إليه من مخالفة العمل مع المأمور به الواقعي ؛ ولكن الالتزام بوجوبه نفسيا خال عن الاشكال والمحذور على مبنى المصنّف قدس‌سره ومن تبعه ولا ينافي وجوبه النفسي ظاهر الأخبار يدل على كونه واجبا غيريا مقدّميا لأنّ وجوب التعلّم إن كان لغيره بحسب دلالة الأخبار فالوجوب الغيري يكون بمعنى أن وجوبه يحصل من طريق الترشح عن وجوب واجب آخر.

وعلى هذا نقول : ان وجوب التعلّم مع كونه واجبا غيريا يتصف بوجوب النفسي ، ولا منافاة بينهما ، إذ وجوبه النفسي يكون لغرض وهو عبارة عن التهيؤ لإتيان واجب آخر.

ومن الواضح أن في كل واجب النفسي غرضا موجودا. فلا تهافت بين وجوب النفسي ، وبين وجود الغرض فالحكمة في وجوب التعلّم لنفسه صيرورة المكلف قابلا للخطاب.

فإن قيل : ان التنافي ظاهر بين وجوب النفسي ووجوب الغيري فكيف يجمع بينهما في التعلّم وما هذا إلّا اجتماع المتنافين في الشيء الواحد وهو التعلّم.

قلنا : ان وجه عدم المنافاة بينهما أن وجوب التعلّم لغيره ممّا لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشّح وجوبه من وجوب غيره ، بل يكون نفسيا للتهيؤ لايجاب غيره.

وفي ضوء هذا فالوجوب الغيري على نحوين :

أحدهما : وجوب الغيري الترشحي بحيث يترشّح وجوبه من وجوب غيره. وذلك كوجوب الوضوء والغسل والتيمّم مثلا.

وثانيهما : وجوب الغيري التهيئي بحيث لا يترشّح وجوبه من وجوب غيره.

١١٣

وذلك كوجوب التعلّم والتفحّص فالمنافاة انّما تكون بين الواجب النفسي والواجب الغيري على النحو الأوّل لا على النحو الثاني.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى ان الوجوب النفسي التهيئي ممّا لا معنى محصل له فان الواجب إذا كان نفسيا فلا معنى لكونه تهيئيا وان كان تهيئيا فلا معنى لكونه نفسيا فان عنوان التهيئي لا يطلق إلّا على الواجب الغيري كما لا يخفى هذا على المتتبّع المحقّق هذا مضافا إلى ان ظاهر أخبار الباب دال على كون التعلّم واجبا غيريا لا نفسيا تهيئيّا.

قوله : وامّا الاحكام فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة ...

اما الاحكام التي تترتّب على اجراء البراءة قبل الفحص غير العقاب فيقال انّه لا إشكال في وجوب الإعادة أداء ، أو قضاء سواء كان العمل المأتي به مخالفا للواقع ، أم كان موافقا له بشرط أن يكون العمل المذكور عبادة فيما إذا لا يتأتى من المكلف قصد القربة ، وذلك لأنّ المكلف لم يأت بالمأمور به مع انّه لا دليل على الصحّة والاجزاء.

امّا إذا كان العمل مخالفا للواقع كما إذا شك في جزئية السورة للصلاة وأجرى البراءة عن وجوبها وأتى الصلاة بلا سورة وكانت في الواقع جزءا لها ، فعدم الاتيان بالمأمور به واضح حينئذ.

وامّا إذا فعل الصلاة مع السورة فهذا العمل وإن كان موافقا للواقع ولكن من جهة جهل المكلف بجزئية السورة فلا يتأتى منه قصد القربة بها لأنّ المكلف متردّد في جزئيتها وعدم جزئيتها وقصد القربة لا يتمشّى من المتردّد فوجه البطلان ووجوب الإعادة في صورة الموافقة واضح أيضا ، كما انّه في صورة المخالفة واضح

١١٤

لا سترة فيه.

فالنتيجة ان في صورة المخالفة البطلان واضح فلأجل عدم الإتيان بالمأمور به ، واما في صورة الموافقة البطلان واضح أيضا فلعدم تمشي قصد القربة منه لجهله بجزئيتها ولتردّده فيها قبل الفحص إلّا في الموردين :

الأوّل : قراءة الصلاة الرباعية تماما في موضع القصر.

الثاني : قراءة الصلاة جهرا في مواضع الاخفات ، وقراءة الصلاة اخفاتا في موضع الجهر ، إذ قد ورد في النص الصحيح وقد أفتى به المشهور صحّة الصلاة وتماميتها في الموضعين ، ولهذا اشتهر في الألسن ان الجاهل سواء كان جهله عن قصور ، أم كان عن تقصير بالقصر والاتمام والجهر والاخفات معذور.

امّا الصحيح الدال على الأوّل فهو صحيح زرارة ومحمد بن مسلم (رض) قالا : قلنا لأبي جعفر باقر العلوم عليه‌السلام رجل صلّى في السفر أربعا أيعيد ، أم لا؟ قال عليه‌السلام : إن كان قرأت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد وإن لم يكن قرأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه (١).

وامّا الصحيح الدال على الثاني فهو صحيح زرارة بن أعين رضى الله عنه عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الاخفاء عليه فقال عليه‌السلام : أي ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة فإن فعل ذلك ناسيا ، أو ساهيا ، أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته (٢) وفي معناهما روايات أخر.

__________________

١ ـ الوسائل ج ٥ باب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ح ٤ ص ٥٣١.

٢ ـ المصدر نفسه ج ٤ باب ٢٦ من أبواب القراءة في الصلاة ح ١ ص ٧٦٦.

١١٥

صحّة العمل قبل الفحص في القصر والتمام والجهر والاخفات

قوله : موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة ...

ولا ريب في أن كلمة الموجب صفة للتقصير ، أي الجهل التقصيري موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها لأن ما أتى بها المكلف ليس بمأمور به كي لا يستحق العقوبة لأنّ المأمور به هو صلاة القصر في السفر دون التمام ، وكذا يكون المأمور به صلاة الجهر دون الاخفات ، أو صلاة الاخفات دون الجهر.

ومن الواضح أن ترك الصلاة المأمور بها لا عن عذر يوجب استحقاق العقوبة والعقاب وإن كان الدليل ـ وهو الصحيحان ـ دالين على صحتها وتماميتها إلّا انّها ليست بمأمور بها.

قوله : إن قلت كيف يحكم بصحّتها مع عدم الأمر بها ...

كيف يحكم بصحّة الصلاة التي قرأت تماما في موضع القصر ، والحال ليس لها أمر والعبادة غير صحيحة إذا لم يكن لها أمر ، وكيف يصح الحكم باستحقاق المكلف العقوبة على ترك الصلاة التي قد أمر بها فالجاهل في المواضع المذكورة معذور من حيث الحكم الوضعي فقط ، أي من حيث الصحّة والإعادة دون الحكم التكليفي من حيث استحقاق العقوبة والمؤاخذة.

ومن الواضح أن استحقاق العقوبة والمؤاخذة لا يكون إلّا مع بقاء التكليف بالواقع ، وهذا واضح. فحينئذ يقع الكلام في أن الاتمام في موضع القصر إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط به الواجب الفعلي وهو القصر ، وإن كان الاتمام مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع بقاء الأمر بالقصر. وأمّا القصر في موضع التمام فلا يكفي بالاجماع هذا الاشكال الأوّل.

١١٦

الإشكال الثاني

قوله : وكيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان الإشكال الأوّل شرع في بيان الإشكال الثاني وقال رحمه‌الله : انّ ظاهر اطلاقات الأصحاب (رض) أن من أتى بالتمام في موضع القصر جهلا بالحكم يستحق العقاب حتى فيما إذا تمكّن من الإعادة في الوقت بأن ارتفع جهله به وقد بقى من الوقت مقدار إعادتها قصرا ، أو جهرا والاستحقاق المذكور مشكل جدّا ، إذ لا وجه لاستحقاق العقاب بعد التمكّن من الإتيان بالمأمور به والواجب في الوقت وفي وقته ، هذا تمام الإشكالين الواردين في هذا المقام.

أجاب المصنّف قدس‌سره عن الإشكال الأوّل بقوله : امّا صحّة الصلاة تكون بملاحظة اشتمال صلاة التمام في موضع القصر على المصلحة التامّة التي تكون لازمة الاستيفاء بحيث لو لم تشرع صلاة القصر لكانت صلاة التمام واجبة بالفعل ومأمورا بها ، ولكن لما أمر فعلا بصلاة القصر وهي تكون ذات مصلحة تامّة وضد التمام.

ومن الواضح ان الأمر بضدّين غير صحيح في وقت واحد ، ولهذا ليس لصلاة التمام أمر بالفعل ولكن لا يلزم في صحّة الصلاة وجود الأمر بل اشتمالها على المصلحة التامّة يكفي في صحّتها وقد سبق هذا المطلب في بحث اجتماع الأمر والنهي في الجزء الأوّل.

وعلى طبيعة الحال فلا إشكال في صحتها. نعم يرد هذا الاشكال على من اعتبر في صحّة العبادات وجود الأمر المولوي ، كالشيخ البهائي ومن تبعه ، ولا بدّ له من أن يقول بتحقّق الأمر على نحو الترتّب ، أو بمنع تعلّق الأمر فعلا بالواقع المتروك وهو القصر والجهر ، أو الاخفات ، أو بمنع التنافي بين الأمر بالقصر وبين الأمر بالتمام.

١١٧

أجاب عن الإشكال الثاني بأن مصلحة الواقع غير قابلة للاستيفاء والتدارك بعد الإتيان بصلاة التمام في موضع القصر ، أو الجهر في موضع الاخفات ، أو بالعكس أي الاخفات في موضع الجهر والاجهار جهلا بالحكم فاستحقاق العقاب انّما يكون لفوت الواقع عنه بسوء اختياره وهو ترك التعلّم المفضي إلى فوت الواجب الواقعي اللوح المحفوظي فاستحقاق العقاب ليس من جهة حكم الشارع المقدّس بصحّة الصلاة المأتي بها وهي التمام في موضع القصر والجهر في موضع الاخفات أو الاخفات في موضع الجهر.

فحكم الشارع المقدّس بالصحّة ليس بموجب لفوت الواقع بل إتيان العبد بالتمام موجب لعدم ادراك مصلحة صلاة القصر ولفوت الواقع فإتيان العبد ثانيا صلاة القصر لغو ومستدرك لخلوّها عن المصلحة الملزمة ، ولهذا لم يأمر بها الشارع المقدّس. ولهذا إذا التفت المكلف في الوقت وارتفع جهله فيه وكان قادرا على الإعادة في الوقت فهو ليس بلازم لأنّه لغو وإن لم ينقض الوقت فاستحقاق العقاب انّما يكون بواسطة فوت العبد الواقع والمأمور به الواقعي من جهة ترك التعلّم. وفي ضوء هذا البيان يرتفع الإشكالان معا كما لا يخفى.

قوله : ان قلت على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب ...

فاستشكل أن بناء على ما تقدّم آنفا من أن مع استيفاء مصلحة الاتمام في موضع القصر ، أو مصلحة كل من الجهر والاخفات في موضع الآخر لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي هي في المأمور به ، وعليه يكون الاتمام في موضع القصر جهلا ، وهكذا كل من الجهر والاخفات في موضع الآخر كذلك سببا لتفويت الواجب الفعلي والسبب المفوّت للواجب حرام.

ومن الواضح ان حرمة العبادة توجب لفسادها بلا كلام ، وفي ضوء هذا فكيف يقال : ان التمام صحّ وتمّ وكذا الجهر ، أو الاخفات.

١١٨

أجاب المصنّف قدس‌سره عنه : بأن التمام في موضع القصر وكذا كل من الجهر والاخفات في موضع الآخر ليس سببا لفوت الواجب بحيث يتوقّف الواجب على عدمه على نحو توقّف الشيء على عدم المانع كي يجب عدمه غيريا ومقدّميا وكي يحرم فعل التمام وكي يفسد ، بل التمام والقصر ضدّان وكذا الجهر والاخفات ضدّان.

وعليه فعدم كل منهما يكون في عرض وجود الآخر كما يكون عدم السواد في عرض وجود البياض لا تقدم لعدم السواد على وجود البياض كما ان وجود كل منهما في عرض عدم الآخر لا تقدّم لوجود كل واحد على عدم الآخر فليس بينهما توقف أصلا كي يكون عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر.

وعليه فإذا وجب أحد الضدّين لم يحرم ترك الضد الآخر مقدّمة له كي يحرم فعله وكي يفسد إذا كان عبادة ، كما أنّه إذا وجب ترك أحد الضدّين لم يجب قبل الآخر مقدّمة له ، مثلا إذا أوجب المولى الجليل في السفر قصرا على عبده فلم يحرم ترك التمام مقدّمة لفعل القصر كي يحرم فعله ويفسد إذا كان عبادة كما انّه إذا وجب ترك أحد الضدّين لم يجب فعل الآخر مقدّمة له.

وقد انقدح لك عدم التمانع بين الضدّين وعدم التوقّف من الطرفين لا وجود هذا على عدم ذاك ولا عدم ذاك على وجود هذا ، وقد تقدّم هذا في مبحث الضدّ مشروحا.

قوله : لا يقال على هذا فلو صلّى تماما ، أو صلّى إخفاتا في موضع القصر والجهر ...

فإن قيل : إذا اشتمل التمام على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء موجبة لفوت مصلحة الواجب الفعلي وكذا الجهر إذا اشتمل عليها وكذا الاخفات.

وعليه فلو صلّى تماما ، أو صلّى اخفاتا في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما يلزم الحكم بصحّة صلاة التمام من العالم بوجوب القصر

١١٩

أيضا مع استحقاقه العقوبة على مخالفة الواجب الفعلي وعلى مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر ، إذ الفرض انّهما واجبان فعلا فتركهما عمدا يوجب استحقاق العقوبة.

والحال انّهما لا تصحان من العالم بوجوب القصر في السفر وبوجوب الجهر في الجهرية.

فإنّه يقال : انّا نكشف من الروايات الدالّة على صحّة صلاة التمام وتماميتها في موضع القصر حال الجهل بالحكم وبوجوب القصر وعلى صحّة صلاة الجهر وتماميتها في موضع الاخفات وبالعكس لاشتمالهما على المصلحة الملزمة. وعليه فلا مانع من القول بصحتهما وتماميتهما حال العلم بوجوب القصر والجهر الاخفات مثل سائر موارد التزاحم كالصلاة في حال انقاذ الغريق ، إذ اطلاق أدلّة صحّة الصلاة يدل على وجود مصلحة الصلاتي في حال التزاحم ولهذا يحكم بصحتها حاله.

امّا فيما نحن فيه فليس الدليل بموجود على صحتها في حال العلم ، إذ اطلاق أدلّة وجوب الصلاة تماما يقيد بوجوب القصر في السفر بل يعدّ تاركه عاصيا في لسان الأخبار وكذلك اطلاق أدلّة وجوب الصلاة ، كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) يقيد بوجوب الجهر في بعضها ، أو الاخفات في بعضها الآخر ، فليس الدليل بموجود يدل على مصلحة الصلاتي في الجهر موضع الاخفات حال العلم بوجوبه ، أو في الاخفات موضع الجهر حاله بوجوبه.

فالنتيجة إذا لم يكن الدليل بموجود على المصلحة الملزمة في التمام موضع القصر حال العلم ونحتمل أن تكون مخصوصة في حال الجهل.

وفي ضوء هذا إذا أتى التمام موضع القصر ، أو الجهر موضع الاخفات أو بالعكس في حال العلم فنقطع بالبطلان ، أو لا أقل نشك فيه ، إذ لا دليل على وجود المصلحة في التمام والجهر كي نحكم بصحّتها وحينئذ يحكم العقل بوجوب الإعادة والقضاء.

١٢٠