البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

والوجوب المماثل له فعلي حتمي ، كما لا يخفى على المتأمل.

كما ان المضاد فعلي حتمي ، والحكم المظنون به فعلي تعليقي في صورة أخذ المثلين حتى يلزم من اجتماعهما في محل واحد اجتماع الظن بالحكم موضوعا لحكم مضاد لحكم المظنون به موضوعا ، فليسا بضدّين كي يلزم من اجتماعهما في محل واحد اجتماع الضدّين فيه.

الثاني : فعلي حتمي بحيث تكون موافقته واجبة ومخالفته محرّمة وتعلّق به الإرادة والكراهة وليس للمكلّف فرار عن موافقته ويكون تامّا في البعث والزجر ويكون مقتضيا لرفع جهله مع الامكان تكوينا ولايجاب الاحتياط تشريعا بدونه.

فالنتيجة : هذا تام العيار في الفعلية.

وفي ضوء هذا : فاجتماع المثلين ثابت بين الحكمين الفعليين بالمعنى الثاني ، وامّا إذا كان بالمعنى الأوّل فلا يلزم اجتماعهما أصلا للوجه الذي ذكر آنفا كما لا يلزم اجتماع الضدّين على هذا الفرض لأنّ التضاد ثابت واقعا بين الوجوب الفعلي التام الحتمي والحرمة الفعلية التامّة لا بين الوجوب الفعلي التعليقي غير التام قبل تحقّق المعلّق عليه وهو القطع ، والحرمة الفعلية التامّة ، إذ من الممكن أن يكون الشيء حراما فعلا ظاهرا بمقتضى الامارة ، أو الاستصحاب ، أو الأصل ، إذ مؤداها حكم فعلي ، وواجبا واقعا معلّقا على القطع بوجوبه بحيث لو قطع به لتنجّز على المكلّف أو بمقتضى دليل خاص دلّ على أخذ الظن بحكم موضوعا لحكم آخر حال كونه مماثلا لحكم المظنون به ، أو مضادا له كما لا يخفى.

فالتنافي بين الحكم الظاهري والحكم الفعلي بالمعنى الثاني لتنافي إرادة الفعل مع الاذن في تركه ، أو كراهته مع الاذن في فعله لا الأوّل ، إذ يمكن أن يكون الحكم بنحو لو علم به لتنجّز ومع ذلك اذن الشارع المقدّس في مخالفته مع الجهل به فيرخص فيما هو حرام واقعا بحيث لو علم بحرمته لوجب عقلا تركه ، أو فيما هو

٨١

واجب واقعا بحيث لو علم بوجوبه لوجب عقلا فعله الحاصل ليس التضاد بثابت بين الحكم الفعلي التعليقي وبين الحكم الظاهري ، بل هو ثابت بين الحكمين الفعليين كما لا يخفى. وسيأتي تحقيق هذا في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي في أوّل مبحث الامارات إن شاء الله تعالى.

في الموافقة الالتزامية

قوله : الأمر الخامس هل تنجّز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا ...

والتكليف يصل من مرتبة الفعلية إلى مرتبة التنجّز بواسطة العلم به فالعلم به شرط تنجّز التكليف لا شرط أصل التكليف فإذا تنجّز به فهل التنجّز يقتضي الموافقة العملية فحسب ، أو يقتضي الموافقة الالتزامية أيضا معها ؛ وكذا يقتضي حرمة المخالفة العملية فقط ، أو يقتضي حرمة المخالفة الالتزامية أيضا معها.

وبتقرير آخر : وهو هل تجب الموافقتان بعد العلم بالتكليف ، الاولى موافقته القلبية بمعنى التسليم والانقياد والالتزام لأمر المولى كما في الاصول الدينية والامور الاعتقادية من التوحيد والنبوّة والمعاد ، وكما في اصول المذهب من العدل والامامة ، إذ تلزم فيها الموافقة الالتزامية بإجماع الامّة المرحومة ، لأنّ الموافقة الالتزامية عبارة عن عقد القلب وهو واجب فيها بحكم العقل ، فلو وجبت الموافقتان العملية والقلبية لاستحق المكلّف مثوبتين على الاطاعة ، إذ كان له الامتثالان والطاعتان ؛ احداهما بحسب القلب والجنان (بفتح الجيم لا بكسرها) لأنّه أي الجنان (بالكسر) جمع الجنة. والاخرى بحسب العمل بالأركان كما يستحقّ العقوبة على عدم الموافقة التزاما ولو مع الموافقة عملا.

ومن الواضح : انّه يستحق العقوبتين على عدم الموافقتين الالتزامية والعملية ؛

٨٢

أو لا يقتضي التنجّز شيئا إلّا الموافقة العملية ووجوبها وحرمة المخالفة العملية.

قال المصنّف قدس‌سره : الحق هو الثاني.

فلا يستحق العقوبة على عدم الموافقة الالتزامية القلبية بل انّما يستحقّها على المخالفة العملية لشهادة الوجدان الحاكم في باب الاطاعة والعصيان بذلك المطلب إذ لا ريب في حكم الوجدان بعدم استحقاق العقاب على مجرّد ترك الالتزام مع الموافقة العملية. هذا أوّلا.

وثانيا : لاستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيّده إلّا المثوبة دون العقوبة وان لم يكن العبد ملتزما بأمر السيّد قلبا ومعتقدا به فؤادا ومنقادا له جنانا ، إذ مناط استحقاق العقوبة والذم واللوم ، والمناط عبارة عن هتك حرمة المولى مفقود هنا ، وان كان عدم الالتزام بأمر السيّد قلبا وعدم الانقياد له موجبا لتنقيصه ذاتا ولانحطاط درجته لدى سيّده لأنّ المولى مطّلع على سرائره وباطنه لعدم اتصافه بما يليق أن يتّصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها قلبا.

وهذا الانحطاط غير استحقاق العقوبة على مخالفة العبد لأمر المولى أو نهيه التزاما مع موافقته عملا ، إذ مناط استحقاق العقوبة ، وهو هتك حرمة المولى مفقود هنا ، لفرض الموافقة العملية فليس الهتك للمولى بموجود حتى يستحق العقاب ، كما لا يخفى.

في عدم الملازمة بين الالتزامية والعملية

قوله : ثم لا يذهب عليك انّه على تقدير لزوم الموافقة ...

ولا يخفى عليك انّه على فرض الموافقة الالتزامية القلبية فهي واجبة مستقلّا لو كان المكلّف متمكّنا منها غير مربوط بتمكّن المكلّف من الموافقة القطعية العملية

٨٣

ومن المخالفة القطعية العملية أي ليس وجوبها بمربوط بتمكّن المكلّف من الموافقة القطعية العملية ومن المخالفة القطعية العملية.

فلا ملازمة بين الموافقة الالتزامية القلبية والموافقة العملية القطعية لا وجودا ولا عدما.

وكذا لا ملازمة بينها وبين المخالفة العملية القطعية لا وجودا ولا عدما أيضا.

مثلا : إذا دار الأمر بين المحذورين فالمكلّف علم إجمالا بوجوب شيء ، أو حرمته ولكن هو عاجز عن الموافقة العملية القطعية ؛ وعن المخالفة العملية القطعية لأنّه امّا فاعل هذا الشيء ، وامّا تارك إيّاه فإذا كان فاعلا فيحتمل الموافقة العملية والمخالفة العملية معا.

وكذا إذا كان تاركا فحرفا بحرف ، وامّا إذا كانت الموافقة الالتزامية واجبة فالمكلّف قادر من الالتزام بحكم الواقعي المولى ومن الانقياد له ومن الاعتقاد به بما هو الواقع والثابت في هذا الشيء وان لم يعلم تفصيلا انّه الوجوب ، أو الحرمة ، وذلك كصلاة الجمعة في عصر الغيبة ، لاختلاف الفقهاء العظام (رض) بحسب الفتاوى فيها وهو ناشئ من اختلاف أخبار الباب وتعارضها.

فلا يتوقّف وجوب الموافقة الالتزامية على تمكّن المكلّف من الموافقة العملية القطعية ومن المخالفة العملية القطعية ، وهذا واضح لا سترة فيه ، فالعقل حاكم بالتخيير في مورد دوران الأمر بين المحذورين ، وهما الوجوب والحرمة ، إذ ليس لأحدهما رجحان على الآخر ، إذ ليس للمكلّف التمكّن من الفعل والترك معا فإذن لا محيص من التخيير العقلي.

وليعلم : ان التخيير على نحوين :

الأوّل : عقلي كما في دوران أمر الشيء بين الوجوب والحرمة أي المحذورين.

٨٤

الثاني : شرعي كما في خصال الكفارة ، وهي عتق رقبة ، والصيام ، والاطعام. وسيجيء الفرق بينهما بحسب المورد في مبحث أصالة التخيير إن شاء الله تعالى. وقد علم ضمنا الفرق بينهما وهو أنه لا يمكن الجمع في العقلي ويمكن في الشرعي.

اعلم انّه على تقدير القول بوجوب الالتزام عقلا بالأحكام ، فالالتزام بها إجمالا وتفصيلا تابع للعلم ؛ فإن علم بالحكم تفصيلا وجب الالتزام به كذلك وان علم به إجمالا وجب الالتزام به كذلك أيضا ، ولا يجوز الالتزام به تفصيلا حينئذ لأن الموافقة الالتزامية التفصيلية تشريع ، مثلا إذا علمنا إجمالا بوجوب الاقامة أو باستحبابها ، فلو التزمنا بخصوص وجوبها أو بخصوص استحبابها فهذا الالتزام تشريع ، بل لا بدّ من الالتزام الاجمالي بحكم الواقعي.

ومن الواضح: ان الالتزام التفصيلي بما هو معلوم إجمالا تشريع فإن التشريع هو التديّن بما لا يعلم انّه من قبل الشارع الأقدس ، والالتزام التفصيلي ـ كالالتزام بخصوص وجوب الشيء الذي تردّد أمره بين الوجوب وبين الحرمة مع تردّد حكمه الواقعي بينهما ـ تديّن بما لا يعلم انّه من الشارع المقدّس وكذا الالتزام بخصوص حرمته حرفا بحرف.

ومن هذا يظهر : انّه في صورة الدوران بين الوجوب والحرمة ، لا بدّ من الالتزام بالحكم الواقعي إجمالا وان لم تجب موافقته عملا ، إذ الموافقة العملية القطعية متعذّرة والموافقة الاحتمالية ضرورية الثبوت فالموافقة الالتزامية مقدورة للمكلّف ولهذا قيل بوجوبها في هذا المقام ، والموافقة العملية القطعية متعذّرة فهي غير واجبة فانقدح بعض صور افتراق الموافقة العملية عن الموافقة الالتزامية فتجب الثانية ولا تجب الاولى.

كما ان الظاهر انّه لا ريب في وجوب الالتزام شرعا بكل ما جاء به النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء كان حكما شرعيّا تكليفيّا أم كان حكما وضعيّا أم كان غيره ممّا

٨٥

يتعلّق بالحشر والنشر ، إذ هو مقتضى وجوب التديّن بدينه الحنيف المبين.

إذ ليس التديّن بدينه الشريف ، إلّا الالتزام بجميع ما جاء به من عند ربّه جلّ اسمه ، والظاهر انّه ممّا لا خلاف فيه بين الأعلام قدس‌سرهم ، نعم يجب الالتزام تفصيلا في خصوص اصول الدين وهي خمسة مشهورة. دون ما عداها من تفاصيل الحشر والنشر بل وجب الالتزام قلبا بكل ما جاء به النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إجمالا وكذا وجب الالتزام الاجمالي بتفاصيل السؤال في القبر والمعراج والرجعة وكيفيّة الجنّة والنار والصراط وو ، وستأتي جملة من اللوازم المترتّبة على وجوب الالتزام بخصوص الحكم الواقعي إن شاء الله تعالى في مبحث التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري.

قوله : وإن أبيت إلّا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه ...

اعلم ان العبد قد يتمكّن من الموافقة الالتزامية في صورة عدم تمكّنه من الموافقة العملية ومن المخالفة العملية كما في دوران الأمر بين المحذورين في شيء وهما الوجوب والحرمة ، لإمكان الالتزام بما هو حكم الله تعالى في الواقعة ، إذ لا يشترط في الموافقة الالتزامية القلبية العلم تفصيلا بان حكم الملتزم به هو حكم الله تعالى واقعا ، بل يكفي العلم الإجمالي بالأحكام الشرعية في الشريعة المقدّسة ، في الالتزام القلبي وفي عقد القلبي.

وعليه : فتجب الموافقة الالتزامية لأجل كونها مقدورة وميسورة للعبد ولا تجب الموافقة العملية القطعية ولا تحرم المخالفة العملية العقلية لعدم قدرته عليهما في صورة الدوران بين المحذورين ، كما سبق هذا.

وقد لا يتمكّن العبد منهما معا أي من الموافقة الالتزامية ومن الموافقة العملية.

إذا بنينا على عدم الاكتفاء بالموافقة الالتزامية الاجمالية وعلى لزوم الموافقة الالتزامية التفصيلية. ففي فرض الدوران بين الوجوب والحرمة إمّا أن يدعى وجوب الالتزام بهما معا تحصيلا للموافقة الالتزامية القطعية ، إذ حكم المولى واقعا لا يخلو

٨٦

من الوجوب ، أو الحرمة في الواقعة الخاصّة.

أو الالتزام بأحدهما بخصوصه تخييرا تحصيلا للموافقة الالتزامية الاحتمالية ، امّا الالتزام بكل واحد منهما بخصوصه فلا وجه له لانه تشريع كما سيأتي.

امّا الوجه الأوّل وهو الالتزام بكليهما معا فلأنّه غير ممكن أوّلا لانه تشريع ، وعلته مذكورة في العبارة وتحصل منه المخالفة القطعية ثانيا لأنّه التزام بغير حكم المولى واقعا ، إذ حكمه واقعا يكون أحدهما امّا الوجوب وامّا الحرمة وليس بكليهما معا لوجود التضاد بينهما ، فلا يمكن جعلهما معا لموضوع واحد وإلّا لزم اجتماع الضدّين ، وهو محال عقلا.

وامّا الوجه الثاني فلأنّه وان كان ممكنا إلّا انّه كما تحتمل به الموافقة الالتزامية بحكم المولى واقعا كذلك تحتمل به المخالفة الالتزامية بحكم المولى واقعا لاحتمال كون الحكم الملتزم به غير حكم المولى واقعا ، إذ العبد امّا يلتزم بالوجوب فيحتمل حينئذ كون حكم المولى حرمة ، وامّا يلتزم بالحرمة فيحتمل كون حكم المولى وجوبا.

وعليه : فيدور الأمر فيه بين محذورين لأنّ المكلّف إذا التزم بالوجوب فلو كان حكم المولى واقعا حرمة لوقع في محذور التشريع ، وكذا إذا التزم بالحرمة فلو كان حكم المولى واقعا وجوبا لوقع أيضا في التشريع المحرم فالالتزام بأحدهما على نحو غير التعيين ، غير مفيد إذ لا مصداق لفرد غير المعين في الخارج والالتزام باحدهما المعين تشريع محرم ، فلا مجال لإمكان الموافقة الالتزامية فيه لا القطعية ولا الاحتمالية أصلا ، كما لا يخفى.

فالتشريع هو الالتزام بما لا يعلم انّه من قبل الشارع الأقدس ، فالمراد من المحذورين هو التشريع.

وفي ضوء هذا : فإذا كانت الموافقة الالتزامية الاجمالية في صورة الدوران

٨٧

غير مؤثّرة بل لا بدّ من الالتزام بالحكم الواقعي بخصوص عنوانه الواقعي أي لا بدّ من الالتزام التفصيلي ولا يكفي الالتزام الاجمالي إذ كانت موافقة القطعية التفصيلية الالتزامية بحكم المولى واقعا في هذه الصورة حينئذ ممكنة.

فإن قيل : وجب على المكلّف الالتزام بواحد معيّن امّا الوجوب فقط ، وامّا الحرمة فحسب.

قلنا : يلزم حينئذ الالتزام امّا بالحكم الواقعي الذي كان للمولى ، وامّا الالتزام بضد الحكم والتكليف ولكن الالتزام بنفس الحكم بخصوص عنوانه غير معلوم له فالأصل عدم الالتزام به فانقدح ان الالتزام يكون بضدّه ولا ريب في ان محذور الالتزام بضدّه عقلا ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به رأسا ، فإذا لم يلتزم العبد بالتكليف في صورة الدوران فلا يلزم حينئذ محذور التشريع أصلا بل يلزم محذور عدم الالتزام بتكليف المولى قلبا وامّا لو التزم بضدّه فقد لزم محذور التشريع المحرم.

فإن قيل : من أين علم لزوم التشريع إذا التزم بأحدهما المعين في هذه الصورة؟

قلنا : الالتزام بأحدهما المعين امّا الوجوب وامّا الحرمة يحتمل أن يكون بحكم المولى وأن يكون بغير حكم المولى جلّ اسمه ، فتمسّك بأصالة عدم الالتزام بحكم المولى فيترتّب عليه أثره الشرعي وهو التشريع المحرم.

فإن قيل : نتمسّك بأصالة عدم الالتزام بغير حكم المولى فنثبت بها الالتزام بحكم المولى واقعا.

قلنا لا يترتّب الالتزام بحكم المولى على أصالة عدم الالتزام بغير حكم المولى عزّ اسمه ، لأنّه أصل مثبت لا نقول به لأنّ المراد من أصالة عدم الالتزام هو استصحاب عدم الالتزام ولا يترتّب على الاستصحاب إلّا حكم شرعي ، أو يكون

٨٨

نفس المستصحب حكما شرعيّا ، وهذا واضح.

فلو وجبت الموافقة الالتزامية قلبا بحكم المولى ففي صورة الدوران باي الموافقة الالتزامية تقول بوجوبها هل الموافقة الالتزامية بنفس التكليف بعنوانه الخاص متعيّنا ، أو به ، أو بصدّه تخييرا.

والحال ان التكليف لا يدعو المكلّف إلّا إلى الالتزام بنفسه فحسب ، ولكن هو غير ممكن في صورة الدوران بين الوجوب والحرمة ، كما لا يخفى.

فإن قيل : نقول بأصالة التخيير بالإضافة إلى الموافقة الالتزامية.

قلنا : نقول بها في صورة الدوران في مقام الموافقة العملية ولا نقول بها في مقام الموافقة الالتزامية أصلا حذرا من التشريع المحرّم ، كما مرّ هذا.

فانقدح ان مختار المصنّف قدس‌سره عدم وجوب الموافقة الالتزامية الاجمالية في صورة الدوران بين المحذورين ولا الموافقة الالتزامية التفصيلية القلبية في صورة تعيّن التكليف والوظيفة الشرعية لوجهين سابقين :

أحدهما : شهادة الوجدان السليم بذلك المطلب.

وثانيهما : استقلال العقل بذلك المطلب المذكور.

قوله : ومن هنا قد انقدح انّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام ...

قد علم ممّا ذكر من ان وجوب الالتزام لو قيل به لا يقتضي الالتزام بواحد بخصوصه فيما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة انّه لا مانع من جريان الاصول الحكمية والاصول الموضوعية في أطراف العلم الإجمالي من جهة لزوم الالتزام بالواقع. مثلا : إذا علم المكلّف إجمالا ان صلاة الجمعة في يوم الجمعة في زمان الغيبة امّا واجبة وامّا محرّمة فهل يمكن له أن يجري أصالة البراءة بالإضافة إلى وجوبها وان يجري أصالة البراءة بالنسبة إلى حرمتها لكونها مشكوكة الوجوب فالأصل عدمه والأصل براءة ذمّة المكلّف عنه ؛ ولكونها مشكوكة الحرمة فالأصل

٨٩

عدمها والأصل براءة ذمّة المكلّف عنها مع كونه عالما إجمالا بأن حكم المولى واقعا ، امّا الوجوب وامّا الحرمة أم لا يمكن له هذان الجريانان المذكوران.

أيمكن له أن يتمسّك باستصحاب عدم الوجوب قبل وجود العبد وقبل بلوغه لم تكن واجبة عليه وبعد وجوده وبلوغه شك في وجوبها عليه فيجري الاستصحاب لتمامية أركانه ، وهي اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وباستصحاب عدم الحرمة حرفا بحرف ، وبيان استصحاب عدم الحرمة كبيان استصحاب عدم الوجوب ، أم لا يمكن له جريان هذين الاستصحابين للعلم الإجمالي بكون حكم المولى واقعا احدهما ، امّا الوجوب وامّا الحرمة ، هذان مثالان للأصل الحكمي ، إذ يعين به ظاهرا حكم الشرعي ، وهو عدم الوجوب ، أو عدم الحرمة.

امّا المثال لأصل الموضوعي فيقال ان الظرفين من الخل موجودان ولكن تبدّل أحدهما بالخمر قطعا وهو غير معلوم بخصوصه بل اشتبه أحدهما بالآخر.

وعليه : أيمكن للمكلّف أن يتمسّك باستصحاب بقاء الخلية في هذا الظرف الأبيض. وأن يتمسّك باستصحاب بقاء الخلية في ذاك الظرف الأسود أم لا يمكن له اجراء الأصلين الموضوعين في أطراف العلم الإجمالي إذا كانت محصورة.

ولا يخفى ان ثمرة البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية وعدم وجوبها تظهر في موردین :

الأوّل : جريان الأصل الحكمي في مورد دوران الأمر بين المحذورين.

الثاني : جريانه في أطراف العلم الإجمالي فيما إذا كانت محكومة بالتكليف الإلزامي من الوجوب والحرمة ، ولكن علم إجمالا بارتفاعه في بعض الأطراف للعلم الاجمالي ، فعلى القول بوجوب الموافقة الالتزامية بحكم المولى واقعا لا يجري الأصل لكونه منافيا للالتزام بالحكم الواقعي وكان اجراء الأصل مخالفة عملية من أجل حكم العقل بوجوب الالتزام بالواقع على ما هو عليه.

٩٠

وامّا على القول بعدم وجوب الموافقة الالتزامية فلا مانع عن جريان الأصل في هذين الموردين.

إذا عرفت ثمرة النزاع ومحلّه فالتحقيق عدم وجوب الموافقة الالتزامية ، إذ لم يدل عليه دليل من الشرع الأنور ، ولا من العقل فإذن لا مانع من جريان الاصول الحكمية والموضوعية فيهما ، كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى ان الالتزام بالوجوب مع عدم العلم تفصيلا به ، أو الالتزام بالحرمة مع عدم العلم المذكور بها تشريع محرم عقلا وكتابا وسنّة وإجماعا فتحصّل انّه لا مانع من جريان الأصل في موارد دوران الأمر بين المحذورين وفي أطراف العلم الإجمالي من ناحية وجوب الموافقة الالتزامية.

نعم ، يبقى الكلام في جريان الأصل من جهة المقتضى وهو شمول اطلاقات أدلّة الاصول العملية لأطراف العلم الإجمالي وعدم شمولها لها ، وهذا البحث سيأتي في محلّه إن شاء الله تعالى ، وهو بحث الاصول العملية.

ولكن لا بأس بالإشارة الاجمالية في هذا المقام إلى تحقيق جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي وعدم جريانه فيها ، فيقال ان مذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره عدم جريانها فيها ، إذ يستلزم من جريانها فيها تناقض في أدلّة الاصول العملية ، مثلا ؛ إذا علمنا إجمالا بنجاسة هذا الاناء ، أو نجاسة ذاك الاناء فلو أجرينا أصالة الطهارة بالإضافة إلى كليهما للزم اشكال التناقض لأنّ أصالة الطهارة مستفادة من دليل كل شيء نظيف أي طاهر حتى تعلم انّه قذر ، فهذا يدلّ على طهارة كل شيء إلى أن تعلم قذارته ، فإذا حصل العلم بقذارته فليس بطاهر.

والحال انّا نعلم بنجاسة أحدهما ، وعليه فلو أجرينا اصالة الطهارة في الإناء القريب فنقول انّه بخصوصه مشكوك الطهارة والنجاسة فالأصل طهارته : وفي الإناء البعيد فنقول انّه بخصوصه مع قطع النظر عن الاناء الآخر مشكوك الطهارة والنجاسة

٩١

فالأصل طهارته بمقتضى اصالة الطهارة للزم التناقض وهو عبارة عن نفي شيء عن شيء بعد إثباته له ، مثلا إذا قلنا زيد عادل ثم نقول انّه ليس بعادل فهذا تناقض لوحدة الموضوع في هذا المقام ، وكذا فيما نحن فيه ، حرفا بحرف ، إذ نقول أحد الإناءين نجس قطعا.

وعليه : فلو أجرينا أصالة الطهارة في كل واجد منهما فيصير كل واحد منهما طاهرا فيقال الإناءان طاهران ظاهرا وهذا يتناقض مع القول : بأنّ أحدهما نجس قطعا ، إذ أحد غير معين يشمل كليهما على سبيل البدلية ، فيصير التقدير هكذا : أحد الإناءين نجس أحد الإناءين طاهر ، فهذا تناقض صريح.

هذا مضافا إلى انّه لا يترتّب أثر شرعي على جريان الاصول في صورة دوران الأمر بين المحذورين ، إذ قبل إجرائه فيه فالمكلّف مخيّر بدويّا ، أو استمراريّا بين الأخذ بالوجوب ، وبين الأخذ بالحرمة ، وبعد إجرائه فيه فهو مخيّر أيضا بينهما.

والحال ان الشارع المكرّم جعل الاصول العملية في مورد الشك بالتكليف ، أو الشك في المكلّف به لكي يترتّب عليها آثارها وهي تعيين الوظيفة والخروج عن الحيرة والتحيّر وجعل الحكم الظاهري في مؤداها.

وعليه : فلا تجري الاصول العلمية لا حكمية منها ولا موضوعية منها في أطراف العلم الاجمالي وفي صورة الدوران بين المحذورين.

قوله : لو كانت جارية مع قطع النظر عنه ...

وليعلم ان اجراء الاصول العملية في أطراف العلم الإجمالي على نحوين :

الأوّل : انّه لا يلزم من إجرائها فيها مخالفة عملية قطعية كما في صورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، كصلاة الجمعة في عصر الغيبة ، فإذا أجرينا استصحاب عدم وجوبها ، واستصحاب عدم حرمتها فهذا لا يصادم بالعمل ، إذ المكلف مخيّر في الأخذ بالوجوب كي يفعلها ، أو الحرمة حتّى يتركها قبله وكذا بعده بحكم العقل كما

٩٢

لا يصادم إجراؤها في الموافقة الالتزامية بحكم الواقعي المجعول في اللوح المحفوظ. بالاضافة إلى صلاة الجمعة.

وعليه : فلا مانع من إجرائها لا من ناحية العمل ولا من ناحية الالتزام بحكم الواقعي هذا.

الثاني : انّه يلزم من إجرائها فيها مخالفة عملية ، وتلك فيما إذا ارتكب العبد كلا الطرفين في صورة دوران الطهارة والنجاسة في الإناءين المشتبهين فيتحقّق المانع ، وهو مخالفة عملية في المقام من جريانها مع قطع النظر عن وجوب الالتزام بحكم المولى واقعا أي وان لم نجب موافقة الالتزامية فتلزم المخالفة العملية من إجرائها ، امّا إذا ، أوجبنا الموافقة الالتزامية فتلزم المخالفتان الالتزامية والعملية بعد اجراء الاستصحاب في كلا الطرفين لأنّ الاستصحاب رافع للموضوع فلا يبقى حكم حينئذ كي نلتزم به قلبا ومثبت للموضوع الآخر ونلتزم بحكمه لو وجب الالتزام بحكم المولى.

فتحصّل ممّا ذكر ان وجوب الموافقة الالتزامية ليس بمانع عن اجراء الاصول العملية في أطراف العلم الاجمالي ، إذ هي مثبتة للحكم الظاهري ولا تكون نافية للحكم الواقعي ولا مثبتة له حتى ينافي وجوبها إجراءها.

في صورة الدوران

فوجوب الالتزام إجمالا لا ينافي مع اجراء الاصول الحكمية ، أو الموضوعية في أطراف العلم الإجمالي في مقام العمل ، والحال ان الالتزام تفصيلا في أحد الأطراف بخصوصه غير ممكن لتعارض الأصلين وتساقطهما ويبقى كل واحد منها بحاله.

٩٣

قوله : كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام به بل الالتزام بخلافه ...

قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره : يدفع اجراء الاصول إشكال عدم الالتزام بالحكم الواقعي في صورة دوران الأمر بين المحذورين مثلا صلاة الجمعة مردّد حكمها بين الوجوب والحرمة فاجراء اصالة البراءة عن كل من الوجوب والحرمة يرتفع الحكم الشرعي المعلوم بالاجمال من البين فلا يبقى حكم كي يجب الالتزام به عقلا.

امّا المصنّف قدس‌سره فيقول : لو فرض حكم العقل بوجوب الالتزام بمحتمل التكليف ، كما في صلاة الجمعة ، إذ يحتمل حكمها الواقعي من أن يكون واجبا ومن أن يكون حراما لكان ذلك مانعا عن اجراء الاصول الحكمية ، أو الموضوعية في الأطراف ولا يتوهّم ان اجراء الاصول في الأطراف رافع لحكم العقل بوجوب الالتزام لأنّه يلزم منه الدور الصريح ، لأنّ جريان الاصول يتوقّف على عدم حكم العقل بوجوب الالتزام بحكم المولى ، إذ لو كان حكم العقل المذكور ثابتا لقطع حينئذ بمخالفة ظاهر أدلّة الاصول العملية للواقع فلا يكون حجّة ، فلو توقّف عدم حكم العقل المذكور على جريان الاصول في الأطراف للزم الدور الصريح.

قوله : بل الالتزام بخلافه ...

فإذا أجرينا أصالة عدم الوجوب وأصالة عدم الحرمة بالإضافة إلى صلاة الجمعة فيلزم الالتزام بالاستحباب ، أو الاباحة ، ولا ريب في ان هذا الالتزام خلاف حكمها الواقعي.

فالنتيجة : يلزم من جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي أحد الأمرين :

امّا الدور الصريح لو دفع به أي بجريان الاصول في الأطراف حكم العقل بوجوب الالتزام بحكم المولى جلّ جلاله ، كما ذكر.

وامّا الالتزام بخلاف حكم الواقعي لو لم يدفع به حكم العقل بوجوب الالتزام بحكم الواقعي ، وكلاهما فاسدان ، إذ الأوّل محال. والثاني خلاف القانون. والوجه

٩٤

ظاهر ، وهو ان الدور مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه وتأخّره عن نفسه وهو محال.

فالدور محال عقلا ، إذ المستلزم المحال محال.

والتكليف يدعو المكلّف بالالتزام إلى نفسه فحسب لا إلى ضدّه ولا إلى خلافه من حيث الالتزام القلبي.

فأورد المصنّف قدس‌سره على الشيخ قدس‌سره باعتراضين :

الأوّل : عدم ترتّب أثر علمي على الاصول لو جرت في أطراف العلم الإجمالي وهذا المطلب واضح في صورة دوران الأمر بين المحذورين ، إذ قبل جريان الأصل يحكم العقل بالتخيير بين الأخذ بالوجوب وبين الأخذ بالحرمة وبعد جريانه فالمكلّف مخيّر بينهما أيضا ، وهذا واضح لا غبار عليه.

والحال ان الاصول العملية انّما تجري في مورد الشك بالحكم الواقعي للعمل ولتعيين الوظيفة.

الثاني : لزوم أحد الأمرين المذكورين : امّا الدور المصرّح ، وامّا الالتزام بخلاف حكم الواقعي ، كما تقدّم آنفا. وعليه فالمختار عند المصنّف قدس‌سره عدم جريان الاصول العملية في أطراف العلم الإجمالي.

قوله : اللهمّ إلّا أن يقال ان استقلال العقل بالمحذور فيه ...

أي لا يلزم الدور المصرّح المذكور إذا كان حكم العقل بوجوب الالتزام بحكم المولى معلّقا على عدم ترخيص الشارع المقدّس بسبب مقتضى أدلّة الاصول العملية في الاقتحام في أطراف العلم الإجمالي كما إذا كانت غير محصورة فلا يحكم العقل حينئذ بوجوب الالتزام وبالموافقة الالتزامية.

ولكن مع ترخيصه في الاقتحام في الأطراف لا إشكال في عدم الالتزام بحكم المولى جلّ ذكره ، وعليه فلا دور في البين ، إذ جريان الاصول العملية فيها يتوقّف على عدم حكم العقل بوجوب الالتزام بحكم المولى جلّ ذكره ، ولكن عدم

٩٥

حكمه بوجوبه لا يتوقّف على جريانها فيها ، إذ هو معلول الترخيص في الاقتحام في الأطراف بل لا ينبغي الريب في الالتزام بالإباحة ، أو الاستحباب إذا أجرى الاصول العملية في صورة دوران الأمر بين المحذورين هما : الوجوب والحرمة ، أي اصالة البراءة عن الوجوب وأصالة البراءة عن الحرمة.

ولا يخفى ان هذا الجواب عن الدور ضعيف جدّا ، امّا بيانه فيقال : ان جريان الاصول العملية في الأطراف مشروط بترتّب أثر عملي على الاصول العملية لأنّها وظائف عملية للجاهل الشاك المتحيّر.

امّا إذا لم يترتّب أثر عملي عليها فلا معنى حينئذ لجريانها كما في صورة دوران الأمر بين المحذورين ، كما سبق هذا مرّتين.

ولأجل هذا قال بلفظ اللهمّ أي أطلب من الباري تعالى أن يعمي المخالف لكي لا يبصر ضعف هذا الجواب.

ولهذا قال المصنّف قدس‌سره إلّا ان الشأن حينئذ في جواز جريان الاصول العملية في الأطراف أي أطراف العلم الإجمالي مع عدم أثر عملي عليها مع انّها أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية أي أنشئت لأجل العمل فحسب ، كما ان الأحكام الفرعية أنشئت من قبل المولى الحكيم ، لأجل ذاك نحو خطابات الالهية نحو أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا واسجدوا و ...

هذا ، أي خذ ذا ، مضافا إلى عدم شمول أدلّتها لأطراف العلم الإجمالي لأجل لزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها لها كما ادّعاه شيخنا العلّامة الأنصاري أعلى الله تعالى مقامه ، كما سبق هذا مفصّلا.

قوله : وان كان محل تأمّل ونظر ...

ادّعاءه مردود لوجهين :

الأوّل : ان مفاد الاصول العملية حكم ظاهري وهو مصون في أطراف العلم

٩٦

الإجمالي ، وعليه فإذا أجرينا أصالة الطهارة في كل واحد من الإناءين المشتبهين فقد ثبت لكل واحد منهما طهارة ظاهرية لا واقعية فلا منافاة بين الطهارة الظاهرية بمقتضى اصالة الطهارة وبين النجاسة الواقعية كما لا منافاة بين الحلية الظاهرية والحرمة الواقعية ، كما في شرب التتن مثلا ، لأجل البراءة عن حرمته ظاهرا.

الثاني : إذا أجرينا أصالة الطهارة بكل واحد من الإناءين فنحكم حينئذ بطهارتهما ظاهرا بمقتضى الأصل فحينئذ لا بدّ من القول بأن المراد من الغاية وهي جملة حتّى تعلم علم تفصيلي بالقذارة فلا يكون التناقض بموجود أصلا ، إذ ليس لنا علم تفصيلي بقذارة هذا وذاك ، كما لا يخفى.

قوله : فتدبّر جيّدا ...

وهو إشارة إلى انّه لا ينبغي التأمّل في اعتبار ترتّب الأثر العملي في جريان الاصول العملية ولأجل هذا تسمّى بالاصول العملية ولكن لا يعتبر في ترتّب الأثر العملي أن يكون بلا واسطة فقد يكون بلا واسطة وقد يكون بالواسطة كما لو فرض ثبوت الأثر لما هو الحلال مثل لبس جلد حيوان في الصلاة لكان الأثر المذكور كافيا في اجراء اصالة الحل لأنّه أثر عملي ولو بالواسطة أي بواسطة فرض الحيوان حلالا ثبت جواز لبس جلده بواسطة اصالة الحل في حال الصلاة أيضا ، كما لا يخفى.

في حجيّة مطلق القطع

قوله : الأمر السادس لا تفاوت في نظر العقل أصلا ...

وليعلم ان المراد من القطاع من يحصل له القطع كثيرا من الأسباب غير العادية بحيث لو اطلع غيره عليها لا يحصل له القطع منها ؛ وليس المراد منه من يحصل له القطع كثيرا لكونه عالما بالملازمات في غالب الأشياء بالفراسة الفطرية ، أو بالاكتساب ، إذ قطعه حاصل من المبادئ المتعارفة التي لو اطّلع غيره عليها لحصل

٩٧

له القطع أيضا غاية الأمر انّه عارف بتلك المبادئ دون غيره.

إذا عرفت المراد من القطاع فاعلم انّه لا تفاوت أصلا في نظر العقل السليم ، في الآثار التي تترتّب على القطع بين أفراد القطع ومصاديقه سواء حصل من الأسباب المتعارفة مثل الحسّ والسماع عن المعصوم عليه‌السلام ، أو عن غيره من الموثقين والثقات أم حصل من الأسباب غير المتعارفة وتلك كالرمل والرؤيا والجفر مثلا ، فكل أثر يترتّب على القطع الحاصل من السبب المتعارف ومن الأسباب المتعارفة من وجوب الموافقة ومن لزوم المتابعة والمنجزية والمعذرية والعقوبة على مخالفته و ... فهو يترتّب على القطع الحاصل من السبب غير المتعارف ومن الأسباب غير المتعارفة كما ان حصوله غالبا من الأسباب غير المتعارفة موجود في القطاع.

ويدلّ عليه امور :

الأوّل : ان العقل يرى تنجّز التكليف بالقطع الحاصل من السبب الذي لا ينبغي حصول القطع منه.

الثاني : ان العقل يرى صحّة مؤاخذة المولى للعبد القاطع على مخالفة القطع.

الثالث : ان العقل يرى عدم صحّة اعتذار العبد عن مخالفة القطع بأن القطع حصل لي من السبب غير المتعارف.

الرابع : ان العقل يرى عدم صحّة المؤاخذة مع القطع بخلاف التكليف أي كون القطع عذرا للمكلّف إذا خالف الواقع ، إذ ليست مؤاخذة المولى عبده إذا عمل على طبق القطع الذي يكون مخالفا للواقع بصحيح أصلا ، ومن هذا نستكشف كون القطع حجة مطلقا ، وهذا الأثر مترتّب على قطع القطاع.

الخامس : ان العقل يرى انّه لا يحسن أن يحتج على القاطع العامل على طبق قطعه بأن قطعك أيّها القاطع حصل من الأسباب غير المتعارفة فلم عملت على طبقه ، ولو مع التفات القاطع إلى كيفيّة حصول القطع فضلا عمّا إذا لم يلتفت إليها ،

٩٨

فكل هذه يدلّ على حجيّة قطع القطاع ، كما لا يخفى ، لأنّ الملاك في حجيّة القطع عقلا هو كشفه عن الواقع وهذا المناط موجود في قطع القطاع.

هذا كلّه في قطع القطاع إذا أخذ طريقا إلى الحكم الشرعي ، وامّا إذا أخذ في موضوع الحكم فسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى.

قوله : نعم ربّما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعا ...

هذا استدراك عن عدم التفاوت المذكور ، إذ يتفاوت الحال والمطلب في القطع الذي أخذ في موضوع الحكم ، إذ يحتمل أن يكون غير شامل للقطع الذي حصل من الأسباب غير المتعارفة ، وذلك كقطع القطاع ، فالقطع الموضوعي هو القطع الذي حصل من الأسباب المتعارفة. وليس بغيره أصلا فالمتبع في عموم سبب القطع وخصوصه دلالة دليل الحكم وهي مختلفة ، إذ ربّما يدلّ دليل الحكم على اختصاص الحكم بموضوع أخذ فيه القطع الحاصل من السبب الخاص كالحسّ مثلا لا من كلّ سبب من الحدس والرؤيا مثلا ، أو من شخص خاص كالمجتهد ، أو كأهل الخبرة مثلا.

وربّما يدلّ دليل الحكم على اطلاقه بموضوع أخذ فيه القطع قيدا ، أو يدلّ على عمومه به فيشمل حينئذ كل أفراد القطع سواء حصل من الأسباب المتعارفة أم حصل من الأسباب غير المتعارفة سواء كان قطع العادي أم كان قطع القطاع.

ولا ريب ان الدليل الذي يدلّ على الحكم الذي أخذ القطع قيدا في موضوعه مختلف جدّا من حيث دلالته على الاختصاص وعلى التعميم والاطلاق بحسب اختلاف المقامات وبحسب مناسبات الأحكام والموضوعات ، وبحسب القرائن الخارجية.

فاختلاف المقامات في عموم القطع الموضوعي وخصوصه قد يعرف عن مناسبات الاحكام والموضوعات وتلك كمناسبة الوجوب والجهاد مع أهل الكفر

٩٩

والنفاق والفساد وكمناسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا ، وكمناسبة الحرمة والقتل للمسلم مثلا يدركها أهل الذوق في الجملة ، إذ مدرك الكامل هو المقنّن والمشرّع فقط : وقد تعرف من الامارات والعلامات الأخر كالقرائن الحالية ، أو المقالية واللبية والعقلية ، كما لا يخفى.

فالقطع الموضوعي من حيث السعة والضيق يكون أمره بيد المولى فله أن يجعل موضوع حكمه نوعا خاصّا من القطع كالقطع الحاصل من الأسباب المتعارفة وان يجعل كل القطع.

وبالجملة : اعلم ان الفرق بينها وبين في الجملة ان مفاد بالجملة موجبة كلية ومفاد في الجملة سالبة جزئية.

قد علم في بحث أقسام القطع ان القطع على قسمين : طريقي وموضوعي.

فالقطع الطريقي عبارة عن القطع الذي يكون موضوعا لأحكام العقلية من المنجزية والمعذرية ولزوم الموافقة وحرمة المخالفة.

وعليه يصحّ أن يعبّر عن القطع الطريقي بالقطع الموضوعي العقلي في قبال القطع الموضوعي الشرعي ، إذ القطع الطريقي موضوع لآثاره المذكورة فيقال : القطع الطريقي منجز ومعذر لازم الاتباع ما دام موجودا تحرم مخالفته عقلا.

فالقطع الطريقي الذي يكون موضوعا عقلا لا يتفاوت من حيث القاطع سواء كان قاطعا عاديّا أم كان قطاعا ولا من حيث المورد والمقطوع به سواء كان حكما شرعيّا أم كان موضوعا لحكم الشرعي ولا من حيث السبب الذي يحصل منه القطع لا عقلا ، أي لا يتفاوت عقلا ، إذ المنجزية والمعذرية أثران ذاتيان للقطع لا يكاد ينفكّان عنه لأنّ ذاتي الشيء سواء كان ذاتي باب البرهان أم كان ذاتي باب الايساغوجي لا ينفك عنه والمقام من قبيل ذاتي باب البرهان.

وامّا الفرق بينهما فقد سبق في الجزء الأوّل ، ولا شرعا لما عرفت سابقا في

١٠٠