البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

الاستصحاب ، إذ يبحث فيه على حدة وسيأتي. وكذا غير قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز ، سيأتي بحثهما إن شاء الله تعالى.

وامّا الاصول غير المحرزة التي ليس لها نظر إلى الواقع بل هي وظائف عملية للجاهل بالواقع كالاحتياط الشرعي والعقلي والبراءة الشرعية والعقلية فلا معنى لقيامها مقام القطع الطريقي والموضوعي لأنّها لا تكون محرزة للواقع لا بالوجدان ولا بالتعبّد الشرعي.

توضيح ذلك : ان الاحتياط العقلي عبارة عن حكم العقل بتنجّز الواقع على المكلّف وحسن عقابه على مخالفته كما في موارد العلم الاجمالي.

والشبهة الحكمية قبل الفحص عن الدليل على الحكم لأنّ العقل حاكم بالاحتياط في هذين الموردين من جهة تنجّز الواقع على المكلّف ، والبراءة العقلية عبارة عن حكم العقل بعدم صحّة العقاب ؛ وكون المكلّف معذورا في مخالفة الواقع لعدم وصوله إليه ، فلا معنى لقيامهما مقام القطع ؛ ، إذ لا بدّ في التنزيل أي تنزيل الشيء منزلة شيء آخر وقيامه مقامه من وجه التنزيل ومن الأثر الذي يكون التنزيل بلحاظه وسببه وهو المصحّح للتنزيل ولكن في المقام أثر القطع هو المنجزية والمعذرية فإذا قام شيء مقام القطع كان بلحاظهما.

وامّا نفس التنجّز والمعذرية فلا يعقل قيامهما مقام القطع وليس الاحتياط العقلي والبراءة العقلية إلّا التنجّز والعذر بحكم العقل فكيف يقومان مقام القطع.

وبعبارة اخرى : وهي ان أدلّتهما ليست متعرّضة للإحكام الواقعية لا حقيقة وواقعا ولا تنزيلا فكيف تصلح أن تكون منجزة لها ، أو عذرا عنها فكيف يصحّ ترتيب أثر القطع الطريقي عليهما كي يصحّ قيامهما مقامه بلحاظ هذا الأثر ، كما لا يخفى.

وكذا الحال في الاحتياط الشرعي والبراءة الشرعية فإنّ الاحتياط الشرعي

٦١

عبارة عن الزام الشارع المقدّس المكلّف بإدراك مصلحة الواقع ؛ والبراءة الشرعية عبارة عن ترخيصه حين عدم احراز الواقع ، فالاحتياط الشرعي هو نفس التنجّز والبراءة الشرعية عبارة عن نفس التعذّر والاعتذار بحكم الشارع المقدّس فليس هنا شيء آخر يقوم مقام القطع في التنجّز والعذر والعذرية ، فليس في هذه الاصول المذكورة احراز الواقع أصلا كي تنجز الواقع وعلى تقدير الاصابة تستلزم التنجز وعلى فرض الخطأ تستلزم التجرّي أو الانقياد وليس الأمر كذلك ، بل الشارع المقدّس ، جعلها وظائف للجاهل المتحيّر في مقام العمل شرعا ، أو العقل حكم له في مقام العمل بالاحتياط. فالاحتياط امّا شرعي وامّا عقلي ، وكذا الحال في البراءة.

قوله : لا يقال ان الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه ...

فزعم المتوهّم انّه لا مانع من قيام أصالة الاحتياط مقام القطع الطريقي ، إذ لا فرق بينها وبين الامارات المعتبرة ، مثلا : إذا قام خبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، فهذا الخبر منجّز لوجوبها إذا كان مطابقا للواقع وعذر للمكلّف إذا كان مخالفا له كما ان المكلّف يستحق العقاب على المخالفة والثواب على الموافقة.

وعليه : فإذا علمنا إجمالا بوجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة ، أو بوجوب صلاة الظهر فيه ، فهذا العلم الإجمالي منجز ومعذر على تقدير المصادفة والخطأ ، كما ان المكلّف يستحق العقوبة على المخالفة والمثوبة على الموافقة ، فالاحتياط في موارد العلم الإجمالي كالامارة والقطع في التنجيز والعذر والتنجّز.

فالنتيجة : أنه لا مانع من قيام أصالة الاحتياط مقام القطع الطريقي.

فلم قلت : ان أصالة الاحتياط لا تقوم مقام القطع الطريقي؟

أجاب المصنّف عنه : بأن الحاكم بالاحتياط امّا عقل وامّا شرع فإن كان المراد منه عقليّا فالمعنى المتصوّر له ان العقل يحكم به وحكم العقل بتنجّز الواقع

٦٢

على المكلّف فأصالة الاحتياط عبارة عن الحجيّة وتنجّز الواقع وليس للعقل أصالة الاحتياط تكون كالقطع الطريقي في الحجية والتنجيز بل هي بمعنى تنجّز الواقع على المكلّف ، فليس المشبه والمشبه به بموجودين لانتفاء وجه الشبه ، وهو المنجزية للواقع في المقام ، إذ الاحتياط العقلي هو عين حكم العقل بحسن العقاب على تقدير المخالفة وهذا معنى التنجز ونفس التنجّز وصحّة العقوبة على المخالفة فلا شيء غير التنجّز بموجود يقوم مقام القطع الطريقي في هذا الحكم ، وهو التنجيز والتنجز.

وامّا النقلي منه فإلزام الشارع المقدّس به في الأخبار الكثيرة فمنها :

قوله عليه‌السلام : «قف عند الشبهة فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» ، وغيره من الأخبار التي سيأتي تفصيلها في بحث البراءة إن شاء الله تعالى فهو وإن كان منجزا للتكليف عند الاصابة كالقطع وان كان عذرا للمكلّف عند الخطأ إلّا انّه لا نقول بالاحتياط الشرعي في الشبهات البدوية خلافا للأخباريين (رض) حيث يقولون بوجوب الاحتياط في الشبهة البدوية الحكمية التحريمية.

ولا يخفى ان الاصوليين (رض) لا يقولون بالاحتياط فيها بعد الفحص عن الدليل على الحكم الشرعي.

وعليه : فإذا تفحصنا عنه فلم نجده فإذن نجري البراءة العقلية وهي عبارة عن قبح العقاب بلا بيان والشرعية وهي مأخوذة من الأخبار كحديث «رفع ما لا يعلمون» وكحديث «الناس في سعة ما لا يعلمون» وكحديث «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ، أو أمر».

وامّا قبل الفحص عن الدليل في الشبهات البدوية فالاحتياط فيها عقلي من باب وجوب دفع الضرر المحتمل.

فالمتحصل : ان القوم لا يقول بالاحتياط في الشبهات البدوية بعد الفحص

٦٣

واليأس ، بل يقول بالبراءة فيها.

وامّا في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي فالاحتياط فيها عقلي فإذا ورد من الشرع الأمر بالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي فهو إرشادي إلى دفع الضرر المحتمل الأخروي وليس بمولوي دال على وجوب الاحتياط فيها شرعا.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى ان الاحتياط العقلي عبارة عن وجوب إتيان المحتملات من جهة وجوب دفع الضرر المحتمل الأخروي نحو إتيان الصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه ، القبلة ، هذا في الشبهة الموضوعية ، ونحو إتيان الصلاة بالثوبين المشتبهين ، هذا أيضا فيها. ونحو الإتيان بصلاة الجمعة والظهر معا في يوم الجمعة عند اشتباه الواجب ، هذا في الشبهة الحكمية.

أو هو عبارة عن ترك المحتملات من جهة حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل الأخروي أيضا كما إذا اشتبه الخمر والخل ، أو اشتبه الموطوء من الغنم في قطيعة منه.

فالعقل يحكم بالاجتناب عن الجميع وعنهما ، كما ان الاحتياط الشرعي عبارة عن وجوب إتيان المحتملات وعن وجوب ترك المحتملات بلا فرق بين العقلي والشرعي منه من هذه الناحية.

وعليه فلا يكون الاحتياط بمعنى التنجّز وصحّة العقوبة على مخالفته.

نعم يحصل لنا العلم في موارد الاحتياط الشرعي بفعلية الخطاب الواقعي وإلّا لم يجب الشارع المقدّس الاحتياط ، ولكن يكون أثر هذا العلم تنجّز الواقع وصحّة المؤاخذة واستحقاق العقاب على المخالفة ، فوجوب الاحتياط الشرعي سبب للعلم بفعلية الخطاب والعلم بالفعلية سبب للتنجّز فيصحّ قيام الاحتياط الشرعي مقام

٦٤

القطع الطريقي وكذا التنجيز سبب للعلم بثبوت أحد التكليفين الذين لا يمكن إتيانهما في مقام الامتثال فالتخيير سبب العلم بثبوت أحدهما والعلم المذكور سبب تنجيز أحدهما وسبب صحّة العقوبة على أحدهما فيصحّ قيامه أيضا مقام القطع الطريقي ؛ وكذا أصالة البراءة سبب العلم بعدم التكليف والعلم بعدمه سبب عدم التنجز أي عدم تنجّز التكليف فيصحّ قيامها مقام القطع الطريقي أيضا ، إذ يكونان طريقين إلى الواقع.

غاية الأمر : القطع طريق إلى الواقع بلا واسطة ، ولكن أصالة الاحتياط وأصالة التخيير وأصالة البراءة طريقات إليه بواسطة العلم والقطع بفعلية التكليف في الاحتياط الشرعي وبثبوت أحد التكليفين في التخيير وبثبوت عدم التكليف في البراءة.

هذا تمام الكلام في الاصول غير المحرزة للواقع من أصالة البراءة والتخيير والاحتياط ، كما لا يخفى.

وامّا قيام الاصول المحرزة مقام القطع وهي الاصول التي تكون ناظرة إلى الواقع كالاستصحاب وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز بناء على عدم كونها من الامارات المعتبرة ، وكقاعدة عدم اعتبار الشك من كلّ واحد من الامام والمأموم مع حفظ الآخر ، وكقاعدة عدم اعتبار الشكّ ممّن كثر شكّه ، وغيرها من القواعد الناظرة إلى الواقع في ظرف الشك ، فالظاهر أنّها تقوم مقام القطع الطريقي المحض والقطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية لا الوصفية ، إذ الشارع المقدّس اعتبر ولاحظ موارد جريانها علما ؛ فترتّب عليها آثار العلم والقطع ، من المنجزية والمعذرية واستحقاق المثوبة على الموافقة والعقوبة على المخالفة هذه آثاره العقلية.

فإن قيل : قد أخذ في موضوع الاصول الشك فكيف يعقل اعتبارها علما مع التحفّظ على الشك المأخوذ في موضوعها وما هذا إلّا لحاظ الجمع بين المتناقضين ، وهما العلم والشك ، وهو محال كما ثبت في محلّه.

٦٥

قلنا : ان الشكّ المأخوذ في موضوع الاصول هو الشك الوجداني واعتبار العلم في موارد جريانها تعبّدي ولا منافاة بينهما أصلا ، انّما التنافي بين الشك الوجداني والعلم الوجداني لا بين الشك الوجداني والعلم التعبّدي لاشتراط وحدات الثمانية في التناقض ومن جملتها وحدة الإضافة ، وفي هذا المقام ليست وحدة الإضافة بموجودة ، كما لا يخفى.

امّا لو كان هذا جمعا بين النقيضين فقد لزم التناقض في جميع موارد التنزيل كقول الصادق عليه‌السلام : «الفقاع خمر استصغره الناس» وكقوله عليه‌السلام : «الطواف بالبيت صلاة» فيقال : كيف يمكن أن يكون الفقاع خمرا مع انّه غيرها وجدانا؟ وكيف يمكن أن يكون الطواف صلاة مع انّه غيرها وجدانا أيضا؟

الجواب : ان الفقاع فقاع بالوجدان وخمر بالتعبّد ولا منافاة بينهما ، وكذا الطواف طواف بالوجدان وصلاة بالتعبّد الشرعي ولا منافاة في البين أصلا.

في قيام الاستصحاب مقام القطع

قوله : ثم لا يخفى ان دليل الاستصحاب أيضا لا يفي بقيامه ...

ولا يخفى عليك ان دليل حجّية الاستصحاب لا يكون أعلى شأنا من دليل حجّية الامارات.

فكما ان الامارات لم تقم بدليل حجيّتها مقام شيء إلّا مقام القطع الطريقي المحض ، دون الموضوعي منه سواء كان مأخوذا بما هو كاشف عن الواقع أم كان مأخوذا بما هو صفة من الصفات النفسانية كالشجاعة والجبن والكرم والبخل مثلا ، إلّا بدليل آخر يدلّ على تنزيلها منزلة القطع الموضوعي ؛ فكذلك الاستصحاب لا يقوم بدليل حجّيته واعتباره إلّا مقام القطع الطريقي المحض دون الموضوعي مطلقا ، إذ كلّ من المنزل والمنزل عليه ، وهما اليقين السابق والشك الفعلي ، امّا أن

٦٦

يكون ملحوظا على وجه الآلية ، أو على وجه الاستقلالية ولا يمكن الجمع بين اللحاظين كما قلنا في الامارات حرفا بحرف.

توضيح ذلك : ان اليقين والشك إذا كانا ملحوظين على وجه الآلية فيكون النظر الاستقلالي إلى المتيقّن والمشكوك ؛ وامّا إذا كانا ملحوظين على وجه الاستقلالية فيكون الملحوظ الاستقلالي نفس اليقين السابق والشك اللاحق بما هو هو ، والحال انّه لا يمكن الجمع بينهما في ملحوظ واحد في آن فارد وزمان واحد.

فانقدح الفرق بين الاستصحاب وسائر الاصول العملية ، إذ هو قائم مقام القطع الطريقي المحض ، كالامارات والطرق بخلافها.

ولذا قيل : ان الاستصحاب عرش الاصول وفرش الامارات ، إذ هو بالنسبة إلى الاصول عال لأجل لحاظ الطريقية في الجملة فيه دونها ، وبالإضافة إلى الامارات نازل من حيث الكشف.

وعلى طبيعة الحال : فاليقين والشك لا يخلو من وجهين امّا موضوعان للحكم وامّا غير موضوعين له ، ولا ريب ان التنزيل على الأوّل يكون بلحاظ نفس عنوان اليقين والشك ، فالشك المسبوق باليقين بمنزلة اليقين وينزل منزلته فالاستصحاب قائم مقام القطع الموضوعي ، إذ فيه يكون اليقين دخيلا في الحكم الشرعي فيكون لحاظ القطع استقلاليّا ؛ وان التنزيل على الثاني يكون بملاحظة عنوان المتيقن والمشكوك ، فالمشكوك المسبوق بالمتيقّن بمنزلة المتيقّن الواقعي ، فهذا نظير تنزيل مؤدّى الخبر الواحد منزلة الواقع ، فالاستصحاب يقوم مقام القطع الطريقي ويكون لحاظ اليقين آليّا كالامارات والخبر الواحد.

وعليه : فلا يجوز الجمع بين التنزيلين ، إذ يلزم منه الجمع بين لحاظ الآلي والاستقلالي في ملحوظ واحد ، وهو اليقين ، وهو جمع بين المتناقضين ، فهذا محال عقلا قطعا ، فلا يقوم الاستصحاب مقام القطع الموضوعي كالامارات الأخر.

٦٧

قوله : وما ذكرنا في الحاشية في وجه تصحيح لحاظ واحد ...

بعد ما منع المصنّف قدس‌سره عن قيام الامارات والطرق والاصول مقام القطع الموضوعي لاستلزامه الجمع بين لحاظ الآلي والاستقلالي في دليل حجيّتها ، كما تقدّم هذا.

ولكن ذكر في حاشيته على الرسائل وجها لقيامها مقامه وهو ان أدلّة حجيّة الامارات والاصول وان كانت متكفّلة لتنزيل المؤدّى منزلة الواقع فقط.

وعليه : فلا يكون هناك إلّا لحاظ آلي ، إلّا ان هذه الأدلّة الدالّة على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بالمطابقة تدلّ بالالتزام على تنزيل العلم بالمؤدّى منزلة العلم بالواقع لأجل الملازمة العرفية بين التنزيلين أي تنزيل مؤدّى الامارة ، أو تنزيل المستصحب منزلة الواقع بالدلالة المطابقية وتنزيل القطع بهما أي بالمؤدّى في الامارات والطرق وبالمستصحب في الاستصحاب منزلة القطع بالواقع بالدلالة الالتزامية العرفية.

فالواقع قسمان : أحدهما : واقع حقيقي ، وثانيهما : واقع تنزيلي فإذا تعلّق القطع بالواقع فهو حقيقي وإذا تعلّق الامارة ، أو الاستصحاب بالواقع فهو تنزيلي تعبّدي.

فمورد تنزيل القطع بالمؤدّى ، أو المستصحب منزلة القطع بالواقع فيما كان للقطع دخل في الموضوع يعني إذا كان موضوعيّا لا طريقيّا وهذا التنزيل ثابت لأجل الملازمة العرفية بين تنزيل نفس المستصحب ، أو المؤدّى منزلة القطع بالواقع ، وبين تنزيل القطع بهما وهو القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي فيصحّ التنزيلان بتنزيل واحد بناء على هذه الملازمة المذكورة.

فلا حاجة إلى التنزيل المتعدّد ، كما لا يخفى فيجوز قيام الامارات والاستصحاب مقام القطع الموضوعي الطريقي كما هو مذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره فأيّد المصنّف قدس‌سره بهذا مذهب الشيخ رضى الله عنه.

٦٨

ولكن المصنّف يقول : هذا لا يخلو من تكلّف بل تعسف ، إذ لا يخفى ان الحكم الثابت لمركب ذي أجزاء لا بدّ في مقام ترتّبه عليه من احراز أجزاء ذلك المركّب امّا وجدانا وامّا تنزيلا وامّا بعضها وجدانا وبعضها تنزيلا ، ولكن يشترط في صحّة التنزيل للجميع أن يكون تنزيل كل واحد في عرض تنزيل الآخر بحيث لا يكون أحد التنزيلين ناشئا من التنزيل الآخر بحيث يكون أحدهما متبوعا والآخر تابعا. فإنّه إذا كان كذلك لزم الدور حيث انّه يلزم توقّف كل واحد من التنزيلين على التنزيل الآخر ، امّا توقّف التنزيل التابع على التنزيل المتبوع فواضح لا يحتاج إلى التوضيح ، إذ هو مقتضى التبعية ، وامّا توقّف التنزيل المتبوع على التابع فلأنّه لولاه لكان لغوا حيث ان صحّة كل تنزيل بلحاظ الأثر الفعلي لذي المنزلة ولا ريب في ان الأثر الفعلي إنّما يثبت لذي المنزلة في ظرف انضمام بقية الأجزاء إليه لا في ظرف الانفراد وإلّا لم يكن موضوع الحكم مركّبا بل كان كلّ جزء موضوعا لحكم مستقل.

ففي رتبة التنزيل المتبوع إذا لم يكن الجزء الآخر محرزا بالوجدان ، أو لم يكن محرزا بتنزيل آخر في رتبة هذا التنزيل فلا يخلو من وجهين ، امّا أن لا يكون له أثر فعلي ، وقد عرفت انّه يمتنع التنزيل حينئذ ، وامّا أن يكون له أثر فعلي فيكون خلفا لكون المفروض أن الجزء ليس له وحده أثر بل يكون له أثر مع انضمام غيره إليه.

مثلا : قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء» ، فالموضوع لعدم الانفعال هو الماء مع كونه كرّا فلا يترتّب الحكم عليه ، وهو عدم الانفعال ، إلّا مع احراز كلا الجزءين ، وهما الماء والكر بالوجدان ، أو بالتعبّد الشرعي ، أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبّد المذكور.

وعليه : فلا يمكن التعبّد بأحدهما إلّا مع احراز الآخر بالوجدان ، أو بالتعبّد لكن في عرض التعبّد بالأوّل إذا أحرز به ، إذ التعبّد انّما يكون بلحاظ الأثر

٦٩

والمفروض انّه لا أثر فعلي لأحدهما يشمله دليل التعبّد الشرعي ، فإذا قامت البينة مثلا على كرّية مائع فلا يترتّب عليه الحكم بعدم الانفعال إلّا مع احراز كونه ماء بالوجدان ، أو بالتعبّد من قيام بيّنة اخرى على كونه ماء ، أو بجريان الاستصحاب عليه مثلا ، وكذا إذا قامت البيّنة على كونه ماء فلا يترتّب عليه الحكم بعدم الانفعال إلّا مع احراز كونه كرا بالوجدان ، أو بالتعبّد.

وكذا الحال : إذا أحرز أحدهما بالاستصحاب فلا يترتّب عليه الحكم إلّا مع احراز الآخر بالوجدان ، أو بالبيّنة ، أو بالاستصحاب الجاري في عرض ذاك الاستصحاب بأن يكون كلاهما متيقنين حدوثا مشكوكين بقاء ، كي يجري الاستصحاب في كليهما.

وفي ضوء هذا : فالمراد من التكلّف المذكور في العبارة هو منع الملازمة العرفية بين التنزيلين المذكورين ، أي بين تنزيل المؤدّى ، أو المستصحب منزلة الواقع وبين تنزيل القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي. وذلك لعدم تبادر هذا اللزوم في أذهان أهل العرف فلا يدلّ دليل الحجية إلّا على ترتيب آثار القطع على الامارة والاستصحاب بما هو طريق إلى الواقع وكاشف عنه كما يتبادر الجود من لفظ حاتم عند العرف ، كما ان المراد من التعسّف فيها هو لزوم الدور على فرض لزوم العرفي بين التنزيلين ، إذ لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع المركّب ، أو تنزيل قيده في الموضوع المقيّد منزلة القطع بما هو جزء الموضوع وبما هو قيد الموضوع بلحاظ خصوص الأثر الثابت لنفس المركّب والمقيّد إلّا فيما كان جزءه الآخر محقّقا محرزا بالوجدان ، هذا في الموضوع المركب ، وإلّا فيما كان ذات الموضوع محرزا بالوجدان ، هذا في الموضوع المقيّد كي يترتّب الحكم الشرعي على الموضوع بعد انضمام الجزءين في المركب وبعد تحقّق ذات المقيّد والقيد في الموضوع المقيّد.

٧٠

وامّا لو لم يحرز الجزء الآخر وذات المقيّد فلا أثر لتنزيل الجزء الآخر منزلة القطع بل هذا لغو ، وهو لا يصدر من المولى الحكيم ، إذ لا يكون هذا الجزء تمام الموضوع وإلّا فيما كان تنزيل الجزء الثاني في عرض تنزيل الجزء الأوّل بأن يكون تنزيلهما في رتبة واحدة.

فالمتحصّل من ذلك ان اطلاقات أدلّة الامارات واطلاقات أدلّة الاصول العملية غير شاملة للامارة القائمة على أحد جزءي الموضوع ولا الأصل الجاري في أحد جزءي الموضوع ليحرز بها الجزء الآخر بالدلالة الالتزامية ، إذ شمولها لأحد الجزءين متوقّف على أن يترتّب عليه أثر ، والشمول المذكور يتوقّف على شمولها للجزء الآخر وهو يتوقّف على شمولها للجزء الأوّل ، لأجل كون شمولها للجزء الآخر مترتّبا على شمولها للجزء الأوّل على الفرض ، وهذا هو الدور الصريح.

وبالجملة : التعبّد بكلا الجزءين انّما يصحّ فيما إذا كان الدليل شاملا لكلا الجزءين في عرض واحد وفي رتبة واحدة كما في شمول لا تنقض اليقين بالشك ، لما إذا شك في بقاء المائية والكرية معا فيجري الاستصحاب في كليهما في عرض واحد بلا ترتّب بينهما.

ولكن هذا الشمول لا يمكن الالتزام به فيما نحن فيه ـ وهو قيام الامارات والطرق والاستصحاب ، مقام القطع الموضوعي والطريقي ـ للزوم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي على مسلك المصنّف قدس‌سره.

امّا بخلاف ما إذا كان شمول الدليل لأحدهما في طول شموله للآخر ومتوقّفا عليه فإنّه ممّا لا يمكن التعبّد به ، لاستلزمه الدور الواضح ، كما تقدّم هذا ، فلا تشمله أدلّة التعبّد ، نعم لو ورد دليل خاص على حجيّة امارة خاصّة قائمة على أحد جزءي الموضوع ، أو ورد أصل خاص كذلك لدلّ على تنزيل الجزء الآخر بدلالة الاقتضاء

٧١

صونا لكلام الحكيم عن اللغوية بخلاف ما إذا كان الدليل عامّا ، أو مطلقا ، فإنّه لا يشمل مثل هذه الامارة ومثل هذا الأصل.

فالنتيجة ان الصحيح ما ذكره في الكفاية لا ما ذكره في الحاشية على الفرائد ، إذ لا يكون دليل الامارة ، أو دليل الاستصحاب دليلا على تنزيل جزء الموضوع منزلة الواقع ، أو تنزيل ذات الموضوع منزلته إذا لم يكن الدليل على تنزيل الجزء الثاني وعلى تنزيل قيد الموضوع منزلة الواقع والدليل عليه اما يكون الدليل الثاني الدال على التنزيل المذكور وامّا يكون احرازه بالوجدان.

وامّا يكون شمول الدليل الأوّل لكلا الجزءين في الموضوع المركّب ، أو شموله للمقيّد والقيد معا في الموضوع المقيّد بقيد في عرض واحد.

نعم لو كان التنزيلان معا بالمطابقة لصحّ الأمر ولا يلزم الدور ، إذ لا توقّف بين الدلالة المطابقية بل يكون بين الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية بحيث يتوقّف الثاني على الأوّل ، إذ الدلالة على لازم الموضوع له فرع الدلالة على أصل الموضوع له.

كما ان الدلالة على جزء الموضوع له فرع الدلالة على نفس الموضوع له ، لأنّ الدلالة على جزء المسمّى ولازمه مستلزم للوضع ، والوضع مستلزم للمطابقة فالدلالة عليهما مستلزم للمطابقة ، لأنّ مستلزم المستلزم مستلزم.

وعليه : فلو كان تنزيل المؤدى ، أو المستصحب منزلة الواقع معنى المطابقي لدليل حجيّة الامارة والاستصحاب وتنزيل العلم بالمؤدّى ، أو المستصحب منزلة العلم بالواقع أي تنزيل العلم التعبّدي منزلة العلم الواقعي الحقيقي معنى مطابقي آخر لدليل اعتبارهما لما كان الدور موجودا في البين ، امّا إذا كان التنزيل الأوّل معنى المطابقي له وتنزيل الثاني معنى الالتزامي له فقد لزم الدور في الموضوع المركّب ، وذلك كالماء والكر ، إذ تنزيل الماء التعبّدي منزلة الماء الواقعي لأجل قيام الخبر الواحد الثقة على كون المائع المعيّن ماء يتوقّف على احراز كريته بالوجدان ، أو

٧٢

بالبيّنة ، أو بالاستصحاب لأنّ التنزيل انّما يكون بلحاظ الأثر ، وهو عدم الانفعال ، واحراز الكرية من حيث ترتّب الأثر يتوقّف على التنزيل الأوّل ، فالتنزيل بين القطع بالموضوع التنزيلي وهو الماء التنزيلي التعبّدي ، والقطع بالموضوع الحقيقي ، وبدون تحقّق الموضوع التنزيلي التعبّدي أوّلا بدليل الامارة أو الاستصحاب لا قطع بالموضوع التنزيلي كي يدعى الملازمة بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي وتنزيل المؤدّى ، أو المستصحب منزلة الواقع ، كما لا يخفى على المتأمّل الدقيق.

فدلالة دليل حجيّة الامارة ، أو الاستصحاب على تنزيل المؤدّى ، أو المستصحب منزلة الواقع وذلك كتنزيل الكر المستصحب منزلة الكر الواقعي تتوقّف على دلالة دليل الامارة ، أو الاستصحاب على تنزيل القطع بالمؤدّى ، أو المستصحب منزلة القطع بالواقع بأن ينزل القطع بالخمر المستصحب منزلة القطع بالخمر الواقعي لأجل الملازمة بين تنزيل المؤدّى ، أو المستصحب منزلة الواقع ، وبين تنزيل القطع بالمؤدّى ، أو المستصحب منزلة القطع بالواقع.

والحال أنّه لا دلالة لدليل الامارة ، أو الاستصحاب على تنزيل القطع بالمؤدّى ، أو المستصحب منزلة القطع بالواقع إلّا بعد دلالته على تنزيل المؤدى ، أو المستصحب منزلة الواقع فإنّ الملازمة العرفية لو كانت ثابتة بين تنزيل القطع بالمؤدّى ، أو المستصحب منزلة القطع بالموضوع الحقيقي الواقعي وبين تنزيلهما منزلة الواقع كما لا يخفى ، وطول الكلام في هذا المقام لمزيد توضيح.

قوله : فتأمّل جيّدا فإنّه لا يخلو عن دقّة وتحقيق ...

فتحصّل ممّا ذكر ان تنزيل الواحد وهو تنزيل المؤدى ، أو المستصحب منزلة الواقع لا يكفي في قيام الامارات والاستصحاب مقام القطع الموضوعي الطريقي الكشفي والقطع الطريقي المحض بل يكفي في قيامهما مقام القطع الطريقي المحض.

٧٣

قوله : ثم لا يذهب عليك ان هذا لو تمّ لعمّ ...

لا يخفى عليك لو تمّ ما ذكره المصنّف قدس‌سره في الحاشية في وجه تصحيح قيام الامارات والطرق المعتبرتين والاستصحاب بدليل حجيّتها مقام القطع الطريقي والقطع الموضوعي الكشفي الطريقي لعمّ هذا جميع أقسام القطع مع قطع النظر عن اشكال الدور في الموضوع المركّب والمقيّد هذا مضافا إلى اجتماع لحاظ الآلي والاستقلالي في ملحوظ واحد في آن فارد في مطلق الموضوع لأنّ التفكيك بين القطع الصفتي والقطع الموضوعي الكشفي الطريقي بناء على الملازمة بين تنزيل المؤدى ، أو المستصحب منزلة الواقع ـ وبين تنزيل القطع بالمؤدّى ، أو المستصحب منزلة القطع بالواقع بعيد جدّا عن المتفاهم العرفي فلا اختصاص لوجه الصحيح بالقطع الذي كان مأخوذا في الموضوع على نحو الكشف والطريقية كما قال به شيخنا الأنصاري قدس‌سره فالمختار عند المصنّف قدس‌سره جواز قيام الامارات المعتبرة والطرق بنفس أدلّة حجيّتها مقام القطع الطريقي المحض الذي لم يؤخذ في موضوع الحكم أصلا لا بعنوان تمامه ولا بعنوان شطره وجزءه ـ ولا بعنوان شرطه وقيده وعدم جواز قيامها بنفس أدلّة اعتبارها مقام القطع الموضوعي سواء كان وصفيا أم كان طريقيّا ، سواء كان الوصفي تمام الموضوع أم كان جزء الموضوع.

ولكن الطريقي من القطع الموضوعي لا يكون شيئا إلّا جزء الموضوع ، كما تقدّم هذا ، وهذا معيار الفرق بين القطع الموضوعي الوصفي وبين القطع الموضوعي الطريقي الكشفي وإلّا لزم فيه اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي ، كما لا يخفى ، فلا معنى لتفصيل الشيخ الأنصاري في كيفية أخذ القطع في الموضوع بين الوصفي والكشفي الطريقي.

٧٤

في حجيّة القطع

قوله : الأمر الرابع لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع ...

ولا يخفى انّه لا يمكن أن يؤخذ القطع بوجوب صلاة الجمعة مثلا موضوعا لنفس هذا الحكم نحو إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة فيجب عليك صلاة الجمعة لأنّه مستلزم للدور المحال.

امّا بيان الدور فلأنّ القطع بوجوب صلاة الجمعة يتوقّف على وجوبها واقعا كي يتحقّق القطع من المكلّف بوجوبها ، إذ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له. ووجوبها يتوقّف على القطع ، إذ هو أخذ في موضوعه لا في موضوع وجوب آخر فيتوقّف الوجوب على القطع من باب توقّف الحكم على موضوعه بلا فرق فيه بين ما إذا أخذ القطع تمام الموضوع ، أو جزء الموضوع. مثال القطع الذي أخذ جزءه نحو إذا كانت صلاة الجمعة واجبة ومقطوعة الوجوب يجب عليك صلاة الجمعة ، فالدور ، أوضح هنا من لزوم الدور إذا أخذ القطع تمام الموضوع لأنّ الحكم بوجوبها يتوقّف على أمرين :

الأوّل : وجوبها واقعا.

والثاني : القطع بوجوبها ، إذ الحكم بوجوبها إثباتا فرع ثبوت الوجوب لها ثبوتا وفرع تحقّق القطع به من باب ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ومن باب توقّف الحكم على موضوعه وعلى جميع قيوده وأجزاءه ومن جملتها القطع امّا إذا اخذ القطع تمام الموضوع فيتوقّف الحكم ، وهو الوجوب ، على أمر واحد ، وهو القطع ، من باب توقّف الحكم على موضوعه فالتوقّف على أمرين ، أوضح من التوقّف على أمر واحد. وهذا وجه كون الدور أوضح في صورة أخذ القطع جزء الموضوع من الدور الذي يلزم في صورة أخذ القطع تمام الموضوع.

٧٥

قوله : ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ولا ضدّه للزوم اجتماع الضدّين ...

فلا يمكن للشارع المقدّس أن يأخذ القطع بوجوب صلاة الجمعة مثلا موضوعا لوجوب آخر متعلّق بصلاة الجمعة نحو إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة فيجب عليك صلاة الجمعة بوجوب آخر بمعنى تحقّق الوجوبين : الأوّل هو الوجوب الذي تعلّق به القطع ، الثاني : هو الوجوب الذي تحقّق بعد القطع لأجل لزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع في محل فارد ، وهو محال كاجتماع الضدّين فيه.

قوله : ولا ضدّه للزوم اجتماع الضدّين ...

فلا يمكن أيضا أن يأخذ القطع بوجوب صلاة الجمعة مثلا موضوعا لحرمتها. نحو : إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة فيحرم عليك فعلها للزوم اجتماع الضدّين في موضوع واحد وفي محل فارد ، واستحالته واضح عقلا ، امّا بيان استحالة اجتماع المثلين فلأنّه يلزم من تحقّق أحدهما في محل عدم تحقّقه ، وتحقّق أحدهما فيه وعدم تحقّقه فيه محال ، فاجتماع المثلين محال ، إذ مستلزم المحال محال ، وكذا اجتماع الضدّين محال حرفا بحرف ، أي هو مستلزم المحال ، كما مرّ هذا في استحالة الدور والتسلسل.

قوله : نعم يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة اخرى منه ...

قد مرّ مرارا تفصيل مراتب الحكم من الاقتضائي والإنشائي والفعلي والتنجزي فيصح أن يؤخذ القطع بمرتبة الحكم موضوعا لمرتبة اخرى منه أي إذا كان الحكم المقطوع به في مرتبة الإنشاء مثلا جاز أن يؤخذ القطع به موضوعا لذلك الحكم في مرتبة الفعلية بأن يكون القطع به موجبا لفعليّته نحو إذا قطعت بوجوب الإنشائي لصلاة الجمعة فيصل وجوبها بمرتبة الفعلية.

قوله : ، أو مثله ، أو ضدّه ...

فلا مانع من أن يؤخذ القطع بحكم في مرتبة موضوعا له في مرتبة اخرى منه

٧٦

حال كونه مماثلا له نحو إذا قطعت بوجوب الإنشائي لصلاة الجمعة فيجب عليك فعلها فعلا ، فالوجوب الفعلي مماثل للوجوب الإنشائي ماهية ، ولكن يختلفان رتبة ، ومن أن يؤخذ القطع بحكم في مرتبة موضوعا لضدّه في مرتبة اخرى منه نحو إذا قطعت بحرمة شرب التتن انشاء فهو يباح فعلا ، إذ لا يلزم الدور في الصورة الاولى وهي أخذ القطع بحكم في مرتبة موضوعا لمرتبة اخرى منه ، إذ يتوقّف القطع على الإنشائي من الحكم.

والوجوب الفعلي يتوقّف على القطع فليس الشيء الواحد موقوفا وموقوفا عليه بل يكون الموقوف شيئا وهو القطع ، والموقوف عليه شيئا آخر ، وهو الحكم الانشائي. هذا في الشرط والوجوب الفعلي موقوف. والقطع موقوف عليه في ناحية الجزاء ، فيتعدّدان في الشرط والجزاء معا ولا يلزم اجتماع المثلين لاختلاف الوجوب الإنشائي والوجوب الفعلي في محل واحد ماهية ومصداقا ، كالإنسان والفرس ، وكذا لا يلزم اجتماع الضدّين في محلّ واحد لاختلاف الحكم الإنشائي والحكم الفعلي من حيث الفعلية لأنّ الحكم الإنشائي حكم بالقوّة والحكم الفعلي حكم بالفعل فهذا نظير اجتماع البياض بالقوّة والسواد بالفعل في محل واحد وموضع فارد ، فهذا ليس بمحال ، إذ المحال هو اجتماع البياض بالفعل والسواد بالفعل في محل واحد وموضوع فارد لا اجتماع البياض بالقوّة والسواد بالفعل ، لاشتراط الاتحاد من حيث القوّة والفعل في التناقض كما في المنطق.

قوله : وامّا الظن بالحكم فهو وإن كان كالقطع ...

فالظنّ بالحكم كالقطع به في كون كليهما طريقين إلى الواقع. غاية الأمر : القطع طريق حقيقي إليه والظن طريق تنزيلي تعبّدي إليه.

وعليه : كما لا يمكن أخذ القطع بالحكم موضوعا لنفس هذا الحكم فكذا لا يمكن أخذ الظن بالحكم موضوعا لشخص هذا الحكم نحو إذا ظننت بوجوب

٧٧

صلاة الجمعة فيجب عليك فعلها للزوم الدور لأنّ الظن بوجوبها يتوقّف على وجوبها واقعا من باب توقّف الظن على المظنون.

ووجوبها يتوقّف على الظن من باب توقّف الحكم على موضوعه وعلى جميع أجزاءه وقيوده إلّا انّه لما كان مع الظن مرتبة الحكم الظاهري محفوظة لأنّ الجهل بالواقع لم يرتفع من أصله مع الظن بالحكم لبقاء احتمال الخلاف معه كان جعل حكم آخر في مورده حال كونه مثل حكم المظنون ، أو ضدّه ممكنا ، نحو إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، لقيام الامارة عليه ، فهي واجبة عليك بوجوب مماثل للوجوب المظنون ؛ ونحو إذا ظننت بحرمة الخمر من أجل قيام الامارة ، وذلك كقيام خبر العدل ، أو الثقة عليها ، فهو مباح لك ظاهرا بخلاف القطع لأنّه لا يمكن جعل حكم مثل حكم المقطوع به في مورده وجعل ضد حكم المقطوع به في مورده للزوم اجتماع المثلين في محل واحد وللزوم اجتماع الضدّين فيه كما سبق هذا.

امّا بخلاف الظن فإنّه يمكن هذا في مورده ، والسرّ في ذلك المطلب : ان حكم المظنون بسبب الجهل بالواقع وبسبب عدم كشف القناع عنه فعليا غير منجز ؛ والحكم الذي قد أخذ الظن موضوعا له يكون فعليّا منجزا لتنزيل الظن منزلة العلم فلا يلزم حينئذ اجتماع المثلين في محل واحد ولا اجتماع الضدّين فيه لاختلافهما في التنجّز وعدم التنجّز ، فالفرق واضح بين القطع والظن ، لأنّ من قطع بحكم شرعي فلا يجوز من قبل الشارع المقدّس جعل الحكم الظاهري له لأنّ جعله مختص بالجاهل والقاطع ليس بجاهل سواء كان قطعه مصيبا بالواقع أم كان مخطئا عنه كي يجعل الشارع المقدّس حكما ظاهريا له فالقاطع يرى الواقع رؤية تامّة كاملة.

امّا الظان فليس له الواقع منكشفا انكشافا تامّا كاملا فيجوز جعل الحكم الظاهري له فيصحّ أن يقال إذا ظننت بوجوبها واقعا فهي مباحة لك ظاهرا لعدم

٧٨

التنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي لاختلافهما في الرتبة والمرتبة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث التوفيق بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي.

ولكن لا يصحّ أن يقال إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة واقعا فهي واجبة عليك ظاهرا ، وإذا قطعت بنجاسة ثوبك مثلا فهو طاهر ظاهرا للزوم اجتماع المثلين في الأوّل وللزوم اجتماع الضدّين في الثاني لأنّ القاطع يرى الواقع ، وامّا الظان فلا يرى الواقع.

وعليه : فقد ظهرت جهة اشتراك القطع والظن ، وهي عدم جواز أخذهما موضوعين لنفس حكم المقطوع به والمظنون به ، للزوم الدور الصريح ، كما سبق هذا آنفا.

وجهة افتراقهما وهي جواز جعل الحكم المماثل لحكم المظنون في مورد الظن أي يجوز جعل الظن بالحكم موضوعا لمماثله ، أو لمضادّه ويلزم حينئذ اجتماع العنوانين وعدم جواز جعل القطع بالحكم موضوعا لمماثله أي لمماثل حكم المقطوع به ، أو موضوعا لمضاد حكم المقطوع به.

وقد سبق وجه ذلك مفصّلا ، فلا حاجة إلى الإعادة.

قوله : إن قلت ان كان الحكم المتعلّق به الظن فعليّا ...

وقد استشكل في هذا المقام بأنّه لا يجوز للشارع المقدّس أخذ الظن بالحكم موضوعا لحكم مماثل لحكم المظنون به ، أو مضاد له لأنّ الحكم الذي تعلّق به الظن حكم فعلي وليس بإنشائي.

وعليه : فيجتمع الحكمان الفعليان في محل واحد وموضوع فارد :

أوّلهما : حكم المظنون به ، وهو وجوب صلاة الجمعة.

وثانيهما : وجوب آخر لها ، أو حرمتها ظاهرا فمعنى جملة إذا ظننت بوجوب فعلي صلاة الجمعة فتجب عليك فعلا ظاهرا ، وإذا ظننت بوجوب فعلي صلاة

٧٩

الجمعة من جهة الامارة عليه. وتلك كخبر العدل ، أو الثقة فتحرم عليك فعلا ظاهرا ، فهذا مستلزم لاجتماع المثلين ، أو الضدّين في محل واحد ولو ظنّا ، إذ كما ان القطع باجتماعها محال كذا الظن باجتماعها محال أيضا بل احتمال اجتماعها محال أيضا بل يصحّ أخذ الظن بالحكم موضوعا لحكم آخر نحو إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، فيجب عليك التصدّق بكذا أي بدرهم مثلا كالقطع نحو إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة فيجب عليك التصدّق بكذا أي بدرهمين مثلا.

فالظن من هذه الناحية كالقطع ، إذ كما لا يصحّ نحو إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ؛ فتجب عليك ، أو فتحرم عليك كذا لا يصحّ نحو إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة فتجب عليك ، أو فتحرم عليك.

في جواب المصنّف عنه

وليعلم ان الحكم الفعلي على نحوين :

الأوّل : فعلي تعليقي بمعنى لو تعلّق به القطع لكان فعليّا منجّزا بحيث يتعلّق به الإرادة إذا كان وجوبيّا ، أو يتعلّق به الكراهة إذا كان تحريميّا ويجب موافقته ويحرم مخالفته فهو معلّق على القطع فإذا حصل القطع به فقد صار فعليّا تامّا منجزا.

فهذا القسم برزخ بين الإنشائي من الحكم والفعلي منه ، إذ لا يجب على الشارع المقدّس عقلا رفع الجهل عن المكلّف ولا جعله قاطعا تكوينا ولا إيجاب الاحتياط عليه تشريعا في صورة عدم التمكّن من إزالة جهله فإذا لم يتعلّق به إرادة المولى ولا كراهته فلا يلزم اجتماع المثلين إذا أخذ الظن بالحكم موضوعا لحكم مماثل من حيث الماهية لحكم المظنون به ولا اجتماع الضدّين إذا أخذ الظن بالحكم موضوعا لحكم مضاد لحكم المظنون به ، ولأجل الفرق بين الفعلي التعليقي والفعلي الحتمي فالحكم المظنون به ، وهو وجوب صلاة الجمعة ، فعلي تعليقي ،

٨٠