البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

صلّى صلاة مندوبة ، ولا يصح أن يقال انّه صلّى صلاة بعنوان الاحتياط ، واما إذا كان مفاد أخبار من بلغ استحباب العمل بعنوان بلوغ الثواب عليه فنسلم حينئذ دلالتها على استحباب العمل بعنوان الاحتياط مثل أوامر الاحتياط لو كانت مولوية لا إرشادية بلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

وعلى ضوء هذا : تكفي اخبار من بلغه الثواب في دفع امكان اشكال الاحتياط في العبادات كما يمكن في دفع اشكال امكان الاحتياط فيها كون أوامر الاحتياط مولويّا ولا تكون بإرشادي إذ يكفي الأمر المولوي في قصد القربة.

فالمتحصّل : أن في أخبار من بلغ مبنيين :

المبنى الأوّل : انّها تدلّ على استحباب العمل الذي دلّ عليه خبر الضعيف ، مثلا إذا دلّ خبر الضعيف على ان الدعاء عند رؤية الهلال واجب أم مستحب ، فالدعاء من حيث هو هو واجب وليس هو بعنوان الاحتياط واجب ، فالدعاء يكون مثل سائر الواجبات إذا كان واجبا أو يكون مثل بقيّة المستحبّات الشرعيّة إذا كان مستحبّا ، فإذا فعل المكلّف الواجب المعيّن ، وذلك كصلاة المغرب مثلا ، فلا يقال انّه احتاط ، وكذا إذا فعل نافلة المغرب فلا يصحّ أن يقال له انّه عمل بالاحتياط وأتى بمحتمل الواقع ، فكذا إذا فعل الدعاء عند رؤية الهلال حرفا بحرف.

المبنى الثاني : ان أخبار من بلغه الثواب تدل على استحباب العمل الذي يكون محتمل الثواب وبعنوان بلوغ الثواب عليه لا بعنوان نفسه وبما هو فيكون إتيانه بعنوان الاحتياط مثل سائر أوامر الاحتياط.

في الجواب عنه :

أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا الاشكال بأن الأمر على نحوين : أحدهما مولوي ، والآخر ارشادي. والأمر المولوي امّا عبادي وامّا توصّلي ، ولكن الأمر

٥٨١

بعنوان ان الاحتياط يكون توصليا لا يشترط فيه قصد التقرّب لعدم الدليل العقلي ولا النقلي على كون أوامر الاحتياط تعبّديا ، فلا يصحح هذا الأمر للاحتياط في العبادات التي يشترط فيها قصد التقرّب.

وعليه : فالأمر التوصّلي كالأمر الارشادي في عدم تصحيحهما قصد التقرّب وإذا لم يكن مصحّحا له فلم يكن مصحّحا لجريان الاحتياط في العبادات إذ من الواضح اعتبار قصد التقرّب فيها ، هذا أوّلا.

وثانيا : انّه لا يصحّ قصد التقرّب بسبب أوامر الاحتياط وإن سلمنا كونها عبادية لا توصلية للزوم الدور.

أمّا بيانه فلأنّ الاحتياط يتوقّف على الأمر به حتّى يجوز الاحتياط بقصد الأمر به ، ولكن الأمر بالاحتياط يتوقّف على وجود الاحتياط قبل الأمر به لكون الأمر عارضا عليه والعارض بما هو عارض يقتضي تقدّم المعروض عليه.

خلاصة الكلام :

ان الاحتياط موقوف على الأمر من باب توقّف عنوان وجوب فعل من الأفعال أو عنوان استحبابه على وجود الأمر من قبل الشارع المقدّس ، والأمر موقوف على الاحتياط من باب توقّف تحقّق العارض في الخارج على تحقّق المعروض فيه كتوقّف تحقّق السواد على تحقّق الجسم في الخارج ، فصار الشيء الواحد موقوفا وموقوفا عليه وهو محال لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه وتأخّره عن نفسه ، وهما محالان ، فالمستلزم المحال محال أيضا.

وعلى ضوء هذا : فلا تصحّح أوامر الاحتياط قصد التقرّب للزوم الدور المحال ، والدور عبارة عن توقّف الشيء على ما يتوقّف على ذلك الشيء. وذلك كتوقف الألف على الجيم والجيم على الألف مثلا.

٥٨٢

في مفاد أخبار من بلغ

قوله : ثم انّه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ...

وقد وقع الاختلاف في دلالة اخبار من بلغه ثواب بين الشيخ الأنصاري والمصنّف قدس‌سره.

قال الشيخ قدس‌سره : ان المستفاد من هذه الاخبار انها لا تفيد استحباب العمل الذي دل على استحبابه الخبر الضعيف وان الأخبار انّما تكون في صدد ان الانقياد لله تعالى حسن كما يحكم العقل بحسن الانقياد والاحتياط ، واستدل لذلك بما ورد في بعض تلك الأخبار من قول المعصوم عليه‌السلام : من عمل عملا رجاء ذلك الثواب أو التماس ذلك الثواب. فإنّ ظاهره ان العمل المأتي به انّما يكون بعنوان الانقياد والخضوع برجاء الثواب أو بالتماس الثواب ، وعليه فلا يصحّ الافتاء باستحباب العمل الذي قام على استحبابه خبر الضعيف نظرا إلى هذه الأخبار ، وهذا واضح لا ستر فيه.

أمّا المصنّف قدس‌سره فقد ذهب إلى انّها تفيد الاستحباب ، أي استحباب العمل الذي دل على استحبابه خبر الضعيف ، واستدلّ عليه بأنّه جعل في بعض الأخبار الثواب بازاء العمل بما هو هو مثل قول المعصوم عليه‌السلام فعله كان أجر ذلك له ، والمقصود من المشار إليه ذلك هو العمل المأتي به فأضاف المعصوم عليه‌السلام كلمة الأجر إليه ، أي إلى العمل ، أي أجر العمل المأتي به فيستفاد من هذه الإضافة ان الثواب مترتّب على نفس العمل بما هو هو والثواب لا يكون إلّا على واجب أو مستحبّ.

إذا عرفت ذلك فقال لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب فإنّ صحيحة هشام بن سالم رحمهما‌الله المحكية عن كتاب المحاسن للبرقي قدس‌سره عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : من بلغه عن النبي

٥٨٣

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وان كان رسول الله لم يقله (١) ظاهرة في أن الأجر كان مترتّبا على نفس العمل الذي بلغه عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه ذو ثواب وأجر.

وأمّا وجه ظهوره في ترتّب الثواب على نفس العمل بما هو عمل فهو ظهور كلمة أجر ذلك له فيه إذ المقصود من مشار إليه كلمة ذلك هو العمل أي أجر ذلك العمل له كما مرّ.

فإن قيل : ان هذه الأخبار تدلّ على حسن الانقياد على طبق حكم العقل بحسنه ولا تدلّ على استحباب العمل بما هو عمل لقرينتين :

الاولى : كون العمل متفرّعا على البلوغ.

الثانية : نكون البلوغ داعيا إلى العمل أي يكون بلوغ الثواب محرّكا للعبد إلى العمل ، فالعمل متفرّع على البلوغ أي بلوغ الثواب عليه بحيث يكون البلوغ داعيا إلى العمل.

وعليه يكون الثواب مترتّبا على البلوغ بحيث إذا أتى المكلّف بالشيء الذي بلغ عليه الثواب بداعي البلوغ فيكون الثواب عائدا إليه وإلّا فلا.

فالنتيجة : ثبت مدعى الشيخ الأنصاري قدس‌سره في هذه الأخبار.

في جواب المصنّف قدس‌سره عنه

قال قدس‌سره سلّمنا كون العمل متفرّعا على البلوغ وكون البلوغ داعيا إلى العمل ولكن لا يوجب هذان الكونان ترتّب الثواب على نفس البلوغ بما هو بلوغ بحيث يكون نفس العمل خاليا عن الثواب بل إذا فعل المكلّف بالشيء برجاء كونه مأمورا به وبعنوان الاحتياط فالله تعالى يعطي الثواب على نفس العمل وليس الثواب في

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ١ : ٦٠ الباب ١٨ من أبواب مقدّمات العبادات الحديث ٣.

٥٨٤

قبال الاتيان بداعي البلوغ لأنّ الداعي انّما يكون جهة تعليلية للعمل الراجح وخارجا عن حقيقة العمل وليس بجهة تقييدية كي يكون قصد رجاء الثواب جزءا من موضوع حكم الشارع المقدّس بإعطاء الثواب على العمل والداعي ؛ فلا يوجب الداعي المذكور وجها وعنوانا للعمل إذ الموجب وجها وعنوانا هو الداعي الذي يكون جهة تقييدية وهي ليست بموجودة في المقام ، فالثواب في اخبار من بلغ مترتّب على نفس العمل بما هو عمل.

فيثبت حينئذ استحباب نفس العمل الذي دلّ على استحبابه خبر الضعيف ودلّ على أنّه ذو ثواب فلا يتوقّف الثواب على الاتيان بالعمل بعنوان أنّه ذو ثواب بل يترتّب على نفس العمل ويتوقّف على إتيانه بقصد التقرّب إلى ساحة المولى الجليل كما لا يخفى.

مثلا ؛ ورد في النصوص المعتبرة من زار أمير المؤمنين عليه‌السلام كان له ثواب عتق ولد من أولاد إسماعيل النبي على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام.

فالثواب الموعود يعطى للزائر على نفس الزيارة لا على كونه ذا ثواب عظيم ولا على كونه معنونا بعنوان الأجر الكبير ، وكذا روى عن المعصوم عليه‌السلام : من سرّح لحيته فله عشر حسنات يعطى عشر حسنات للمسرّح على نفس التسريح ولا يعطى له من حيث ان التسريح معنون بعنوان ثواب عشر حسنات ، وكذا أخبار من صلّى فله كذا من الأجر ومن صام فله كذا وكذا حرفا بحرف.

وعلى هذا : فقد ثبت مبنى المصنّف قدس‌سره في الاخبار من بلغه ثواب.

قوله : وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

فإن قيل من قبل الشيخ الأنصاري قدس‌سره ان في بعض اخبار من بلغ قيد إتيان العمل بطلب قول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو رواية محمد بن مروان عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب ففعل ذلك طلبا لقول

٥٨٥

النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له ذلك الثواب وإن كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله (١).

وعليه : فيحمل المطلقات من هذه الأخبار على المقيّدات منها ، ويكون المراد منها هو المقيّدات ، كما في اعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة.

وعلى طبيعة الحال ؛ فيدلّ أخبار من بلغه ثواب على حسن الانقياد لله تعالى ولا تدلّ على استحباب العمل الذي دل خبر الضعيف على أنّه ذو ثواب عظيم.

في تضعيف المصنّف قدس‌سره

لما فرغ المصنّف قدس‌سره عن التضعيف الأوّل بقوله : وكون العمل لمبنى الشيخ الأنصاري قدس‌سره شرع في التضعيف الثاني بقوله : وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قيّد العمل بالطلب المذكور في بعض الأخبار ، وهو خبر محمّد بن مروان رحمه‌الله عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام.

وان كان انقيادا وهو حسن عقلا لأنّه أرقى مراتب العبودية ، إلّا ان الثواب في صحيحة هشام بن سالم رحمهما‌الله انّما رتب على نفس العمل ، فالعمل بها متعيّن إذ سائر الأخبار لا يقاوم معها في مقام التعارض ، لأنّ الثقات لا تقاوم مع الصحيحة والصحاح.

هذا ؛ ولا موجب لتقييد الصحيحة المذكورة برواية محمّد بن مروان رحمهما‌الله لعدم المنافاة بين الصحيحة وبين بعض الأخبار ، إذ في الصحيحة رتّب المعصوم عليه‌السلام الثواب على نفس العمل وفي رواية محمد بن مروان رتّبه على الانقياد الذي يحسن عقلا ؛ ومن الواضح انّه لا تهافت بين المثبتين ولا تباين بينهما إذ قد ثبت في محلّه عدم التنافي بين الدليلين المثبتين مثل اعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة ، بالإضافة إلى عتق المؤمنة منها ، بل يكون التهافت بين الدليلين بحيث يكون أحدهما مثبتا والآخر

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ج ١ ص ٦٠ الباب ١٨ من أبواب مقدّمات العبادات الحديث ٤.

٥٨٦

منفيّا ، ولأجل هذا حمل الأصوليون المطلق على المقيّد إذا كان أحدهما مثبتا والآخر منفيّا ، بحيث يكون المطلق منفيّا والمقيّد مثبتا نحو لا تعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة فيحمل المطلق على المقيّد ويكون المراد من المطلق هو المقيّد أي لا تعتق رقبة كافرة ولكن اعتق رقبة مؤمنة فيصير حينئذ مفاد المطلق كمفاد المقيّد.

وامّا إذا كان المطلق مثبتا والمقيّد منفيا ، نحو اعتق رقبة ولا تعتق المكاتب فيكون المراد من المطلق هو غير المقيّد أي اعتق رقبة غير المكاتب بخلاف ما إذا كان المطلق والمقيد مثبتين نحو اعتق المكاتب واعتق المكاتب المشروط ، ولا يحمل المطلق على المقيّد كي لا يكون عتق المكاتب المطلق مجزيا ، بل يحمل المقيّد على الأفضلية وبخلاف ما إذا كانا منفيين نحو لا تعتق المكاتب ولا تعتق المكاتب الكافر ، فلا يحمل المطلق على المقيّد كي يجزي عتق المكاتب المؤمن بل لا يجزي اعتاق المكاتب أصلا.

فالنتيجة : يكون حمل المطلق على المقيّد فيما إذا كان بينهما تناف مثل اعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة ، بالإضافة إلى عتق الكافرة إذ بلحاظ المطلق يجزي عتق الكافرة واعتاقها ، وبلحاظ المقيّد لا يجزي اعتاقها في كفّارة الظهار مثلا.

وعليه : يحمل المطلق على المقيّد ويكون المراد من المطلق غير المقيّد ، فالرواية الصحيحة انّما رتّبت الثواب على نفس العمل فلا موجب لتقييدها بالخبر الذي دلّ على ترتّب الثواب على الالتماس لثواب أو على طلب قول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعدم المنافاة بينهما بل لو أوتي بالعمل الذي قام عليه الخبر الضعيف بداعي طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بداعي التماس الثواب الموعود كما قيّد به في بعض الأخبار لاوتي الأجر والثواب على نفس العمل لا بما هو احتياط وانقياد فيكشف ترتّب الثواب والأجر على نفس العمل عن مطلوبية العمل بعنوانه الأوّلي.

وعليه : فيكون وزان أخبار من بلغه ثواب مثل وزان من سرّح لحيته فله عشر

٥٨٧

حسنات (١) ، ولا ريب في ترتّب عشر حسنات على نفس التسريح بما هو تسريح ، ومثل وزان من صلّى أو صام فله كذا وكذا من الأجر والثواب ، ومن زار أبا عبد الله الشهيد عليه‌السلام فله كذا أي فله ثواب حجّ مقبول وعمرة مقبولة.

ولا ريب في ان هذه الأخبار تدل على اعطاء الله تعالى الثواب الموعود على إتيان نفس العمل الخاص ، وعلى استحبابه بما هو عمل ولا تدل على ان الثواب انما يكون للانقياد والاحتياط وبرجاء المطلوبية ، وكذا أخبار من بلغه الثواب حرفا بحرف ، إذ نكشف من ترتّب الثواب استحباب العمل الخاص كما نكشف من ترتّب الثواب على التسريح استحبابه ولعل لاستفادة استحباب العمل بما هو عمل أفتى المشهور ، أي أكثر الأصحاب رحمهم‌الله باستحباب العمل الذي رتّب الثواب عليه في لسان الأخبار ، وذلك كالدعاء عند رؤية الهلال ، ولم يقيّدوا فتواهم بإتيان العمل برجاء المطلوبية.

قوله : فافهم وتأمّل ...

وهو إشارة إلى بيان الثمرة بين قول الشيخ الأنصاري قدس‌سره وبين مختار المصنّف قدس‌سره وهي عبارة عن كيفيّة دلالة اخبار من بلغه الثواب إذ لو قلنا انّها تدل على استحباب العمل الخاص الذي رتّب الثواب عليه لجاز للمجتهد أن يفتي باستحبابه وان دل على استحبابه الخبر الضعيف.

وامّا إذا قلنا بأنّها تدل على استحباب الاحتياط فلا يجوز للمجتهد أن يفتي بالاستحباب بل يجوز له أن يقول بجواز اتيان العمل برجاء المطلوبية لأنّه انقياد ، وكل انقياد حسن عقلا وراجح شرعا ، فهذا حسن عقلا وراجح شرعا.

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل : ص ٤٢٨ باب استحباب تسريح اللحية الحديث ١.

٥٨٨

في بيان حكم الشبهات الموضوعية التحريمية

قوله : الثالث انّه لا يخفى ان النهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب ...

فالنهي عن الشيء ، نحو : شرب الخمر مثلا ، على قسمين :

أحدهما : يكون النهي متعلّقا بطبيعة شرب الخمر مثلا نحو لا نشرب الخمر ، ولا ريب في أن النهي إذا تعلّق بالطبيعة المطلقة فيجب ترك المنهي عنه بحسب إطلاقها وأفرادها في جميع الأزمنة وفي كل الأمكنة إذ لو وجدت الطبيعة في ضمن فرد في زمان من الأزمنة وفي مكان من الأمكنة ، فيتحقّق مخالفة النهي ولا يكون العبد ممتثلا ولا يعدّ مطيعا كما يكون لازم هذا التعلّق ترك شرب الخمر إذا كان المائع مشكوكا في كونه خمرا أو خلّا إلّا إذا كان هناك أصل يحرز به ترك شرب الخمر مثل ما إذا كان المكلّف تاركا له قبل شرب هذا المائع المشكوك كونه خمرا أو خلّا وبالفعل يكون تاركا له فإذا شرب هذا المائع المشكوك فلا يعلم أنّه شرب الخمر أم لا فنستصحب بقاء عدم شرب الخمر إلى حين شرب هذا المائع ويبقى الترك بحاله إذ يحرز بهذا الاستصحاب ترك الشرب بالمرّة.

وعلى هذا الأساس لا يجوز للمكلّف الاتيان بشيء يشك معه في ترك المنهي عنه وفي اعدامه خارجا ، وذلك كشرب المائع المشكوك ولا يجوز له شربه بحكم العقل من باب وجوب دفع الضرر المحتمل وهو احتمال عصيان المولى لأنّه يحتمل أن يكون خمرا واقعا وربّ احتمال يكون مطابقا للواقع ، كما لا يخفى.

والحال ان الطبيعة تتحقّق بتحقّق فرد في الخارج كما تتحقّق بتحقّق جميع أفرادها ومصاديقها.

٥٨٩

خلاصة الكلام :

فيجب على المكلّف اليقين باعدام الطبيعة المنهي عنها من جهة ان الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني وهو لا يتحقّق إلّا باليقين باعدامها بالمرّة في الخارج ، كما لا يخفى. هذا حكم تعلّق النهي بالطبيعة.

في بيان حكم تعلّق النهي بالافراد

قوله : نعم لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حدة لما وجب إلّا ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان حكم النهي الذي تعلّق بالطبيعي المنهيّ عنه شرع في بيان حكم النهي الذي تعلّق بكل فرد منها على حدة ، وقال ثانيهما انه : إذا تعلّق النهي بكل فرد فرد بحيث يكون كل فرد من الطبيعة موضوعا للحكم ويستقل في الموافقة والمخالفة ، نحو : لا تكرم الفسّاق أي لا تكرم زيد الفاسق ولا عمر الفاسق ولا بكر الفاسق فإذا شك في فسق خالد بن وليد مثلا فنتمسّك باصالة البراءة ، ونحكم بعدم حرمة اكرامه إذ لا يعلم فسقه وجدانا ولا تعبّدا ، فالمكلّف به ليس بمعلوم ، ومقتضى الأصل عدم فعلية التكليف في الفرد المشتبه ويجوز لنا التمسّك بالأصل في الفرد المشتبه.

امّا بخلاف القسم الأوّل فإنه لا يجوز لنا التمسّك به فيه إذ المكلّف به في القسم الأوّل معلوم لنا ، وهو الطبيعة التي معلوم لنا مفهومها ومصاديقها فيقتضي حكم العقل الاجتناب عن الفرد المشتبه ولكن في القسم الثاني يكون المكلّف به نفس المصاديق ومصداقية الفرد المشتبه للفساق ليست بمعلومة لنا فتقتضي البراءة العقلية والنقلية عدم حرمة إكرامه ، إذ لا نعلم أنّ نهي الشارع المقدّس هل تعلّق بهذا الفرد أم لا ولا نعلم بحرمة اكرامه فيكون الشك في التكليف وهو مجرى اصالة البراءة فاصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة وجارية إذ الشك إنّما يكون في

٥٩٠

اشتغال الذمّة بالإضافة إليها وليس الشك في الامتثال كي يرجع إلى قاعدة الاشتغال والاحتياط.

وعلى ضوء هذا ؛ فقد ظهر الفرق بين النحو الأوّل من النهي ، وبين النحو الثاني منه إذ يجب الاحتياط في الفرد المشتبه في الأوّل ، ولا يجب في الثاني ولا حاجة إلى الأصل الموضوعي في إحراز هذا الفرد الذي شك في كونه مصداقا للمنهي عنه ، ولا فرق بين تعلّق خطاب المولى بالطبيعة وبين تعلّقه بالافراد في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة بالإضافة إلى جريان البراءة العقلية والنقلية ، كما ذكر آنفا بالنسبة إلى الفرد المشكوك.

قوله : فانقدح بذلك أن مجرّد العلم بتحريم شيء لا يوجب ...

فقد ظهر ممّا سبق أنّ مجرّد العلم بحرمة شيء ، وذلك كالخمر مثلا ، لا يوجب الاجتناب عن الأفراد المشتبهة بل إذا كان المطلوب بالنهي الاجتناب عن كل فرد فرد على حدة أي يكون النهي انحلاليّا بحسب افراد الطبيعة ، ففي الفرد المشتبه تجري البراءة عقلا ونقلا.

وامّا إذا كان المطلوب بالنهي ترك الطبيعة بما هي موجودة في ضمن الأفراد ففيه تفصيل ، وهو أنّه إذا أحرزنا ترك شرب الخمر بالأصل والاستصحاب ، كما ذكر ، فيجوز حينئذ ارتكاب المشتبه ، وامّا إذا لم يحرز به فيحتاط المكلّف فيه أي في الفرد المشتبه كما يقتضي وجوب اكرام العلماء رحمهم‌الله اليقين بإيجاد المأمور به في الخارج فكذا يقتضي تحريم اكرام الفسّاق اليقين بترك المنهي عنه في الخارج فلا يكتفي بالإطاعة الاحتمالية لأمر المولى ، فكذا لا يكفي بالاطاعة الاحتمالية لنهي المولى الجليل.

غاية الأمر انّه يحرز ترك المنهي عنها بالأصل ، كذا يحرز وجود الواجب به أي الأصل.

٥٩١

أمّا مثال احراز وجود الواجب بالأصل كما إذا كانت له حالة سابقة فيستصحب بقائه كما إذا كان زيد متوضئا قبل ساعة فشك في الزمن اللاحق في بقائه وزواله ، فيستصحب بقائه ويحكم بكونه متوضئا.

وامّا مثال احراز ترك الحرام بالأصل مثل ما إذا كان زيد تاركا لشرب الخمر إلى حين شرب المائع المشتبه وبعد شربه نشك في شربه الخمر فنستصحب بقاء تركه ، ولكن الفرد المشتبه وإن كان مقتضى اصالة البراءة جواز الاقتحام فيه لقبح العقاب بلا بيان ولأجل جريان رفع ما لا يعلمون والناس في سعة ما لا يعلمون.

فمقتضى اصالة البراءة جواز ارتكاب المصاديق المشتبهة إلّا ان مقتضى لزوم احراز الترك المنهي عنه وجوب التحرّز عن المصاديق المشتبهة كي يحرز ترك المنهي عنه ولا يحرز احرازا قطعيّا إلّا بترك المشتبه الذي تحتمل حرمته واقعا أيضا ، أي كما يترك المعلوم الحرمة فكذا يترك مشكوك الحرمة.

فالنتيجة : احراز ترك المنهي عنه لازم عقلا في المحرّمات إذ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني والبراءة اليقينية وهما لا يتحقّقان إلّا باحراز ترك المنهي عنه وهو لا يحرز إلّا بترك المشتبه الحرمة ، فالعقل يحكم بلزوم الاحتراز عنه كما يحكم العقل بلزوم احراز اتيان المأمور به في الواجبات ، ولأجل هذا يكرّر المكلّف صلاة الظهرين ويفعلهما مكرّرين في الجهات الأربع عند اشتباه القبلة مع سعة الوقت ، وما هذا إلّا من جهة حكم العقل بالفراغ اليقيني والبراءة اليقينية وهما لا يتحقّقان إلّا باحراز إتيان المأمور به وهو لا يحرز إلّا بإتيان محتمل الواجب والمأمور به ، كما لا يخفى.

قوله : فتفطّن ...

وهو إشارة إلى أن تعلّق النهي بالطبيعة يوجب كون كل فرد فرد منها ذا حكم مستقلّ نحو العام الاستغراقي.

٥٩٢

وعليه : فلو خالف المكلّف الفرد من أفرادها لتبقى حرمة الفرد الآخر بحالها فهو مكلّف أي فالمكلّف مكلّف بتركه كما لو خالف الفرد في العام الاستغراقي ليبقى وجوب بالاضافة إلى الفرد الآخر بحاله ، مثلا إذا قال المولى لعبده : اكرم العلماء ، هذا مثال العام الاستغراقي ، فلو خالف العبد أمر المولى ولا يكرم زيد العالم مثلا يبقى وجوب إكرام عمرو العالم بحاله ويجب عليه إكرامه.

في حسن الاحتياط عقلا ونقلا

قوله : الرابع أنّه قد عرفت حسن الاحتياط عقلا ونقلا ...

ولا يخفى أنّ الغرض من عقد التنبيه الرابع بيان جهات ثلاث :

احداها : حسن الاحتياط عقلا حتّى مع قيام الدليل على نفي التكليف وعلى عدم الوجوب وعلى عدم الحرمة ، كما سيأتي تفصيل هذا عن قريب إن شاء الله تعالى.

وثانيتها : كون حسنه مشروطا عقلا بما إذا لم يستلزم الاحتياط اختلال النظام.

وثالثتها : بيان كيفية التبعيض في الاحتياط إذا استلزم الاحتياط التام اختلال النظام.

ولهذا قال المصنّف قدس‌سره : ولا يخفى ان الاحتياط حسن عقلا ونقلا كما عرفته في صدر التنبيه الثاني حيث قيل هنا لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية سواء كانت حكمية أم كانت موضوعيّة شرع المصنّف قدس‌سره بالجهة الاولى وقال : ان الاحتياط حسن عقلا مطلقا سواء قامت الحجّة على عدم التكليف الالزامي أم لم تقم عليه.

مثلا : إذا فرض قيام دليل على عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو على

٥٩٣

عدم وجوب السورة الكاملة بعد الفاتحة في الصلاة المكتوبة أو فرض قيام بيّنة شرعية ، وهي شهادة عدلين من أهل الخبرة على عدم كون المائع المشتبه خمرا. ولا ريب في حسن الاحتياط عقلا وشرعا على نفي التكليف الإلزامي لأنّ الاحتياط من حيث هو حسن عقلا لأنّه محرز للواقع من حيث العمل.

فمع قيام الحجّة على عدم التكليف الإلزامي لا ينعدم حسنه إذ حسنه متفرّع على رجاء إدراك المصلحة الواقعية وليس حسنه بمتفرّع على خصوص تحصيل المؤمن من العقاب الأخروي كي يتوهّم عدم بقاء حسنه العقلي عند قيام الامارة المعتبرة على نفي التكليف الالزامي واقعا ، وعلى ان هذا الشيء ليس فردا للواجب وليس فردا للحرام ، مثلا : إذا قامت البيّنة على عدم عالميّة زيد بن خالد مثلا مع وجوب إكرام العالم فإكرام زيد حسن عقلا لاحتمال كونه عالما واقعا لاحتمال خلاف البينة.

وإذا قامت البيّنة على عدم كون المائع المردّد بين كونه خمرا وبين كونه خلّا فالاجتناب عنه حسن عقلا حرفا بحرف ، ولكن حسنه مقيّد بما إذا لم يخل بنظام معاش بني آدم فعلا ، فالاحتياط حسن قبل الإخلال مطلقا أي سواء كان في الامور المهمّة شرعا كالدماء والفروج والأموال الخطيرة أم كان في غيرها سواء كان احتمال التكليف قويّا أم كان احتمال التكليف ضعيفا سواء كانت الحجّة على خلاف الاحتياط أم لم تكن على خلافه.

فالاحتياط الذي يوجب لاختلال النظام لا يكون حسنا مطلقا أي في جميع الموارد وان كان الراجح لمن التفت إلى كون الاحتياط موجبا للاختلال من أوّل الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا على بعض الآخر.

٥٩٤

خلاصة الكلام :

من التفت من أوّل الأمر ان الاحتياط موجب لإخلال النظام وكان امور متعدّدة موردا للابتلاء والاحتياط في جميعها مخلّ بالنظام ، وكان الراجح عند الملتفت بعض الاحتياطات احتمالا كما احتمل وجوب السورة في الصلاة احتمالا قويّا ، ولكن لم يكن المحتمل ثابتا من الامور المهمّة لدى الشارع المقدّس ، فقد ترجّحت مراعاة الاحتمال القويّ على مراعاة الاحتمال الضعيف فيحتاط المكلّف فيه بالإتيان نظرا إلى أهمّية الاحتمال ، أو كان الراجح عنده من أوّل الأمر ترجيح بعض الاحتياطات على بعض الآخر محتملا كما إذا احتمل المكلّف الملتفت إلى كون الاحتياط في جميع الامور مخلّا بالنظام وجوب شيء ، احتمالا ضعيفا ولكن كان المحتمل من الامور المهمّة عند الشارع المقدّس بحيث لو كان وجوب هذا المحتمل معلوما لكان الامور المهمّة عند الشارع المقدّس فقد ترجّحت مراعاة المحتمل المهم على مراعاة المحتمل غير المهم ، كالدماء والفروج والأموال الخطيرة فيحتاط فيه بلحاظ كونه مهما عند العقل والشرع ، ولا يحتاط في غيره لئلّا يلزم الاخلال بالنظام.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى ان الاحتياط في الامور المهمّة لدى الشارع المقدّس كالدماء والفروج والأموال الخطيرة ، واجب وليس بمستحب.

وعليه : فترجيح بعض الاحتياطات على بعض واجب وليس براجح ، كما لا يخفى ، أو إشارة إلى أن حسن الاحتياط عقلا قبل استلزامه الإخلال بالنظام وعدم حسنه عقلا بعد استلزامه الإخلال انّما هو بالإضافة إلى الجمع بين الاحتياطات بالنسبة إلى تكاليف متعدّدة.

وامّا بالإضافة إلى الجمع بين محتملات التكليف الواحد فلا يلزم الاختلال

٥٩٥

بالنظام بالاحتياط بجميع محتملات التكليف الواحد كالاتيان بصلاة الظهر مثلا إلى الجهات الأربع في صورة اشتباه القبلة مع سعة الوقت ، فهذا يبتني على إمكان الانفكاك بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية وعدمه بينهما.

فإن قلنا بجريان الأصل في بعض الأطراف دون بعض لجهة من الجهات فلا تجب الموافقة القطعية وإن حرمت المخالفة القطعية ، وإذا قلنا بعدم جريانه في شيء من الأطراف للمعارضة تجب الموافقة القطعية كما تحرم المخالفة القطعية فإذا علم إجمالا بحرمة أحد المائعين مثلا كانت أصالة الإباحة في كل منهما معارضة بمثلها في الآخر فتجب الموافقة القطعية بالاجتناب عنهما كما تحرم المخالفة العملية بارتكابهما معا.

وأمّا إذا علم بحرمة الجلوس في إحدى الفرقتين في زمان معيّن فيسقط الأصلان للمعارضة وتجب الموافقة القطعية بترك الجلوس فيهما وإن كانت المخالفة القطعية غير محرّمة لعدم التمكّن منها.

وعلى ضوء هذا فإن قلنا بالانفكاك بينهما فلا يحسن الاحتياط ، وإن قلنا بعدمه بينهما فيحسن.

الدوران بين محذورين

قوله : فصل إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته ...

ولا ريب في ان الاصول العملية التي تجري في تمام أبواب الفقه أربعة :

احداها : اصالة التخيير ، ومورد جريانها في دوران الأمر بين المحذورين أي لنا علم إجمالي بأنّ هذا الشيء امّا واجب وامّا حرام ، ولا يمكن للمكلّف أن يراعي جانب الوجوب وجانب الحرمة لأنّه امّا فاعل لهذا الشيء وامّا تارك له وإذا كان فاعلا فقد ليس بتارك. وامّا إذا كان تاركا فقد ليس بفاعل.

٥٩٦

وعليه : فلا يمكن للمكلّف احتياط ، مثل صلاة الجمعة في عصر الغيبة إمّا واجبة وإمّا محرّمة فلا يمكن الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية إذ لا يمكن للمكلّف أن يكون فاعلا وتاركا لها ، وكذا لا يمكن أن لا يكون فاعلا ولا تاركا إذ الأوّل : اجتماع النقيضين. والثاني : ارتفاع النقيضين ، وهما محالان عقلا.

وفي هذا الدوران وجوه ذكر المصنّف قدس‌سره أربعة منها :

الأوّل : هو الحكم بالبراءة عقلا ونقلا ، فالمشتبه حلال إذ خصوص الوجوب بما هو وجوب مشكوك فيه فتشمله البراءة العقلية وقاعدة قبح العقاب بلا بيان ويشمله عموم البراءة الشرعية مثل رفع ما لا يعلمون ، والناس في سعة ما لا يعلمون ، وما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم أي مرفوع عنهم ، والعموم في البراءة الشرعية مستفاد من الموصول في الروايات ، ومثل كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف انّه حرام بعينه فتدعه. فالعموم مستفاد من لفظ الكلّ في هذه الروايات.

فالنتيجة : إذا أجرينا البراءة العقلية والنقلية في هذا الشيء إذ ليس لنا علم تفصيلي بخصوص وجوبه ولا حرمته فنحكم بالإباحة أي بإباحة صلاة الجمعة.

الوجه الثاني : هو الحكم بوجوب الأخذ باحدهما تعيينا بأن يأخذ باحتمال الحرمة فإن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، وللاستقراء فإنّ الشارع المقدّس قدّم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب في الموارد ، منها حكمه بترك الصلاة وبإفطار الصوم في أيام الاستظهار وهي عبارة عن رؤية الدم بعد أيّام عادة الحيض ، فيدور الأمر فيها بين وجوب الصلاة والصوم على المرأة إذا تجاوز الدم عن عشرة أيّام من أوّل رؤيته ، وبين حرمتهما عليها إذا لم يتجاوز عن العشرة ، وغير هذا المورد من الموارد الأخر.

الوجه الثالث : هو الحكم بوجوب الأخذ بأحدهما تخييرا بأن تخيّر بين الأخذ باحتمال الوجوب فيلزمه الفعل ، والأخذ باحتمال الحرمة فيلزمه الترك ، وهذا

٥٩٧

التخيير استمراري أي يكون المكلّف مخيّرا في كل مرتبة بين الفعل والترك ، لأنّ المكلّف ليس بقادر على الامتثال والموافقة القطعية وكذا لا يقدر على المخالفة القطعية فيمكن له تحصيل الموافقة الاحتمالية وحصولها لازم عقلا بعد العجز عن تحصيل الموافقة القطعية.

وعليه : إذا فعله فتحتمل الموافقة والمخالفة والإطاعة والعصيان ، وكذا إذا تركه حرفا بحرف وليس الترجيح لأحدهما على الآخر ، فالعقل يحكم بالتخيير بينهما من حيث العمل ، يعني إذا فعله فلا عقاب عليه ، وإذا تركه فلا عقاب عليه أيضا على تقدير الخلاف ، ولكن توقفنا عن الحكم بإباحته ظاهرا لأنّ الحكم بالإباحة ينافي العلم الاجمالي بوجوبه أو حرمته وهو ليس بمباح واقعا ولا ظاهرا.

الوجه الرابع : هو الحكم بالتخيير بين الفعل والترك عقلا مع الحكم عليه بالاباحة ظاهرا شرعا ، والمختار عند المصنّف قدس‌سره هو الوجه الرابع فله دعويان ؛ الاولى التخيير العقلي بين الفعل والترك ، الثانية الاباحة شرعا ، واستدل على مدّعاه الأوّل بأن المكلّف لا بدّ له من الفعل أو الترك ولا ترجيح لأحدهما على الآخر في مقام العمل ، فالعقل يحكم بأنّه مخيّر بينهما عقلا ، واستدل على مدعاه الثاني بأنّ أدلّة البراءة الشرعية شاملة للمقام وهي نحو : كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف انّه حرام بعينه ، وأمثاله نحو : الناس في سعة ما لا يعلمون ، ورفع ما لا يعلمون وو.

والحال انّه لا مانع عن الحكم بالإباحة عقلا ، كما في الشبهة المحصورة إذ جريان قاعدة الحل فيها يوجب عدم الاجتناب عن جميع أطرافها.

والحال انّه يجب الاجتناب عن جميع الأطراف بحكم العقل مقدّمة للعلم بفراغ الذمّة عن التكليف الذي هو معلوم بالإجمال ، هذا مثال المانع عن الحكم بالاباحة.

وامّا محل البحث فليس المانع العقلي بموجود من جريان قاعدة الحل إذ

٥٩٨

لا يستلزم جريان القاعدة ترخيصا في المعصية إذ المفروض هنا عدم تحقّق المخالفة العملية لأنّ المكلّف إذا اختار جانب الفعل ثم فعله فتلزم الموافقة الاحتمالية على تقدير الوجوب والمخالفة الاحتمالية على تقدير الحرمة ، وكذا إذا اختار جانب الترك فبالعكس ، فالمخالفة العملية القطعية والموافقة العملية القطعية متعذّرتان هنا ، كما لا يخفى.

والموافقة الاحتمالية والمخالفة الاحتمالية حاصلتان قهرا ، لأنّ المكلّف امّا فاعل وامّا تارك ولا مانع عن الحكم بالاباحة شرعا كما في الشبهة البدوية بناء على تقديم اخبار الاحتياط على أخبار الاباحة ، كما هو مذهب الاخباريين رحمهم‌الله فاستدلّوا بها على حرمة الاقتحام في الشبهة البدوية.

فليس المانع العقلي ولا المانع الشرعي بموجودين عن جريان قاعدة الحل واصالة براءة الذمّة عن خصوص الوجوب وعن خصوص الحرمة في صورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة مع عدم نهوض الحجّة المعتبرة على خصوص أحدهما تفصيلا بعد نهوضها على أحدهما إجمالا إذ نعلم إجمالا ان صلاة الجمعة في عصر الغيبة إمّا واجبة وإمّا محرّمة شرعا علينا.

قوله : وقد عرفت انّه لا يجب موافقة الأحكام التزاما ...

وزعم المتوهّم ان كل شيء لك حلال وان كان في نفسه لا قصور فيه من حيث شموله للمقام إلّا ان شموله ممنوع من أجل الدليل الذي دل على وجوب الموافقة الالتزامية لأنّ جعل الاباحة يوجب الالتزام بما علم أنّه حلال من حيث الحكم الواقعي.

والحال حكم صلاة الجمعة واقعا اما وجوب واما حرمة وليس حكمها الواقعي الاباحة كي نلتزم بها.

وحاصل الدفع : انّك قد عرفت في الأمر الخامس من مباحث القطع عدم

٥٩٩

وجوب الموافقة الالتزامية حيث قال المصنّف قدس‌سره هنا هل تنجز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا يقتضي موافقته التزاما أم لا يقتضي ذلك؟ (الصواب هو الثاني.

نعم ، تجب الموافقة الالتزامية في الاصول والاعتقادات ولا تجب في الفروع العملية لأنّ المقصود من الاصول هو الاعتقاد والالتزام بما جاء به النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأجل هذا تجب فيها الموافقة الالتزامية.

وامّا الفروع فالمقصود منها هو العمل بالأركان لا الالتزام بالجنان بالفتح للجيم ، ولو سلم وجوبها فاللّازم هو الالتزام بالواقع إجمالا وهو لا ينافي الالتزام بالاباحة تفصيلا ظاهرا ، وشرع المصنّف قدس‌سره في الرد على القول بوجوب الأخذ بأحدهما تعيينا ، وقال والالتزام التفصيلي باحدهما بالخصوص غير جائز لأنّه تشريع محرّم ، ومع قطع النظر عن كونه تشريعا فليس الدليل على وجوبه قطعا.

هذا مضافا إلى ان الالتزام القلبي لو كان واجبا لكان في الحكم المعلوم تفصيلا أو إجمالا لا في مجهول الحكم ، فلو أوجبنا الالتزام فيه لكان أكثر مفسدة من عدم الالتزام بالحكم فإنّ عدم الالتزام تفويت لمصلحة الحكم ، وامّا الالتزام بخلاف حكم الله تعالى تفويت لمصلحة الحكم وجلب لمفسدة الالتزام بخلاف الحكم الواقعي.

قوله : وقياسه بتعارض الخبرين ...

وقد استدل القائلون بالتخيير الشرعي بأنّه مثل تعارض الخبرين بحيث يكون أحدهما دالّا على وجوب الشيء ، والآخر على حرمته ، ولا ريب في ان حكم مسألة تعارض الخبرين يكون تخييرا شرعيّا بين الأخذ بالوجوب أو الحرمة في مقام العمل. أي يأخذ الوجوب بالخصوص فيفعله أو يأخذ الحرمة فيتركه ، وكذا حكم محل البحث يكون تخييرا شرعيّا بين الأخذ بالوجوب أو الحرمة ، وسيأتي هذا في جواب المصنّف قدس‌سره عنه.

٦٠٠