البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

بيان ولو تعبدا.

وعلى ضوء هذا البيان فلا يبقى موضوع البراءة العقليّة إذ موضوعها مركّب من أمرين :

أحدهما : قبح العقاب.

وثانيهما : بلا بيان.

وإذا كان الاستصحاب بيانا ولو تعبّدا فيرتفع عنوان اللابيانية ثم يرتفع قبح العقاب بلا بيان رأسا لأنّ المركّب ينتفي بانتفاء أحد جزءيه كما ينتفي بانتفاء جزءيه معا ، وهذا واضح.

وأمّا ورودها على البراءة الشرعية فلأنّ موضوع البراءة الشرعية الحكم المجهول حدوثا وبقاء والاستصحاب المذكور يرفع الجهل الذي هو موضوع البراءة بقاء ويرفع الشك فيه إذ يجعل الموضوع معلوما ولو تعبّدا.

وعليه : فلا مجال لجريان اصالة الإباحة وأصالة الطهارة في المائع المشكوك كونه خمرا أو خلّا بعد استصحاب بقاء خمريته في الزمن اللّاحق لأنّه بعد الاستصحاب المذكور يكون معلوم الخمرية ومعلوم النجاسة.

وعليه : فكيف يجريان في المائع المعلوم الخمرية والنجاسة إذ موضوع اصالة الإباحة مشكوك الاباحة والحرمة وموضوع اصالة الطهارة مشكوك الطهارة والنجاسة.

وعلى الورود : فلا تجري اصالة الإباحة ، وهي أصل حكمي في حيوان شك في حلّيته مع الشك في قبوله التذكية الشرعيّة ، كما إذا تولّد حيوان من الغنم والكلب ولم يكن له اسم خاصّ يندرج به تحت العناوين الطاهرة وتلك كعنوان الغنم والمعز والبقر وأمثالها ، أو يندرج به تحت العناوين النجسة والمحرّمة وهي كعنوان الكلب والخنزير والهرّة والثعلب ونحوها ، وفي مثل هذا الحيوان يشك في قابليّته للتذكية ،

٥٦١

فاصالة الحلّ والاباحة لا تجريان فيه فإنّه إذا ذبح على الشرائط المخصوصة من إسلام الذابح ، والاستقبال والتسمية ، وقطع الأوداج الأربعة بالحديد فقط ، والحياة وقت الذبح ، بحيث يحرّك أذنه أو رجله أو عينه ، بل الاصالة عدم التذكية تدرجها ، وتأنيث الضمير في تدرّجها باعتبار الدابة لأنّ الأمر في الضمائر سهل في الحيوان الذي يكون غير مذكّى وهو حرام إجماعا ، كما هو حرام إجماعا إذا مات حتف أنفه ، فالحيوان الذي مات حتف أنفه موضوع للحرمة إجماعا ، كذا الحيوان الذي يكون غير مذكّى موضوع لها بالاتفاق.

فالنتيجة : ان الحيوان الذي تولّد من الغنم والكلب بحيث يكون أمه غنما وأبوه كلبا ولا يكون العكس بموجود إذ الحيوانات تلحق بالامّهات ، امّا بخلاف الإنسان فإنّه يلحق بالأب لا بالامّ ، بحيث لا ينطبق عليه اسم الغنم ولا الاسم الكلب إذا ذبح على الشرائط المعتبرة في ذبح الحيوانات وفي تذكيتها فحصل لنا الشك في قبوله للتذكية لاحتمال صدق عنوان الكلبيّة واقعا فيه ، ونجري فيه اصالة عدم قبوله للتذكية وهي تدرجه في الحيوان الذي ليس بقابل لها ، فهذا الحيوان ليس بقابل للتذكية ، فلا مورد للأصل الحكمي وهو عبارة عن أصالة الحل واصالة الطهارة.

وعليه : أي على تغاير غير المذكّى والميتة مفهوما واتّحادهما حكما بالإجماع فلا حاجة إلى إثبات حرمة غير المذكّى بالدليل والبرهان ، ونقول ان الميتة تشمل الحيوان الذي مات حتف أنفه وغير المذكّى بالذبح الشرعي فلا حاجة إلى هذا القول بعد ورود اصالة عدم التذكية على اصالة الحل وعلى اصالة الطهارة.

وبعد القول بأن التذكية عبارة عن قطع الأوداج الأربعة بالحديد مع رعاية سائر شرائط التذكية والذبح مضافا إلى تحقّق الخصوصية في الحيوان تحصل بها الحلية والطهارة معا كما في الحيوان مأكول اللحم أو تتحقّق بها الطهارة فقط ، كما في الحيوان غير مأكول اللحم وغير نجس العين ، ومع الشك في هذه الخصوصية فيه

٥٦٢

فلا يكفي قطع الأوداج ورعاية سائر الشرائط في تحقّق الذبح في حصول التذكية فنشكّ حينئذ في تحقّق التذكية فيه ، فالأصل عدم تحقّق التذكية فيه أي في المتولّد من الغنم والكلب بمجرّد قطع الأوداج الأربعة مع سائر الشرائط الأربعة في التذكية كما لا يخفى. ولكن الشيخ الأنصاري قدس‌سره أخذ موضوع الحرمة عنوان الميتة.

غاية الأمر : ان لها فردين : أحدهما هو الحيوان الذي مات بالموت الطبيعي ، وثانيهما : هو الحيوان الذي مات بقطع الأوداج مع عدم رعاية بعض شرائط الذبح أو روعي سائر الشرائط كاملا ولكن لم تحرز قابليّته للتذكية ، فكلّها ميّتة.

وأمّا المصنّف قدس‌سره أخذ موضوع الحرمة عنوان غير المذكى لا عنوان الميتة ، وقال : ان الميتة عبارة عن الحيوان الذي مات حتف أنفه فقط ، فعدم انطباق عنوان المذكى في الحيوان بواسطة اصالة عدم التذكية حين الشك في قبوله التذكية يكفي في إثبات الحرمة له.

وعليه : فلا حاجة إلى إثبات تعميم مفهوم الميتة بحيث يشمل ما مات حتف أنفه وما مات غير المذكى كما لا يخفى.

ثم ذكر المصنّف قدس‌سره خمسة موارد يجري في بعضها الأصل الموضوعي وفي بعضها لا يجري ، المورد الأوّل هو الشبهة الحكمية التي يجري فيها أصل موضوعي وهو اصالة عدم التذكية ، وقد سبق بحثه.

التنبيه الثاني :

قوله : نعم لو علم بقبوله التذكية وشك في الحليّة ...

شرع المصنّف قدس‌سره في المورد الثاني وهو الشبهة الحكمية إذا علمنا بقابلية الحيوان للتذكية ، ولكن حصل لنا الشك بعد الذبح في حلّيته وحرمته أي حليّة لحمه وحرمة لحمه فنجري حينئذ اصالة الإباحة والحليّة إذ قابليّته للتذكية متيقّنة ، وحليّة

٥٦٣

لحمه مشكوكة فلا تجري فيه اصالة عدم قبوله للتذكية.

ولا ريب في جريان اصالة الحل فيه لأنّه مشكوك الحلية وكل مشكوك الحليّة يجري فيه اصالة الحل فهذا يجري فيه اصالة الحل والإباحة ، إذ ليس الأصل الموضوعي بمتقدّم عليها كما تجري فيه اصالة الطهارة إذ لازم قابلية التذكية حليّة اللحم وطهارته وإذا احرز الملزوم فقد احرز اللّازم إذ تحقّق الملزوم مستحيل بدون تحقّق اللّازم وإن لم يستحيل تحقّق اللّازم بلا تحقّق الملزوم لجواز أن يكون أعمّ منه كما في طلوع الشمس وضياء العالم ، والأربعة ، والزوجية ، والثلاثة ، والفردية.

مثلا : الأرانب التي علم بقبولها للتذكية وعلم بطهارتها بها فشك بعد الذبح في أنّها محلّل اللحم أو محرّم اللّحم فإنّه لا مانع حينئذ من اصالة الحل لعدم الاصل الموضوعي الحاكم عليها ، وهو اصالة عدم قبولها للتذكية ، كما تجري اصالة الحل في الحيوان المذكّى إذا شك في أنّه حلال اللحم أو حرام اللحم مثلا إذا ذبح الغنم فبعد الذبح شك في حياته قبل الذبح انا ما وفي عدم حياته قبله أو شك في تذكيته صحيحا أم لا مع العلم بحياته قبل الذبح فنجري أصالة الحلية فيه ، ولا يخفى عليك انّه لا أصل موضوعي في المورد الثاني.

التنبيه الثالث :

قوله : هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن المورد الثاني أخذ في المورد الثالث وهو الشبهة الحكمية ، وقال : انّا تيقّنا ان الحيوان قابل للتذكية قطعا ، كالغنم والإبل مثلا ، لكن عرضت عليها حالة الجلل هل يوجب الجلل ارتفاع قابليّته للتذكية أم لا؟ وحكم هذا الحيوان عدم جريان اصالة الحل والاباحة بالاضافة إلى لحمه لأجل جريان الأصل الموضوعي الذي هو وارد أو حاكم عليها وموافق لها عملا والأصل

٥٦٤

الموضوعي هنا عبارة من الاستصحاب التنجيزي تارة ، ومن الاستصحاب التعليقي اخرى.

امّا بيان ذلك فإنّ هذا الحيوان قبل عروض الجلل عليه قابل للتذكية يقينا وبعد عروضه عليه ، نشك في بقاء القابلية وزوالها فنستصحب بقاء القابلية ، فلا مجال حينئذ لأصالة عدم القابلية وهو عبارة عن الاستصحاب الأزلي لأنّ اليقين الأزلي نقض باليقين اللّاحق بقبوله للتذكية من أجل قيام الدليل المعتبر على القبول. وهذا الاستصحاب يكون تنجيزيّا.

امّا بيان الاستصحاب التعليقي فيقال : ان هذا الحيوان قبل عروض الجلل إذا ذكّى مع الشرائط فهو حلال وطاهر قطعا وبعد عروض الجلل عليه نشك في انّه إذا ذكّى فهل هو حلال وطاهر أم لا؟ فنستصحب حينئذ حكم السابق عليه وحكمنا بأنّه إذا ذكّى بعد عروض الجلل فهو حلال وطاهر بسبب الفرى للأوداج الأربعة مع تحقّق سائر الشرائط الأربعة ، فهذا الاستصحاب تعليقي لأنّه معلّق على التذكية.

التنبيه الرابع :

قوله : وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حليّته وحرمته ...

لما فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان المورد الثالث شرع في بيان المورد الرابع ، وهو شبهة موضوعية ، أمّا بيان هذا المورد فيقال إذا وجدنا قطعة من اللحم في الصحراء مثلا وحصل لنا اليقين بأنّها لحم الحيوان الذي هو قابل للتذكية قطعا ، مثل : لحم الغنم ، ولكن لا نعلم ان هذا الحيوان ذكّي أم لم يذك.

بتقرير آخر : وهو انّا وجدنا قطعة من لحم الغنم ولكن لا نعلم ان الذئب قد أكله وبقي مقدار من لحمه أو ان الأشخاص قد ذبحوه ثم أكلوا لحمه بعد الطبخ وبقي مقدار من لحمه عندهم ولكن نسوا أن يأخذوه حين الذهاب من هذا المكان ، وحكم

٥٦٥

هذا اللحم جريان استصحاب عدم التذكية فيه لأنّ هذا الحيوان حال الحياة لم يذك قطعا وفي حال خروج روحه عن جسمه نشك في تذكيته فنستصحب عدم تذكيته حال خروج الروح ليقين السابق والشك اللاحق فيتم أركان الاستصحاب فنستصحب عدمها حاله فتكون هذه القطعة من اللحم محكومة بالحرمة والنجاسة.

وعليه : فلا مجال لجريان اصالة الاباحة التي هي أصل حكمي في هذا الفرض لجريان الأصل الموضوعي وهو استصحاب عدم التذكية فيه وهو وارد عليها.

ومن الواضح ان الأصل المورود لا يجري في مورد إذا اجرى فيه الأصل الوارد كما يأتي تحقيق هذا في تحقيق الأصل السببي والأصل المسببي في بحث الاستصحاب ، إن شاء الله تعالى.

وقوله : وممّا ذكرنا ظهر ...

هذا شروع في بيان حكم صورتين من الشبهة الموضوعية أي ظهر من جريان اصالة عدم التذكية إذا شك في أصل القابلية للتذكية وجريان اصالة بقاء القابلية للتذكية إذا شك في زوالها بعروض الجلل فالأوّل في الصورة الاولى والثانية في الصورة الثالثة من الشبهتين الحكميتين وحكم صورتين من الشبهة الموضوعية الرابعة والخامسة.

التنبيه الخامس :

قوله : كما أن اصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طرو ما يمنع ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان حكم المورد الرابع شرع في بيان حكم المورد الخامس وهو شبهة موضوعية أيضا.

امّا بيانه : فيقال انّا نقطع بأن الحيوان قابل للتذكية ولكن نشك في عروض

٥٦٦

المانع عن التذكية عليه كي تزول قابلية التذكية عنه مثل الغنم الذي نعلم انّه قابل للتذكية.

وكذا نعلم أن هذا الحيوان إذا عرض عليه عنوان الجلل فتزول قابلية التذكية بسببه عنه ولكن لا نعلم عروض عنوان الجلل عليه في الخارج.

فالنتيجة : قابلية التذكية متيقّنة وعروض المانع عنها مشكوك وحكم هذا الحيوان بقاء قابلية التذكية فيه لأنّ هذا الحيوان إذا ذبح مع رعاية شرائط الذبح فهو حلال وطاهر قطعا وانقدح أيضا ان المورد الأوّل والثاني والثالث شبهة حكمية ؛ وان المورد الرابع والخامس شبهة موضوعية.

فقبل الشك في عروض الجلل عليه فهو قابل للتذكية قطعا أمّا بعد الشك في عروضه عليه فنشك في قابليّته للتذكية إذا ذبح مع تحقّق شرائط الذبح فالاستصحاب حاكم ببقاء القابلية.

وعليه : لا تجري اصالة الحل والاباحة وان كانت اصالة الاباحة موافقة له عملا ونتيجة لأنّ الأصل الموضوعي وارد على الأصل الحكمي.

ومن الواضح ان الأصل المورود لا يجري مع جريان الأصل الوارد في مورد أصلا كما سيأتي.

فتحصّل ممّا ذكر : ان الأصل الموضوعي ، وهو اصالة عدم التذكية ، جار في المورد الأوّل وهو مخالف لاصالة الاباحة عملا ونتيجة أي هو مخالف لأصل الحكمي ، دون المورد الثاني.

وفي المورد الثالث وهو بقاء قابلية الحيوان للتذكية بعد عروض الجلل ، وهو موافق لاصالة الاباحة عملا ونتيجة أي الأصل الموضوعي موافق للأصل الحكمي عملا ونتيجة.

وفي المورد الرابع : والأصل الموضوعي فيه استصحاب عدم التذكية وهو

٥٦٧

مخالف للأصل الحكمي عملا ونتيجة.

وفي المورد الخامس : والأصل الموضوعي فيه استصحاب بقاء القابلية للتذكية وهو موافق للأصل الحكمي عملا ونتيجة.

وعلى ضوء هذا : فانقدح ان الأصل الموضوعي الموافق مع الأصل الحكمي اثنان إذ هو في المورد الثالث والخامس ؛ وأن الأصل الموضوعي المخالف مع الأصل الحكمي اثنان أيضا إذ هو في المورد الأوّل والرابع ، اما بخلاف المورد الثاني فانه لا تجري الأصل الموضوعي مطلقا فيه كما عرفته.

والفرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية واضح قد سبق في الجزء الأوّل ، وعليه لا حاجة إلى التوضيح.

وامّا الفرق بين المورد الرابع والخامس فواضح إذ في الرابع نعلم عروض الجلل على الحيوان. وفي الخامس نشك في عروضه عليه ، كما لا يخفى.

قوله : فتأمّل جيّدا ...

وهو تدقيقي إشارة إلى دقّة الموارد الخمسة وإلى ان أكثرها شبهة حكمية ، وان الاثنين منها شبهة موضوعية بقرينة تقييده بكلمة الجيّد.

حسن الاحتياط عقلا وشرعا

قال الاصوليّون : لا شبهة أصلا في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في التعبّديات التي يشترط فيها قصد القربة ، والتوصليات التي لا يشترط فيها قصد القربة نحو تطهير البدن واللباس عن القذارة مثلا ، وفي المعاملات وفي الشبهات الوجوبية والتحريمية وفي الشبهة الحكمية والموضوعية بمعنى إتيان العمل بداعي احتمال الأمر من قبل المولى فيه في الواجبات والمستحبّات ، أي إتيان محتمل الوجوب والاستحباب وترك محتمل الحرمة والكراهة.

٥٦٨

وبالجملة : إذا كان الاحتياط بداعي احتمال الأمر وبداعي احتمال النهي ، فيترتّب عليه الثواب ، وترك العمل بداعي احتمال النهي من قبله فيه في المحرّمات والمكروهات ، هذا في العبادات والتوصليات.

وبمعنى الاتيان بما يحتمل دخله في صحّة المعاملات مع عدم الدليل المعتبر على اعتباره كإتيان إيجاب عقد النكاح وقبوله باللغة العربية ، وبمعنى الترك لما يحتمل دخله في فساد المعاملات وذلك كترك وقوع إيجاب العقد المذكور وقبوله بغير اللغة العربية ، هذا في المعاملات بالمعنى الأعمّ يشمل العقود والإيقاعات أيضا كما يشمل مطلق مبادلة مال بمال سواء كان بعنوان البيع أم كان بعنوان الصلح أم كان بعنوان غيرهما كما فصّل هذا في الفقه الشريف.

أمّا حسن الاحتياط عقلا فلرجحان حفظ الواقع على ما هو عليه عقلا وهو يتحقّق بالاحتياط.

وامّا حسنه شرعا فللأخبار الصحيحة الآمرة بالاحتياط كما في الوسائل وغيرها من الكتب القيّمة عند الأصحاب رحمهم‌الله.

فإن قيل : ان صيغة الأمر موجودة في أخبار الاحتياط نحو فاحتط وهي قد وضعت للطلب الحتمي فلا أقل تكون ظاهرة فيه وهو بمعنى الوجوب. وعليه : فالاحتياط واجب فثبت مدعى الاخباريين ، رضي الله عنهم.

قلنا : انّها محمولة على الندب والاستحباب والرجحان دون الحتم والالزام لقرائن وهي اخبار البراءة ، كما تقدّمت.

قوله : وربّما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات ...

وربّما استشكل في جريان الاحتياط في العبادات لأنّ الاحتياط عبارة عن الاتيان بمحتمل الواقع. وهذا الاتيان لا يمكن في العبادة لأنّ قوام العبادة بقصد القربة والنيّة المذكورة متوقّفة على الأمر.

٥٦٩

وعليه : فمع الشك في الأمر تتعذّر نيّة القربة ، وحينئذ لا يمكن الاتيان بمحتمل العبادة لأنّ المأتي به بلا نيّة القربة يعلم بأنّه ليس هو بالعبادة وإلّا لوجب الإتيان به بحكم العقل مع قصد التقرّب.

وعلى طبيعة الحال : فيشكل جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب والاباحة ، أو بين الوجوب والكراهة أو بين الوجوب والحرمة إذ في هذه الاحتمالات الثلاث لا يتمشّى من المكلف قصد القربة لتوقّفه على الأمر وهو لا يحرز فيها لاحتمال الاباحة في الاولى أو الكراهة في الثانية أو الحرمة في الثالثة.

ومن الواضح انّه ليس لكل واحد منها أمر أصلا ، امّا بخلاف دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب فلا مجال للإشكال للعلم بالأمر الذي يصحّح نيّة القربة ، مثلا :

إذا سافر شخص ووصل إلى رأس أربعة فراسخ ، وأراد أن يبيت هنا ليلا وفي الغد رجع فحكم صلاة عشائه امّا قصر وامّا تمام ، ونعلم اجمالا أنّ أمر الشارع المقدّس تعلّق بأحدهما فقط وإذا فعلهما احتياطا فلا يعلم تعلّق الأمر بكل واحد من القصر والتمام بخصوصه وحينئذ يشكل إمكان الاحتياط هنا لأنّ كلّ واحد منهما عبادة والعبادة يتوقّف على قصد القربة ، فكل واحد منهما يتوقّف عليه وقصد القربة يتوقّف على الأمر.

وإذا لم يحرز الأمر فكيف ينوي المكلّف بفعل كل واحد منهما قصد التقرّب إلى ساحة المولى الجليل.

خلاصة الكلام :

إتيان العمل بلا نيّة القربة ليس بعبادة قطعا ولو أتى به مع قصد القربة فهذا العمل تشريع محرم.

٥٧٠

في الجواب عنه :

اجيب عن هذا الاشكال بثلاثة أجوبة :

الأوّل : ان حسن الاحتياط عقلا يوجب لمطلوبيّته شرعا بناء على الملازمة بين حكم العقل وبين حكم الشرع الأنور في هذا المقام.

وعلى هذا : يمكن قصد القربة في العبادة التي تفعل احتياطا لأجل العلم بأمر الشارع المقدّس تفصيلا بالإضافة إلى هذه العبادة بسبب حسن الاحتياط عقلا ، ولكن المصنّف قدس‌سره لم يرتض هذا الجواب ، وقال في وجه فساده : ان حسن الاحتياط عقلا يكون من قبيل العارض على الاحتياط مثل عروض السواد على القرطاس مثلا.

ومن الواضح ؛ ان العارض بما هو عارض متأخّر رتبة عن المعروض عليه وعلى هذا الأمر : فيمتنع أن يكون العارض من جملة علل وجود المعروض عليه لأنّه دور مصرح.

امّا بيانه فلأنّ العارض يتوقّف وجودا وتحقّقا على وجود المعروض خارجا كتوقّف وجود السواد خارجا على وجود القرطاس خارجا ، فلو كان العارض علّة لوجود المعروض للزم الدور إذ يتوقّف وجود المعلول على وجود علّته في الخارج كتوقّف وجود النهار على طلوع الشمس خارجا فلا يكون حسن الاحتياط عقلا موجبا لمطلوبيّته شرعا أصلا كما لا يخفى.

الثاني : ان ترتّب الثواب على الاحتياط يتوقّف على كونه طاعة ، وهو يتوقّف على تعلّق الأمر به فيكشف ترتّب الثواب عن تعلّق الأمر به على نحو كشف المعلول عن علّته وهذا يسمّى في الاصطلاح بالبرهان الإني فيتأتى حينئذ الاتيان بعمل بنيّة القربة لكشف تعلّق الأمر به من جهة ترتّب الثواب على الاحتياط بما هو احتياط ، وهذا واضح.

٥٧١

فاستشكل على هذا الجواب صاحب الكفاية قدس‌سره بان ثبوت الأمر بالاحتياط يتوقّف على إمكان الاحتياط.

وعليه : فيمتنع أن يتوقّف على ثبوت الأمر إمكان الاحتياط ، لأنّه دور واضح ، لا بأس عليك أن توضح الدور ، وهو ان ثبوت الأمر بالاحتياط يتوقّف على إمكان الاحتياط في العبادات إذ الأمر لا يتعلّق بالممتنع فضلا عن المستحيل ، فلو توقّف إمكان الاحتياط على ثبوت الأمر للزم الدور كتوقّف الألف على الجيم ، وتوقّف الجيم على الألف مثلا ، وفي المقام ثبوت الأمر بالاحتياط يتوقّف على امكان الاحتياط وامكان الاحتياط يتوقف على ثبوت الأمر به.

هذا ، مضافا إلى ان حسن الاحتياط عقلا وترتّب الثواب عليه شرعا لا يكونان بكاشفين عن الأمر من قبل المولى الجليل بالاحتياط ، إذ يمكن أن يكون حسن الاحتياط من قبيل حسن الاطاعة الحقيقية وترتّب الثواب عليه من قبيل ترتّب الثواب عليها فانّهما لا يكشفان عن تعلّق الأمر بالإطاعة المذكورة لكون الأمر بها إرشادي لا غير.

فلا يكون حسن الاحتياط بكاشف عن تعلّق الأمر بالاحتياط بنحو اللم أي بنحو كشف المعلول عن علّته نحو هذا متعفّن الاخلاط وكلّ متعفّن الاخلاط محموم ، فهذا محموم ، وفي المثال تعفّن الاخلاط علّة والمحموميّة معلولة وكذا حسن الاحتياط علّة لتعلّق الأمر وهو معلول له.

ولا يكون ترتّب الثواب على الاحتياط بكاشف عن تعلّق الأمر به بنحو الإنّ أي بنحو كشف العلّة عن معلوله ، نحو هذا محموم وكل محموم متعفّن الاخلاط ، فهذا متعفّن الاخلاط.

وكذا ترتّب الثواب على الاحتياط معلول تعلّق الأمر به فيقال : هذا الاحتياط يترتّب عليه الثواب وكل احتياط يترتّب عليه الثواب يتعلّق به الأمر ، فهذا الاحتياط

٥٧٢

يتعلّق به الأمر ، فيكون حال الاحتياط في الحسن وترتّب الثواب عليه كحال الاطاعة وهي حسنة عقلا ويترتّب عليها الثواب لا لتعلّق الأمر بها بل لكونها في حدّ ذاتها انقياد وطاعة ، فكذا الاحتياط حرفا بحرف لأنّ مراتب الاطاعة أربع :

أوّلها : الاطاعة الحقيقية ، وتلك كاتيان الواجبات المعلومة وترك المحرمات الشرعية.

وثانيتها : الاطاعة الضمنية ، وتلك كالسلام على كل شخص قربة إلى المولى الجليل بقصد السلام على المؤمن.

وثالثتها : الاطاعة الاحتمالية ، وتلك كالاتيان بركعتي الاحتياط جالسا في صورة الشك بين الثلاث والأربع.

ورابعتها : الاطاعة الاحتياطية ، وتلك كاتيان الصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة مع سعة الوقت وكالاتيان بصلاة الجمعة والظهر يوم الجمعة.

فالاحتياط بعنوان انّه انقياد وطاعة حسن عقلا وسبب لاستحقاق الثواب أي العقل يحكم بحسنه ولكن لا يحكم بتعلّق الأمر الشرعي به حتّى يكون مصحّحا لنيّة القربة ، فلم يقبل المصنّف قدس‌سره كشف اللمي والإنّي كما لا يخفى.

قوله : وما قيل في دفعه من كون المراد بالاحتياط ...

والثالث : ان معنى الاحتياط في العبادات إتيان العمل العبادي مع جميع أجزائه وشرائطه وخصوصيّاته الا قصد القربة ، وهذا النحو من الاحتياط ممكن بلا ورود الاشكال في البين.

فإن قيل : ان قصد القربة شرط صحّة العبادة فهي لا تصحّ بدون قصد القربة لأنّه إذا فات الشرط فات المشروط.

وعلى هذا : فكيف يصحّ الاحتياط باتيان العمل العبادي مع جميع خصوصيّاته إلّا قصد القربة.

٥٧٣

قلنا : ان قصد القربة لا يمكن في إتيان العمل العبادي احتياطا لأنّ الأمر المولوي مشكوك فيه في موارد الاحتياط الذي يكون في العبادات.

واعترض على هذا الجواب صاحب الكفاية قدس‌سره بإيرادين :

الأوّل : أنّه لا دليل على أن الاحتياط بهذا النحو حسن عقلا ، إذ هذا النوع من الاحتياط الذي لا يراعى فيه قصد القربة لا ينطبق عليه عنوان الاحتياط أصلا ، إذ هو ليس إتيانا بمحتمل الواقع حتى يكون احتياطا حقيقة ، ولهذا لا يحسن هذا عقلا ولا يستحب شرعا.

نعم إذا ورد دليل شرعي معتبر على أن إتيان العمل بلا قصد القربة مع رعاية جميع خصوصيّاته يكون احتياطا أي إتيانا بمحتمل الواقع ، فلا كلام لنا ، ولكن يكون هذا الاحتياط مطلوبا نفسيّا حينئذ أي رعاية نفس الاحتياط مطلوب كسائر المطلوبات النفسيّة.

والحال : ان العقل يحكم بحسن الاحتياط الطريقي الذي هو طريق موصل لنا إلى الواقع المجهول ، كما هو شأن الاحتياط في جميع موارده ، ومحل بحثنا في هذا المقام هو الاحتياط الطريقي في الشبهة التحريمية الحكمية لا في الاحتياط النفسي الاستحبابي الذي يكون مستحبّا شرعا مع قطع النظر عن الواقع المجهول وعن رعاية قصد القربة ، فهذا خارج عن محل البحث.

قوله : نعم لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط ...

نعم لو قال المولى يستحب الاحتياط حتى في العبادات لاستفدنا من هذا الدليل إمكان الاحتياط في العبادات.

ومن المعلوم : انّه لا طريق لنا إلى الاحتياط الكامل فيها فبدلالة الاقتضاء من حيث الصون لكلام الحكيم عن اللغوية يقال ان معنى الاحتياط في العبادات إتيان العمل العبادي مع رعاية جميع شرائطه وخصوصيّاته إلّا قصد القربة وإلّا لزم أن

٥٧٤

يكون كلام المولى لغوا وبلا فائدة لعدم إمكان الاحتياط فيها حقيقة ، وهو إتيان العمل بجميع ما يعتبر فيه حتّى نيّة التقرّب.

الثاني : ان هذا الجواب ليس بجواب عن الاشكال بل هو التزام بالاشكال وتسليم له لأنّ المعترض اعترض بأنّ الاحتياط في العبادات ليس بممكن أصلا لأنّ المحتاط إذا أتى العمل العبادي بلا قصد القربة فهو فاسد وإذا أتى مع قصد القربة فهذا تشريع محرّم ، والمجيب يقول : انّا نحتاط بلا قصد القربة.

ومن الواضح : ان إتيان العمل العبادي بلا قصد القربة ، ليس باحتياط أي ليس الإتيان بمحتمل الواقع ، وهذا واضح لا غبار عليه.

قوله : وهو كما ترى ...

وهو إشارة إلى أن الالتزام بعدم إمكان الاحتياط في العبادات غير تامّ لأنّه مخالف لفتوى المشهور إذ أكثر الأصحاب رحمهم‌الله أفتى بإمكان الاحتياط في العبادات ، ولهذا قسّموا المكلّف إلى المجتهد والمقلد والمحتاط.

وعليه : فلا محيص عن حلّ هذا الإشكال بطريق آخر ، وهو مختار المصنّف قدس‌سره.

في جواب المصنّف قدس‌سره عنه بطريق آخر

قوله : لا يخفى ان منشأ الاشكال هو تخيّل كون القربة المعتبرة ...

قد شرع المصنّف قدس‌سره في الجواب عن عدم إمكان الاحتياط في العبادات من جهة عدم تمشّي قصد القربة إلّا مع العلم بالأمر ولا علم به في الشبهات البدوية وإلّا لما تحقّقت الشبهات في الأحكام الشرعية.

وقال قدس‌سره : لا يخفى أن منشأ الاشكال في إمكان الاحتياط في العبادات تخيّل كون نيّة القربة في العبادات مثل سائر أجزائها وشرائطها بحيث تكون القربة المعتبرة

٥٧٥

فيها مأخوذة في متعلّق الأمر شطرا أو شرطا كالتكبيرة والركوع والاستقبال والستر وأمثالها.

ولهذا التخيّل يشكل الاحتياط فيها إذ لا يتمشّى من المكلّف قصد القربة المعتبرة لعدم احراز الأمر بهذه العبادة الاحتياطية.

ومن الواضح أنّه لا يتمكّن المكلّف من قصد القربة ونيّة التقرّب لأنّ قصد القربة فيها بدون احراز أمرها تشريع محرّم.

خلاصة الكلام :

أن هذا الاشكال مبتن على كون القربة المعتبرة في العبادات ممّا يتعلّق به الأمر شرعا كسائر الاجزاء والشرائط ، وحينئذ يشكل جريان الاحتياط في العبادات لأنّ الاحتياط فيها عبارة عن الاتيان بكل ما احتمل وجوبه شرعا حتى قصد القربة ، وقصد القربة ممّا يحتاج إلى الأمر المعلوم تفصيلا أو إجمالا ولا أمر كذلك في الشبهات البدوية ، وإلّا لما كانت الشبهات بشبهات.

وامّا الاحتياط الذي يحتاج إلى الأمر تفصيلا فكالاتيان بصلاة الجمعة وصلاة الظهر معا في يومها احتياطا إذ الأمر المعلوم موجود لصلاة الظهر أو لصلاة الجمعة.

وامّا الاحتياط الذي يحتاج إلى الأمر إجمالا فكإتيان الصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة لكن مع سعة الوقت.

لكن قد عرفت تفصيلا في مبحث التعبّدي والتوصّلي ان اعتبار قصد القربة المعتبرة في العبادات انّما يكون بحكم العقل ولم يكن قصد القربة مأخوذا في المأمور به لا شطرا ولا شرطا ، وانّما حكم العقل باعتباره في العبادات لأجل أن الغرض منها لا يحصل بدون قصد القربة.

وعلى ضوء هذا : فجريان الاحتياط في العبادات في كمال الامكان للتمكّن

٥٧٦

من الاتيان بكل ما احتمل وجوبه شرعا من الاجزاء والشرائط بتمامه وكماله.

غاية الأمر انّه لا بدّ أن يؤتى بكل ما احتمل وجوبه بحكم العقل على نحو لو كان كل ما احتمل مأمورا به لكان ما احتمل وجوبه مقربا بشرط أن يؤتى به بداعي احتمال الأمر أو بداعي احتمال محبوبيّته عند الله تعالى فيقع حينئذ على تقدير الأمر به امتثالا لأمر المولى تعالى شأنه ، ويقع ما احتمل وجوبه على تقدير عدم الأمر به واقعا انقيادا لجنابه تبارك وتعالى.

فالنتيجة : يستحق المكلّف المحتاط الثواب على الاحتياط على كل حال ، امّا على الطاعة للمولى الجليل إن كان له أمر واقعا ، وامّا على الانقياد إن لم يكن له أمر واقعا فالمكلف المحتاط إمّا مطيع للمولى وإمّا منقاد له. وعلى أي حال فهو يستحق المدح في الدنيا والثواب في العقبى.

ولهذا أفتى الأصحاب رحمهم‌الله بإمكان الاحتياط في العبادات مطلقا أي سواء كان مقتضيا للترك ، كما إذا دار الأمر بين الحرمة وبين غير الوجوب ، أم كان مقتضيا للفعل كما إذا دار الأمر بين الوجوب وبين غير الحرمة ، أم كان مقتضيا للتكرار كما إذا لم يعلم المسافر الذي يبيت ليلا في رأس أربعة فراسخ أن صلاته قصر أم تمام فإذن لا بد له من أن يحتاط بإتيان صلاته مرّة قصرا وبإتيانها تماما اخرى ، وكذا الصلاة في الثوبين المشتبهين بحيث كان أحدهما طاهرا والآخر نجسا واشتبها.

«لا حاجة إلى اخبار من بلغه ثواب في إمكان الاحتياط في العبادات».

قوله : وقد انقدح بذلك انّه لا حاجة في جريانه ...

قد ظهر : من التحقيق الذي قد مضى من عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر للزوم الدور كما يمكن أخذ سائر الاجزاء والشرائط فيه مثلا يصحّ أن يقول المولى صلّ مع الركوع والطهارة ولا يصح ان يقول صلّ مع قصد القربة كما مرّ تفصيله في بحث التعبّدي ، انّه لا حاجة في جريان الاحتياط في العبادات إلى تعلّق

٥٧٧

الأمر بها لأنّ الاحتياط عبارة عن الاتيان بمحتمل الواقع كي يحفظ الواقع بسببه ، فالغرض من الاحتياط الذي يحكم العقل بحسنه ورجحانه هو حفظ الواقع وهو محبوب المولى.

وعليه : فيصحّ إتيان مشكوك الوجوب قربة إلى ساحة المولى الجليل باحتمال وجوبه واقعا ، وهذا الإتيان أعلى من حيث العبودية والاطاعة من الاتيان بمعلوم الوجوب ، وكذا يصحّ ترك مشكوك الحرمة بقصد القربة باحتمال حرمته واقعا ، وهذا الترك أرقى من حيث الانقياد والعبودية من ترك معلوم الحرمة ، كما لا يخفى.

بل يقال : انّه لو تعلّق بالعمل أمر لما كان الإتيان به احتياطا ، بل يكون هذا العمل الذي أمر به كسائر الأعمال الواجبة أو المستحبّة التي أمر بها وجوبا أو استحبابا أي طلبت بالطلب الشديد أو بالطلب الضعيف ، فالأمر بالعمل إذا كان موجودا فهو المزاحم للاحتياط ولا يجتمعان بحسب الامتثال ، مثلا إذا صلّى المكلّف صلاة اليومية ونافلتها ، كصلاة الصبح ونافلتها مثلا فلا يقال إنّه احتاط عملا لثبوت الأمر الوجوبي في الاولى والندبي في الثانية ، فالمكلّف أتى بهما بنيّة الوجوب والاستحباب ولا يفعلهما بداعي الاحتياط واحتمال المحبوبية.

التسامح في أدلة السنن

أخبار من بلغه ثواب

من بلغه ثواب على استحباب العمل الذي دلّ خبر الضعيف على ثوابه لما ينفع في دفع إشكال جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وبين غير الاستحباب إذ قوام الاحتياط باحتمال الأمر واقعا بالعمل الخاص

٥٧٨

وباحتمال محبوبيّته عند المولى الجليل ، ولا يجامع مع ثبوت الأمر ، فالأخبار الكثيرة التي تدلّ على ترتّب الثواب على العمل الذي دلّ خبر الضعيف على وجوبه أو استحبابه لا تنفع في دفع إشكال جريان الاحتياط في العبادات لأجل صيرورتها بسببها مستحبة نفسية كسائر المستحبّات النفسيّة في الشريعة المقدّسة.

فالنتيجة : أنّه إذا تعلّق الأمر المستفاد من أخبار من بلغه ثواب بعمل وذلك كالدعاء عند رؤية الهلال مثلا فقد كان العمل مأمورا به قطعا فيكون الاتيان به إطاعة حقيقية للمولى لأجل قصد امتثال ذلك الأمر حين إتيان العمل فلا يكون هذا الإتيان احتياطا أصلا.

فتحصّل من جميع ما ذكر ان المختار عند المصنّف قدس‌سره هو الجواب الرابع عن الإشكال على جريان الاحتياط في العبادات وإن اجيب عن إشكال عدم إمكان الاحتياط في العبادات بوجوه أربعة كما سبقت.

قد سبق انّا إذا سلّمنا كون اخبار من بلغه الثواب دالّة على استحباب العمل الذي دلّ خبر الضعيف على كونه ذا ثواب فلا مورد للاحتياط حينئذ لأنّ العمل يؤتى بعنوان كونه مستحبّا شرعا.

وعلى ضوء هذا : فاستشكل المستشكل بأنّ هذا البيان المذكور إنّما يصحّ إذا دلّ اخبار من بلغ على استحباب نفس العمل بما هو عمل ، مثلا إذا ورد خبر الضعيف على استحباب صلاة ركعتين في الوقت الخاص وهو ليلة الثامن من شهر رمضان المبارك بفاتحة مرّة وبقل هو الله عشر مرّات مثلا ، وإذا فعلها المكلّف فيصحّ أن يقال له صلّى صلاة مستحبّة ولا يصحّ أن يقال له صلّى صلاة بعنوان الاحتياط.

وامّا إذا دلّت على استحباب العمل بعنوان احتمال الثواب عليه وبلوغ الثواب عليه فنسلّم حينئذ دلالتها على استحباب العمل بعنوان الاحتياط مثل أوامر الاحتياط إذا كانت مولويّة بلا فرق بينهما من هذه الناحية.

٥٧٩

والتحقيق في سند اخبار من بلغ أوّلا وفي دلالتها ثانيا ، ويقال : ورد في عدّة من الروايات أنّه من بلغه ثواب من الله سبحانه على عمل فعمل التماس ذلك الثواب أوتيه وان لم يكن الحديث كما بلغه ، والتكلّم في سند هذه الروايات غير لازم إذ منها ما هو صحيح من حيث السند ، فالمهم هو البحث عمّا يستفاد منها فيقع البحث في مفادها والمحتمل في المفاد وجوه ثلاثة :

الوجه الأوّل : أن يكون مفادها هو الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد للمولى العظيم ، وبترتّب الثواب على الإتيان بالعمل الذي بلغ عليه الثواب وان لم يكن الأمر كما بلغه.

الوجه الثاني : أن يكون مفادها اسقاط شرائط حجيّة الخبر الواحد في باب المستحبات من العدالة أو الوثاقة والتحرّز عن الكذب.

الوجه الثالث : أن يكون مفادها استحباب العمل بالعنوان الثانوي أعني به عنوان بلوغ الثواب عليه ، فيكون عنوان البلوغ من قبيل سائر العناوين العارضة على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها ولتغيّر أحكامها كعنوان الضرر والعسر والحرج والنذر والعهد واليمين ، وأمر الوالد ولده وأمر الامّ بنته ونحوها.

ولكن المناسب لما اشتهر بين الفقهاء رحمهم‌الله من قاعدة التسامح في أدلّة السنن والمستحبّات هو الاحتمال الثاني ، كما لا يخفى.

قوله : لا يقال هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل ...

قد سبق انا إذا سلمنا كون أخبار من بلغ دالة على استحباب العمل الذي دل عليه خبر الضعيف على كونه ذا ثواب فلا مورد للاحتياط حينئذ لأن العمل يؤتى به بعنوان كونه مستحبا شرعا.

وعلى ضوء هذا فاعترض المعترض بأن هذا البيان يصحّ إذا دلّ اخبار من بلغ على استحباب نفس ذاك العمل من حيث هو هو مثلا من صلّى نافلة الصبح فهو

٥٨٠