البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

وجوبية ، وحينئذ يقال شرب التبغ حلال ، وليس الدعاء عند الرؤية بواجب لاصالة البراءة من الحرمة والوجوب.

قوله : إن قلت نعم لكنّه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا ...

أورد المعترض إشكالا في هذا المقام بانّا سلّمنا انحلال العلم الاجمالي الكبير ولكن هذا الانحلال تام إذا لم يكن العلم التفصيلي بالتكاليف التي هي مؤديات الطرق والامارات والاصول العملية المثبتة للتكاليف مسبوقا بالعلم الاجمالي بالواجبات والمحرّمات.

فالعلم التفصيلي بالتكاليف الحاصل من مراجعة الطرق والامارات والاصول المثبتة للتكاليف الظاهرية إن كان هذا العلم التفصيلي مسبوقا بالعلم الاجمالي بالتكاليف أو مقارنا به ، فلا ينحل العلم الاجمالي السابق إلى العلم التفصيلي اللاحق والشك البدوي إذ لا يكون العلم اللاحق سببا لانحلال العلم السابق فيبقى العلم الاجمالي السابق بحاله ويجب الاحتياط في أطرافه.

فالخلاصة : يحصل لنا أوّلا علم إجمالي بالواجبات والمحرّمات ثم نعلم تفصيلا ان هذه الواجبات والمحرّمات تكون في طي الامارات والاصول العملية المثبتة وهي موجودة في الكتب المعتبرة ، وهذا العلم اللاحق لا يوجب انحلال العلم الاجمالي السابق ، نعم هو يوجب الانحلال إذا كان سابقا على العلم الاجمالي.

والحال : انّه لم يسبقه ، فالاحتياط كما وجب قبل مراجعة الطرق والامارات والاصول ، كذا يجب بعد مراجعتها لبقاء العلم الاجمالي بحاله.

في الجواب عنه :

قلنا : انّما يضرّ سبق العلم الاجمالي بالتكاليف بالانحلال على العلم التفصيلي الحاصل من مراجعة المدارك والكتب المعتبرة عند الأصحاب رحمهم‌الله إذا

٥٤١

كان العلم المتأخّر علما حادثا غير مربوط بالعلم السابق ، وفي هذه الصورة لا يتحقّق الانحلال.

مثلا : إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين بحيث يكون أحدهما بسبب ملاقات البول أسودا والآخر أبيضا ، ثم علمنا تفصيلا ان قطرة من الدم وقعت في الاناء الأبيض ، وفي هذا الفرض لا يوجب العلم التفصيلي بنجاسة الاناء الأبيض انحلال العلم الاجمالي السابق بنجاسة أحدهما إلى العلم التفصيلي بنجاسة الاناء الأبيض بالبول سابقا أيضا والشك البدوي بالإضافة إلى الاناء الأسود كي نجري اصالة الطهارة فيه ، لأنّه ما خرجت بعد عن كونه طرفا للعلم الاجمالي إذ نحتمل ملاقاة البول امّا هذا الاناء وامّا ذاك الاناء ؛ امّا إذا كان العلم التفصيلي اللاحق والشك البدوي اللاحق موجودين فكون العلم الاجمالي بالتكاليف سابقا ليس بمانع عن الانحلال المذكور ، إذ كشفنا بعد حصول العلم التفصيلي بالتكاليف من طريق الامارات المعتبرة والاصول المثبتة ان المعلوم الفعلي يكون معلوم السابق وانّه ينطبق عليه قطعا.

ومن الواضح : ان هذا الانطباق يوجب انحلال العلم الاجمالي السابق إلى العلم التفصيلي والشك البدوي ، مثلا : إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين بملاقاة البول ثم علمنا تفصيلا ان الاناء الذي وقع في جانب الشرق لاقته قطرة من الدم ، ولكن قامت البيّنة على ان الاناء المتنجس بالبول هو الاناء الشرقي الذي لاقته قطرة من الدم فينحل العلم الاجمالي السابق بنجاسة أحدهما إلى العلم التفصيلي بنجاسة الاناء الشرقي والشك البدوي بالإضافة إلى نجاسة الاناء الغربي لأجل انطباق المعلوم الفعلي على المعلوم الاجمالي سابقا فعدم انحلال العلم الاجمالي ليس على أساس السبق واللحوق والتقدّم والتأخّر بل يكون عدم الانحلال على أساس أن يكون العلم التفصيلي المتأخّر غير مربوط بالعلم الاجمالي السابق ، كما ذكر هذا في

٥٤٢

المثال السابق.

وأمّا إذا كان العلم المتأخّر مربوطا بالعلم السابق ومنطبقا عليه ، فهذا العلم المتأخّر يوجب انحلال العلم الاجمالي المتقدّم ، كما عرفته في المثال المذكور آنفا.

والمقام من قبيل الثاني لا الأوّل ، فإنّ التكاليف التي قامت عليها الامارات والطرق والاصول المثبتة ان لم تكن هي منطبقة على المعلوم بالاجمال سابقا فنحن نحتمل أقلا أن تكون هي عين المعلوم بالاجمال.

وعليه : فينحل العلم الاجمالي المتقدّم من أصله إلى العلم التفصيلي المتأخّر والشك البدوي المتأخّر ، ولكن احتمال أن تكون هي غير منطبقة عليه فيدفعه الانحلال الاجمالي بتكاليف واقعية ينحل بقيام الامارات على تكاليف الزامية من الواجبات والمحرّمات ، وإلّا لزم خلوّ الشرع عن التكاليف رأسا ، أو فقل ان هذا الاحتمال يدفعه خلوّ الشرع الأنور عن التكاليف رأسا. والحال انّه لا معنى لخلوّه عنها أصلا.

قوله : إن قلت انّما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له ...

ولا ريب في أن انحلال العلم الاجمالي بالتكاليف من الواجبات المتكثّرة والمحرّمات العديدة بالعلم التفصيلي بمؤديات الطرق يتمّ لو كان مفاد جعل الطرق ثبوت مؤداها حقيقة كما هو مقتضى القول بالسببية والموضوعية فيها ، فإنّه بقيام الطريق يعلم بثبوت التكليف في مؤداه تفصيلا على هذا المبنى في حجية الطرق والامارات.

وامّا بناء على الطريقية ، وهو مختار المصنّف قدس‌سره فلا علم بثبوت التكليف تفصيلا كي يدعى الانحلال بسبب قيام الطرق عليها.

فليس مورد الطريق إلّا ممّا يحتمل ثبوت التكليف فيه ، وبتقرير آخر وهو انّه إذا قلنا في الطرق والامارات بجعل الحجية أي المنجزية عند الاصابة ؛ والعذرية

٥٤٣

عند الخطأ ، كما في العلم الوجداني.

غاية الأمر ان المنجزية والعذرية في العلم والقطع ذاتيتان وليسا بمجعولين كما تقدّم تفصيل هذا في مبحث القطع.

وفي الطرق والامارات مجعولتان بجعل الشارع المقدّس فلا ينحل العلم الاجمالي السابق بقيام الامارات إذ لا حكم مجعول في مواردها على طبق مؤدّياتها كي يوجب قيامها انحلال العلم الاجمالي السابق بالتكاليف.

نعم ، إذا قلنا بالسببيّة في الطرق والامارات فينحل العلم الاجمالي السابق إلى العلم التفصيلي بمؤدّيات الطرق والامارات والشك البدوي في غيرها إذ بقيامها يجعل حكم نفسي على طبقها.

وامّا بناء على القول بالطريقية فيها فالمجعول أحكام ظاهرية طريقية في مؤداها والحكم الظاهري الطريقي يحتمل أن يكون مطابقا للحكم الواقعي وأن يكون مخالفا له.

ولأجل هذا الاحتمال لا يوجب قيامها الانحلال المذكور ، كما لا يخفى.

في الجواب عنه :

قوله : قلت قضية الاعتبار شرعا على اختلاف ألسنة أدلّته ...

أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا الاشكال بجوابين :

الأوّل : انّا نقول بالانحلال الحكمي.

الثاني : بالانحلال الحقيقي.

ولا بدّ في هذا المقام قبل الشروع في الجواب عن الاشكال المذكور ، من توضيح انحلال الحكمي وانحلال الحقيقي.

فيقال : ان الثاني يكون في المورد الذي ينحل العلم الاجمالي بعلم آخر سواء

٥٤٤

كان علما تفصيليا أم كان علما إجماليا صغيرا.

وامّا الانحلال الحكمي فيكون في المورد الذي يكون الانحلال فيه بما نزّله الشارع المقدّس منزلة العلم كما في هذا المثال وهو إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين بالبول ثم تقوم البيّنة التي نزّلها الشارع المقدّس منزلة العلم على ان الاناء المتنجس هذا الاناء الذي وقع في طرف الشرق مثلا.

وعلى هذا : فيجب علينا الاجتناب من هذا الاناء الشرقي ، واما بالاضافة إلى الاناء الآخر فنجري البراءة عن النجاسة فيه ونجري اصالة الطهارة.

أمّا فيما نحن فيه فيكون لسان أدلّة حجيّة الامارات والاصول المثبتة مختلف إذ مقتضى غير واحد من الأخبار تنزيل مؤدى الطرق والامارات والاصول منزلة الواقع.

ومقتضى بعضها جعل المنجزية والمعذرية في مؤداها فقط ، مثلا إذا دلّ خبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة فلا نقول حينئذ انّها واجبة واقعا ، بل نقول انّها إن كانت واجبة واقعا فوجوبها ينجّز علينا بسبب قيام هذا الخبر على وجوبها. وامّا ان لم تكن واجبة علينا واقعا فتكون هذه الرواية عذرا لنا في مخالفة الواقع إذا عملنا على طبق هذا الخبر فحجيّة خبر الواحد كحجيّة القطع في المنجزية والمعذرية.

مثلا : إذا قطعنا بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة من أي طريق وسبب ، فإذا كان هذا القطع مطابقا للواقع فالتكليف منجز علينا قطعا ، وإذا كان مخالفا للواقع فهو معذور في مخالفة الواقع ، فالقطع منجز إذا كان مطابقا للواقع ومعذر إذا كان مخالفا له ، وكذا الأخبار حرفا بحرف.

ومقتضى بعضها وجوب العمل على طبق مؤدّياتها فقط ، ومقتضى بعضها تتميم الكشف ، فمقتضى اعتبار الامارات والطرق والاصول المثبتة هو جعل المنجزية والمعذرية في مؤدياتها بناء على مختار المصنّف قدس‌سره قد مرّ في أوّل مبحث

٥٤٥

الظنّ حيث قال فيه : ان التعبّد بطريق غير علمي انّما هو بجعل حجيته والحجية غير مستتبعة لانشاء الأحكام التكليفية ولا الوضعية بل تكون موجبة لتنجّز التكاليف به إذا أصاب الواقع ولصحّة الاعتذار به إذا أخطأ الواقع.

أمّا العلم الاجمالي بالتكاليف بسبب حكم العقل فينحل أي كما يحكم العقل بكون القطع سببا للانحلال ، وكذا يحكم بكون الخبر الواحد سببا وعلّة للانحلال ، إذ هو حجّة بحكم الشرع كما ان القطع حجّة بحكم العقل.

مثلا : إذا علمنا إجمالا كوننا مكلّفين بعشرة ألوف من التكاليف. وامّا الشارع المقدّس جعل عشرة آلاف من الامارات والاصول حجّة لنا ، فالحجّة تكون بقدر المعلوم بالاجمال بلا زيادة ونقصان. وعلمنا ان الشارع المقدّس نزّل الامارات والطرق والاصول المثبتة منزلة العلم ، ولا ريب في انّها توجب انحلال العلم الاجمالي الكبير السابق إلى العلم التفصيلي والشك البدوي ، كما ان العلم بالأحكام يوجب انحلال العلم الاجمالي الكبير إليهما حقيقة.

غاية الأمر : انّها توجب انحلاله إليهما حكما.

فالنتيجة : ان العلم الاجمالي الكبير بالتكاليف يصير محدودا بعد الانحلال بمفاد الامارات والطرق والاصول العملية المثبتة ، ولا ريب في جريان البراءة في الشبهات الحكمية بعد الانحلال على نحو المذكور ، لأجل خروجها عن مفادها ، كما لا يخفى على المتأمّل الصادق.

ثم ذكر المصنّف قدس‌سره مثالا لتوضيح كون الطرق الشرعية منزلة القطع في المنجزية والمعذرية ، وهو إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بن أرقم بين الإناءين واشتبها ثم قامت البيّنة على ان هذا الاناء الأبيض اناء زيد فالحجة ، وهي البيّنة قائمة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض الأطراف «وهو اناء زيد» يكون هذا النهوض عقلا بحكم الانحلال أي يكون هذا الانحلال الحاصل من قيام

٥٤٦

الحجّة الشرعية على حرمة اناء زيد حكميا لا حقيقيّا ، ويكون هذا النهوض بحكم العقل بصرف تنجّز التكليف الواقعي إلى ما إذا كان التكليف الواقعي ثابتا في ذاك الطرف للعلم الاجمالي الذي قامت على حرمته البيّنة الشرعية ، وهي شهادة العدلين وبصرف العذر إلى الطرف الذي لم تقم البيّنة على حرمته ، وهو اناء عمرو ، إذا كان المحرم الواقعي هذا الطرف ، كما علم هذا المطلب من المثال المذكور سابقا.

فالنتيجة : ان البيّنة تكون مثل العلم الوجداني ، فكما إذا علمنا وجدانا بحرمة اناء زيد فيجب الاجتناب عنه بخصوصه ونجري البراءة في اناء عمرو ، وكذا إذا قامت البيّنة على حرمة انائه حرفا بحرف.

ثم قال المصنّف قدس‌سره : لو لم يثبت الانحلال الحكمي على القول بالطريقية في حجية الامارات والطرق والاصول المحرزة لما ثبت الانحلال الحقيقي على القول بالسببيّة والموضوعية في حجيّتها أيضا ، ضرورة أن مؤديات الامارات والطرق والاصول المحرزة للواقع تكون أحكاما شرعية فعليّة بسبب حادث من قيام الطريق الذي يوجب حدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدّى توجب المصلحة والمفسدة تشريع حكم على طبقها ؛ ولكن هذا السبب الحادث لامكان تأخّره من حيث الزمان عن العلم الاجمالي الكبير بالاحكام لا يقتضي انحلال العلم الاجمالي لا حقيقة ولا حكما لأنّه حادث آخر غير المعلوم بالاجمال.

وعلى هذا : فلا ينطبق عليه أي لا ينطبق المعلوم بالتفصيل بسبب قيام الطريق عليه على مبنى السببية في حجية الامارات على المعلوم بالاجمال ولا يرتبط به حتى يقال انّه موجب لانحلاله.

فاللّازم رعاية الاحتياط في جميع الأطراف كما هو رأي الاخباريين ، رضي الله عنهم.

فالنتيجة : انّه لو لا الانحلال الحكمي عند قيام الامارة على نحو الطريقية كما

٥٤٧

هو مختار المصنّف قدس‌سره لم يتحقّق الانحلال عند قيام الامارات والطرق والاصول أصلا سواء قلنا باعتبارها بنحو السببية والموضوعية ، أم قلنا باعتبارها على نحو الطريقية. امّا على الطريقية فعدم الانحلال واضح لاحتمال خطأ الامارة والطرق والاصول.

وعليه : فلا يتحقّق الانحلال ؛ وامّا على مبنى السببية فقد عرفت وجه عدم الانحلال في قوله كذلك بسبب حادث ، فالاعادة خال عن الفائدة لأنّه تكرار.

قوله : هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق ...

أي ما ذكرنا من انحلال الحكمي عند قيام البيّنة التي نزّلها الشارع المقدّس منزلة العلم الوجداني انّما يكون في صورة عدم العلم بإصابة مقدار من الامارات مساو من حيث الكم بالمعلوم إجمالا.

وعلى هذا يكون الانحلال حقيقيّا إذ بتحقّق الشرطين :

أحدهما : العلم بإصابة مقدار المعلوم بالاجمال الواقع.

وثانيهما : مساواة مقدار المصيب للواقع من الطرق مع المعلوم بالعلم الاجمالي الكبير بتحقق الانحلال الحقيقي.

وأمّا إذا كان الطرق بمقدار المعلوم بالاجمال ولكن لا نعلم بإصابة الطرق للواقع فالانحلال حينئذ يكون حكميّا لا حقيقيّا لعدم انحصار أطراف العلم الاجمالي بموارد تلك الطرق ، كما ان أطرافه تنحصر بموارد الطرق إذا علمنا بإصابة مقدار المعلوم بالاجمال للواقع وكان هذا المقدار مساويا مع المعلوم بالاجمال من التكاليف ، ولهذا كان الانحلال حينئذ بلا إشكال كما لا يخفى.

توضيح في طي العلم الاجمالي الكبير

وهو أن لنا ثلاثة علوم إجمالية :

٥٤٨

الأوّل : العلم الكبير وأطرافه جميع الشبهات ممّا يحتمل التكليف ، ومنشؤه هو العلم بالشرع الأقدس ، إذ لا معنى للشرع الخالي عن التكليف رأسا.

الثاني : العلم الاجمالي المتوسّط وأطرافه موارد قيام الامارات المعتبرة وغير المعتبرة ، ومنشؤه كثرة الامارات في الكتب المشهورة والقطع بمطابقة بعضها للواقع إذ لا نحتمل مخالفة جميعها للواقع.

الثالث : العلم الاجمالي الصغير ، وأطرافه موارد قيام الامارات المعتبرة ، ومنشؤه هو القطع بمطابقة مقدار منها للواقع ، وحيث ان العلم الاجمالي الأوّل ينحل بالعلم الاجمالي الثاني إذ لا نحتمل وجود التكاليف في غير موارد قيام الامارات والطرق والاصول المثبتة ، والثاني ينحل بالثالث إذ الامارات غير المعتبرة ليست بحجّة أصلا ، وعلى هذا الانحلال فلا يتنجّز التكليف على المكلّف في غير مؤدّيات الطرق والامارات المعتبرة.

ولا يخفى ان الميزان في الانحلال أن لا يكون المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير أقل عددا من المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي المتوسط. وكذا لا يكون المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي المتوسّط أقل عددا من المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير بحيث لو أفرزنا من أطراف العلم الاجمالي المتوسّط مقدار المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير لم يبق لنا علم الاجمالي في بقيّة الأطراف.

مثلا : إذا علمنا إجمالا بوجود خمس شياة مغصوبة في قطيع من الغنم وعلمنا أيضا بوجود خمس شياة مغصوبة في جملة البيض من هذا القطيع ، فلا محالة ينحل العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني ، فإنّا لو أفرزنا خمس شياة بيض لم يبق لنا علم الاجمالي بمغصوبية البقيّة لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير على المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير إذ خمس شياة

٥٤٩

ينطبق على خمس شياة.

أمّا بخلاف ما لو علمنا إجمالا بوجود ثلاث شياة محرمة في جملة البيض من القطيع فإنّ العلم الاجمالي الأوّل لا ينحل بالعلم الثاني إذ لو أفرزنا ثلاث شياة بيض فقد بقي علمنا الاجمالي بمغصوبية البعض ، وهو الاثنان الباقيان ، من خمس شياة بحاله لأنّ انطباق الخمس على الثلاث غير معقول ، بل هو محال ، إذ يصير الخمس بما هو خمس ثلاثا ، وما هذا إلّا اجتماع الضدّين ، وهما الخمس والثلاث ، في موضوع فارد وفي عدد واحد.

وفي ضوء هذا البيان : فلا ينبغي الشك في انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي المتوسط ، إذ المعلوم بالاجمال في الأوّل لا يزيد عددا على المعلوم بالاجمال في الثاني لأنّ منشأ العلم الاجمالي الكبير هو العلم باستلزام الشرع الحنيف لوجود الأحكام والتكاليف ، ولكن يكفي هذا العلم بالمقدار المعلوم بالاجمال من التكاليف في موارد قيام الامارات المعتبرة.

وكذا العلم الاجمالي الثاني ينحل بالعلم الاجمالي الثالث ، لأنّا لو أفرزنا مقدارا من أطراف العلم الثالث بحيث يكون المجموع بمقدار المعلوم بالاجمال في العلم الثالث لم يبق لنا حينئذ علم الاجمالي بوجود التكاليف في غير المعلوم بالاجمال في العلم الثالث فينحل العلم الثاني بالعلم الثالث لأنّا نعلم علما وجدانيا بمطابقة الامارات المعتبرة للواقع بمقدار ما علم إجمالا ثبوته في الشريعة المقدّسة من التكاليف.

وعلى هذا : ينحل الكبير بالمتوسّط والمتوسّط ينحل بالصغير ، كما لا يخفى.

أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا الاشكال بجوابين :

الأوّل : بالانحلال الحكمي.

والثاني : بالانحلال الحقيقي.

٥٥٠

إذ في موارد الطرق والامارات امّا يكون التكليف الواقعي بمقدار المعلوم بالاجمال ، وامّا لا يكون التكليف الواقعي بمقدار المعلوم بالاجمال ، ففي الصورة الاولى يتحقّق الانحلال الحقيقي ، وفي الصورة الثانية يتحقّق الانحلال الحكمي. إلى هنا تمّ الوجه الأوّل للاخباريين ، رضي الله عنهم.

في الوجه الثاني من الدليل العقلي

قوله : ربّما استدلّ بما قيل من استقلال العقل بالحظر ...

فاستدل الاخباريون على وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية بعد الفحص بالوجه الآخر من الدليل العقلي ، وهو ان الأصل الأولي في الأفعال غير الضرورية قبل الشرع هو الحظر والمنع.

اعلم ان الأفعال التي تصدر من العباد ، امّا ضرورية بحيث يتوقّف حياتها عليها كالأكل والشرب واللبس والنوم ونحوها ، وامّا غير ضرورية بحيث لا يتوقّف تعيش بني آدم عليها كالتكلّم والمشي والضحك والبكاء وأمثالها.

فالعقل يستقل بأن الأصل الأوّلي في الأفعال غير الضرورية هو الحظر لوجود احتمال الضرر قبل الشرع ، ومنها شرب التبغ مثلا لوجود احتمال الضرر في الارتكاب لاحتمال حرمته.

فلو تنزّلنا عن ذلك القول فلا أقلّ أن يحكم العقل في الأفعال غير الضرورية بالتوقّف أي لا يحكم العقل بالحظر فيها ولا بالاباحة ولا يثبت إباحة الشيء الذي لم يثبت حرمته شرعا ولم يقم دليل على إباحته لأنّ الدليل الذي دلّ على إباحته معارض بالأدلّة التي دلّت على وجوب التوقّف وعلى لزوم الاحتياط في الشبهات ، وحينئذ فيتعارضان وبعد التعارض يتساقطان فيرجع إلى حكم العقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية لأنّه سالم عن المعارض فيبقى حكم العقل على حاله ، وهذا

٥٥١

مقالة بعض الاخباريين ، رضي الله عنهم.

في الفرق بين هذا وسابقه

الفرق بين هذا وبين سابقه ؛ ان الأوّل يشمل الشبهة التحريمية والشبهة الوجوبية ، والثاني يختص بالشبهة التحريمية.

في الجواب عنه :

أجاب المصنّف قدس‌سره عن الوجه الثاني بوجوه ثلاثة :

الأوّل : ان القول بأن الأصل في الأفعال غير الضرورية الحظر هو أحد الأقوال في المسألة.

وعليه : فلا وجه للاستدلال به وإلّا لجاز الاستدلال فيها بأن الأصل هو الاباحة فيها قبل الشرع.

خلاصة الكلام :

أن الأقوال ثلاثة :

الأوّل : القول بأن الأصل في غير الضرورية من الأفعال الحظر والمنع قبل الشرع.

الثاني : القول بأن الأصل الأوّلي في الأفعال غير الضرورية هو الوقف بمعنى عدم الحظر وعدم الاباحة.

الثالث : القول بأن الأصل الأوّلي فيها قبل الشرع الاباحة ، فالقولان الأوّلان للاخباريين (رض) ، ولكن الأوّل لأكثرهم ، والثاني لبعضهم ، والثالث للمجتهدين والاصوليين ، رضي الله عنهم.

٥٥٢

وفي ضوء هذا : فتكون نتيجة القولين الأوّلين وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية بعد الفحص.

ونتيجة القول الثالث اجراء البراءة فيها ، فالمجتهدون يقولون للاخباريين إذا تمسّكتم بالقول الأوّل والثاني فإنّا تمسّكنا بالقول الثالث وهو الاباحة ولازمه البراءة عن الحرمة في المشتبه ، ولا يثبت المدعى بالأمر الذي يكون موردا للنفي والاثبات ومحلّا للقيل والقال ، وهو الحظر والتوقّف.

الثاني : أنّه ثبتت الاباحة شرعا لتقدّم أدلّة الاباحة على أدلّة الاحتياط والتوقّف لكونها أخصّ منها لاختصاصها بالشبهة التحريمية ولشمول أدلّة الاحتياط والتوقف لمطلق الشبهة والمشتبه سواء كانت تحريمية أم كانت وجوبية وهي عام والعام لا يعارض الخاص لتقدّم الخاص على العام ، إذ في العمل بالخاص عمل بالعام في الجملة وليس العمل بالعام بعمل بالخاص لافتراقه عنه في مادّة الافتراق ولكن لا يجوز افتراق الخاص عن العام لاستحالة تحقّقه بدون تحقّقه كما ترى هذا المطلب كلّه في نحو اكرم العلماء وأكرم الفقهاء منهم ، فلا يتعارض العام الخاص في وجوب إكرام النحاة من العلماء لأجل تقدّم الخاص على العام من باب تقدّم الأخص على الأعمّ وهو من باب تقدّم الأظهر على الظاهر.

وعليه : فيجب اكرام خصوص الفقهاء على المكلف دون غيرهم إذا الخاص يبيّن المراد من العام فلا تعارض بينهما فلا تساقط كي يرجع إلى أصالة الحظر أو إلى اصالة التوقّف في الشبهات البدوية بعد الفحص.

وعليه : فالدليل في المقام هو الخاص الذي دلّ على الاباحة في الشبهات التحريمية.

الثالث : لو قلنا بالتوقّف في الأفعال غير الضرورية لما كان لازم هذا القول قولا بالتوقّف في المشتبه من حيث التحريم إذ لا ملازمة عقلا ولا عرفا بين القول

٥٥٣

بالتوقّف والاحتياط في الأفعال غير الضرورية التي لا يضطر الإنسان إليها ، وبين القول بهما في المشتبه التحريم إذ ثبتت البراءة فيه ، والمستند قاعدة قبح العقاب بلا بيان وقبح المؤاخذة بلا برهان ، كما لا يخفى ، مع غضّ البصر عن الأدلّة النقلية.

قوله : وما قيل من الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه ...

وتمسّك الاخباريون ، رضي الله عنهم ، لإثبات لزوم الاحتياط في الشبهات التحريمية بعد الفحص بالقول على ان الاقدام على الفعل الذي تحتمل المفسدة فيه يكون مثل الاقدام على الفعل الذي تعلم المفسدة فيه في الحرمة وفي ترتّب العقوبة على الارتكاب ، فالاقدام على شرب التبغ مثلا مثل الاقدام على شرب الخمر مثلا ، كما يجب التوقّف والاحتياط في فعل معلوم التحريم كذا يجبان في ارتكاب مشتبه التحريم حرفا بحرف كما لا يخفى.

في الجواب عنه :

أجاب المصنّف قدس‌سره عنه بأن هذا الكلام من شيخ الطائفة محمد بن حسن الطوسي قدس‌سره ممنوع وان قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل عقلا فإنّ المفسدة المحتملة في المشتبه تحريما ليست بضرر غالبا ، مثلا إذا صار الشخص مستطيعا فلم يحج البيت الشريف عامدا ، زاد الله تعالى شرفها ، ولا ريب في ان ترك الحج الواجب ذو مفسدة عظيمة بل في بعض الروايات الشريفة أن ترك الحج عمدا بلا عذر موبقة كبيرة ، كما في اللمعة أوّل كتاب الحج. ولكن ليس الضرر بموجود أصلا في تركه ، وكذا الكلام في ترك الصلاة المكتوبة وفي عدم تأدية الصدقات الواجبة المالية ، والقيد الغالب انّما يكون لاخراج شرب الخمر مثلا فإنّ فيه مفسدة وضررا ماليّا. كما ان المستطيع إذا حجّ البيت الشريف فإنّ فيه مصلحة وليس فيه منفعة.

وعلى طبيعة الحال : تكون النسبة بين المصلحة والمنفعة عموما من وجه

٥٥٤

كالإنسان والأبيض مثلا ، إذ قد يجتمع الإنسان والأبيض معا كما في الإنسان الأبيض ، وقد يكون الإنسان محقّقا فقط كالإنسان الأسود مثلا ؛ وقد يتحقّق الأبيض فقط كما في الثلج والعاج مثلا ؛ وكذا قد تتحقّق المصلحة فقط كما في إتيان الحج مثلا ، وقد تكون المنفعة فقط كما في سرقة الأموال ، وقد تتحقّقان معا كما في الجهاد الابتدائي لدعوة فرق الكفّار إلى الإسلام وأخذ المسلمون أموالهم بعد الغلبة بعنوان الغنيمة ، وكذا المفسدة والمضرّة إذ قد تتحقّقان معا ، كما في شرب الخمر الذي اشترى من بيت الخمر.

وقد تتحقّق المفسدة فقط ، كما في ترك الحج الواجب عامدا ، وقد تتحقّق المضرّة دون المفسدة كما في الاحسان إلى الغير بمال كالتأدية للصدقات الواجبة والمندوبة ، وقد تتحقّق المفسدة فقط ، كما في موارد غصب الأموال مثلا.

ولأجل هذا المطلب : قال المصنّف قدس‌سره ضرورة أن المصالح والمفاسد اللّتين هما مناطات الأحكام الإلهية بناء على مذهب العدلية والمعتزلة خلافا للاشاعرة ليستا براجعتين إلى المنافع والمضار إذ ليست النسبة بينهما تساويا كليا كالإنسان والناطق كي يستلزم تحقّق أحدهما في مورد تحقّق الآخر فيه ، بل تكون النسبة بينهما عموما من وجه مادّة الاجتماع واحدة ، ومادّة الافتراق اثنتان ، ولهذا ربّما تكون المصلحة فيما فيه الضرر ، كدفع الزكاة إلى المستحقّ مثلا ، وربّما تكون المفسدة فيما فيه المنفعة كما في موارد السرقة والغصب مثلا.

امّا ما نحن فيه : فيقال ان احتمال المفسدة في المشتبه تحريما لما لم تكن بضرر لا يجب دفعها بسبب التوقّف والاحتياط لأنّ المفسدة قد لا تكون ضررا كالسرقة للمال مثلا.

وبالجملة لا ملازمة عقلا ولا عرفا بين المصلحة والمنفعة وبين المفسدة والمضرّة بحيث كلّما تحقّقت المصلحة في مورد تحقّقت المنفعة وبالعكس ؛ وكلّما

٥٥٥

تحقّقت المفسدة تحقّقت المضرّة وبالعكس ، فهذا الجواب يرجع إلى منع الصغرى لأنّ الخصم رتّب الصغرى والكبرى بهذا الشكل وهو ، في ارتكاب المشتبه ضرر هذه صغرى القياس ؛ إن قلنا بالملازمة بين المفسدة والمضرّة وبين المصلحة والمنفعة.

وعلى هذا : فيجب الترك في الشبهة الحكمية التحريمية ، ويجب الفعل في الشبهة الحكمية الوجوبية ؛ وكل ضرر يجب دفعه ، هذه كبرى القياس ، فارتكاب المشتبه يجب دفعه ، هذه نتيجة القياس بلزوم التوقّف في المشتبهات وبوجوب الاحتياط في الشبهات البدوية بعد الفحص. امّا المصنّف قدس‌سره فيجاب بأن احتمال الضرر في ارتكاب المشتبه ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا ، كما تقدّم هذا في طي قوله لأنّ المفسدة ليست بضرر غالبا كما في ارتكاب السرقة والغصب وأمثالهما.

نعم قد تكون المفسدة ضررا كما إذا اشترى الخمر ثم شرب مثلا ولو اعتنى العقلاء باحتمالات الضعيفة في المضرّات لانسد باب المسافرة والسياحة والتجارة والصناعات إذ في ارتكاب كلّها احتمال الضرر و

المضرّة ، كما لا يخفى.

قوله : مع أن الضرر ليس دائما ممّا يجب التحرّز عنه عقلا ...

هذا إشارة إلى منع الكبرى وإن سلّمنا الصغرى على الفرض وقلنا ان النسبة بين المفسدة والمضرّة وبين المصلحة والمنفعة من النسب الأربع تساو كلّي كالنسبة بين الإنسان والناطق والحيوان والماشي مثلا ، أي لا يجب شرعا ولا يلزم عقلا دفع الضرر المتيقّن فضلا عن المظنون والمحتمل بل قد يلزم عقلا ويجب شرعا ارتكاب بعض المضار المتيقّنة عند مزاحمتها مع ما هو أهم في نظر العقل وفي نظر الشارع المقدّس ممّا في الاحتراز عن ضرره مع القطع به فضلا عن احتماله.

ولا يخفى ان في عبارة المصنّف قدس‌سره هنا غلقة لكثرة الضمائر فيها وهي ثمانية ، أحدها مستتر في ليس على انه اسمه وهو مرفوع محلّا ، والباقي بارز.

٥٥٦

ولا يخفى أيضا ان في عبارته هنا ثلاثة كلمة الماء الموصولة ، احدها وثانيها ، في كلمتين ممّا ، وثالثها في كلمة فيما.

وعليه : فلا محيص عن التوضيح ، وهو أن الضمير المستتر في كلمة ليس راجع إلى الضرر أي ليس الضرر دائما والضمير البارز في عنه يكون عائد الموصول الذي يكون المراد منه الشيء الذي يجب التحرّز عن هذا الشيء ، وذلك كالقاء النفس في معرض الهلكة لاحياء الاسلام مثلا ، والضمير البارز في ارتكابه وبه واحتماله راجع إلى الضرر.

والضمير البارز في كلمة عليه عائد الموصول الذي يكون المراد منه موردا ضرريا ؛ والضمير البارز في نظره راجع إلى الشارع المقدّس ، والضمير البارز في كلمة عن ضرره راجع إلى المورد الضرري.

والمراد بالموصول في ممّا في الاحتراز هو المصلحة ، ولا يخفى أيضا ان اللام الداخلة في كلمة المترتّب في عبارة المصنّف قدس‌سره موصولة إذ اللام التي تدخل على اسم الفاعل والمفعول موصولة غالبا ، وهي اشارة إلى الأثر الذي يترتّب على ارتكاب الضرر.

وعلى ضوء هذا : يكون معنى العبارة بهذا الشكل مع ان الضرر ليس الضرر دائما من جملة الشيء الذي يجب التحرّز عن هذا الشيء عقلا ، نحو القاء النفس في معرض الغرق والحرق و ... بل قد يجب عقلا ارتكاب الضرر في المورد الذي كان الأثر المترتّب على هذا المورد أهم في نظر الشارع المقدّس من المصلحة التي تترتّب في الاحتراز عن المورد الضرري.

مثلا أمرنا الشارع المقدّس بالحج والجهاد مع الكفار وهما مستلزمان للضرر الجاني والمالي فيجب علينا ارتكاب هذا الضرر لأنّ المصلحة التي تترتّب في هذا المورد الضرري أهم في نظر الشارع المقدّس عن المصلحة التي تترتّب على

٥٥٧

الاحتراز عن ضرر هذا المورد ، وهي حفظ النفس وحفظ المال ، وكذا سائر الموارد إذا دار الأمر بين ارتكاب الأهم وبين ترك المهم أو دار الأمر بين ارتكاب المهم وبين ترك الأهم فالعقل يحكم بترجيح ارتكاب الأهم مصلحة وأثرا والشرع الأقدس أمرنا بارتكاب الأهم.

فالدليل الثاني للاخباريين ، رضي الله عنهم ، لوجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية بعد الفحص ممنوع صغرى وكبرى ، كما لا يخفى.

٥٥٨

تنبيهات البراءة

وبيان انها لا تجري مع أصل موضوعي

قوله : بقي امور مهمّة لا بأس بالإشارة إليها ...

لما فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان موارد جريان أصالة البراءة ؛ شرع في بيان شروطها.

التنبيه الأوّل :

قوله : الأوّل انّه انّما تجري اصالة البراءة شرعا وعقلا فيما لم يكن ...

والغرض من عقد هذا التنبيه الأوّل هو بيان أحد شروط جريان اصالة البراءة.

قال المصنّف قدس‌سره : ان أحد شروط جريانها في الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية عدم أصل موضوعي جار فيهما إذ لا مجال لها مع الأصل الموضوعي لوروده عليها وارتفاع موضوعها بسببه ، وهو الشك ولو كان الرفع رفعا تعبّديا.

فالنتيجة : أن أصالة البراءة لا تجري مع وجود أصل موضوعي في البين أو فقل ان الأصل الحكمي لا يجري مع جريان الأصل الموضوعي في المسألة سواء كان موافقا لها عملا أم كان مخالفا لها عملا لأنّه إمّا وارد عليها أو حاكم عليها. والأصل المورود أو المحكوم لا يجري مع جريان الأصل الوارد أو الحاكم ، كما يأتي تحقيق هذا المطلب في مبحث الاستصحاب ، إن شاء الله تعالى.

فلا تجري مثلا اصالة الاباحة في حيوان شك في حليّته مع الشك في قبوله التذكية.

٥٥٩

وكيف كان فلا بدّ هنا من توضيح الأمرين :

أحدهما : في توضيح مفهوم الأصل الموضوعي.

ثانيهما : في توضيح تقدّم أصالة عدم التذكية على اصالة الاباحة واصالة الطهارة هل هو بالورود كما اختاره المصنّف أم بالحكومة وهو مختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

امّا توضيح الأمر الأوّل فتقريبه ان الأصل الموضوعي يطلق على الأصل الذي يجري في الموضوع من الموضوعات لاحراز حكمه ولكشف لازمه ، وذلك مثل استصحاب بقاء خمرية المائع الذي شك في انقلابه خلّا ، ولا ريب في ان هذا الاستصحاب رافع لموضوع اصالة الحلية في المائع المشكوك كونه خمرا أو خلّا. مثلا : إذا كان المائع خمرا في الزمن السابق وشك في انقلابه خلّا في الزمن اللاحق فاستصحبنا بقاء خمريته فيه وهو رافع لموضوع اصالة الحلية لأنّ هذا المائع معلوم الخمرية تعبّدا لأنّ الاستصحاب يجعل المستصحب بمنزلة المعلوم وموضوع أصالة الحلية مشكوك الخمرية والحرمة.

ومعلوم الخمرية معلوم الحرمة ، أنت ترى أن هذا الاستصحاب يحرز الموضوع تعبّدا فيترتّب عليه حكمه ، وهو الحرمة.

امّا توضيح الأمر الثاني فقد اختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره حكومة الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي.

وعليه : فتقديم اصالة عدم التذكية على اصالة الاباحة واصالة الطهارة ثابت بعنوان الحكومة ، ولكن المصنّف صاحب الكفاية قدس‌سره اختار في وجه تقديمها عليهما ورودها عليهما ، وهو الأصح.

امّا ورودها على البراءة العقلية فواضح إذ موضوعها عدم البيان العقلي والشرعي على مطلق الحكم سواء كان واقعيا أم كان ظاهريا والاستصحاب المذكور

٥٦٠