البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

الأمرية فلا ينفك احتمال الحرمة عن احتمال المفسدة كما لا ينفك احتمال الوجوب عن احتمال المصلحة فأحرزت صغرى القياس حينئذ وهي احتمال الحرمة ملازم لاحتمال المفسدة هذه القضية صغرى ونضم إليها الكبرى وهي احتمال المفسدة مما يجب دفعه ، فإحتمال الحرمة مما يجب دفعه فالكبرى تكون بيانا لحال المشكوك حكما وواردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، كما لا يخفى.

وفي ضوء هذا : فيجب الاحتياط فيها

توضيح في طي استدلال شيخ الطائفة قدس‌سره

وهو أن في الأشياء كلا إباحة ، أو حظرا ، أو وقفا قبل حكم الشرع في الأفعال قال الأكثر بالاباحة وقال إن الأصل الأولي قبل حكم الشرع الأقدس في الأفعال هو الاباحة وكونها مباحا حلالا.

وقال شيخ الطائفة قدس‌سره ومن تبعه إن الأصل الأولي قبل حكم الشرع الأنور في الافعال هو الحظر ، أو الوقف والتوقف بمعنى لا ندري إن الأصل الأولي في الأشياء هو الاباحة ، أو الحظر والمنع ، ولا يخفى عليك أنه إذا قلنا بالوقف في الأشياء فلا جرم من الاجتناب عن الأشياء في مقام العمل كالحظر فالشيخ الطوسي قدس‌سره إذا رأى الملازمة بين احتمال الحرمة وبين احتمال المفسدة فقد ذهب إلى إن الأصل الأولي في الأشياء هو الحظر والمنع ، أو الوقف.

وعليه : لا بد من الاجتناب عن الأشياء التي يحتمل حرمتها فلا بد من القول بالاحتياط حينئذ.

في جواب المصنف قدس‌سره عنه

قلت استقلال العقل بقبح الاقدام على محتمل المفسدة ممنوع ولا نسلم إن

٥٢١

الاقدام عليه كالاقدام على متيقن المفسدة ويدل عليه شهادة الوجدان ، أولا لأنا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد جواز الاقدام على محتمل المفسدة وذلك كالركوب في الطيارة والسيارة مثلا وإن احتملنا السقوط والتصادف ، ويدل على جواز الاقدام ثانيا مراجعة ديدن العقلاء بما هم من أهل الملل والأديان حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته وحيث إنهم لا يعاملون مع محتمل المفسدة معاملة ما علم مفسدته أي لا يجعلون محتمل المفسدة مثل المتيقن من حيث المفسدة ، ويدل على هذا الأمر سفرهم في البلاد القريبة والنائية والدول المتعددة للتجارة ، أو للسياحة.

والحال : إنه يحتمل هلاك أنفسهم وغارة أموالهم في هذه الأسفار وهذا أدل دليل على إن العقلاء لا يعاملون مع محتمل المفسدة معاملة متيقن المفسدة كيف يعاملون معه معاملته.

والحال : قد أذن الشارع المقدس بالاقدام على محتمل المفسدة بقوله المبارك كل شيء لك حلال حتى تعرف إنه حرام فتدعه فشرب التبغ حلال لأنه غير معلوم الحرمة وغير معروف الحرمة.

ويستفاد من إذن الشارع المقدس في ارتكاب غير معلوم الحرمة عدم قبح الارتكاب عقلا لأن الشارع المقدس لم يأذن بارتكاب القبيح العقلي أصلا تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

قوله فتأمل ...

وهو إشارة إلى إنه لو تمسكنا بإذن الشارع المقدس في الاقدام على ما لا يؤمن مفسدته واستكشفنا بذلك عدم قبحه عقلا لسقطت البراءة العقلية ، وهي قبح العقاب بلا بيان ، عن كونها أصلا مستقلا برأسه بل نحتاج فيها إلى ترخيص الشارع المقدس ، وهذا كما ترى ، إذ البراءة العقلية أصل مستقل برأسه والحاكم بقبح العقاب بلا بيان عقل مستقلا.

٥٢٢

أدلة الاحتياط

قوله : واحتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة بالأدلة الثلاثة ...

واستدل الاخباريون القائلون بوجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية بالأدلة الثلاثة : الكتاب والسنة والعقل ، سواء كان منشأ الشبهة فقدان النص أم كان إجماله أم كان تعارض النصين.

أما الكتاب : فبآيات عديدة ، ومنها الآيات الناهية عن القول بغير العلم والآيات الناهية عن الالقاء في التهلكة والآيات الآمرة بالتقوى.

وأما الآيات الناهية عن القول بغير علم فهي كثيرة ومنها قوله تعالى في سورة الأعراف : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١). لأن همزة الاستفهام في (أَتَقُولُونَ) للتوبيخ أو للانكار وهما يدلان على قبح القول بغير علم.

وأما الآيات الناهية عن الالقاء في التهلكة فهي كثيرة أيضا ، ومنها قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢) ، فالأولى أي (وَلا تُلْقُوا) تدل بالمطابقة على حرمة الالقاء والثانية أي (وَاتَّقُوا اللهَ) تدل عليها بالالتزام إذ لازم التقوى عدم الالقاء إلى التهلكة والالقاء يتحقق بترك الواجبات وفعل المحرّمات ، ومنها قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(٣).

تقريب الاستدلال بهذه الطوائف من الآيات المباركات : إن الحكم بالاباحة فيما يحتمل حرمته ، وذلك كشرب التبغ مثلا ، مع عدم قيام الحجة المعتبرة على حرمته قول بغير علم وهو مذموم نظرا إلى الآية الشريفة السابقة لأن همزة الاستفهام فيها توبيخية وكل مذموم منهي عنه ، فهذا منهي عنه أي القول في الشبهة التحريمية

__________________

١ ـ سورة الأعراف آية ٢٨.

٢ ـ سورة البقرة آية ١٩٥.

٣ ـ سورة آل عمران آية ١٠٢.

٥٢٣

بالاباحة منهي عنه فلا جرم يجب الاحتياط فيها والاجتناب عنها ، هذا مضافا إلى ان القول بالاباحة فيها ، أي في الشبهة التحريمية ، وإلقاء النفس في الهلاك والتهلكة مخالفان للتقوى وهما محرمان في الشريعة المقدسة وكل محرم منهي عنه فيها فهما منهى عنهما عنها فلا محيص حينئذ عن وجوب الاحتياط فيها ، وهو المطلوب.

في جواب المصنف قدس‌سره عنه

قال قدس‌سره : والجواب أن القول بالاباحة شرعا لأجل دلالة الآيات السابقة والروايات المتقدمة والقول بالأمن من العقوبة عقلا لأجل قبح العقاب بلا بيان ليس قولا بغير علم أصلا للأدلة النقلية السابقة الدالة على الاباحة الشرعية ولدلالة العقل على البراءة العقلية ، ومع الدليل العقلي والنقلي الدالين على البراءة في الشبهة التحريمية ليست المهلكة في اقتحام الشبهة البدوية أصلا وليس في الاقتحام مخالفة التقوى بل هو عين التقوى ، كما لا يخفى.

وخلاصة الكلام أن يقال شرب التبغ حلال من جهة دلالة العقل والنقل على حليته ولا يقال شربه حلال من حيث كونه مشكوك الحرمة ومن حيث كونه مجهول الحكم حتى يرد ما ذكر من القول بغير العلم.

في الاستدلال بالروايات على الاحتياط

قوله : وأما الأخبار فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة ...

استدل الاخباريون لوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية بطائفتين من الأخبار :

الاولى : هي الاخبار التي تدل على وجوب التوقف في مورد الشبهة وعلى المنع عن ارتكابها وفي بعضها تبين علة التوقف وهي عبارة عن الوقوع في التهلكة ومن الاقتحام في الهلكة فالأخبار التي تدل على وجوب التوقف مطابقة ، أو التزاما

٥٢٤

عند الشبهة كثيرة من حيث الكمية ومختلفة من حيث الكيفية ، إذ بعضها يدل على وجوب التوقف مطابقة مثل خبر وقفوا عند الشبهة ومثل لا تجامعوا في النكاح على الشبهة (١) وأمثالهما.

وبعضها الآخر يدل على وجوب التوقف التزاما مثل ما روي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلّا الكف عنه والتثبت والردّ إلى أئمة الهدى عليهم‌السلام ، حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلو عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحق (٢) وهذا يدل على وجوب التوقف في مورد الشبهة التزاما ، إذ لازم الكف عن غير المعلوم والتثبت والردّ الوقوف والتوقف عند الشبهة وقال عمر بن حنظلة رضى الله عنه سألت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين ، أو ميراث فتحاكما إلى أن قال عليه‌السلام فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (٣) وهذه الرواية سمي في الاصطلاح بالرواية العلاجية ، تارة وبالمقبولة اخرى ، لأنه طويل يظهر من مراجعة الوسائل (٤).

الثانية : الأخبار التي وردت بالسنة المختلفة وكلها تدل على وجوب الاحتياط.

ومنها : ما روى داود بن القاسم الجعفري عن الرضا عليه‌السلام إن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لكميل بن زياد النخعي رضى الله عنه : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (٥) ، وهذا يدل على وجوب الاحتياط بالمطابقة.

__________________

١ ـ وسائل الشيعة باب ١٥٧ من أبواب مقدمات النكاح ص ١٩٣ ج ١٤.

٢ ـ الوسائل ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٣ ص ١١٢.

٣ ـ الوسائل ج ١٨ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١ ص ٧٥.

٤ ـ الوسائل ج ١٨ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١ ص ٧٥.

٥ ـ الوسائل ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٤١ ص ١٢٣.

٥٢٥

وأما الخبر التثليث الذي يدل بالالتزام على لزوم الاحتياط في الشبهة التحريمية فهو ما روى عمر بن حنظلة رضى الله عنه عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام في حديث قال عليه‌السلام : «وإنما الامور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتّبع وأمر بيّن غيه فيجتنب وأمر مشكل يرد علمه إلى الله تعالى وإلى رسوله» الحديث (١).

فرد علم أمر المشكل والمشتبه من حيث الحكم إلى الله تعالى ورسوله يدل بالالتزام على وجوب التوقف والاحتياط في الشبهات ، إذ لازم رد علم أمر المشكل وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، كما لا يخفى.

وبالجملة : عمدة الأخبار طوائف ثلاث :

الطائفة الاولى : ما دل على حرمة القول بغير علم ، وهي كثيرة غاية الكثرة ، ومنها : ما رواه زرارة بن أعين رضى الله عنه عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما حق الله تعالى على خلقه قال عليه‌السلام أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا والله إليه حقه (٢).

الطائفة الثانية : ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة إما مطابقة وإما التزاما كما تقدم هذا في طي الاستدلال بها وهي كثيرة أيضا كما يعلم هذه الكثرة لمن راجع الوسائل المجلد الثامن عشر منه.

الطائفة الثالثة : ما دل على وجوب الاحتياط عند الشبهة ، وهي كثيرة أيضا.

في جواب المصنف قدس‌سره عنه

أجاب عنه بالجواب القصير ، أولا وقال إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية مع دلالة النقل ومع حكم العقل بالبراءة العقلية والشرعية في الشبهة التحريمية كما

__________________

١ ـ الوسائل ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٩ ص ١٢٣.

٢ ـ نفس المصدر ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٤٤ ص ١٢٣.

٥٢٦

عرفت في الجواب عن الاستدلال على لزوم الاحتياط فيها بالآيات الكريمة.

قوله : وما دل على وجوب الاحتياط لو سلم وإن كان واردا على حكم العقل ...

فإن قيل : أدلة الاحتياط قائمة على وجوبه في الشبهة التحريمية فتكون واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان فتكون مقدمة عليها ، إذ هي مصححة للعقاب على مخالفة التكليف المجهول بأن يفعل المكلف محتمل الحرمة ، ويترك محتمل الوجوب ، إذ اخبار الاحتياط تصلح أن تكون بيانا لحال المشتبه وإذا ، أوجب الشارع المقدس الاحتياط في الشبهة الحكمية فأين يكون العقاب على المخالفة بلا بيان.

وعليه : فلا تدل الأدلة النقلية على البراءة في الشبهة الحكمية ، كما لا يخفى.

في جواب المصنف قدس‌سره عنه

أجاب قدس‌سره عن أدلة الاحتياط : بأنا لا نسلّم ، أولا دليل الاحتياط لأنه ضعيف سندا ، أو دلالة يعلم هذا بمراجعة الوسائل (١) ، إذ في سندها أبي هاشم داود ، وهو مجهول الحال لم يعلم وثاقته. واما من حيث الدلالة فلأن صيغة الأمر ، وهي فاحتط في الحديث ، ظاهرة في الوجوب وليست بصريحة فيه فيحتمل أن يكون المراد منها الندب فقط لقيام القرينة عليه وهي الاخبار التي تدل على البراءة كحديث الرفع ونحوه ، هذا مضافا إلى ان الأمر بالاحتياط يحتمل أن يكون ارشاديا كما سيأتي. وثانيا : لو سلّمنا أدلة الاحتياط سندا ودلالة وسلّمنا كونها واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان فإن دليل الاحتياط كاف في كونه بيانا على التكليف المشتبه لتنجزه به.

__________________

١ ـ الوسائل ج ١٨ ح ٤١ ص ١٢٣.

٥٢٧

وعليه : فلا يصغى إلى ما قيل من أن إيجاب الاحتياط لا يخلو من وجهين :

الأوّل : أن يكون مقدمة للاجتناب عن العقاب المترتب على مخالفة الواقع المجهول وأن يكون وجوبه طريقيا إلى الواقع ومقدميا ولا ريب في قبح العقاب على مخالفة الواقع المجهول لأنه عقاب بلا بيان ، إذ التكليف مجهول لنا لأن البيان عليه ليس بموجود للشارع المقدس حينئذ.

الثاني : أن يكون وجوبه نفسيا مثل سائر الواجبات النفسية كالصلاة والزكاة والجهاد مع الكفار دفاعا وأمثالها وحينئذ لا جرم يكون العقاب على مخالفة نفس الاحتياط لا على مخالفة الواقع المجهول. أما وجه قوله ولا يصغى إلى ما قيل سابقا فيقال قد علم سابقا في ضمن الاستدلال للقائلين بالبراءة أن وجوب الاحتياط لو سلم طريقي ومقدمي ، فالقائل يقول بقبح العقاب على مخالفة الواقع المجهول.

أجاب عنه الآخوند قدس‌سره إنه إذا كان وجوب الاحتياط في الشبهات طريقيا فالوجوب للاحتياط يكون صالحا للبيان ولا يلزم بحكم العقل أن يكون للشارع المقدس في كل واحد من الموارد بيان خاص كي يصح العقاب والمؤاخذة من قبل المولى للعباد بل إيجاب الاحتياط على نحو الطريقية إلى الواقع يكفي لصحة استحقاق العقاب على المخالفة ولصحة احتجاج المولى على عبيده بقوله إني ، أوجبت عليكم الاحتياط في الشبهات ويقول لهم لم خالفتم الاحتياط وارتكبتم محتمل الحرمة ، وذلك كشرب التبغ مثلا ، وتركتم محتمل الوجوب ، كالدعاء عند رؤية الهلال مثلا ، بل يلزم عليكم أن تحتاطوا بترك محتمل الحرمة وبفعل محتمل الوجوب ، فيصح الاحتجاج به أي بوجوب الاحتياط ، إذ ترك الاحتياط سبب ترك ذي الطريق والواقع كما أن الأمر في التبعية عن الأمارات المعتبرة والطرق الصحيحة إنما يكون لأجل تحفظ الواقع ودركه بل الأمر يكون هكذا في التبعية عن الاصول العملية الناظرة إلى الواقع كالاستصحاب ونحوه لا ما سواه كقاعدة الحل وقاعدة

٥٢٨

الطهارة ونحوهما من الاصول التي لا نظير لها إلى الواقع ، وكذا ايجاب الاحتياط إنما يكون لحفظ الواقع فبترك الاحتياط لا يكون الواقع محفوظا ، فالملاك هو الواقع ، لا الاحتياط فيصح العقاب على الواقع وهذا مراد الآخوند قدس‌سره من جوابه.

فالأمارة والطرق والاصول العملية الناظرة إلى الواقع كالاستصحاب ، اما بخلاف اصالة الحلية والطهارة ونحوهما فانه لا نظر لها إلى الواقع لا تخلو من احتمالين أحدهما إما يكون على طبقها حكم في الواقع وثانيهما إما لا يكون الحكم في الواقع على طبقها.

فعلى الأول يستحق المكلف المؤاخذة على مخالفة الواقع ، وعلى الثاني يستحق المؤاخذة على التجري ، مثلا إذا قام خبر زرارة بن أعين المرادي رضى الله عنه عن الصادقين عليهما‌السلام على وجوب صلاة الجمعة في يومها عصر الغيبة وكانت في الواقع وفي اللوح المحفوظ واجبة ولكن المكلف خالف الأمارة ولم يفعلها فيصح الاحتجاج من المولى الجليل على عباده ويقول لهم لم تركتم الصلاة الجمعة ، وكذا إذا قام الطريق على وجوبها ، وذلك كاخبار العدلين بوجوبها ، وكذا إذا دل الاستصحاب على وجوبها ، إذ وجوبها في عصر حضور الأئمة عليهم‌السلام متيقن وفي عصر الغيبة وجوبها مشكوك فيه فيتم حينئذ أركان الاستصحاب ، وهي عبارة عن اليقين السابق والشك اللاحق ، فنستصحب وجوبها في عصر الغيبة وإذا خالف المكلف ولم يفعلها وحينئذ يصح الاحتجاج والعقاب من قبل المولى بالاضافة إلى عبيده ، كما لا يخفى.

فيتم هذا القول كله ولكن أدلة الاحتياط تبتلى بمعارض الأخص والأظهر وإن كانت واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعلى هذا الفرض لا يبقى موضوع لعدم البيان ولكن تكون الأدلة الأخر التي هي أخص وأظهر من أدلة الاحتياط تكون في مقام المعارضة والتعارض مع أدلة الاحتياط ضرورة إن الدليل

٥٢٩

الذي دل على حلية المشتبه أخص وأظهر منها أما وجه أظهريته فلأنه نص في حلية المشتبه نحو : «كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدع» ونحوه.

أما بخلاف الدليل الدال على لزوم الاحتياط في الشبهات فهي ظاهرة عليه وليست بناصة فيه لأن صيغة الأمر الحاضر ، وهي عبارة عن فاحتط ظاهرة في الوجوب ، كما برهن هذا المطلب في بحث الأوامر ، وليست بناصة فيه أما الدليل الدال على حلية المشتبه فهو صريح فيها.

إذ جملة الاسمية ، وهي «كل شيء لك حلال» موجودة فيه وهي تكون ناصة في معناها كما تكون ناصة من حيث الدلالة على الدوام والاستمرار ، فيرجع حينئذ إلى قاعدة تقديم النص على الظاهر في مقام المعارضة ، وأما وجه أخصيته بالاضافة إلى أدلة الاحتياط فلأنه يدل على الاباحة وعلى البراءة في الشبهات البدوية بعد الفحص والتنقير والتفتيش وأدلة الاحتياط تدل على وجوبه في مطلق الشبهات سواء كانت بدوية بعد الفحص عن الدليل الاجتهادي على الحكم الشرعي أم كانت قبل الفحص عنه أم كانت مقرونة بالعلم الاجمالي ، كما إذا كان أحد الإناءين طاهرا والآخر نجسا واشتبها.

فالنتيجة : إن أخبار الاحتياط عام وأخبار حلية المشتبه خاص ولا ريب في تقديم الخاص على العام في مقام المعارضة والتعارض لكون الخاص أظهر والعام ظاهر فالأظهر مقدم على الظاهر في مقام تعارضهما ، والتفصيل قد سبق في الجزء الثاني من هذا الكتاب في مبحث العام والخاص.

فالنتيجة : إن أخبار الحل بالاضافة إلى أخبار الاحتياط أما نص وأما أظهر وكلاهما مقدم على الظاهر من أخبار الاحتياط ، كما لا يخفى. هذا ، أولا.

مضافا إلى إن القرائن في اخبار الاحتياط موجودة تدل على كون أمرها إرشاديا إلى ما في الفعل من الخواص والآثار والمنافع والمضار فيختلف الارشاد

٥٣٠

إيجابا واستحبابا بحسب اختلاف الموارد ، والتفصيل إن التوقف والاحتياط يجب في الشبهة الحكمية قبل الفحص سواء كانت تحريمية أم كانت وجوبية لما في ترك الاحتياط فيها من خوف العقاب على الواقع المجهول ، إذ يحتمل الحرمة الواقعية في التحريمية منها ، والوجوب في الوجوبية منها وإن الاحتياط يستحب في الشبهة الحكمية وفي الموضوعية بعد الفحص لما في تركه فيهما من خوف الوقوع في مخالفة الواقع المجهول ظاهرا.

والحاصل : أن أخبار الاحتياط لا تدل على الوجوب للزوم إخراج أكثر موارد الشبهة كالشبهة الموضوعية مطلقا أي سواء كانت تحريمية أم كانت وجوبية وكالشبهة الوجوبية ، إذ لا يجب الاحتياط فيهما بالاجماع ولا تدل على الاستحباب للزوم إخراج موارد وجوب الاحتياط كما في الشبهات الحكمية قبل الفحص والشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي.

وعلى طبيعة الحال : فيحمل أمر اخبار الاحتياط على الارشاد ، أو على الطلب المشترك بين الوجوب والندب وحينئذ فلا ينافي وجوب الاحتياط في بعض الموارد عدم لزومه في بعض آخر لأن تأكد الطلب الارشادي وعدمه إنما يكونان بحسب المصلحة الموجودة في الفعل لأن الاحتياط عبارة عن التحرز عن موارد احتمال المضرة واحتمالها قد يكون قويا شديدا وقد يكون ضعيفا خفيفا ؛ ولأجل هذا الاختلاف يختلف رضاء المرشد بالكسر بترك الاحتياط فقد يكون راضيا بتركه وقد لا يكون راضيا به لاختلاف مراتب المضرة والمنفعة كما أن الأمر في الأوامر الواردة في إطاعة الله تعالى ورسوله المكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي إطاعة أولي الأمر للارشاد المشترك بين فعل الواجبات وفعل المستحبات والمندوبات ، كما لا يخفى.

وأما الفرق بين الأوامر المولوية وبين الأوامر الارشادية فقد سبق في الجزء الأول من هذا الكتاب في بحث الفور والتراخي فلا حاجة إلى التكرار لأنه مملّ

٥٣١

ومن أراد الاطلاع عليه فليراجع هناك.

وهذا الجواب مردود جدا : لأن الأمر الارشادي عبارة عن إنشاء الطلب لا بداعي الارادة ، أو الكراهة القلبية الثابتة في النفس بل أنشئت لمحض بيان الخواص والآثار ولمحض التنبيه على المنافع والمضار المترتبتين على الفعل والترك من دون أن يكون على طبقها إرادة وحبّ ، أو كراهة وبغض في نفس الآمر كما في ، أوامر الطبيب ونواهيه حيث لا علاقة بينه وبين المريض كي يحدث بسبب العلاقة إرادة على طبق المصلحة ، أو كراهة على طبق المفسدة.

وعليه : فإذا امتثل المريض أمره ونهيه فلا يقرّبه إليه أي فلا يقرّب الامتثال المريض إلى الطبيب وإذا عصاهما فلا يبعد العصيان المريض عن الطبيب سوى ما يصيب المريض بنفسه من المنافع والخواص على تقدير الامتثال ؛ ومن المضار والآثار على فرض العصيان ، هذا معنى الأمر الارشادي.

ولكن هذا المعنى غير ممكن في حق الشارع المقدس ، لأنه لا ينشئ الطلب بداعي الخواص والآثار من دون أن يكون له على طبقها إرادة وحبّ ، أو كراهة وبغض بل له كمال الإرادة والكراهة والحبّ والبغض ولهذا يترتب القرب على الامتثال والبعد على العصيان والطغيان.

وفي ضوء هذا : فلا يمكن حمل الأخبار الدالة على التوقف والاحتياط على الارشاد ، وكذا لا يمكن حمل أمرها على الطلب المشترك بين الوجوب والندب ، وهو رجحان الفعل ، أو طلب الفعل فقط ، لأن الطلب جنس للوجوب والندب كالحيوان الذي هو جنس للانسان والفرس مثلا.

ومن الواضح : إنه لا يمكن تحقق الجنس في الخارج بلا تحقق الفصل فيه كما لا يمكن تحقق الفصل فيه من دون أن يتحقق الجنس فيه فهما يتحققان فيه معا كما في الحيوان والناطق مثلا ، إذ لا يمكن تحقق الحيوان في الخارج من دون

٥٣٢

أن يتحقق الناطق فيه ، وكذا لا يمكن تحقق الناطق في الخارج من دون أن يتحقق الحيوان فيه فكذا الطلب والوجوب والندب حرفا بحرف أي لا يعقل إنشاء الطلب خارجا من دون أن يتحقق الوجوب ، أو الندب في الخارج ، وهذا واضح لا غبار عليه.

فالأولى حمل أخبار الاحتياط على الاستحباب بمعنى الأفضلية أي يكون الوقوف والاحتياط في الشبهات مطلقا أي التحريمية منها والوجوبية منها قبل الفحص وبعد الفحص أفضل من الارتكاب والاقتحام ، وهذا لا بحث فيه ولا نزاع فيه ، فأفضلية الوقوف والاحتياط فيها لا تنافي مع البراءة العقلية والنقلية فيها.

وعليه : يجمع بين أخبار البراءة كحديث الرفع والحجب ونحوهما ؛ وبين أخبار الاحتياط كما هذا النحو من الجمع شائع بين ما دل على الوجوب وما دل على جواز الترك كما يقال افعل هذا ولك أن لا تفعله فيحمل الأمر حينئذ على الاستحباب ، إذ هو يلائم مع جواز الترك بخلاف الوجوب ؛ فكذا ما نحن فيه توضيح في طي القرائن الدالة على كون ، أوامر الاحتياط والتوقف للارشاد لا للمولوية وهي امور كثيرة.

الاولى : لزوم تخصيص الأكثر لو لم تكن ، أوامر الاحتياط للارشاد.

بيانه : أن موضوع الأمر بالتوقف والاحتياط هو الشبهة مثل قوله عليه‌السلام قف عند الشبهة ونحوه ولكن إذا كان الطلب مولويا وجوبيا فيلزم حينئذ تخصيص الأكثر ، وهو مستهجن ، كما في المعالم ، ضرورة أن عنوان الشبهة صادق على جميع الشبهات سواء كانت حكمية تحريمية أم كانت موضوعية أم كانت حكمية وجوبية.

والحال : قد أجمع الاصوليون والاخباريون رضي الله عنهم ، على جريان البراءة العقلية والنقلية في غير الشبهة الحكمية التحريمية فيلزم تخصيص الأكثر لو حملت على المولوي الوجوبي فلا محيص عن حملها على الارشاد إلى المنافع التي

٥٣٣

تتحقّق بترك الشبهات والمضار التي تحتمل بارتكاب الشبهات.

الثانية : عدم وجود الاستثناء فيها أي في أخبار التوقف والاحتياط أي ليس سياقها هكذا قف عند الشبهة إلّا إذا كانت موضوعية ، أو حكمية وجوبية ، وعليه فسياقها آب عن التخصيص ، وهذا قرينة جلية على كون ، أوامر الوقوف والاحتياط للارشاد.

الثالثة : ظهور قوله عليه‌السلام فمن ارتكب الشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم في ترتب الهلاك والهلكة على ارتكاب الشبهة لا على مخالفة الأمر بالتوقف والاحتياط.

ومن الواضح : حيث إنه لا عقوبة على مخالفة الأمر بالتوقف فليس هذا الأمر بمولوي وإلّا لترتبت الهلكة على مخالفته لا على ارتكاب الشبهة ، وعليه فتكون ، أوامرها للارشاد لا محالة.

ولا يخفى إن هذه الامور الثلاثة قرائن تدل على كون ، أوامر التوقف والاحتياط للارشاد فالاستحقاق ثوابا ، أو عقابا يترتب على الأمر المولوي امتثالا أو عصيانا لا على الأمر الارشادي ، وهذا واضح لمن أمعن النظر.

قوله : ويؤيده أنه لو لم يكن للارشاد يوجب تخصيصه ببعض الشبهات إجماعا ...

وذلك كالشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، وكالشبهة البدوية قبل الفحص.

والحال : إن سياق الأخبار ولسانها آبيان عن التخصيص ، وعليه فلا بد من أن تحمل على الارشاد ، وإنما جعله مؤيدا لا دليلا أي جعل كون الأمر بالاحتياط للارشاد بسبب لزوم التخصيص مؤيدا لاحتمال أن يكون الأمر به للاستحباب المولوي لأن هذه الأخبار بإطلاقها تعم الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية الوجوبية ، إذ موضوع الاحتياط قد جعل فيها عنوان الشبهة وهذا العنوان يتحقق في

٥٣٤

كل شبهة ، مع إن الاحتياط غير واجب بالاتفاق في الشبهة الموضوعية وفي الشبهة الحكمية الوجوبية فلا بد حينئذ من رفع اليد عن ظهورها في الوجوب ، والالتزام فيها بالتخصيص وحيث إن لسانها آب عن التخصيص كما ترى فتعين حملها على الاستحباب ، أو على مطلق الرجحان الجامع بينه وبين الوجوب فلا يستفاد منها وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص وهي محل البحث ومورد القيل والقال ، كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى إن اخبار الاحتياط لا تعارض أخبار البراءة ، وذلك لأن استصحاب عدم جعل الحرمة يكون رافعا لموضوع هذه الأخبار ، إذ به يحرز عدم التكليف وعدم العقاب فيتقدم عليها ، أي على اخبار الاحتياط لا محالة.

وكذا أخبار البراءة تتقدم على هذه الأخبار لكونها أخص منها فإن أخبار البراءة لا تشمل الشبهة قبل الفحص ولا المقرونة بالعلم الاجمالي إما بنفسها وإما من جهة الاجماع وحكم العقل بل بعض أخبار البراءة مختص بالشبهات التحريمية كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي أما بخلاف أخبار التوقف والاحتياط فإنها شاملة لجميع الشبهات فتخصص بها ، كما لا يخفى.

فقد ذكر المصنف قدس‌سره قرينة رابعة لكون أمر التوقف للارشاد بقوله كيف لا يكون قول الامام عليه‌السلام قف عند الشبهة فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة للارشاد ، هذا مؤيد الثاني للارشادية غير الإباء عن التخصيص فقد ذكر المصنف قدس‌سره إلى هنا مؤيدين للارشادية أحدهما هو إباء سياق أخبار التوقف عن التخصيص ببعض الشبهات ، كما تقدم هذا.

وثانيهما : إن الأمر بالتوقف لو لم يكن للارشاد مثل قوله عليه‌السلام قفوا عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة بل كان للوجوب المولوي وكان شاملا للشبهات البدوية بعد الفحص كما زعمه الاخباريون لم يلتئم هذا

٥٣٥

الشمول مع التعليل الذي ذكر فيه الاقتحام في الهلكة ، إذ لا هلكة في الشبهات البدوية بعد الفحص ما لم يؤمر من قبل المولى بالوقوف والاحتياط فكيف يعلل وجوب الوقوف فيها أي في الشبهات البدوية بما ليس بموجود فيها ، وهو الهلكة.

أما بخلاف ما إذا كان الأمر في الاحتياط ثابتا للارشاد إلى ما في الاقتحام من الهلكة والعقوبة الاخروية.

وعليه : فيختص الأمر بالاحتياط حينئذ بما يتنجز فيه الواقع على المكلف ، وذلك كالشبهة البدوية مطلقا قبل الفحص عن الدليل الاجتهادي على حكم المشتبه ، والشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، إذ في كليهما يجب الاحتياط والتوقف ، كما لا يخفى.

ولا بأس بذكر المثال لتوضيح الممثل ، وهو عبارة عن نحو : لا تأكل الرمان لأنه حامض ، فهذا التعليل يوسع دائرة المنهي عنه تارة ، إذ يشمل هذا التعليل كل حامض سواء كان رمانا أم كان غير رمان كالتفاح الحامض والعنب الحامض ونحوهما ويضيق دائرته اخرى ، إذ لا يشمل هذا التعليل غير الرمان الحامض من الرمان الحلو فلا تأكل الرمان يكون بمنزلة لا تأكل الرمان الحامض في التقدير ، ولذا قيل إن العلة تكون معمما ومخصصا ، وكذا التعليل المذكور في أخبار التوقف ، وهو فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة فالأمر دائر بين الوقوف وبين الاقتحام في الهلكة كي يتحقق التعليل المذكور في الرواية الشريفة هنا ، تبصرة لنفسي ، وتذكرة لغيري.

وهما إن المراد من الهلكة التي ذكرت فيها هو العقوبة الاخروية ، وعليه فيكون الاقتحام في الهلكة في الشبهات البدوية قبل الفحص ، وفي الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي لأنه لا يحكم العقل ولا النقل بالبراءة فيهما أما في الشبهات البدوية بعد الفحص ليس الاقتحام في الهلكة بموجود أصلا لأجل حكم

٥٣٦

العقل والنقل بالبراءة فيها.

فهذا الفرض يكون مثل الرمان غير الحامض خارج عن إطلاق الشبهة بسبب التعليل المذكور فيها كما خرج الرمان غير الحامض ، وهو رمان حلو ، عن إطلاق الرمان في نحو لا تأكل الرمان فالتعليل في الرواية الشريفة عام بالاضافة إلى الشبهة البدوية قبل الفحص وإلى الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي وخاص بالنسبة إلى الشبهة البدوية بعد الفحص فلهذا نقول ليس الاقتحام في الهلكة في الشبهات البدوية بعد الفحص بموجود أصلا فلا يشمل التعليل المذكور في أخبار التوقف هذا الفرض أصلا كما لا يشمل الحامض حلوا أصلا في المثال المتقدم والحال أن الشارع المقدس لم يجب علينا الاحتياط والتوقف فيها أصلا فكيف لا نجري البراءة في الشبهات البدوية بعد الفحص.

قوله : لا يقال نعم ولكنه يستكشف عنه على نحو الإنّ إيجاب الاحتياط ...

فاستشكل المستشكل في هذا المقام وقال إن قولكم صحيح تام بالاضافة إلى الشبهة البدوية قبل الفحص والشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي وبالنسبة إلى الشبهة البدوية بعد الفحص وقلتم بوجوب الاحتياط والتوقف في الأولين دون الثالث ، ولكن لنا طريق آخر يستكشف منه على نحو الإنّ وجوب الاحتياط من قبل وهو مصحح للعقوبة.

فالتعليل المذكور في روايات التوقف يكون بسبب وجوب الاحتياط من قبل إذ يترتب العقاب على مخالفة الاحتياط لأنه واجب وكل واجب تترتب العقوبة على مخالفته فالاحتياط تترتب العقوبة على مخالفته ، وهو واجب في كل الشبهات.

توضيح في طي الاستدلال الآني : وهو عبارة عن الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلة كما يقال زيد محموم ، وكل محموم متعفن الاخلاط فزيد متعفن الاخلاط ، إذ الحمى معلول تعفن الاخلاط وهو علته ويقابله اللمّي وهو

٥٣٧

الاستدلال بوجود العلة على وجود المعلول كما يقال زيد متعفن الأخلاط ، وكل متعفن الأخلاط محموم فزيد محموم ، إذ تعفن الأخلاط علة الحمى ، وهو معلوله ، أما فيما نحن فيه فلأن حسن العقاب معلول تنجز التكليف ومعلول ثبوت البيان عليه.

وعليه : كان الدليل الدال على وجود العقاب في الشبهة دالا على وجود البيان على التكليف فالأخبار المثبتة للهلكة في الشبهات كاشفة عن وجوب الاحتياط شرعا لئلا يكون العقاب بلا بيان والمعلول بلا علة.

في جواب المصنف قدس‌سره عنه

قوله : فإنه يقال إن مجرد إيجابه واقعا ما لم يعلم ...

أجاب المصنف قدس‌سره بأنه من الممكن أن يكون الاحتياط في الشبهات واجبا واقعا ولكن ما دام لم يحصل لنا العلم بوجوب الاحتياط فلا تصح العقوبة على تركه وعلى مخالفته ، إذ تكون هذه العقوبة من مصاديق عقاب بلا بيان ومن أفراد المؤاخذة بلا برهان.

نعم : لا تكون العقوبة بلا بيان في موضع تنجز التكليف إذا كانت الشبهة بدوية قبل الفحص مطلقا أي سواء كانت تحريمية أم كانت وجوبية أو مقرونة بالعلم الاجمالي ، إذ فيهما يجب التوقف والفحص عن الدليل على الحكم.

فالنتيجة : لا أثر لوجوب الاحتياط الواقعي ما دام لم يعلم وجوبه واقعا فالوجوب العلمي للاحتياط ذو أثر ، كما لا يخفى لا الوجوب الواقعي. فلا محيص عن اختصاص ايجاب الاحتياط بهما ، أي بالشبهة البدوية قبل الفحص وبالشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي.

٥٣٨

قوله : فتأمل جيدا ...

وهو إشارة إلى إن النزاع بين الاصوليين والاخباريين إنما يكون في الشبهات البدوية التحريمية بعد الفحص قال الاصوليون رضي الله عنهم بالبراءة فيها ، وذهب الاخباريون (رض) إلى وجوب الاحتياط فيها ولا نزاع بينهم في سائر الشبهات.

انحلال العلم الاجمالي

قوله : وامّا العقل فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته ...

استدلّ الاخباريون القائلون بوجوب الاحتياط في الشبهات البدوية بعد الفحص بالدليل العقلي على نحوين :

أحدهما : ان الأصحاب رحمهم‌الله إلّا بعضهم قد اتفقوا بوجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي لأنّ العلم الاجمالي منجز للتكليف وكل منجز للتكليف موجب للموافقة القطعية ، فهذا موجب لها وهي لا تتحقّق إلّا بالاحتياط.

فإن قيل : ان الشبهات البدوية سواء كانت تحريمية أم كانت وجوبية غير الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، فوجوب الاحتياط فيها لا يستلزم وجوبه في الشبهات البدوية وهي محل البحث.

قلنا : انّهم قد أدخلوا الشبهات البدوية في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ؛ فإن قيل : كيف يدخلونها فيها ، وهي غيرها؟

قلنا : ان لنا علما إجماليا بوجود الواجبات في ضمن الشبهات الوجوبية وبوجود المحرّمات في بين الشبهات التحريمية ، فالعقل يحكم بوجوب الاحتياط فيها وهو يتحقّق بترك جميع المشتبهات التحريمية وباتيان تمام المشتبهات الوجوبية ، فذمّتنا يشتغل بهذه التكاليف لأجل العلم الاجمالي بها والاشتغال اليقيني

٥٣٩

يقتضي الفراغ اليقيني وهو يتحقّق بالاحتياط ، كما ذكر.

وعلى ضوء هذا فيجب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية ، نحو شرب التبغ مثلا ، بحكم العقل.

في الجواب عنه :

والجواب : ان العقل وإن استقل بوجوب الاحتياط في أطراف المشتبهات ، ولكن هو ، أي وجوب الاحتياط ، ثابت إذا لم ينحل العلم الاجمالي بوجود واجبات كثيرة ومحرّمات عديدة في ضمن المشتبهات إلى علم تفصيلي ، وشك بدوي ، وهو قد انحل هاهنا إليهما قطعا بسبب تحقّق التكاليف في موارد الطرق والامارات والاصول المثبتة للتكاليف ، نحو استصحاب وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة.

مثلا انّا نعلم ان التكاليف الشرعية قد بيّنت لنا بسبب الروايات الموجودة في الوسائل ، والكافي ، والتهذيب ، والاستبصار ، ومن لا يحضره الفقيه ، وغيرها من الكتب القيّمة عند الأعلام رحمهم‌الله.

وكذا نعلم ان عدّة من التكاليف قد فسّرت لنا بواسطة الاستصحاب المثبت للتكليف وبواسطة غيره من الاصول المثبتة كما تقدّم شرحها في دليل الانسداد.

وعليه ؛ فليس لنا علم اجمالي بالزائد على هذا المقدار الذي قد فسّر لنا بواسطة الامارات والطرق والاصول المثبتة بل قد فسّرت التكاليف لنا بواسطتها بأزيد من التكاليف المعلومة إجمالا.

خلاصة الكلام :

ان العلم الإجمالي الكبير قد انحل إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، ولهذا لا مانع حينئذ من اجراء البراءة في الشبهات الحكمية سواء كانت تحريمية أم كانت

٥٤٠