البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

لم يقصد وما قصد لم يوقع ، إذ وقع في الخارج شرب الماء وهو غير مقصود وشرب الخمر كان مقصودا له فهو لم يوقع في الخارج ، كما هو ظاهر.

وعليه : فقد انقدح الفرق بين العاصي والمتجري من وجوه ثلاثة :

الأوّل : صدر من الأوّل عملا مبغوضا عند المولى ، ولم يصدر من الثاني.

الثاني : صدر من العاصي عمل اختياري مبغوضا ، ولم يصدر هذا العمل من المتجري فهو لا يستحق العقاب ، نعم يستحق اللوم والذم لأجل تجرّيه على مولاه.

الثالث : صدرت من العاصي المخالفة الاعتقادية والواقعية ولكن صدرت من المتجري المخالفة الاعتقادية فحسب ، فالمنكر لعقاب المتجري ينكر كون مقطوع الخمرية كالخمرية الواقعية كما عرفت سابقا بما لا مزيد عليه ، فيحتاج استحقاق المتجري العقاب إلى اثبات كون المخالفة الاعتقادية كالمخالفة الواقعية في كون كل واحد منهما سببا للاستحقاق ، أي لاستحقاق العقاب ، ودون إثباته خرط القتاد ، إذ لا دليل على هذه المماثلة لا من طريق العقل ولا من هداية الشرع الأنور ، نعم يدل على استحقاق المتجري العقاب الوجدان السليم مضافا إلى عدّة من الآيات القرآنية والروايات المعصومية على مبينيها الصلاة والسلام.

هذا فقد ظهر لك ان المصنّف قدس‌سره قائل في باب التجري بقبح الفاعلي والفعلي وهو الأظهر ، خلافا للشيخ فإنّه قائل فيه بقبح الفاعلي فقط.

امّا قبح الفاعلي فلسوء سريرة المتجري وخبث طينته وامّا القبح الفعلي فلأن المتجري هتك به مولاه والهتك قبيح عقلا وسببه قبيح أيضا ، إذ سبب القبيح قبيح عقلا نظير التسبيب للقتل المحرّم مثلا.

توضيح في طي بعض أفراد التجري

وهو عبارة عن التجري في الشبهات الموضوعية كما إذا اعتقد ان هذا المائع

٤١

الخارجي خمر وشربه بهذا الاعتقاد لأجل تجرّيه على مولاه ثم انكشف انّه لم يكن خمرا بل كان ماء واقعا فلم يصدر من المتجري فعل اختياري فإنّ شرب الماء لم يقصده والخمر لم يشربه فتحقّق قانون ما وقع لم يقصد وما قصد لم يوقع. ففعل الاختياري لا بدّ أن يصدر عن المكلّف عن إرادة وقصد.

نعم في الشبهات الحكمية يصدر من المتجري فعل اختياري ؛ مثلا إذا اعتقد ان العصير الزبيبي حرام شرعا وشربه ثم انكشف انّه ليس بحرام شرعا فقد صدر منه فعل اختياري ، إذ هو قصد شرب العصير المذكور ، وشربه بالإرادة والاختيار بدون الإكراه والاضطرار إلّا أنّه أخطأ في اعتقاد حرمته.

فالتجري إذا كان في الشبهة الموضوعية فلم يصدر من المتجري فعل اختياري كما في المثال المذكور آنفا.

وإذا كان في الشبهة الحكمية فقد صدر منه فعل اختياري ، كما في مثال العصير ، فالمراد من بعض أفراده هو الشبهة الموضوعية لا الشبهة الحكمية ولا الشبهة مطلقا أي سواء كانت حكمية أم كانت موضوعية.

وامّا بيان الفرق بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية ، فإن رفع الشبهة في الاولى بيد الشارع المقدّس ، وفي الثانية بيد أهل العرف إذا كان من أهل الخبرة.

قوله : ثم لا يذهب عليك انّه ليس في المعصية الحقيقية إلّا منشأ واحد ...

فإذا قلنا بأن المتجرّي يستحق العقاب من جهة نيّة العصيان وقصد الطغيان ؛ فيلزم أن يكون في المعصية الحقيقية تعدّد العقاب لأنّ العاصي قصد العصيان ؛ وفعل مبغوض المولى أحد العقابين على نيّة المعصية.

والآخر على فعل المبغوض فيتعدّد السبب وتعدّده يستلزم تعدّد المسبب فلا بدّ أن نلتزم فيها بالعقابين.

قال صاحب الفصول في الفصول : ونلتزم فيها باستحقاق العقابين ، ولكن نقول

٤٢

بتداخلهما فيصيران عقابا واحدا ، مثلا : إذا ارتكب زيد قتل بكر عمدا فيجب قتله قصاصا ، ولكن ارتد هذا القاتل في هذا الزمان فارتكب قتل العمدي ؛ والارتداد الفطري سواء ارتكبهما في زمان واحد أم ارتكبهما في زمانين فيجب قتله مرّتين : مرّة للقتل العمدي ، ومرّة اخرى للارتداد الفطري.

ولكن لما كان القتل غير قابل للتكرّر في الخارج فلا محيص عن القول بالتداخل في هذا المقام ، امّا بخلاف الغسل فإنّه قابل للتكرّر في الخارج فإذا تعدّد سببه من الجنابة والمس مثلا فعلى القاعدة يتعدّد المسبب فيه إلّا إذا دلّ النص المعتبر على التداخل ، كما هو الأمر كذلك.

في جواب المصنّف عنه

أجاب المصنّف قدس‌سره بأن استحقاق العاصي عقابين يستلزم محذورين :

الأوّل : ان الاستحقاق المذكور مردود من وجهين : عقلا وواقعا.

امّا من جهة الواقع فبديهي فساد التعدّد ، إذ ليس في المعصية الواحدة وفي الهتك الواحد إلّا عقاب واحد واقعا ؛ وامّا عقلا فلأنّ الفرد العاصي لم يرتكب إلّا هتكا واحدا كما صدر من الفرد المتجري هتك واحد.

غاية الأمر : الفرق بين الهتكين من حيث الشدّة والضعف ، إذ هتك العاصي شديد ، وهتك المتجري ضعيف ، وهذا واضح.

وهذا الفرق المذكور غير مسألة تعدّد العقاب ، هذا أوّلا.

وثانيا : لو كان تعدّد العقاب في العاصي موجودا لما كان السبب للتداخل ، كما في الفصول ، امّا التداخل في نحو القتل فلأن قتل شخص لا يمكن مرّتين ، فلهذا قال الفقهاء قدس‌سرهم به بخلاف ما نحن فيه ، إذ لا مانع عقلا من تعدّد العقاب بلا التداخل ، كما لا يخفى فإذا كان السبب واحدا كان المسبب ، وهو العقاب ، واحدا.

٤٣

وعليه : فلا منشأ لتوهّم التداخل إلّا وضوح انّه ليس في معصية واحدة إلّا عقوبة واحدة ولكن غفل صاحب الفصول قدس‌سره عن ان وحدة المسبّب ، وهو عقاب واحد ، تكشف بنحو الآن عن وحدة السبب.

فإذا كان العقاب واحدا كان الهتك واحدا ، ووحدة الهتك تستلزم وحدة العقاب كما ان وحدة العقاب تكشف عن وحدة الهتك ، إذ العقاب معلول الهتك وهو علّته فمن وحدة المعلول نعلم وحدة العلّة ، إذ لا يصدر معلول واحد إلّا من علّة واحدة وإلّا لزم اجتماع العلّتين على معلول واحد ، وهو محال. وعليه فلا معنى للتداخل ؛ لعدم تعدد السبب في العاصي هذا تمام الكلام في التجرّي والانقياد.

٤٤

في أقسام القطع

قوله : الأمر الثالث انّه قد عرفت ان القطع بالتكليف ...

فتعرّض المصنّف قدس‌سره في هذا الأمر لأمرين :

الأوّل : بيان أقسام القطع.

الثاني : بيان قيام بعض الامارات والاصول العملية مقام القطع الطريقي.

امّا بيان أقسام القطع فهو إمّا طريقي وإمّا موضوعي ؛ أمّا الأوّل فهو ما لا يؤخذ في موضوع الحكم الشرعي بل كان موضوعا لحكم العقل بوجوب الموافقة.

وامّا الثاني فهو ما يؤخذ في موضوع الحكم الشرعي ، وهو على أقسام ، والمتصوّر من أقسامه الصحيحة والممتنعة كثير لأنّه امّا أن يتعلّق بالحكم الشرعي ، أو بموضوعه ، والأوّل امّا أن يؤخذ في نفس ذلك الحكم الذي تعلّق به ، أو ضدّه ، أو مثله ، أو خلافه وكلّ منها امّا أن يؤخذ تمام الموضوع ، أو جزءا للموضوع فتصير المحتملات ثمانية وهي حاصلة من ضرب الأربع في اثنين وكلّ منها امّا أن يكون ملحوظا بنحو الطريقية ، أو بنحو الصفتيّة فتصير المحتملات ستّة عشرة صورة وهي حاصلة من ضرب الثمانية في اثنين.

فهذه صور القطع الموضوعي ، وواحدة للقطع الطريقي المحض فتصير الأقسام تسعة.

قد عرفت في الأمر الثاني ان القطع بالتكليف اللزومي ، من الوجوب والحرمة ، سواء كان القطع مخالفا للواقع أم كان مصيبا له يوجب عقلا استحقاق المدح في الدنيا ، والثواب في العقبى ، إذا وافق القاطع قطعه ، أو استحقاق الذم في الاولى ، والعقاب في الآخرة ، إذا خالفه.

٤٥

غاية الأمر : فإذا كان موافقا للواقع فيتحقّق عنوان الإطاعة والمعصية ، وإذا كان مخالفا له فيتحقّق عنوان التجرّي والانقياد من دون أن يؤخذ شرعا في الخطاب وفي موضوع الحكم ، فالدليل الذي تعرّض لبيان الحكم لم يتعرّض للقطع أصلا نحو الخمر حرام لأنّه مسكر فالحرمة مترتّبة على الخمر بما هو خمر لا على مقطوع الخمرية بحيث كان القطع جزء الموضوع وقيده.

غاية الأمر : إذا قطع العبد بكون هذا المائع خمرا فالعقل يحكم بوجوب موافقته ومتابعته وبكونه طريقا كاملا إلى الواقع ، هذا حكم قطع الطريقي.

في القطع الموضوعي

وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلّقه أي يخالف حكم متعلّقه.

وليعلم أنّه يكون في قبال قطع الطريقي قطع آخر يسمّى بالقطع الموضوعي. وهو يؤخذ في موضوع الحكم ، وله شرائط لا بدّ من بيانها في هذا المقام ، سيأتي الإشارة إلى دليل الشرائط.

امّا بيان الشرائط فالقطع إذا أخذ في موضوع الحكم فيشترط أوّلا أن يكون حكم المقطوع به غير الحكم الذي اخذ القطع في موضوعه.

وعليه : فلا يصح أن يقال إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة فيجب عليك صلاة الجمعة لأنّه مستلزم للدور.

امّا بيان الدور : فلأنّ نسبة العلم إلى المعلوم كنسبة العارض إلى المعروض كما يتوقّف العارض من حيث الوجود الخارجي على وجود المعروض عليه ، كذا يتوقّف العلم من حيث انكشاف الواقع على وجود المعلوم ذهنا ، أو خارجا فيتوقّف القطع على الوجوب ، من جهة توقّف القطع على المقطوع به وتوقّف العلم على المعلوم ، وامّا توقّف الوجوب على القطع ؛ فمن جهة توقّف الحكم على موضوعه

٤٦

وعلى أجزائه وقيوده. فيصير القطع موقوفا وموقوفا عليه ، وكذا الوجوب.

وثانيا : أن لا يكون الحكم المقطوع مماثلا للحكم الذي اخذ القطع في موضوعه نحو إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة فيجب عليك صلاة الجمعة بوجوب ثانوي فيكون في هذا المقام وجوبان :

الأوّل : وهو الوجوب المقطوع.

الثاني : هو الوجوب الذي يتحقّق عقيب القطع بوجوب صلاة الجمعة فهذا يستلزم اجتماع المثلين ، وهو محال ، كما برهن في محله.

وثالثا : أن لا يكون الحكم المقطوع ضدّا للحكم الذي اخذ القطع في موضوعه نحو إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة فيحرم عليك صلاة الجمعة فأخذ القطع بالوجوب في موضوع الحرمة ، وهذا يستلزم اجتماع الضدّين.

ورابعا : وكذا يشترط أن لا يكون القطع بالخمرية جزء لموضوع حكم الخمر ، وهو حرمة ، نحو الخمر المقطوع حرام ، إذ يلزم منه خلف لأن حكم الخمر بما هو خمر يكون حرمة لا بما هو مقطوع الخمرية ، فلو فرض كون القطع جزء لموضوع الحرمة نحو المثال المذكور أي الخمر المقطوع حرام ، فالحرمة مترتّبة على مقطوع الخمرية لا على الخمر بما هو خمر ، وهذا خلف ، نظير قول زيد بن أرقم مثلا ، عمر بن مسعود عادل وهو ليس بعادل.

وكذا في المقام ، إذ معنى قولنا الخمر حرام ان الحرمة مترتّبة عليه بما هو هو ، ومعنى قول القائل الخمر المقطوع حرام ان الحرمة مترتّبة على مقطوع الخمرية لا على ما هو خمر ، وهذا واضح.

امّا المثال لقطع الموضوع فنحو إذا قطعت بوجوب شيء ، كصلاة الجمعة مثلا ، فيجب عليك التصدّق بخمسة دراهم مثلا ، فالقطع قد أخذ موضوعا لوجوب الصدقة فوجوب الصدقة يخالف وجوب صلاة الجمعة من حيث تعدّد المتعلّق واختلاف

٤٧

المكلّف به.

وامّا مثال المماثل والمضاد ، فقد سبق. فالصور الصحيحة للقطع الموضوعي ثمان ، إذ يجوز أخذه في خلافه بصورة الأربع والثمانية حاصلة من ضرب الاثنين ، وهما القطع الموضوعي الطريقي والوصفي في الأربعة ، وهي تعلّقه بحكم شرعي امّا موضوعي طريقي وامّا وصفي وكل واحد منهما امّا يكون تمام الموضوع بأن يكون القطع بالوجوب مطلقا أي سواء كان مصيبا للواقع أم كان خاطئا له موجبا لحكم آخر.

وامّا يكون جزء الموضوع وهو موجب لحكم آخر إذا كان مصيبا للواقع ، فعلى الأوّل يجب التصدّق سواء كانت صلاة الجمعة واجبة واقعا في عصر الغيبة أم لم تكن بواجبة واقعا من جهة كون القطع جهلا مركّبا.

ثمرة القطع بتمام الموضوع

وعلى الثاني يجب إذا كان مصيبا له ، فهذه أربعة احتمالات.

وكذا تحصل أربعة احتمالات إذا تعلّق بموضوع الحكم حرفا بحرف.

والصور الممتنعة ثمان أيضا. وهي تعلّقه بمثل الحكم المقطوع به ، أو بضدّه مع كون القطع طريقيّا ، أو وصفيّا وعلى التقديرين امّا يكون تمام الموضوع ، أو جزئه ، كما سبق هذا آنفا.

في القطع الموضوعي الطريقي والوصفي

فقد قسّم الشيخ الأنصاري قدس‌سره القطع الموضوعي إلى قسمين ؛ باعتبار ان القطع قد يكون مأخوذا في الموضوع على نحو الصفتية ، وقد يكون مأخوذا بنحو الطريقيّة.

٤٨

وتوضيحه : أن القطع من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ومعنى كونه من الصفة الحقيقيّة انّه من الامور المتأصّلة الواقعية في قبال الامور الانتزاعية التي لا وجود لها إلّا لمنشا انتزاعها ، وفي قبال الامور الاعتبارية التي لا وجود لها إلّا باعتبار من معتبر ، فإنّ القطع ممّا له تحقّق في الواقع ونفس الأمر بلا حاجة إلى اعتبار معتبر وبلا لحاظ منشأ الانتزاع ، ومعنى كونه ذات الإضافة ان القطع ليس من الصفات الحقيقيّة المحضة كالأعراض التي لا تحتاج في وجودها الخارجي ، إلّا إلى وجود موضوع فقط كالبياض والسواد مثلا بل هو من الصفات ذات الإضافة بمعنى كونه محتاجا في وجوده إلى المتعلّق مضافا إلى احتياجه إلى الموضوع فإنّ القطع كما يستحيل تحقّقه بلا قاطع كذلك يستحيل تحقّقه بلا مقطوع به ؛ وكذا العلم يستحيل تحقّقه بلا عالم فكذا يستحيل تحقّقه بلا معلوم ، والقدرة من قبيل العلم لا يعقل تحقّقها إلّا بقادر ومقدور ولهذا قسّمت صفات الباري جلّ ذكره إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : هو الصفة الحقيقيّة المحضة كحياته تعالى شأنه ، إذ لا يتوقّف تحقّقها إلى المحيي أصلا.

الثاني : هو الصفة ذات الإضافة المحضة ، كخالقيته ورازقيته ، إذ يتوقّف تحقّقه إلى المخلوق والمرزوق.

الثالث : هو الصفة الحقيقيّة ذات الإضافة كعالميّته وقادريّته ، إذ يتوقّف تحقّقها إلى الموضوع ، وهو عالم وقادر ، وإلى المتعلّق ، وهو معلوم ومقدور.

فاذا كان للقطع جهتان :

الاولى : كونه من الصفات المتأصلة ، وله تحقّق واقعي.

الثانية : كونه متعلّقا بالغير وكاشفا عنه ، وإذا كان كذلك فقد يكون مأخوذا في الموضوع بلحاظ الجهة الاولى ؛ وقد يكون مأخوذا في الموضوع بملاحظة الجهة

٤٩

الثانية ، هذا تقسيم الشيخ رحمه‌الله القطع الموضوعي إلى قسمين : الطريقي والوصفي.

وامّا المصنّف رحمه‌الله فقد قسّم القطع الموضوعي إلى أربعة أقسام باعتبار ان كلّا من القسمين المذكورين تارة يكون تمام الموضوع أي يكون الحكم المقطوع به دائرا مدار القطع سواء كان مطابقا للواقع أم كان مخالفا له.

واخرى يكون جزء الموضوع وكان الجزء الآخر للموضوع الواقع المقطوع به فيكون الحكم حينئذ دائرا مدار خصوص القطع المطابق للواقع.

وذكر أيضا ان القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية ، تارة : يؤخذ صفة للقاطع بأن يقال : إذا قطعت بكون هذا المائع خمرا فاجتنبه.

واخرى : يؤخذ صفة للمقطوع به فتكون الأقسام أربعة حاصلة من ضرب الاثنين ، وهما كونه تمام الموضوع ، أو جزئه في الاثنين بأن يقال إذا كان هذا المائع مقطوع الخمرية فاجتنبه ، وهما كونه طريقيّا تارة ووصفيّا اخرى.

ولا يخفى ان القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقيّة لا يمكن أخذه تمام الموضوع ، إذ معنى كونه تمام الموضوع انّه لا دخل للواقع في الحكم أصلا ، بل الحكم مترتّب على نفس القطع بما هو قطع ولو كان مخالفا للواقع ؛ ومعنى كونه مأخوذا بنحو الطريقية ان للواقع دخلا كاملا في الحكم ، ولكن أخذ القطع طريقا إليه فيكون الجمع بين أخذه في الموضوع بنحو الطريقيّة وبين كونه تمام الموضوع من قبيل الجمع بين المتناقضين.

فالصحيح هو تثليث الأقسام بأن يقال القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية امّا يكون تمام الموضوع ، أو يكون جزءه ، وامّا القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقيّة فلا يكون إلّا جزءا للموضوع ، كما ذكر وجهه آنفا.

ولأجل كون العلم من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة كان نورا لنفسه ونورا لغيره أي منوّرا لغيره.

٥٠

فالعلم هو الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل.

وعليه يكون من مقولة الكيف النفساني ، أو هو عبارة عن قبول النفس لتلك الصورة ، فيكون من مقولة الانفعال.

وقال الفخر الرازي هو من مقولة الاضافة ولهذا عرّفه بحصول صورة الشيء في العقل.

فلما كان العلم من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ، فقد صحّ أخذ العلم أعني منه القطع في موضوع الحكم بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة للقاطع بلا لحاظ جهة كشفه عن الواقع بأن يقول المولى اني أخذت القطع في موضوع وجوب التصدّق بما هو صفة من الصفات النفسانية.

أو بلا لحاظ خصوصية اخرى في القطع مع صفتيته ككونه من سبب خاص أو من شخص خاص ، أو في مورد خاص ، فالمحرّك للمولى لأخذه موضوعا في الحكم هو كون القطع صفة خاصة.

وكذا صحّ أخذه في موضوع حكم آخر ، وذلك كوجوب التصدّق مثلا ، بما هو كاشف عن متعلّقه وحاك عنه لا بما هو صفة خاصّة قائمة بنفس القاطع.

وعلى هذا البيان فتكون أقسام القطع الموضوعي أربعة :

أحدها : القطع الموضوعي الذي كان تمام الموضوع.

وثانيها : القطع الموضوعي الذي كان جزء الموضوع وعلى كلا التقديرين امّا أن يؤخذ بنحو الطريقية ، أو بنحو الصفتية ، فيحصل من ضرب الاثنين في الاثنين أربعة أقسام ، ولكن يكون القسم الخامس موجودا وهو القطع الطريقي الذي لم يؤخذ في موضوع الحكم أصلا فصارت أقسامه خمسة كاملة.

فينبغي ذكر المثال للقطع إذا كان تمام الموضوع وهو نحو إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، يجب عليك التصدّق ، وامّا إذا كان جزء الموضوع

٥١

فمثاله نحو إذا كانت صلاة الجمعة مقطوع الوجوب فيجب عليك التصدّق بكذا.

قيام الطرق مقام القطع الطريقي

قوله : ثم لا ريب في قيام الطرق والامارات المعتبرة مقام القطع ...

من جملة خواص القطع الطريقي المحض قيام الطرق والامارات المعتبرتين مقامه ، وتلك كأخبار الآحاد في الأحكام ، وكالبيّنة في موضوعات الأحكام يحصل منها ظن يعبر عنه بظن خاص.

ومن الواضح : ان الظن ليس كالقطع في الكاشفية ولكن الشارع المقدّس نزّله منزلة القطع ولكن حجّية القطع ذاتي لا تنفك عنه وحجّية الامارات والطرق تعبّدي ، فمعنى قيامها مقامه ثبوت آثار القطع لها من المنجزية عند الإصابة والعذرية عند الخطأ ، ووجوب المتابعة وحرمة المخالفة.

وقد عرفت ان أثر القطع عقليّ فترتّب أثره عليها بأدلّة حجّيتها ان مفاد أدلّة حجّيتها جعل مؤداها بمنزلة الواقع فإذا قامت على شيء كان ما قامت عليه بمنزلة الواقع ولا ريب في ان القطع بما هو بمنزلة الواقع كالقطع بالواقع في كونه منجزا وعذرا في صورتي المصادفة وعدمها.

فإذا قام خبر العدل ، أو الثقة على حرمة شرب الخمر مثلا فهو كالقطع بأن الشارع المقدّس حرّم شربه في ترتّب الآثار المذكورة وكذا إذا قامت البيّنة على كون هذا المائع خمرا فهو كالقطع بأن ذاك المائع الخارجي خمر في ترتّب المنجزيّة والمعذريّة في صورتي المصادفة وعدمها فقد تعرض المصنّف قدس‌سره في هذه المسألة المهمّة لمقامات ثلاثة :

الأوّل : قيامها مقام القطع الطريقي المحض كما ذكر.

الثاني : عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي بناء على ما اختاره

٥٢

المصنّف قدس‌سره.

الثالث : عدم قيامها مقام القطع المأخوذ موضوعا على نحو الصفتية ، مثلا : إذا أخذ القطع في موضوع الحكم بعنوان انّه صفة خاصّة قائمة بنفس القاطع ، على نحو تمام الموضوع ، أو على نحو جزء الموضوع ، فلا ريب في دخالة القطع بما هو قطع في وجوب الحكم ، فالقطع بوجوب صلاة الجمعة دخيل في وجوب التصدّق بكذا.

كما إذا قال الشارع المقدّس : الخمر حرام ، فالخمر بما هو خمر دخيل في الحرمة فإذا كان الشيء فاقدا لعنوان الخمرية وان كان له جميع آثار الخمر من الطعم والرائحة المخصوصة ووصف الاسكار فلا يشمل دليل حرمة الخمر لهذا الشيء إلّا إذا قام الدليل الشرعي على ان هذا الشيء يقوم مقام الخمر في الحرمة وذلك كالفقاع مثلا.

فكذا الطرق والامارات فاقدة لعنوان القطع ، إذ يحصل منها الظن المعبّر عنه بالظن الخاص ، وليس الدليل الشرعي بموجود على قيام هذا الظن مقام القطع في ترتّب الحكم ، وعلى تنزيله منزلته ، أي على تنزيل الظن الحاصل من الطرق والامارات منزلة القطع ، إذ أدلّة حجّيتها انّما اقتضت كون الطرق والامارات بمنزلة القطع في الحجّية ووجوب المتابعة والطريقية إلى الواقع.

ومن الواضح : ان مرجع هذا إلى تنزيل مؤداها منزلة الواقع ، وهذا لا ينفع إلّا في ترتّب آثار الواقع وأحكامه ولوازمه على المؤدى كما هو شأن كل تنزيل ؛ امّا ترتيب آثار نفس القطع المأخوذ موضوعا بما انّه صفة خاصّة نفسانية فلا وجه له.

وبتقرير آخر هو ان دليل الحجّية يدلّ على طريقيّة الطرق والامارات إلى الواقع ولا يدلّ على كونها تمام الموضوع ، أو جزء الموضوع وصفة الموضوع كي يترتّب الحكم على الموضوع عند قيامها مقام القطع ، فإذا كان الأمر كذلك فلا وجه لقيامها مقامه إذ معنى قيام الشيء مقام شيء آخر ثبوت آثار الثاني للأوّل ، وإذا لم

٥٣

يكن دليل الحجّية متكفّلا لترتيب آثار القطع على الطرق والامارات ، فكيف تكون قائمة مقامه وتنوب منابه ، كما لا يخفى.

فحال الطرق والأمارات ، كحال سائر الموضوعات والصفات ، إذ قيام الموضوع مقام موضوع آخر كقيام الفقاع مقام الخمر مثلا ، يحتاج إلى الدليل الذي ننزله منزلته.

وقيام صفة مقام صفة ثبت كونها موضوعا للحكم يحتاج الى الدليل أيضا ، وتلك كالعلم بعدد الركعات في المكتوبة ، ولكن الدليل الشرعي نزّل الظن به منزلة العلم ، وهكذا سائر الموارد ، ولهذا أفتى الفقهاء قدس‌سرهم ، بأن الظن بعدد الركعات حكمه كالعلم بعددها.

قوله : ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ...

قد تعرّض المصنّف قدس‌سره المقام الثالث ، وقال : قد ظهر لك من عدم قيام الطرق والامارات مقام القطع الموضوعي الوصفي عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي بمجرّد دليل حجّيتها واعتبارها ، إذ دليل حجيّة الطرق والامارات ، لا يثبت لها إلّا كونها كالقطع في الطريقيّة إلى الواقع والكشف عنه.

والحال ان للقطع آثار أخر غير الطريقيّة والكشف من ذاتية حجّيته ومن كونه كشفا تامّا كاملا ومن عدم اجتماعه مع احتمال الخلاف ، ولهذا سمّي القطع قطعا لقطع احتمال الخلاف فيه ، امّا بخلاف الظن فلوجود احتمال الخلاف فيه ، ولهذا يجتمع مع الوهم فالموضوع لحكم وهو ؛ وجوب التصدّق الكاشف التام وهو القطع ، فالخبر الواحد وان كان صحيحا اعلائيّا كاشف ناقص والبيّنة كاشفة ناقصة والناقص لا يصلح أن يقوم مقام الكامل وينوب منابه.

فلا يقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي شيء من الطرق والامارات بمجرّد حجيّتها ، إذ دليل حجيّتها واعتبارها يدلّ على طريقيتها إلى الواقع كالقطع ، ولا يدلّ

٥٤

على كونها تمام الموضوع ، أو جزءه وصفته حتى يترتّب الحكم على موضوعه ، وذلك كترتّب الوجوب على التصدّق بكذا ، عند قيامها على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، ما لم يقم الدليل الشرعي على تنزيل الشيء من الطرق والامارات ، منزلة القطع في جميع الآثار والخواص ، وعلى دخله في موضوع الحكم كدخل القطع فيه ، ودون اثباته خرط القتاد.

قوله : بمجرّد حجيّته ، أو قيام دليل على اعتباره ...

وهو إشارة إلى حجيّة الظنّ المطلق بناء على الحكومة امّا قوله : قيام دليل على اعتباره فهو إشارة إلى حجيّة الظن الخاص الحاصل من أخبار الآحاد والبيّنة وغيرهما من الطرق المعتبرة والامارات المعتبرة شرعا.

امّا الفرق بين الطرق والامارات فقد سبق في الجزءين : الأوّل والثاني ، فلا حاجة إلى الإعادة.

في كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره وردّه

قوله : وتوهّم كفاية دليل الاعتبار الدالّ على الغاء احتمال خلافه ...

قال العلّامة الأنصاري قدس‌سره : الامارات المعتبرة تقوم مقام القطع الموضوعي الطريقي كما تقوم مقام القطع الطريقي المحض بالإجماع.

واحتجّ الشيخ رضى الله عنه بأن حجيّة الخبر الواحد عبارة عن كون الظن الحاصل منه كالقطع من جهة الغاء احتمال الخلاف فكأن احتمال الخلاف ليس بموجود ، فإذا كان معنى حجيّة خبر الواحد كذلك فقد نزّل الشارع المقدّس الظن منزلة القطع ، سواء كان طريقيّا محضا أم كان موضوعيّا طريقيّا في جميع الآثار والخواص.

وعليه : فتقوم الطرق والامارات مقام القطع الموضوعي الطريقي ، ولا بأس به.

قال المصنّف رضى الله عنه : هذا التوهّم منه فاسد ، إذ التنزيل يستدعي لحاظ المنزل

٥٥

والمنزل عليه ولحاظ الامارة والقطع في تنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي لأن الأثر مترتّب على الواقع المنكشف بالقطع والامارة ولا يترتّب على نفس القطع والامارة فيكون النظر في الحقيقة إلى الواقع وإلى مؤدّى الامارة.

امّا لحاظ القطع والامارة في تنزيل الامارة منزلة القطع المأخوذ في الموضوع فاستقلالي ، إذ الأثر مترتّب على نفس القطع الموضوعي فالجمع بين التنزيلين في دليل واحد يستلزم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي المتعلّقين بملحوظ واحد في آن واحد ولا يمكن الجمع بينهما ؛ فلا يمكن أن يكون دليل واحد متكفّلا لبيان كلا التنزيلين ، ولكن حيث ان أدلّة حجيّة الامارات والطرق ظاهرة بحسب متفاهم العرف في التنزيل من حيث الطريقية إلى الواقع فلا بدّ من الأخذ به ما لم تقم قرينة على التنزيل من حيث الموضوعية ، فلا محيص من حمل دليل التنزيل على الأوّل أي آلي فلا يقتضي ترتيب آثار القطع الموضوعي على مؤدى الطريق ، أو على الثاني أي استقلالي فلا يقتضي التنزيل ترتيب آثار الواقع على مؤدّى الطريق.

قوله : نعم لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما يمكن أن يكون دليلا ...

يعني لو كان دليل التنزيل لسانه بحيث يمكن فيه الجمع بين التنزيلين. أي يكون للشارع المنزل (بالكسر) تعبير عام يشمل لحاظ الآلي والاستقلالي ، فيمكن القول حينئذ بقيام الامارات مقام القطع الطريقي المحض والقطع الموضوعي الطريقي كما إذا قال الظن الحاصل من خبر العدل مثلا ينزل منزلة القطع بأيّ لحاظ آلي ، أو استقلالي ، ولكن اللحاظ التفصيلي ليس بلازم ، بل يكفي اللحاظ الاجمالي في المقام ، فلو كان دليل التنزيل عامّا لكان حمله على اللحاظين معا هو المتعيّن ، لكن ليس مثل هذا الدليل موجودا فإنّ لسان أدلّة الحجيّة نحو ألغ احتمال الخلاف في الخبر الواحد ، أو مثل صدّق العادل أو نحو ذلك مثل الخبر الواحد حجّة مثلا يأبى

٥٦

عن ذلك فموضوع ، الحكم هو الخبر.

وحينئذ فإمّا أن يلحظ الخبر بما هو هو ، أو بما انّه طريق ولا يمكن جمعهما معا في ملحوظ واحد لأنّه من اجتماع الضدّين ، إذ لحاظه بما هو هو يستدعي لحاظه استقلاليا ولحاظه بما انّه طريق يقتضي لحاظه آليّا وتبعيّا نظير لحاظ المرأة إذ الملحوظ الاستقلالي الأصلي هو الصورة المرتسمة فيها ، أي في المرآة ، وكذا فيما نحن فيه الملحوظ الأصلي هو الواقع ولحاظ الخبر آلي تبعي.

فالنتيجة لا يكون الدليل على التنزيل بموجود إلّا بذاك اللحاظ الآلي فيكون الخبر حجّة موجبة لتنجّز متعلّقه ومصحّحة للعقاب على مخالفته كالقطع أي يترتّب عليه جميع أحكام القطع ولوازمه. فمعنى جعل الحجية للامارات هو جعل الطريقيّة والكاشفية. لا القول بأن المجعول في حجية الامارات هو المنجزية والمعذرية فقط لكونه مستلزما للتخصيص في حكم العقل ، والحال ان حكم العقل بعد ثبوت ملاكه غير قابل للتخصيص.

بيان ذلك : ان العقل مستقل بقبح العقاب بلا بيان ، وعليه فإذا قامت الامارة على التكليف فلا إشكال في تنجّزه على المكلّف وكونه مستحقّا للعقاب على مخالفته وكان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان منتفيا بانتفاء موضوعه لأنّ الشارع المقدّس جعل الامارة طريقا وبيانا فيقال : العقاب بلا بيان قبيح إلّا مع قيام الامارة على التكليف فالعقاب بلا بيان في هذا المورد ليس بموجود.

فإذا لم يكن التنزيل عامّا بحيث يشمل كلا التنزيلين الآلي والاستقلالي فلا بدّ امّا يكون الدليل التنزيل باللحاظ الآلي فيثبت للدليل الظنّي جميع آثار القطع من الحجية والمنجزية والمعذرية ووجوب المشي على وفقه ؛ وامّا يكون الدليل التنزيل باللحاظ الاستقلالي فليس للدليل الظنّي كالامارة ، الحجية والمنجزية والمعذرية وهو يكون خليفة القطع الموضوعي حال كونه دخيلا في الموضوع

٥٧

فحسب وإذا ظنّ المكلّف بوجوب صلاة الجمعة من الامارة ، كخبر العدل مثلا ، فيجب عليه التصدّق بكذا.

فيترتّب على الظن الحكم الشرعي ، وهو وجوب التصدّق بكذا ، كما رتّب على القطع الموضوعي في قول المولى إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، فيجب عليك التصدّق فانقدح ان مختار الشيخ صاحب الفرائد قدس‌سره قيام الطرق والامارات مقام القطع الموضوعي الطريقي كما تقوم مقام القطع الطريقي المحض ، وقد سبق دليل الشيخ قدس‌سره على مدّعاه : وان مذهب المصنّف صاحب الكفاية قدس‌سره عدم قيام الطرق والامارات مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وقد مرّ دليله على مدّعاه آنفا فلا حاجة إلى الإعادة هنا.

قوله : لا يقال على هذا لا يكون دليلا على أحد التنزيلين ...

فاستشكل على المصنّف قدس‌سره بانه يلزم على قولكم إجمال دليل تنزيل الامارات منزلة القطع ، إذ هو يصلح لتنزيل الآلي ولتنزيل الاستقلالي ويحتملهما والقرينة المعيّنة لأحدهما ليست بموجودة عندنا فلا وجه لحمله على أحدهما للزوم الترجيح بلا مرجح فكيف قلت أيّها المصنّف بحمله على التنزيل الآلي.

في جواب المصنّف قدس‌سره عنه

قوله : فإنّه يقال لا إشكال في كونه دليلا على حجيّته ...

أجاب المصنّف قدس‌سره بأن القطع المنزل عليه ذو آثار وأظهرها طريقيّته إلى الواقع وكاشفيّته عنه ، فالامارات إذا نزلت منزلته فالظاهر كونها طريقة إلى الواقع وكاشفة عنه.

وعليه : فأدلّة حجيّة الطرق والامارات ظاهرة في تنزيلها منزلة القطع في الطريقية والكاشفية وليست بظاهرة في تنزيلها منزلة القطع في الموضوعية ما دام لم

٥٨

تكن القرينة دالّة على التنزيل الاستقلالي وهي ليست بموجودة في المقام ـ فالتنزيل على نحو الآلي مسلّم عند الكل ، ولا نزاع فيه ، فيترتّب على الامارات ما يترتّب على القطع الطريقي من المنجزية والمعذرية واستحقاق العقاب على المخالفة والثواب على الموافقة.

ولكن لا ينضمّ إلى هذا التنزيل التنزيل الاستقلالي أصلا فمحور البحث ان التنزيل الاستقلالي يحتاج إلى نصب دلالة وقرينة دالّة عليه.

امّا بخلاف التنزيل الآلي فإنّه لا يحتاج إلى قرينة معيّنة أصلا كما لا يحتاج استعمال لفظ الأسد في الحيوان المفترس ، إلى قرينة ويحتاج استعماله في الرجل الشجاع إليها.

فتأمّل في المقام فإنّه دقيق ومزال أقدام الأعلام قدس‌سرهم.

والأعلام جمع مكسر العلم (بالفتحتين) لغة هو بمعنى : رسم الثوب أي علامته يعرف بها ورقمه يتشخص به.

ولهذا يقال : الاعلام للعلماء وتطلق عليهم ، إذ بتحريرهم وتقريرهم يعرف الله تعالى وتعرف أنبيائه وأحكامه وقوانينه التي تتكفّل تنظيم امور معاشهم ومعادهم ، ولكن زل أقدام بعضهم في هذا المقام ، إذ قال بقيام الطرق والامارات مقام القطع الموضوعي الطريقي ولكن غفل عن اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي. على هذا الفرض فيها وهو لا يجوز ، إذ هو من قبيل اجتماع الأمرين المتنافيين في شيء واحد.

في ردّ قول الشيخ قدس‌سره

قال المصنّف قدس‌سره : لو لا محذور اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي في الطرق والامارات على فرض قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي لأمكن القول بقيامها بدليل واحد دالّ على الغاء احتمال الخلاف في مؤداها مقام جميع أقسام

٥٩

القطع ، إذ أدلّة حجّية الخبر الواحد تشمل التنزيل الآلي والاستقلالي لأنّها تجعل الامارات منزلة القطع في جميع الآثار والخواص.

وعليه فيمكن قيامها مقام مطلق القطع سواء كان طريقيّا محضا أم كان موضوعيّا طريقيّا أم كان وصفيّا فلم قال الشيخ قدس‌سره بقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وبعدم قيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي ، إذ لو دلّت أدلّة حجيّتها على تنزيلها منزلة القطع لجاز قيامها مقام جميع أقسام القطع ، وان لم تدل على التنزيل المذكور فلا يجوز قيامها مقام القطع الموضوعي وإن كان طريقيّا ، فلا معنى للتفكيك بين القطع الموضوعي الطريقي والوصفي ، وقلنا بالقيام في الأوّل وبعدمه في الثاني ، بل لا بدّ من القول بجواز قيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي سواء كان تمام الموضوع نحو إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة فيجب عليك التصدّق بكذا أم كان جزء الموضوع وكان قوامه به ، إذ قوام الكلّ بالجزء ، ولهذا يقال : الكل ينتفي بانتفاء جزءه ، نحو إذا كان هذا المائع مقطوع الخمرية فاجتنبه وجوبا.

فتلخّص ممّا ذكرنا ان الامارة لا تقوم بدليل اعتبارها إلّا مقام القطع الذي يكون طريقيّا محضا وهو القطع الذي لا يؤخذ في الموضوع أصلا لا بنحو تماميّته ولا بنحو جزئيته.

هذا مذهب المصنّف قدس‌سره خلافا للشيخ صاحب الفرائد قدس‌سره حيث قال بقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي الكشفي أيضا. هذا تمام الكلام في الامارات والطرق.

في قيام الاصول مقام القطع

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان حكم الطرق والامارات ، شرع في بيان حكم الاصول من أصالة البراءة وأصالة الحلية وأصالة الاحتياط وغيرها حال كونها غير

٦٠