البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

غاية الأمر : أن مفهوم الاحتياط والتحفظ متأخر رتبة عن الجهل والخطأ والنسيان فإيجاب الاحتياط وإيجاب التحفظ إنما يكونان ثابتين في مورد الجهل بالحكم الشرعي وفي مورد الخطأ والنسيان بلحاظ درك الأحكام الواقعية وبملاحظة تحفظها وهو يستلزم تحفظ المصالح الواقعية ولا يكون إيجابهما بلحاظ الجهل والخطأ والنسيان مع قطع النظر عن المصالح الواقعية الموجبة للأحكام الواقعية الأولية فإيجابهما يكون ثابتا من أجل عدم فوت الواقع على المكلف وفوت الواقع يستلزم فوت المصالح الواقعية والمولى لا يرضى به ، كما لا يخفى.

الاستدلال بحديث الحجب

قوله : ومنها حديث الحجب قال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١) ...

رواه زكريّا بن يحيى عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، وطريق الاستدلال به أن الالزام بالحكم المجهول مما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع أي مرفوع عنهم فحكم شرب التبغ مما حجب الله تعالى علمه فالحكم مرفوع عنهم ورفع الحكم الالزامي بمعنى براءة ذمة المكلف عنه.

قوله : وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكر في حديث الرفع ...

قال المصنف قدس‌سره في مقام المناقشة على الاستدلال بحديث الحجب بأنا لا نسلّم كون الحديث ظاهرا في رفع الحكم الذي ليس بمعلوم للمكلفين ، إذ من الممكن أن يدعي إن ظاهر الحديث الشريف يكون في صدد بيان الأشياء التي لا يتعلق عناية الباري جلّ جلاله ، باطلاع عباده عليها لحكمة ومصلحة في ذلك الأمر فالامام عليه‌السلام كان في مقام عدم إرادة الباري عزّ اسمه العالي ، اطلاع عباده عليها

__________________

١ ـ الوسائل ج ١٨ ط ق باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٢٨.

٥٠١

ولهذا لم يأمر رسله بتبليغ هذه الأشياء إلى عباده.

فإن قيل : على هذا لا يصح إسناد الحجب إلى الله تعالى بل يصح إسناده إلى الأنبياء الكرام والرسل العظام عليهم‌السلام وإذا انسد علم الأشياء على العباد فيكون هذا الانسداد معلول عدم تبليغهم إليهم وعدم التبليغ كان معلول عدم أمر الله تعالى.

فالنتيجة : يكون الانسداد من فعل الله تعالى ومعلول فعله تعالى شأنه فيصح إسناد الحجب إلى الله تعالى شأنه العزيز.

قوله : حيث إنه بدونه لما صحّ إسناد الحجب إليه تعالى ...

يعني إن الوجه المستحكم في دعوى ظهور الرواية الشريفة في جريان البراءة في الشبهات الحكمية هو نسبة الحجب إليه تعالى وصحته إليه تعالى فإن الحكم المجهول الذي بينه الرسول المعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن إنما حجب وستر على العباد بمعصية من عصى الله تعالى وأخفاه عليهم فلا يصدق عليه إنه مما حجبه الله تعالى على العباد ، أما بخلاف الحكم الذي لم يأمر الله تعالى رسوله بتبليغه إلى عباده ، فإنه يصدق عليه إن هذا الحكم مما حجبه الله تعالى على عباده الصالحين ، هذا في الشبهات الحكمية ، وأما الشبهات الموضوعية فإن الله تعالى قادر على إعطاء مقدمات العلم الوجداني لعباده فمع عدم الاعطاء صح إسناد الحجب إليه تعالى فصح الاستدلال بهذا الحديث الشريف على البراءة في الشبهة الحكمية والموضوعية كحديث الرفع.

الاستدلال بحديث الحل

وهو عبارة عن رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال :

سمعته يقول : «كل شيء لك حلال حتى تعلم إنه حرام بعينه فتدعه من قبل

٥٠٢

نفسك» (١) حيث دل الحديث الشريف على حلية الشيء الذي لا يعلم وجدانا ولا تعبدا حرمته مطلقا أي سواء كان الجهل بها من جهة فقدان الدليل على حرمته أم كان من جهة إجمال النص ، أو من جهة تعارضه أم كان الجهل بالحرمة ناشئا من الجهل بعنوان الشيء كما في الشبهة الموضوعية ، وتلك كالمائع المردد بين الخمر والخل.

وعلى هذا المعنى يكون مورد الرواية الشريفة التردد بين الحرمة وبين غير الوجوب ولا يشمل صورة التردد بين الوجوب وبين غير الحرمة.

وبتقرير ، أوضح : وهو ينطبق مورد الرواية في الشبهة الحكمية التحريمية ولا ينطبق موردها في الشبهة الحكمية الوجوبية والحال إن المدعى جريان البراءة في كل واحد منهما فيكون الدليل أخص من المدعى.

ومن المعلوم : إنه لا يثبت المدعى الأعم.

في الجواب عنه

قال المصنف قدس‌سره في مقام الجواب عنه إن إثبات البراءة في صورة الشبهة الوجوبية يكون بواسطة عدم القول بالفصل بين الصورتين الشبهة الحكمية التحريمية ، والشبهة الحكمية الوجوبية في الحكم أي كل من قال بالبراءة في الاولى قال بها في الثانية ، وكل من لم يقل بها في الاولى قال بها في الثانية ، فالقول بالبراءة في الشبهة التحريمية فقط دون الشبهة الوجوبية خرق الاجماع المركب ، وبواسطة عدم الفصل بينهما والاجماع المركب يتم المطلوب وبتقرير آخر وهو إن الامة الاسلامية اختلفوا بين من يقول بالاحتياط في الشبهات التحريمية الحكمية فقط ، وهم الاخباريون منها ، وبين من يقول بالبراءة فيها وفي الشبهات الوجوبية معا وهم

__________________

١ ـ الوسائل ج ١٢ باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ٤.

٥٠٣

الاصوليون منها ، فالقول بالبراءة في التحريمية فقط دون الوجوبية قول ثالث وإحداثه لا يجوز في المقام لأنه خرق للاجماع المركب وهو لا يجوز.

ويمكن أن يستدل بنفس الحديث الشريف على إجراء البراءة في الشبهات الوجوبية أيضا من دون حاجة إلى التمسك بعدم القول بالفصل أصلا.

توضيحه : إن ترك الواجب حرام قطعا ، وعليه فإذا شك في وجوب الدعاء عند الرؤية فقد شك في حرمة تركه فيكون تركه حلالا بمقتضى الحديث الشريف ، لأن الفعل المردد بين الوجوب وبين غير الحرمة فيكون تركه مرددا بين الحرمة وبين غير الوجوب فيثبت حل تركه بالرواية الشريفة ويتم المطلوب.

قوله : فتأمل ...

وهو إشارة إلى إن المنصرف من إطلاق لفظ الحرام إلى الأذهان هو الفعل الذي تعلق النهي بتركه كالكذب والغيبة ، ونحوهما من المحرمات الشرعية لا الأمر العدمي الذي تعلق طلب المولى به وذلك كالنهي عن ترك الصلاة وعن ترك الزكاة ونحوهما فالمراد من الحديث الشريف هو الحكم بحلية الفعل الذي شك في حرمته وحليته وليس المراد منه هو الحكم بحلية الترك الذي شك في حرمته وحليته.

وفي ضوء هذا : فيشمل جريان البراءة في الشبهة التحريمية فقط ولا يعم الشبهة الوجوبية ولكن نجري البراءة فيها بواسطة عدم القول بالفصل بين الشبهتين فثبت احتياج الاصوليين إلى التمسك بعدم الفصل والاجماع المركب ، كما لا يخفى.

الاستدلال بحديث السعة

قوله : ومنها قوله عليه‌السلام الناس في سعة ما لا يعلمون رواه السكوني عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام

٥٠٤

يقدّم ما فيها ثم يؤكل لأنه يفسد وليس له بقاء فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن قيل له يا أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يدرى أهي سفرة مسلم ، أو سفرة مجوسي فقال عليه‌السلام هم في سعة حتى يعلموا (١).

وتقريب الاستدلال به على البراءة إن كلمة ما إما موصولة قد اضيفت إليها كلمة السعة فالناس في سعة الحكم الذي لا يعلمونه.

فإن قيل : إذا كانت الما موصولة فلا بد من أن تكون لها صلة والصلة لا بد أن تكون جملة حتى تصير الما الموصولة مع صلتها كلاما تاما مفيدا للمخاطب فائدة تامة بحيث يحسن السكوت عليه والجملة مستقلة بنفسها فلا بد لها من رابط يربطها بالموصول والرابط ضمير الغائب وهو مفقود فيه.

قلنا إن الرابط محذوف مقدر هنا لأنه منصوب بالفعل التام وحذفه أكثر من ذكره في نظم الكلام كما قال ابن المالك صاحب الألفية والحذف عندهم كثير منجلي في عائد متصل إن انتصب بفعل ، أو وصف كمن ترجو يهب أي ترجوه ، والناس في سعة ما لا يعلمونه.

وإما مصدرية يصح حلول لفظ ما دام محله أي الناس في سعة ما دام لا يعلمون فإذا كانت كلمة الما مصدرية وهي تتعلق بالسعة المنونة أي الناس في سعة ما دام لا يعلمون ، وعلى كل تقدير يتمّ المطلوب فالناس في سعة الحكم الواقعي المجعول في اللوح المحفوظ أي لا يجب الاحتياط عليه فيه ما دام لا يعلمونه من حيث الوجوب ومن حيث الحرمة فالحرمة والوجوب الواقعيان حيث لا يعلم الناس بهما يكون الناس منهما في سعة.

وعليه : فلو دل الدليل على وجوب الاحتياط في الحكم المجهول لكان معارضا لهذا الحديث فإن وجوب الاحتياط يقتضي كون المكلف في ضيق من

__________________

١ ـ الوسائل ج ٢ ط ق الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ١١ ص ١٠٧٣.

٥٠٥

الحرمة والوجوب ، إذ الاحتياط في ترك محتمل الحرمة وفي فعل محتمل الوجوب ، كما لا يخفى.

قوله : لا يقال قد علم به وجوب الاحتياط ...

قد ، أورد الشيخ الأنصاري قدس‌سره إشكالا على الاستدلال بالحديث الشريف على البراءة في الشبهات بأنه لا يصلح لمعارضة الأدلة الدالة على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، كما قال به الاخباريون ، لأن تلك الأدلة توجب العلم بوجوب الاحتياط فيها فلا يكون الناس في سعة من وجوب الاحتياط لكونه مما يعلم وليس مما لا يعلم كي يكون في سعة منه فتكون أدلة الاحتياط واردة على الدليل الدال على سعة ما لا يعلم وما الموصولة تشمل بعمومه كل شيء ليس العلم بموجود به سواء كان حكما واقعيا أم كان احتياطا فيه فبواسطة أدلة الدالة على وجوب الاحتياط في الشبهات يحصل لنا العلم بوجوبه فيرتفع بها موضوع السعة كما يرتفع بالأمارات المعتبرة موضوع الاصول العملية ولهذا تكون الأمارات واردة على الاصول العملية.

في الجواب عنه :

قيل في دفع الورود : بانه لا يصلح دليل الاحتياط أن يكون واردا على الدليل الدال على سعة ما لا يعلم من الحكم الواقعي ، إذ الوجوب والحرمة الواقعيان ثابتان من مما لا يعلم بهما بعد إقامة الدليل الدال على وجوب الاحتياط في الشبهات ولكن أدلة الاحتياط لا توجب العلم بالوجوب الواقعي وبالحرمة الواقعية.

وعليه : فلا تكون أدلة الاحتياط واردة على دليل السعة بل يقع التعارض بينهما ، إذ الدليل الدال على السعة جعل المكلف في سعة من الحكم الواقعي الذي لا يعلمه المكلف والدليل الاحتياط جعله في ضيق منه ، فيجمع بينهما عرفا ، إذ الجمع

٥٠٦

أولى من الطرح والرجوع إلى الأصل العملي والجمع بينهما يكون ثابتا بحمل أدلة الاحتياط على الاستحباب والأفضلية فالاحتياط في الشبهات أولى وأفضل من البراءة فيها ، وهذا لا إشكال فيه لأنه حسن عقلا وطريق النجاة ، ولا يخفى انه على عدم ورود دليل الاحتياط على دليل السعة لا يقع المكلف في ضيق من أجل الحكم الواقعي من الوجوب الواقعي اللوح المحفوظي والحرمة الواقعية الكذائية ، هذا كله على تقدير كون وجوب الاحتياط طريقيا إلى تحفظ الواقع ومقدّميا له.

نعم لو كان الاحتياط في كل مورد واجبا نفسيا كسائر الواجبات النفسية ، كالصلاة والزكاة وأمثالهما ، لكان وقوع المكلفين في ضيق الاحتياط بعد علمهم بوجوبه من جهة قيام الأدلة عليه.

وعليه : كانت أدلة الاحتياط واردة على دليل السعة ، لكنه قد عرفت في طي الاستدلال على البراءة بحديث الرفع أن وجوبه طريقيا ومقدميا لا نفسيا جعل هذا الوجوب له من قبل المقنن المعظم لأجل أن لا يقع العباد في مخالفة الواجب الواقعي ، أو الحرام الواقعي أحيانا وفي بعض الأوقات والأزمان.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى إن كون العلم بالحكم الواقعي الذي أخذ غاية للسعة يكون بمعنى العلم بالوظيفة الفعلية.

وعليه : إذا قام الدليل على وجوب الاحتياط ولو كان وجوبه طريقيا مقدميا فقد علم المكلف بالوظيفة الفعلية ، وهي عبارة عن الاحتياط في الشبهات فيكون دليل الاحتياط واردا على دليل السعة ، أو إشارة إلى الجواب الذي سيأتي عن دليل الاحتياط إن شاء الله تعالى في ضمن رد مذهب الاخباريين القائلين بالاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية.

وهذه الرواية معروفة بين الأصحاب بمرسلة الصدوق قدس‌سره إنصافا هذه الرواية

٥٠٧

تكون أظهر روايات الباب لأجل كونها أخص من أخبار الاحتياط فلا ينبغي الشك في تقديمها عليها من باب تقدم الأظهر على الظاهر عند تعارضهما.

ويدل على كونها أخص منها اختصاصها بالشبهة التحريمية إلّا إنه لا بأس بالاستدلال بها على المدعى ، وهو جريان البراءة في مطلق الشبهة ، سواء كانت تحريمية أم كانت وجوبية فإن عمدة الخلاف بين الاصوليين والاخباريين إنما هي في الشبهة التحريمية.

الاستدلال بحديث الاطلاق

قوله : ومنها قول أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١).

ومعنى الحديث : كلّ شيء مطلق أي مباح حتى يرد فيه نهي من قبل الشارع المقدس ، فشرب التبغ لم يصل إلينا نهي منه فهو مباح ومطلق غير محدود بالوجوب أو الحرمة ، وهذا معنى أصالة البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية ، كما لا يخفى. وهذه الرواية معروفة بين الأصحاب بمرسلة الصدوق قدس‌سره إنصافا هذه الرواية تكون أظهر روايات الباب لأجل كونها أخص من أخبار الاحتياط ، فلا ينبغي الشك في تقديمها عليها من باب تقدم الأظهر على الظاهر عند تعارضهما.

ويدل على كونها أخص منها اختصاصها بالشبهة التحريمية إلّا إنه لا بأس بالاستدلال بها على المدعى ، وهو جريان البراءة في مطلق الشبهة ، سواء كانت تحريمية أم كانت وجوبية ، فإن عمدة الخلاف بين الاصوليين والاخباريين إنما هي في الشبهة التحريمية.

وأما الشبهة الوجوبية فوافق الاخباريون الاصوليين في عدم وجوب الاحتياط فيها إلّا القليل منهم كالمحدث الاسترابادي قدس‌سره فإنه المتفرد من بين

__________________

١ ـ الوسائل ج ١٨ ط. ق ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٦٠.

٥٠٨

الاخباريين بوجوب الاحتياط فيها أيضا فاختصاص هذه الرواية بالشبهة التحريمية موجب لرجحانها على سائر روايات الباب ، كما لا يخفى.

أما المصنف قدس‌سره فقد قال إن دلالته تتوقف على عدم صدق الورود للنهي إلّا بعد العلم بوروده وبعد قيام الأمارة على النهي عنه وإن صدر النهي عن الشارع المقدس ووصل إلى غير واحد من المكلفين وقد خفى على من لم يعلم بصدور النهي عنه من قبل المقنن المحترم والشارع المعظم.

وعليه : فلا يصدق ورود النهي عن شيء قبل حصول العلم به وقبل قيام الأمارة التي هي بحكم العلم به وإن صدر النهي عنه عن الشارع المقدّس ووصل إلى الأشخاص المتعددة من المكلفين ولكن لم يصل إلى المكلف غير العالم به ، وذلك كزيد بن أرقم مثلا.

ولا ريب في أن هذا الادعاء ممنوع جدا ، إذ من الواضح بعد صدور النهي عنه من قبل الشارع المقدس يصدق عنوان الورود سيما إذا وصل النهي إلى كثير من افراد المكلفين وإن خفى النهي على من لم يصل إليه وعلى من ليس بعالم بصدوره.

وفي ضوء هذا : فانقدح لك إن الورود إذا كان بمعنى الوصول فالاستدلال به على البراءة في الشبهة التحريمية تام مقبول ، إذ لم يصل إلينا نهي من قبل المولى جلّ شأنه وإن صدر النهي عنه واقعا ، وأما إذا كان الورود بمعنى الصدور فلا يكون الاستدلال به تاما مقبولا ، إذ يحتمل أن يصدر النهي عن قبل الشارع المقدس ووصل إلى المسلمين الموجودين في صدر الاسلام بالاضافة إلى شرب التبغ إما يحتمل أن يختفي علينا فلعلل وأسباب.

أما المصنف فقد قال إنا لا نسلم أن يكون الورود ثابتا بمعنى الوصول لأنه إذا صدر النهي عن المولى عزّ اسمه ، فيصدق الورود حينئذ سيما إذا وصل إلى عدة من المسلمين ، إما من جهة العلل فيكون مخفيا علينا.

٥٠٩

في الاشكال على قول المصنف قدس‌سره

فاستشكل المستشكل بأنا نسلّم إن الورود يكون بمعنى الصدور أي صدور النهي ولكن لا نعلم إنه صدر عنه أم لم يصدر بالاضافة إلى شرب التبغ فنتمسك حينئذ بأصالة عدم الصدور وباستصحاب عدم الصدور ، إذ في صدر الاسلام وفي صدر البعثة لم يصدر النهي عن شرب التبغ وفي هذا الزمان نشك في الصدور وعدم الصدور فنستصحب عدم الصدور فاستدللنا بحديث الاطلاق على البراءة في الشبهة التحريمية ونقول شرب التبغ حلال ومطلق حتى يصدر فيه النهي فبضميمة أصالة عدم الصدور إلى الحديث الشريف يتم المطلوب.

في جواب المصنف عنه

قال قدس‌سره إن الاستدلال بهذا الحديث الشريف باستعانة أصالة عدم الصدور واستصحاب عدم الصدور تام صحيح وببركة الأصل والحديث الشريف تثبت إباحة مجهول الحرمة وإطلاقه ولكن لا تثبت إباحته بعنوان كون شرب التبغ مجهول الحرمة ومجهول الحكم كما هو محل البحث والقيل والقال ، بل تثبت إباحته بعنوان ما لم يرد عنه نهي فهذا المطلب يكون غير المطلب الذي يكون الاصوليون بصدد إثباته ، إذ مقصودهم إثبات الاباحة والحلية لشيء ، وذلك كشرب التبغ مثلا ، بوصف كونه مجهول الحكم الواقعي اللوح المحفوظي وليس مقصودهم إثبات الاباحة لشيء بعنوان إنه مما لم يرد فيه نهي فيكون المثبت بالفتح غير المقصود والمقصود غير المثبت ، فهذا فاسد قطعا.

قوله : لا يقال نعم ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم ...

فاستشكل المستشكل بأنا لو سلّمنا إن الحديث الشريف باستعانة أصالة عدم صدور النهي عن الشيء موجبان لحلية الشيء بوصف إنه مما لم يرد فيه نهي ولا

٥١٠

يوجبان لحليته بعنوان إنه مجهول الحكم كما قلتم ، ولكن لا يتفاوت الحال والمطلب فيما هو المهم لنا من إثبات الاباحة والحلية لشيء مجهول الحكم سواء كان بعنوان كونه مجهول الحكم والحرمة أم كان بعنوان كونه مما لم يرد فيه نهي فلا فرق بين العنوانين في إثبات الاباحة لذاك الشيء فرد المستشكل قول المصنف قدس‌سره ، كما لا يخفى.

في جواب المصنف قدس‌سره عنه

قال المصنف قدس‌سره كم فرق بين العنوانين المذكورين لأنه إذا ثبت إباحة الشيء بعنوان كونه مجهول الحكم الواقعي والحرمة الواقعية فتجري البراءة حينئذ على نحو العموم ويجري عدم لزوم الاحتياط في كل شيء مجهول الحرمة ، وأما إذا ثبت إباحته بعنوان إنه مما لم يرد فيه نهي فتختص البراءة حينئذ وعدم لزوم الاحتياط بالشيء الذي لم يرد فيه نهي من قبل الشارع المقدّس ولا تجري البراءة ولا عدم لزوم الاحتياط بالشيء الذي تعلق النهي به في زمان وتعلق الاباحة فيه في زمان آخر ولكن اشتبها من حيث التقدم ومن حيث التأخر فيصدق على هذا الشيء عنوان مجهول الحكم والحرمة ولا يصدق عليه عنوان إنه لم يرد فيه نهي لأن النهي ورد فيه قطعا.

فإن قيل : إنا نتمسك بأصالة عدم ورود النهي فيه ، إذ قبل طلوع الاسلام لم يرد فيه نهي وبعد طلوعه نشك في وروده وعدم وروده فالأصل عدم الورود فيصدق عليه حينئذ إنه لم يرد فيه نهي قلنا لا يمكن إحراز إنه مما لم يرد فيه نهي بالأصل المذكور لامتناع جريان أصالة العدم في المقام للعلم بارتفاع العدم وانتقاضه بالوجود ، كما لا يخفى.

٥١١

توضيح في النهي والاباحة فيه

وهو إذا ورد النهي عنه ، أولا والاباحة ثانيا فلا ريب في إباحته وفي كونه حلالا لأن الثاني ناسخ للأول وأما إذا ورد الاباحة ، أولا والنهي ثانيا فالأمر بالعكس ، وهذا واضح.

قوله : لا يقال هذا لو لا عدم الفصل بين افراد ما اشتبهت حرمته ...

سلمنا اختصاص الحكم بإباحة مجهول الحرمة بما إذا لم يعلم ورود النهي فيها ولكن إنما يكون ذاك الاختصاص لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته وأما بيان عدم الفصل بينها فيقال إن الامة الاسلامية بين من يقول بالاحتياط في الشبهات التحريمية كلا ، وهم الاخباريون ، وبين من يقول بالبراءة فيها جميعا ، وهم المجتهدون.

وعليه : فالقول بالاباحة في خصوص الشبهة التي لم يعلم ورود النهي فيها والقول بالاحتياط في خصوص الشبهة التي قد علم إجمالا بورود النهي فيه في زمان وبورود الاباحة في زمان آخر ولكن اشتبه السابق منهما باللاحق.

قول ثالث ينفيه عدم القول بالفصل ، إذ لا يجوز خرق الاجماع المركب ، كما ثبت هذا بالبرهان في محله ، وعليه فيحكم بالاباحة في جميع الشبهات التحريمية.

في جواب المصنف قدس‌سره عنه

قال رحمه‌الله تعالى إن عدم الفصل بين المشتبهات إنما ينفع إذا كان المثبت للحكم بالاباحة في الشبهة التي لم يعلم ورود النهي فيها هو الدليل الاجتهادي كالآية القرآنية والروايات المعتبرة.

وأما إذا كان المثبت للحكم بالاباحة فيما لم يعلم ورود النهي فيه هو الأصل وأصالة عدم الصدور ، كما هو المفروض ، فليس عدم القول بالفصل بين المشتبهات

٥١٢

بنافع في جريان البراءة في الشبهات مطلقا أي سواء كانت الشبهة مجهولة الحكم أم كانت مما لم يعلم ورود النهي فيها فإن الأصل مما لا يمكنه إثبات اللازم ، وهو الاباحة ، في الفرد الآخر الذي علم إجمالا بورود النهي فيه في زمان والاباحة في زمان آخر ولكن اشتبها من حيث التقدم ومن حيث التأخر فالتلازم بين أفراد المشتبهات في الحكم بالاباحة إنما ينفع في إثبات الاباحة لبعض أفراد المشتبه عند ثبوت الاباحة لغير ذاك البعض ، إذا كان ثبوتها بالدليل الاجتهادي ، لأنه إذا كان مثبتا لأحد المتلازمين فهو مثبت لملازم الآخر ، إذ مثبتات الأمارات حجة بلا خلاف أما بخلاف الاصول العملية فإن مثبتاتها ليست بحجة عند المحققين رضي الله عنهم.

ولذا اشتهر إن الأصل المثبت ليس بحجة ، وعليه فأصالة عدم صدور النهي وإن كانت تثبت الاباحة في أكثر الموارد لكنها لا تصلح لثبوتها في الفرض المذكور بتوسط الملازمة بين أفراد الشبهة بالاباحة.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى إن المثبت للحكم بالاباحة هو الدليل الاجتهادي لا الأصل العملي لأن أصالة العدم في المقام لا تثبت الاباحة للشبهة التحريمية بل إنما تثبت موضوع الاباحة والاباحة إنما تستفاد من الدليل الاجتهادي ، وهو الحديث المذكور.

وعليه : فالأولى أن يقال إن عدم الفصل إنما ينفع في إثبات الاباحة لو كان عدم الفصل ثابتا بين ما لم يرد فيه نهي وبين ما لم يعلم ورود النهي فيه وليس بأولى عدم الفصل بين أفراد مجهول الحكم فإن عدم الفصل فيه أي في الثاني إنما ينفع لو قام الدليل الاجتهادي على الاباحة في بعض أفراد مجهول الحكم والمفروض عدم قيام الدليل الاجتهادي على الاباحة بل إنما قام الدليل على الاباحة فيما لم يرد فيه نهي فلا بد من إثبات عدم الفصل بينه ، أي بين ما لم يرد فيه نهي ، وبين مجهول الحكم وبين ما لم يعلم ورود النهي فيه ، كما لا يخفى.

٥١٣

الاستدلال بالاجماع على البراءة

قوله : وأما الاجماع فقد نقل على البراءة إلّا إنه موهون وإن قلنا بحجيّة الاجماع إذا لم يكن مدركيا وهذا معنى في الجملة في عبارة المصنف قدس‌سره ...

وتقريبه من وجوه ثلاثة :

الأوّل : دعوى اتفاق الاصوليين والاخباريين رضي الله عنهم ، على قبح العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلف بنفسه ولا بطريقه.

الثاني : دعوى الاتفاق على أن الحكم الشرعي المجعول في موارد الجهل بالأحكام الواقعية هو الاباحة والترخيص.

الثالث : دعوى الاتفاق على أن الحكم الظاهري المجعول في موارد الجهل بالأحكام الواقعية وعدم وصولها بنفسها هو الاباحة والترخيص. ولا يخفى إن كل واحد منها موهون.

أما الأول : فلأن هذا الاتفاق وإن كان ثابتا إلّا إنه على أمر عقلي ، وهو قبح العقاب بلا بيان ، لا على أمر شرعي فرعي كي يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام.

وأما الثاني : فلأنه اتفاق على الكبرى وهو لا يفيد مع عدم إحراز الصغرى ولا اتفاق عليها على ما سيجيء ، إذ لا اتفاق بين الاخباريين والاصوليين في الصغرى لأن الاخباريين في الموضوع الذي يكون مجهول الحكم الواقعي ، وذلك كشرب التبغ مثلا ، قائلون بالاحتياط.

وأما الثالث : فلأنه غير ثابت كيف وقد ذهب الاخباريون وهم الاجلاء من العلماء رضي الله عنهم ، كالمحدث الجزائري وكالمحدث البحراني وكالمحدث الاسترآبادي وأمثالها رضي الله عنهم ، إلى إن الحكم الظاهري في الموضوع الذي يكون مجهول الحكم والحرمة هو وجوب الاحتياط لا البراءة.

٥١٤

وقال المصنف قدس‌سره إن الاجماع موهون وضعيف ليس بحجة في المقام لأنه محتمل الاستناد والمدرك فإن تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة التي يكون للعقل إليها سبيل لأن العقل يستقل بقبح العقاب بلا بيان ومن واضح النقل على مثل هذه المسألة دليل وهو عبارة عن الآيات المتقدمة والروايات السابقة.

فالنتيجة : إن هذا الاجماع في المسألة التي يكون الدليل العقلي والدليل النقلي قائمين عليها ليس بحجة ، لأنه مدركي ، إذ يحتمل أن يكون استناد المجمعين إلى الدليل العقلي والنقلي وليس استنادهم إلى الكشف أي كشف الاجماع عن قول المعصوم ورأيه عليه‌السلام فانقدح أن دعوى الاجماع في مثل هذه المسألة بعيدة جدا.

الاستدلال العقلي على البراءة

قوله : وأما العقل فإنه قد استقبل بقبح العقوبة والمؤاخذة ...

وقد استدل المجتهدون على البراءة بالدليل العقلي ، وهو أن العقل قد استقل بقبح العقوبة بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان لأنهما ظلم على العباد ، إذ هما بلا إتمام الحجة فهما قبيحان على مخالفة التكليف المجهول والحكم المجهول إذا تفحص عن الدليل عليه ويئس عن الظفر بما كان حجة على التكليف ويشهد الوجدان السليم بالقبح فإن العقوبة والمؤاخذة بدون الحجة والدليل عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان.

في تعارض القاعدتين وعدمه

قوله : ولا يخفى أنه مع استقلال العقل بذلك لا احتمال ...

فإن قيل : إن العقل كما يستقل بقبح المؤاخذة بلا برهان والعقاب بلا بيان كذا يستقل بدفع الضرر المحتمل ولا ريب في إن احتمال الضرر ثابت في ارتكاب

٥١٥

المشتبه ودفع الضرر المحتمل واجب عقلا.

وعليه : فلا يتم الاستدلال بقبح العقاب بلا بيان وبلا برهان في المقام لأن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل يكون بيانا فتكون هذه القاعدة واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وعليه : فلا مورد لقبح العقاب بلا بيان فيما نحن فيه أي في الشبهة الحكمية بعد الفحص عن الحجة على الحكم وبعد اليأس عنها فكما يجب دفع الضرر القطع المترتب على ارتكاب الحرام اليقيني وكذا يجب دفع الضرر المحتمل المترتب على ارتكاب محتمل الحرمة والتحريم.

في جواب المصنف قدس‌سره عنه

قوله : ولا يخفى إنه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة ...

قال المصنف قدس‌سره هل المراد من الضرر المحتمل عقوبة اخروية ، أو عقوبة دنيوية فإن كان هو الأول فنقول مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان لا مورد لقاعدة دفع الضرر المحتمل في المقام لأن المكلف قد تفحص عن الدليل الاجتهادي على الحكم في مظانه غاية التفحص ويئس من الظفر عليه وبعد اليأس منه على التكليف الواقعي وبضميمة قاعدة قبح العقاب بلا بيان أجرى البراءة في الشبهة التحريمية.

وفي ضوء هذا الأساس : فلا احتمال للعقوبة الاخروية أصلا كي يحكم العقل على طبق القاعدة المذكورة ، وهي قاعدة دفع الضرر المحتمل بوجوب الاجتناب عن ارتكاب الشبهة فقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل تكون منتفية موضوعا ، إذ لا يحتمل العقاب الاخروي في المقام بل لا وجود له أصلا كي يحكم بوجوب دفعه ، كما لا يخفى.

٥١٦

فبيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل للعقاب فاسدة قطعا ، إذ ورودها على قاعدة قبح العقاب بلا بيان يتوقف على تحقق موضوع وجوب الدفع ، والموضوع عبارة عن احتمال الضرر من باب توقف الحكم على إحراز موضوعه ، أي الضرر المحتمل واجب الدفع عقلا.

وعليه : فلو توقف بيانها للعقاب على ورودها على قاعدة قبح العقاب بلا بيان فقد لزم الدور الممتنع ، إذ ورودها يتوقف على تحقق احتمال الضرر واحتمال الضرر يتوقف على ورودها عليها ، والحال إن احتمال الضرر لا يتحقق في الشبهات البدوية بعد الفحص التام عن الحجة على التكليف وبعد اليأس عن الظفر بها.

نعم : يحرز احتمال الضرر بمعنى العقاب في الشبهات البدوية قبل الفحص واليأس ، وفي أطراف العلم الاجمالي مثلا إذا علمت إجمالا بحرمة شرب هذا الاناء أو بحرمة شرب ذاك الاناء فالعقل يحكم بأن العلم الاجمالي منجز للتكليف ، كالعلم التفصيلي ، فأنت تحتمل العقوبة في شرب كل واحد من الإناءين.

أما في الشبهات البدوية بعد الفحص فلا يحرز احتمال الضرر أصلا ولا يتحقق البيان على التكليف قطعا.

وفي ضوء هذا البيان : لا يرد هذا الاشكال في هذا المقام أصلا ، إذ لا بد ، أولا من إحراز موضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل ، وهو العقوبة المحتملة ، كي يترتب عليه وجوب الدفع العقلي ولكن قاعدة قبح العقاب بلا بيان مانعة عن إحراز موضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل.

قوله : كما إنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة ...

إذا تحقق احتمال العقوبة في مورد فلا حاجة إلى إعمال قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ويقال دفعه واجب بالوجوب العقلي مثلا العلم الاجمالي يكون منجزا للتكليف كالعلم التفصيلي واما إذا خالف المكلف وارتكب بعض الأطراف

٥١٧

وصادف الحرام الواقعي فهو مستحق للعقاب بلا إشكال فإحتمال العقوبة في أطراف العلم الاجمالي محقق وإن لم تكن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موجودة في العالم على الفرض ، وكذا لا حاجة إلى هذا كله إذا كان المقصود من الضرر في القاعدة المعروفة عقوبة اخروية ، وأما الضرر الدنيوي فالمتيقن منه ليس بواجب الدفع فضلا عن أن يكون محتملا ، أو مظنونا.

أجاب المصنف قدس‌سره عن الاشكال بجوابين :

الأوّل : لا نسلّم هذه القاعدة إذا كان المراد من الضرر هو الضرر الدنيوي لأن المتيقن منه ليس بواجب الدفع فضلا عن مظنونه ومحتمله.

وعليه : إذا ارتكب الانسان لأجل بعض الدواعي والمصالح ضررا كثيرا فالعقل لا يحكم بقبحه والشرع المقدس لا يأمر بوجوب دفعه مثلا إذا أراد الانسان بناء المسجد وتعمير المعبد الاسلامي وأنفق كثيرا من ماله ، أو أعان أخاه المسلم من ماله فالضرر المتيقن موجود هنا فلا يحكم العقل بقبحه ولا يأمر الشرع بلزوم دفعه ، وكذا إذا بذل الانسان جسمه لغرض إحياء الدين والشريعة في مقام الجهاد فالضرر البدني مسلّم ولكن العقل لا يحكم بقبحه والشرع لا يحكم بوجوب دفعه بل الشرع قائل بالأجر العظيم للباذل المقاتل لاحياء الدين والاسلام فليس تحقق الضرر الدنيوي بملازم مع وجوب دفعه نظرا إلى القاعدة المعروفة وهي عبارة عن لزوم دفع الضرر.

الثاني : أن احتمال الحرمة في الشبهة التحريمية واحتمال الوجوب في الشبهة الوجوبية ليسا بملازمين مع الضرر الدنيوي وإن كانا ملازمين مع احتمال المفسدة في الشبهة التحريمية وترك المصلحة في الشبهة الوجوبية ، إذ يحتمل أن يكون شرب التبغ حراما واقعا والدعاء عند رؤية الهلال واجبا واقعا.

فإن قيل : إن الأحكام الالهية تابعة للمصالح الواقعية والمفاسد النفس الأمرية

٥١٨

فكيف قلتم إن احتمال الحرمة والوجوب ليسا بملازمين مع الضرر الدنيوي.

قلنا إنا نسلّم إن الأحكام الاسلامية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقات الأحكام ، كما عليه العدلية والمعتزلة ، خلافا للأشاعرة ولكن لا نسلم إن المصالح تكون مربوطة بالضرر الدنيوي والمفاسد تكون مربوطة بها أي بالمضرة الدنيوية لأن المصلحة غير النفع الدنيوي والمفسدة غير الضرر الدنيوي ، وعليه فالانفكاك ثابت بين هذه الامور المذكورة ، إذ رب موضع احتملنا الحرمة بلا احتمال الضرر الدنيوي وكذا رب موضع احتملنا الوجوب بلا احتمال النفع الدنيوي.

وفي ضوء هذا : يتحقق الانفكاك بين الحرمة الملازمة للمفسدة وبين الضرر الدنيوي وبين الوجوب الملازمة للمصلحة وبين النفع الدنيوي ، مثلا إذا زنى الانسان فقد ارتكب فعلا قبيحا وفاحشة عظيمة ذات مفسدة كبيرة ولكن لا يعود إليه الضرر ، فان قيل يعود حدّ الزنا إلى الزاني والزانية وهو ضرر دنيوي ، قلنا : ان الحدّ ليس بضرر بل هو تأديب لهما وكذا التعزير ، وإذا أدى شخص زكاة ماله فقد ارتكب فعلا حسنا ذا مصلحة عظمية من دون أن يعود النفع الدنيوي إليه بل يعود إليه الضرر المالي الدنيوي ، وكذا الحج والخمس ، حرفا بحرف.

نعم : قد يكون ملاك حكم العقل والشرع لأجل النفع والضرر الموجودين في الفعل مثلا الملاك في وجوب التيمم مع خوف الضرر عن استعمال الماء هو الضرر كما إن ملاك وجوب التيمم قد يكون فقد الماء وقد يكون عدم الوصلة إلى الماء لضيق الوقت ، أو لأجل السباع ، أو لأجل اللص مثلا ، والملاك في خيار الغبن ، يكون ضررا جعل هذا الخيار للبائع ، أو المشتري لئلا يتضرر المغبون كما إن ملاك استحباب السياحة هو النفع العائد إلى السياح ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام تغرّب عن الأوطان في طلب العلى فسافر فان في الأسفار خمس فوائد تفرّج همّ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد. وملاك وجوب الصوم في شهر الله

٥١٩

الأعظم هو النفع العائد إلى الصائم ، وهو عبارة عن صحة جسمه ، كما في الحديث صوموا تصحوا.

وفي ضوء البيان السابق : فقد انقدح لك إن كثيرا ما يكون محتمل التكليف والحرمة مأمون الضرر الدنيوي واقعا مثلا إذا كان شرب التبغ حراما واقعا فالشارب له مأمون من الضرر الدنيوي ، وكذا الزنا والرشوة ونحوهما.

هذا بناء على عدم كون الحد والتعزير ضررا دنيويا فلا تلازم بين الحرمة والضرر الدنيوي كما لا يلازم بين الوجوب والنفع الدنيوي.

قوله : إن قلت نعم ولكن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما لا يؤمن ...

فاستشكل المستشكل بأنا نتمسك بقاعدة اخرى ونقول إنه ليس المراد من الضرر هو الضرر الاخروي ولا الضرر الدنيوي في القاعدة المعروفة بل يكون المراد منه فيها هو المفسدة فدفع المفسدة لازم.

وعليه : فالعقل يحكم بأن الاقدام في كل شيء تكون مفسدته قطعيا قبيح ، وكذا يحكم بأن الاقدام في شيء يكون محتمل المفسدة قبيح أيضا فلا جرم يكون دفع المفسدة المحتملة واجب عقلا ، فالاقدام على محتمل المفسدة كالاقدام على متيقن المفسدة في القبح.

وعلى طبيعة الحال : لا تجري البراءة العقلية في الشبهة التحريمية كما استدل الشيخ الطوسي قدس‌سره على أن الأشياء قبل الشرع والشريعة على الحظر ، أو الوقف إلى أن يعلم الرخصة فيها ، كما سيأتي شرح هذا المطلب عن قريب إن شاء الله تعالى.

أي قال المعترض إن احتمال التكليف التحريمي وإن لم يستلزم احتمال العقاب الاخروي والضرر الدنيوي ، كما تقدم وجهه.

ولكن يستلزم احتمال الحرمة لاحتمال المفسدة بناء على مذهب العدلية والمعتزلة من تبعية الأحكام الالهية للملاكات من المصالح الواقعية والمفاسد النفس

٥٢٠