البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

الأوّل : أن يكون المراد من العذاب المنفي هو العذاب الاخروي لا الدنيوي.

الثاني : أن يكون المراد من الرسول هو الرسول الباطني ، وهو العقل ، والبعث بمعنى الاعطاء ، ولكن يحتمل أن يكون المراد من العذاب المنفي هو العذاب الدنيوي ومن الرسول الرسول الظاهري.

وعليه : يكون المراد منها هو الاخبار عن فعل الله سبحانه بالامم السابقة ، وأين هي دليل لما نحن فيه ، ولا ريب في أن هذا الاحتمال ضعيف فالأظهر أن بعث الرسول كناية عن البيان وقيام الحجة على التكليف بتوسط الارسال والانزال على التكليف.

فإن قيل : الكناية عبارة عن ذكر الملزوم وإرادة اللازم مع جواز إرادة الملزوم أيضا نحو زيد كثير الرماد لانه كناية عن جود زيد إذ فيه ذكر الملزوم وهو كثرة الرماد واريد اللازم وهو جوده ، وعليه فكيف يكون بعث الرسول كناية عن بيان الأحكام قلنا إن بعث الرسول ملزوم وبيان الأحكام لازم البعث كما جعل الأذان كناية عن دخول الوقت في قول القائل إذا أذّن المؤذن فصلّ ، إذ الأذان ملزوم ودخول الوقت لازمه ، هذا عند الجمهور ، وأما صاحب مفتاح العلوم فيقول الكناية هي ذكر اللازم وإرادة الملزوم مع جواز إرادة اللازم أيضا.

والتفصيل موكول في محله ، وهو علم البيان ، وكذا ثمرة الاختلاف بين قول الجمهور ، وبين مذهب صاحب المفتاح موكولة فيه ، ولا ريب في أظهرية هذه الآية الشريفة على المدعى ، إذ هم الاصولي من إجراء البراءة في الشبهات تحصيل مؤمن من العقاب على مخالفة التكليف المجهول ، والآية المباركة تدل عليه صراحة ، فتكون أظهر الآيات على المراد.

٤٨١

في الجواب عن الاستدلال بها

قوله : وفيه أن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل ...

ونفي التعذيب قبل بعث الرسل يحتمل أن يكون لعدم حسنه عقلا ويحتمل أن يكون نفي التعذيب منة على العباد.

والتفصيل : إذا كان نفيه ثابتا من أجل عدم حسنه قبل إتمام الحجة على العباد بواسطة بعث الرسل وإنزال الكتب فتكون الآية الشريفة دالة على نفي استحقاق العباد للتعذيب الفعلي وأما إذا كان نفي التعذيب الفعلي ثابتا من أجل المنة على العباد فلا تدل الآية الشريفة على نفي استحقاقهم العذاب الفعلي ، كما هو المدعى في موارد إجراء البراءة.

ومن الواضح ان الآية الشريفة على الاحتمال الثاني لا تدل على المدعى ، كما لا يخفى.

خلاصة الكلام : إنه إذا كانت الآية الشريفة ظاهرة في الاحتمال الأول فهي تصلح لاثبات المدعى وهو الأمن من العقاب على تقدير إجراء البراءة في الشبهة الحكمية سواء كانت تحريمية أم كانت وجوبية وأما إذا كانت ظاهرة في الاحتمال الثاني فهي لا تصلح لاثبات المدعى.

قوله : ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق ...

فإن قيل : إذا كانت الآية الشريفة ظاهرة في نفي فعلية العذاب فيصح الاستدلال بها لنفي استحقاق العذاب لأن الخصم وهو الاخباريون يعترف بأعلى صوته بالملازمة بين الاستحقاق وبين فعلية التعذيب في المقام.

وعليه : فنفي أحدهما ، وهو نفي فعلية التعذيب ، يستلزم نفي الآخر ، وهو نفي الاستحقاق.

والوجه في اعترافهم بالملازمة المذكورة أن الأدلة التي أقاموها على

٤٨٢

الاستحقاق تدل على فعلية التعذيب والعقاب مثل أخبار التثليث الدالة على أن الأخذ بالشبهة موجب للوقوع في الهلكة ، وسيأتي بيان الأخبار التثليث ، والحال إن الظاهر من الهلكة الهلكة الفعلية لا مجرد الاستحقاق.

وعليه : فالملازمة واضحة بين الاستحقاق وبين فعلية الهلكة والتعذيب والعذاب وعلى ضوء الملازمة المذكورة فلا تجري البراءة العقلية ، وهي قبح العقاب بلا بيان وبرهان ، ولا البراءة الشرعية في الشبهة الحكمية هذا قول الأخباريين من المجتهدين (رض).

في الجواب عن استدلال الخصم

فيجاب ، أولا : أن الاستدلال حينئذ يكون جدليا لا ينفع في إثبات المدعى إلّا باعتقاد الخصم ، وهو الاخباريون من المجتهدين رضي الله عنهم ، إذ الملازمة بين الاستحقاق وبين الفعلية أي فعلية التعذيب إنما يكون باعتقاده ولا نعتقد بهذه يمكن أن يكون الاستحقاق محققا ولا يتحقق التعذيب الفعلي تفضلا من المولى الجليل ومنة منه على عباده.

وثانيا : منع هذا الاعتراف من الخصم ، إذ لا تزيد الشبهة عنده على المعصية الحقيقية.

والحال : إنه لا ملازمة موجودة عنده بين الاستحقاق وبين الفعلية فيها فكيف يعترف الخصم بالملازمة بينهما في الشبهة ومجرد استدلاله بأخبار التثليث لا يقتضي الاعتراف بالملازمة فإن الوعيد بالهلكة في أخبار التثليث ليس إلّا كالوعيد بالعذاب على المعصية لا بد أن يكون محمولا على الاستحقاق ، فالوعيد بالعذاب على المعصية الحقيقية يدل على الاستحقاق ولا يدل على تحقق التعذيب الفعلي ، فكذا الوعيد بالهلكة على الوقوع في الشبهة لا يدل أيضا على تحقق العقاب الفعلي

٤٨٣

كي لا تجري البراءة فيها بل لا بد من الاحتياط في الشبهات كما قال به الاخباريون فيها ، وليس الأمر كذلك.

فالنتيجة : ليس حال الوعيد بالعذاب والهلكة في مشكوك الحكم إلّا كحال الوعيد بالعذاب في معلوم الحكم في عدم تحقق العذاب الفعلي وفي الأمن منه فإذا تحقق الأمن من العقاب في الشبهة الحكمية فتجري البراءة حينئذ بلا إشكال.

في توضيح القياس الجدلي

اعلم إن القياس الجدلي ما يتألف من المشهورات وهي القضايا التي تطابق فيها آراء الكل كقولنا الاحسان حسن والعدوان قبيح ، أو من المسلمات وهي القضايا التي سلمت من جانب الخصم في مقام المناظرة سواء كانت صادقة في الواقع أم كانت كاذبة في الواقع لأن الغرض من القياس الجدلي هو إلزام الخصم وإقناعه ، مثل مسائل علم الاصول نسبة بعلم الفقه الشريف لأن الفقهاء العظام رضي الله عنهم. يتقبلون قواعد علم الاصول أقيم البرهان عليها فيه في الفقه الشريف في مقام المناظرة والمباحثة ، كما لا يخفى.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أن الشبهة الحكمية ليست بأزيد من حيث الطغيان والعقاب من العصيان الحقيقي والمعصية الحقيقية ، فإذا لم تكن الملازمة ثابتة بين الاستحقاق ، وبين التعذيب الفعلي فيه ، إذ يمكن أن تستحق الأمة عذابا لأجل العصيان ولا تعذب بالفعل بسبب التضرّع والدعاء والابتهال مثلا ، فكذا ليست بثابتة بينهما في الشبهة بطريق أولى كما تحقق عدم الملازمة بينهما في الامم الماضية كثيرا في العصيان والطغيان ، ولم يتعرض المصنف قدس‌سره في كتابه هذا سائر الآيات التي قد استدل بها على البراءة في الشبهات لعدم استقامة دلالتها عنده على البراءة فيها كالاستدلال

٤٨٤

بآية الايتاء (١) وبآية الاضلال (٢) وبآية الهلاك (٣) وبآية المحرمات (٤) وغيرها.

في الاستدلال على البراءة بالروايات

قوله : وأما السنة فروايات ...

الاستدلال بحديث السعة :

منها حديث الرفع : وهو المروي عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن امتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا ، أو ما اكرهوا عليه ، والطيرة ، والحسد ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الانسان بشفة» (٥) حيث عدّ ما لا يعلمون من التسعة المرفوعة في الحديث.

وطريق الاستدلال بهذا الحديث إن المراد منه رفع مؤاخذة التسعة لا رفع نفس هذه التسعة وإلّا يلزم الكذب ، نعوذ بالله تعالى منه.

وعليه : فرفع مؤاخذة الحكم الذي لا نعلمه مقصود وإذا كان الدعاء عند الهلال واجبا واقعا فقد رفع مؤاخذته في صورة الترك ، وكذا إذا كان شرب التبغ حراما واقعا فقد رفع مؤاخذته عن الامة في صورة الفعل وهذا معنى البراءة فلا مؤاخذة على كل واحد من الفعل والترك في صورة اشتباه الحرام بالمباح والحرمة

__________________

١ ـ سورة الطلاق آية ٧.

٢ ـ سورة المائدة ، آية : ٧٧.

٣ ـ سورة الأنفال آية ٤٢.

٤ ـ سورة الأنعام آية ١٤٦.

٥ ـ الوسائل ج ١١ ط ق كتاب الجهاد باب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ح ١.

٤٨٥

بالاباحة ، وفي صورة اشتباه الواجب بالمستحب ، أو بالمباح والوجوب بالاستحباب.

في الاشكال على الاستدلال به

لا يقال ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا لأن الشارع المقدس من حيث إنه شارع يرفع الأحكام التي يكون وضعها ورفعها بيده ومن شأنه أي الأحكام الشرعية ولكن المؤاخذة ليست من سنخ الأحكام الشرعية كي يكون متعلق رفعه ، إذ المؤاخذة تكون لازم الأحكام الالزامية الشرعية وهي من الآثار العقلية وليست بنفسها ، أي ليست المؤاخذة بنفس الاحكام ، فلا يصح أن يقال معنى الحديث رفع عن امتي مؤاخذة الخطأ ومؤاخذة النسيان ومؤاخذة ما لا يعلمون مثلا.

في الجواب عنه

فإنه يقال إن المؤاخذة وإن لم تكن ذاتا أثرا شرعيا مجعولا من ناحية الشارع المقدس لأنها أثر عقلي التكليف الالزامي لكن بواسطة الأثر الشرعي المترتب على التكليف هي مرتفعة وهو عبارة عن إيجاب الاحتياط من ناحية الشارع المقدس في مورد التكليف المجهول.

وفي ضوء هذا : فلو ، أوجب الاحتياط فيه لاستحق المؤاخذة إذا بادر إلى الفعل وترك الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية ، أو بادر إلى الترك وترك الاحتياط في الشبهة الحكمية الوجوبية ولكن الشارع المقدس لم يجب الاحتياط في الشبهات امتنانا ورحمة وتفضلا وترتفع المؤاخذة بتبع ارتفاع الاحتياط ، هذا أولا.

٤٨٦

وثانيا : كان نفي التكليف ظاهرا دليلا على عدم إيجاب الاحتياط الذي هو موضوع المؤاخذة حقيقة وواقعا.

فإن قيل : قد اشتهر في الألسن إن الآثار غير الشرعية لا تترتب وجودا وعدما على جريان الأصل العملي فكيف ترتفع المؤاخذة بارتفاع التكليف بأصل البراءة من الحرمة في الشبهة التحريمية ، ومن الوجوب في الشبهة الوجوبية قلنا هذا الأمر مختص بما إذا لم يكن جريان الأصل موجبا لانتفاء موضوع الأثر حقيقة.

وأما إذا كان جريان الأصل موجبا لانتفاء موضوع الأثر حقيقة فترتب الآثار غير الشرعية وجودا وعدما على جريان الأصل العملي ، كما فيما نحن فيه ، فرفع المؤاخذة يترتب على نفي التكليف ظاهرا بالعرض وثانيا ، إذ يترتب رفعها ، أولا وبالذات على عدم وجوب الاحتياط امتنانا وتفضلا في الشبهات الحكمية ، فالدليل على رفع التكليف دليل على عدم إيجاب الاحتياط حقيقة والدليل على عدم وجوبه دليل على عدم المؤاخذة فالدليل على دفع التكليف ظاهرا دليل على عدم المؤاخذة كما إن عدم وجوب الاحتياط في الشبهات مستتبع لعدم استحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المجهول ظاهرا ، هذا إشكال الأول عليه.

والاشكال الثاني عليه

قوله لا يقال إن إيجاب الاحتياط لا يوجب المؤاخذة على مخالفة التكليف حتى يكون عدمه موجبا لعدمها بل وجوب الاحتياط يوجب المؤاخذة على مخالفة نفس الاحتياط ، كسائر التكاليف المولوية ، إذ ترك الواجب المولوي يوجب المؤاخذة على مخالفة نفس الواجب بالوجوب المولوي وكذا فعل المحرم المولوي حرفا بحرف وعلى هذا فلا يدل رفع إيجاب الاحتياط على رفع المؤاخذة عن التكليف المجهول ظاهرا كي يتم الاستدلال بحديث الرفع على البراءة بل يدل رفع

٤٨٧

إيجاب الاحتياط امتنانا في الشبهات على رفع المؤاخذة عن نفس الاحتياط من حيث هو احتياط.

في الجواب عنه

فإنه يقال إن ما ذكرتم يتم إذا كان وجوب الاحتياط حقيقيا واقعيا ، وأما إذا كان وجوبه طريقيا ظاهريا لحفظ الواقع بسببه فلا يترتب على مخالفته مؤاخذة ولا ذم بل فائدته المؤاخذة على مخالفة الواقع كما هو شأن جميع الأوامر الطريقية كما إذا أمر المولى عبده باشتراء اللحم من السوق بقوله ادخل السوق واشتر اللحم منه فللمولى أمران وهما الأمر بدخول السوق والأمر باشتراء اللحم ولكن الأمر بالدخول طريقي مقدمي والأمر بالاشتراء نفسي لا جرم يكون وجوب الدخول مقدميا ووجوب الاشتراء نفسيا مولويا.

وعليه : إذا دخل السوق واشترى اللحم فهو ممتثل وعدّ مطيعا لأمر المولى عند العقلاء واستحق المدح في الدنيا والثواب في العقبى.

وأما إذا لم يدخل السوق ولم يشتر اللحم فلا يصح المؤاخذة من المولى على ترك الدخول الذي هو واجب طريقي مقدمي بما هو مقدمي بل يصح المؤاخذة منه على ترك الاشتراء الذي هو واجب نفسي.

وكذا إذا ترك الوضوء والصلاة معا فالعبد مستحق للعقوبة على ترك الصلاة فقط ولا يستحق العقوبة على ترك الوضوء بما هو ترك الوضوء وكذا في موارد الأمارات بناء على الطريقية وجعل الأحكام الظاهرية مثلا إذا خالف المكلف الامارة ولم يعمل على طبقها فهو يستحق العقاب على مخالفة الواقع في صورة الاصابة للواقع لا على مخالفة الامارة من حيث كونها طريقا إلى الواقع ، فإن الايجاب والتحريم الطريقين المجعولين في موارد الأمارات منجزان للواقع عند

٤٨٨

الاصابة يوجبان استحقاق العقاب على مخالفته لا على مخالفة نفسهما فكما يصح احتجاج المولى على عبده بالايجاب الطريقي والتحريم الطريقي عند الاصابة على مخالفة الواقع بنفسه فكذلك يصح الاحتجاج بإيجاب الاحتياط عند الاصابة بالواقع على عدم مراعاة الواقع بنفسه.

فالنتيجة : فلو كان الاحتياط واجبا نفسيا في الشبهات الحكمية للزم استحقاق العبد للعقاب على نفسه كما يلزم استحقاق المؤاخذة على مخالفة سائر التكاليف النفسانية في الشريعة المقدسة.

وأما إذا كان إيجاب الاحتياط طريقيا مقدميا فلا يستحق المؤاخذة على مخالفة نفس الاحتياط بما هو واجب طريقي مقدمي كما لا يلزم الاستحقاق على مخالفة سائر التكاليف الطريقية المقدمية ، وتلك مثل ترك الدخول في السوق مثلا ومثل ترك نصب السلم ومثل ترك الوضوء مثلا بل يستحق المؤاخذة والعقاب على ترك اشتراء اللحم ، وعلى ترك الصعود على السطح ، وعلى ترك الصلاة التي يشترط فيها الوضوء بل يستحق المؤاخذة على مخالفة ذي الطريق ، وهو التكليف المجهول.

وعلى طبيعة الحال ، فترتفع المؤاخذة بوسيلة حديث الرفع لأنه رافع لايجاب الاحتياط ، وهو موضوع المؤاخذة ، وإذا ارتفع الموضوع فقد ارتفع الحكم قهرا ، أو فقل إذا ارتفع السبب ببركة حديث الرفع فقد ارتفع المسبب جدا.

هذا مثال إيجاب الطريقي ، وأما مثال تحريم الطريقي مثل القاء شخص نفسه من أعلى الجبل المرتفع مثلا ، وهذا حرام طريقي مقدمي لحرمة قتل النفس المحترمة.

وعليه : فإذا ألقى نفسه منه وهلك فقد عوقب على القتل لا على الالقاء ضرورة إنه كما يصح أن يحتج المولى تعالى شأنه على العبد بالايجاب والتحريم الطريقين بأن يقول المولى خطابا لعبده ، أو ولده لم ألقيت نفسك من السطح كي

٤٨٩

ينجر إلى الهلاك فكذلك يصح أن يحتج المولى على العبد بنفس التكليف ويقول خطابا له لم خالفت التكليف ، من جهة إقدامك على مخالفة الاحتياط مع إيجابه عليك شرعا ، فالتكليف بعد إيجاب الاحتياط يخرج عن التكليف المجهول الذي لم تقم عليه حجة معتبرة بل يعد من التكاليف التي قام عليها الدليل والبرهان فيكون العقاب عليه مع البيان وتكون المؤاخذة عليه مع البرهان ، إذ خرج بسبب إيجاب الاحتياط عن العقاب بلا بيان وعن المؤاخذة بلا برهان.

فالتكليف المجهول إذا كان مقتضيا لايجاب الاحتياط فهو مستتبع لاستحقاق المؤاخذة على مخالفته فعلا إذا دار أمره بين الحرمة وغيرها من الاباحة والكراهة غير الوجوب والاستحباب ، كشرب التبغ مثلا ، أو تركا إذا دار أمره بين الوجوب وغيره من الاباحة والاستحباب غير الحرمة وغير الكراهة ، كالدعاء عند رؤية الهلال سيما هلال شهر رمضان المبارك ، كما يخرج التكليف بسبب الايجاب والتحريم الطريقين عن العقاب بلا بيان وعن المؤاخذة بلا برهان ولكن رفع إيجاب الاحتياط مقتض لعدم استحقاق المؤاخذة والغرض من إجراء البراءة في الشبهات هو الأمن من العقاب في العقبى ومن اللوم والذم في الدنيا فيتحقق بحديث الرفع عدم إيجاب الاحتياط في الشبهات ، إذ حديث الرفع يرفع المؤاخذة عن الحكم الذي لا علم لنا فيه من حيث الوجوب والحرمة ، بناء على كون الحكم مرادا من الماء الموصولة ، ورفع المؤاخذة معلول عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية ومن الواضح انه إذا ارتفع المعلول ارتفعت العلة وإذا ارتفعت العلة فيجوز الارتكاب وهو معنى البراءة.

٤٩٠

الاستدلال بحديث الرفع

قوله : وقد انقدح بذلك أن رفع التكليف المجهول ...

وقد ظهر لك بما ذكر من إن التكليف المجهول بسبب فقدان النص ، أو إجماله أو تعارضه يقتضي إيجاب الاحتياط الذي هو مستتبع لاستحقاق المؤاخذة ولكن رفع الشارع المقدّس المؤاخذة التي يستلزم رفعها لرفع إيجاب الاحتياط.

وعليه : يكون رفع التكليف المجهول كان منة على الامة المرحومة حيث كان لله تعالى شأنه العزيز ، وضع التكليف بواسطة إيجاب الاحتياط في الشبهات وبسبب اقتضائه وضعه ولكن رفع الشارع المقدس التكليف امتنانا وتفضلا ولأجل هذا قال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن امتي ...».

قوله : فافهم ...

وهو إما تدقيقي ، وإما تمريضي ، إشارة إلى الفرق بين الاحتياط الذي يكون وجوبه طريقيا مقدميا لحفظ الواقع وبين سائر الأوامر الطريقية المقدمية فإن في ترك الاحتياط تحقق التجري الذي يستتبع العقاب في العقبى واللوم في الدنيا وأن أتى المكلف بالتكليف الواقعي كما في صورة اشتباه القبلة فلا بد له أن يصلي إلى جهات الأربع مع سعة الوقت احتياطا لملاك الصلاة إلى القبلة ولكن ترك الاحتياط وترك الصلاة إلى جهات الأربع وصلّى إلى جهة واحدة ولكن صادفت القبلة فالمكلف يستحق العقاب لأجل تجريه على المولى جلّ اسمه ، إما بخلاف الأوامر الطريقية المقدمية فإنه لا عقاب على خلافها أصلا. ولا يعد المكلف عند العقلاء متجريا إذا لم يمتثل أوامر الطريقية.

قوله : ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ...

وليعلم أن الما الموصولة في ما لا يعلمون تحتمل بدوا امورا :

الأوّل : أن يكون المراد بها نفس الحكم الشرعي ولا إشكال في صحة

٤٩١

الاستدلال بحديث الرفع على البراءة في الشبهة الحكمية والموضوعية معا بأن يراد من الحكم المجهول الكلي منه والجزئي ، فالأول في الحكمية والثاني في الموضوعية.

فالأول : كالحرمة المجهولة والوجوب المجهول. والثاني : كالشك في حرمة شرب هذا المائع المشتبه كونه خمرا ، أو خلا وكالشك في كون هذا الشخص الخاص ولدا كي تجب نفقته أم لا ، فالأول : شبهة حكمية ، والثاني : شبهة موضوعية.

الثاني : أن يراد بها نفس الموضوع للحكم الشرعي وحينئذ فإن اريد من عدم العلم بالموضوع عدم العلم بانه حرام ، أو حلال لصح الاستدلال بحديث الرفع في الشبهتين أيضا الحكمية والموضوعية على البراءة ، وأما إذا اريد عدم العلم بعنوان الموضوع غير المنتزع من الحكم الشرعي مثل عدم العلم بكون المائع خلا ، أو خمرا.

وعليه : فقد اختص الاستدلال به على البراءة في الشبهة الموضوعية لأن الموضوع في الشبهة الحكمية لا يجهل عنوانه ، كشرب التبغ مثلا ، بل يجهل حكمه فيها.

نعم : يكون العنوان أي عنوان الموضوع مجهولا وعنوان الحكم معلوما في الشبهة الموضوعية مثلا لا نعلم إن هذا الشرب شرب الخمر أم شرب الماء ولأجل هذا نحتاج في دفع الشبهة في الحكمية منها إلى طرق باب الشارع المقدس ، وفي الموضوعية منها إلى طرق باب أهل الخبرة.

الثالث : أن يراد بها الجامع بين الموضوع والحكم ، وهو عبارة عن الفعل والحكم ، وحينئذ يصح الاستدلال به على البراءة في الموضعين أيضا ، إذ باعتبار انطباق الجامع على الفعل يشمل الحديث الشريف ، الشبهة الموضوعية ، وبلحاظ انطباقه على الحكم يشمل الشبهة الحكمية أي رفع مؤاخذة الفعل الذي لا يعلم إنه

٤٩٢

شرب الخمر ، أو شرب الخل ورفع مؤاخذة الحكم الذي لا يعلم إنه حرمة ، أو إباحة أو كراهة ولا يعلم إنه وجوب ، أو إباحة ، أو استحباب فالاحتمالات فيه ثلاثة كما ذكرت آنفا.

أما مختار المصنف قدس‌سره في المقام فهو الوجه الأول لأن حمل الحديث الشريف على رفع نفس موضوع الحكم يلزم منه المجاز في نسبة الرفع إلى الامور التسعة التي هي مذكورة في متن الحديث الشريف ، إذ لا يرفع نفس الخطأ ونفس النسيان ونفس عدم العلم ونفس الاضطرار ونفس الاكراه ونفس الوسوسة ونفس الطيرة ونفس التفكر ونفس الحسد لوجود كل واحد منها خارجا ، أو لأن نسبة الرفع إليها مجاز في الحذف لأن الموضوع مما يمتنع رفعه حقيقة وعلى طبيعة الحال ، فرفعه لا بد أن يحمل إما على المجاز في الاسناد ، وهو عبارة عن إسناد الشيء إلى غير ما هو له نظير إسناد الانبات إلى الربيع في قولك أنبت الربيع البقل لأن المنبت هو الله تعالى والربيع سببه ، وكذا ما نحن فيه لأن المرفوع هو أثر الخطأ والنسيان لانفسهما وكذا سائر الفقرات في الحديث الشريف.

وأما على المجاز في الحذف ، وهو عبارة عن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وأخذ المضاف إليه إعراب المضاف نحو واسأل القرية ، إذ في الأصل كان واسأل أهل القرية فكذا ما نحن فيه رفع عن امتي مؤاخذة الخطأ والنسيان وو ، فحذف المضاف وهو المؤاخذة المصدري واقيم المضاف إليه مقامه وأعرب باعرابه ، ولا يخفى عليك إن المجاز في الاسناد يسمى مبالغة في الاسناد أيضا نحو زيد عدل كانّ زيد صار نفس العدل كما يقال للمحب الافراطي للدنيا هو عين الدنيا ، فكذا فيما نحن فيه ، ادعينا رفع نفس الخطأ والنسيان وو عن الامة المرحومة والحال في الواقع والحقيقة يكون المرفوع عنها مؤاخذة الامور المذكورة فيه لا نفسها.

وحيث إنه لا داعي إلى هذين التجوزين المذكورين فيتعين حمله على الحكم

٤٩٣

أي رفع عن الامة حكم الخطأ وحكم النسيان و ... ورفع الحكم الشرعي بمعنى البراءة أي براءة ذمة المكلف عنه ويكون رفعه على الحقيقة ، إذ الحكم يكون وضعه ورفعه بيد الشارع المقدّس فيصح أن يقول إن الدعاء عند الرؤية واجب أم ليس بواجب وأن يقول شرب التبغ حرام أم ليس بحرام.

ولأجل هذا قال المصنف قدس‌سره لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا إلى تقدير الأثر الظاهر ولا إلى تقدير جميع الآثار أعم من الأثر الظاهر وغيره في ما لا يعلمون فإن التكليف من الالزامي وغير الالزامي في ظرف عدم العلم به قابل للوضع والرفع شرعا سواء كان التكليف كليا كما في الشبهة الحكمية أم كان جزئيا كما في الشبهة الموضوعية أما في غير كلمة ما لا يعلمون فلا بد من تقدير الآثار ، أو من المجاز في إسناد الرفع إلى غيرها ، إذ ليس نفس الاضطرار والاكراه إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة وواقعا فلا بد حينئذ من ارتكاب أحد المجازين في سائر الفقرات أما المجاز في الاسناد ، وأما المجاز في الحذف كما لا يخفى.

في الاعتراض على الشيخ الأنصاري قدس‌سره

نعم لو كان المراد من الموصول في ما لا يعلمون ، ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه أي فعل المكلف لا يعلم حكمه من الحرمة والوجوب حتى يكون المعنى رفع شرب التبغ لا يعلم حرمته وإن كان نفس الفعل معلوما لنا ، ورفع الدعاء عند الرؤية أي رؤية الهلال لا يعلم وجوبه ، أو فقل رفع الموضوع الذي اشتبه حكمه من الحرمة ، أو الوجوب لاشتباه عنوانه ، إذ لم يعلم أن شرب التبغ معنون بعنوان الحرمة أم لا وان الدعاء عند الرؤية معنون بعنوان الوجوب أم لا.

فيختص الاستدلال به بالشبهة الموضوعية ، وعليه فلا بد من أحد الأمرين أيضا اما تقدير الآثار ، أو المجاز في الاسناد لما عرفت سابقا من امتناع رفع

٤٩٤

الموضوع حقيقة ، إذ الشرب والدعاء ليسا بمرفوعين والمراد بهذا الكلام هو التعريض بشيخ الأنصاري قدس‌سره حيث قرب الاستدلال بالحديث الشريف بحمل الموصول في ما لا يعلمون على الحكم ثم قال ومعنى رفع الحكم رفع الآثار ، أو رفع خصوص المؤاخذة فعلى مبنى الشيخ الأنصاري قدس‌سره يختص الاستدلال بالبراءة بالحديث الشريف في الشبهة الحكمية فقط.

قوله : ثم لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح ...

قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره إن المقدر في الرواية الشريفة باعتبار دلالة الاقتضاء يحتمل أن يكون جميع الآثار في كل واحد من التسعة ، وقال رحمه‌الله تعالى وهو الأقرب اعتبارا إلى المعنى الحقيقي وأن يكون في كل واحد منها ما هو الأثر الظاهر فيه وأن يكون المقدر خصوص المؤاخذة في الكل وقال قدس‌سره وهذا أقرب عرفا من الاحتمال الأول وأظهر من الاحتمال الثاني أيضا لأن الظاهر إن نسبة الرفع في الحديث الشريف إلى مجموع التسعة على نسق واحد وعلى نهج فارد فلا جرم حينئذ أن يكون المقدر في الجميع على نسق واحد وهو يتحقق بتقدير خصوص المؤاخذة في الكل ، أي رفع عن امتي مؤاخذة الخطأ ومؤاخذة النسيان وو ، ففي الحديث الشريف من حيث التقدير احتمالات ثلاثة لكن قال المصنف قدس‌سره ، فلا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد من الفقرات غير المؤاخذة يعني بها الفقرات الثلاث الآتية في الصحيحة الآتية ، وهي صحيحة المحاسن للبرقي ، وهي ما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما أخطئوا ، لأن جميع آثار الاكراه من التكليفية والوضعية وكذا جميع آثار الخطأ وجميع آثار عدم الطاقة مرفوعة عن الامة المرحومة لا خصوص مؤاخذتها ، أو لا أقل يكون المرفوع هو الأثر الظاهر في كل واحد منها.

فالنتيجة : أن الأمر يدور في حديث الرفع بين تقدير جميع الآثار ، وبين

٤٩٥

تقدير الأثر الظاهر ، وبين تقدير خصوص المؤاخذة ، وبين إسناد الرفع إلى تلك الامور مجازا أما في الاسناد وأما في الحذف بلحاظ الآثار جميعا ، أو الأثر الظاهر أو المؤاخذة.

والمراد من الأثر الظاهر هو الأثر المناسب لكل واحد من الامور التسعة مثلا ، في ما لا يعلمون يكون الأثر المناسب رفع حكم أي رفع عن الامة الحكم المجهول أي رفع عنها الوجوب المجهول أما لعدم النص عليه وأما لاجماله وأما لتعارض النصين أي رفع عنها الحرمة المجهولة لأحد الامور المذكورة ، وفيما لا يطيقون وما اضطروا إليه ، وما اكرهوا ، لا يمكن رفع الحكم إذ لا معنى لأن يقال رفع حكم ما اضطروا وحكم ما لا يطيقون ، إذ الحكم لا يضطر إليه بل يضطر الانسان إلى فعل من الأفعال كشرب الخمر يضطر إليه أحيانا ، أو يضطر إلى عين من الأعيان الخارجيات كالفرس الذي يضطر إليه أحيانا للركوب ، أو للحمل.

ولكن لا يصح أن يقال الوجوب هو الذي يضطر الانسان إليه مرفوع ، وكذا لا يصح أن يقال الحرمة هي التي يضطر إليها مرفوعة وكذا لا يصح أن يقال الوجوب الذي أكره الانسان عليه مرفوع ، بل يصح أن يقال الفعل الذي أكره عليه مرفوع من حيث الآثار.

فالحاصل : إن الاكراه وعدم الطاقة إنما يكونان بالأفعال فقط وإن الاضطرار يحتمل أن يكون بالأفعال تارة ، وبالأعيان اخرى.

وفي ضوء هذا : فلا بد في هذه الفقرات من تقدير جميع الآثار فالمراد رفع جميع آثار الاكراه والاضطرار وعدم الطاقة مثلا ، إذا شرب الانسان الخمر إكراها أو اضطرارا ، فقد رفع الحد في الدنيا والعقاب في العقبى وكراهة التزويج به ، أو تقدير الأثر الظاهر في الشرب المذكور ، وهو عبارة عن الجلد والحد الذي هو ثمانون جلدة.

٤٩٦

وفي ضوء هذا : فلا محيص عن أن يكون المقدر في ما لا يعلمون جميع الآثار ، أو خصوص الأثر الظاهر في كل واحد من الامور التسعة نظرا إلى وحدة سياق الحديث الشريف ، وإلى تساوي نسبة الرفع إلى الامور التسعة ، ولا يخفى عليك إنه يقدر جميع الآثار إذا كان في رفعها منة على الامة المرحومة.

وعليه : فمن أتلف مال الغير إكراها ، أو اضطرارا ، أو جهلا فلا يضمن المتلف مال الغير بمثله إذا كان مثليا ، أو بقيمته إذا كان قيميا وتشخيص المثلي والقيمي موكول إلى الفقه الشريف ، فإذا لم نقدر في نظم الحديث الشريف جميع الآثار ولا الأثر الظاهر لكان الاسناد مجازيا كاسناد الجري إلى النهر في قولك جرى النهر وكاسناد السيلان إلى الميزاب في قولك سال الميزاب فالاسناد المجازي إنما يكون بلحاظ جميع الآثار ، أو بلحاظ الأثر الظاهر أي رفع جميع آثار الخطأ والنسيان وو ، أو رفع أثر ظاهر الخطأ والنسيان وكذا ما لا يعلمون ، حرفا بحرف ، كما لا يخفى.

فالخبر الشريف قد دل على رفع كل أثر تكليفي ورفع كل أثر وضعي كان في رفع الأثر منة على الامة المرحومة ويدل على رفع كل أثر تكليفيا كان ، أو وضعيا استشهاد الامام عليه‌السلام بمثل هذا الخبر في ما استكره عليه من الطلاق والعتاق والصدقة.

ففي الخبر المروي عن المحاسن للبرقي رضى الله عنه عن أبيه عن صفوان بن يحيى وعن البزنطي جميعا عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام في الرجل يستكره على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق والصدقة أيلزمه ذلك قال عليه‌السلام لا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن امتي ما اكرهوا عليه وما لا يطيقون وما أخطئوا» الخبر.

فانقدح لك أن المقدر يكون في كثير من الفقرات غير المؤاخذة فلا وجه حينئذ لتقدير خصوص المؤاخذة ، إذ المقدر إنما يكون في كل واحد من الفقرات الأثر الظاهر المناسب لكل واحد واحد منها ، أو جميع الآثار التي تقتضي المنة رفعها

٤٩٧

سواء كانت تكليفية أم كانت وضعية كما يستفاد رفع جميع الآثار عن استشهاد الامام أبي الحسن عليه‌السلام بهذا الحديث في رفع الاكراه على الطلاق والعتاق والتصدق للأموال وهذا أقوى شاهد وأدل دليل واضح على إن الحديث الشريف قابل لرفع الآثار الوضعية أيضا مثلا إذا أكره زيد عمروا على الحلف بطلاق زوجته وعلى الحلف بعتاق مملوكه ، وعلى الحلف بصدقة ما يملكه من المال فهل يلزم عليه الوفاء بحلفه أم لا ، قال الامام عليه‌السلام لا يلزم عليه الوفاء كي يطلق زوجته ويعتق عبده ويتصدق بما يملكه ، واستشهد الامام عليه‌السلام بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع ما استكره عليه ويستفاد من هذا الاستشهاد رفع جميع آثار الاكراه التكليفي والوضعي من وجوب الوفاء بالحلف ومن لزوم الكفارة على الحنث ومن لزوم المؤاخذة والعقاب على ترك المحلوف عليه ، وهو الطلاق والعتاق والصدقة ، ومن حرمة الحلف فكلها مرفوع نظرا إلى الامتنان والافتخار ، كما لا يخفى.

قوله : ثم لا يذهب عليك إن المرفوع فيما اضطر إليه وغيره ...

ولا يخفى عليك أن العناوين المذكورة في الحديث الشريف مختلفة ، إذ بعضها عناوين ، أولية كالطيرة والحسد والتفكر ، وبعضها عناوين ثانوية مثل ما عداها ، وأما المرفوع في موارد الاضطرار والاكراه وغيرهما من الامور التي أخذت في الحديث بعنوان الثانوي من الخطأ والنسيان وعدم العلم وعدم الطاقة فهو عبارة عن الآثار التي تترتب عليها بعنوانها الاولى لأن الظاهر من الحديث الشريف إن العلة في رفع الآثار هي العنوان الثانوي أي الاضطرار إلى شرب الخمر علة لرفع حرمته ولرفع حد شرب المسكر وهو ثمانون جلدة ، في الدنيا ، ولرفع المؤاخذة والعقاب في العقبى ، وكذا الاكراه وعدم الطاقة وغيرهما حرفا بحرف مثلا من لا طاقة له على الصوم الواجب فأفطر صومه فلا حرمة لهذا الافطار ولا كفارة عليه ولا تعزير عليه في الدنيا ولا عقاب عليه في العقبى.

٤٩٨

وكذا من أكره على شرب الخمر ، ومن قتل مسلما خطاء فلا قصاص عليه ولا حرمة لهذا القتل في الدنيا ولا مؤاخذة ولا عقاب عليه في العقبى ، وكذا من أفطر صومه الواجب نسيانا حرفا بحرف ، وكذا من فعل الحرام جهلا.

ومن المعلوم : أن آثار العنوان الثانوي يكون العنوان الثانوي علة لثبوتها فلو كان العنوان الثانوي علة لرفعها فيلزم أن يكون العنوان الثانوي علة لثبوت الآثار وعلة لرفعها ، وما هذا إلّا تناقض.

وبتقرير آخر : وهو إن العناوين الثانوية كالاضطرار ، والاكراه ، وعدم العلم ، وعدم الطاقة ، والخطأ ، والنسيان ترفع الحكم المجعول من قبل الشارع المقدس في موردها لأن هذه العناوين الثانوية تكون موضوعة للأحكام الثانوية وليست بموضوعة للأحكام الأولية فلو ثبت الأحكام الأولية في موردها للزم ثبوت الحكم بلا موضوع وهذا محال لا يصدر من المولى الحكيم.

والحال : إن الموضوع يقتضي وضع الحكم وجعله فلا معنى محصل أن يكون الموضوع سببا وعلة لرفع الحكم.

هذا مضافا إلى كون قاعدة الاضطرار والاكراه وقاعدة لا ضرر وقاعدة نفي الحرج والعسر حاكمة على الأدلة الأولية.

توضيح : في طي كون العناوين الثانوية موضوعة للأحكام الثانوية ، وهو إن الحرمة مجعولة لشرب الخمر فهي حكم ، أولي للشرب المذكور والشرب المذكور بما هو شرب عنوان ، أولي فإذا اضطر شخص إلى شرب الخمر فهذا الشرب المضطر إليه عنوان ثانوي وهو موضوع للاباحة وهو حكم ثانوي وكذا شرب التبغ بما هو شرب التبغ عنوان ، أولي ، وشرب التبغ بعنوان كونه مجهول الحكم عنوان ثانوي ، وكذا إفطار الصوم الواجب بما هو إفطار عنوان ، أولي موضوع للحكم الأولي ، وهو الحرمة ، فإذا أكره الشخص على الافطار فهو بما إنه مكره عليه عنوان ثانوي فهو

٤٩٩

موضوع للاباحة وهو حكم ثانوي ، وكذا الحرف في سائر العناوين الثانوية ، فالاضطرار يرفع آثار الافطار من كفارة ووجوب القضاء في الدنيا والعقاب في العقبى.

وفي ضوء هذا : رأيت إن العناوين الثانوية ترفع الآثار المترتبة على العناوين الأولية ولا ترفع الآثار المترتبة عليها أي على العناوين الثانوية لأنها علة لثبوتها فكيف تكون علة لرفعها.

قوله : لا يقال كيف وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم ...

فاستشكل إن في مورد العناوين الثانوية كيف يكون المرفوع آثار العناوين الأولية والأحكام الأولية ، والحال إن إيجاب الاحتياط في مورد عدم العلم بالحكم الشرعي وإيجاب التحفظ في مورد الخطأ والنسيان يكونان أثرين لنفس هذه العناوين الثانوية ، وهي بحسب طبعها تقتضي إيجاب الاحتياط والتحفظ.

وعليه : فكيف أن يقال إن في الفقرات التي تكون فيها العناوين الثانوية أن يكون المرفوع أثر العناوين الأولية وأحكامها ففي ما لا يعلمون وفي الخطأ والنسيان يكون المرفوع أثر نفسها ، لأن مفهوم الاحتياط ينتزع متأخرا عن مقام الجهل بالحكم فيكون إيجاب الاحتياط في الشبهات أثر الجهل بالحكم وعدم العلم به ، كما إن عنوان التحفظ يكون منتزعا متأخرا عن مقام الخطأ والنسيان فيكون إيجاب التحفظ أثر نفسهما لا أثر عنوانهما الأوّلي.

في الجواب عنه

أجاب المصنف قدس‌سره عن هذا الاشكال إن وجوب الاحتياط والتحفظ إنما ينشأ عن المصالح الواقعية وهي موجبة للأحكام الواقعية ، بناء على مذهب العدلية والمعتزلة ، فهو في الحقيقة من آثار العناوين الأولية.

٥٠٠