البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

وفي أحكامه من حيث الطهارة والنجاسة ومن حيث الاسلام والكفر في الفقه الشريف ، فهو خارج عن وضع الرسالة لبنائها على الاختصار ، فلا يناسب هذا البحث في علم الاصول الفقه ، كما لا يخفى.

الترجيح والوهن بالظن

قوله : الثاني الظن الذي لم يقم على حجيته دليل ...

قال المصنف قدس‌سره الظن الذي لم يقم دليل عقلا ، أو شرعا على حجيته فهل يكون جابرا لضعف سند الحديث ولضعف دلالته كي يعد هذا الحديث من الأدلة بحيث لو لا الظن لما كان حجة أصلا وأيضا يوجد بواسطة الظن المذكور وهن في الحديث بحيث لو لا الظن الانسدادي على خلاف هذا الحديث لكان هذا الحديث حجّة وهل يكون هذا الظن الذي يكون على وفق أحد المتعارضين مرجحا لأحدهما على الآخر بحيث لو لا الظن على وفق أحدهما لما ترجح أحدهما على الآخر ، أو ربما يكون أحدهما ليس الظن الانسدادي على وفقه راجحا على الآخر على الفرض ولكن الظن الذي يكون على وفق الآخر صار سببا لترجيحه على رقيبه ، أم لا يكون الظن الانسدادي جابرا ولا موهنا ولا مرجحا.

ومجمل القول فيما ذكر من الجبران والوهن والترجيح إن العبرة والمناط في حصول الجبران ، أو في حصول الرجحان بموافقة الظن الانسدادي لأحد المتعارضين ، أو في حصول الوهن للحديث بمخالفة الظن له هو الدخول بسبب الجبران ، أو الرجحان تحت دليل الحجية ، أو تحت دليل المرجحية الراجعة إلى دليل الحجية لأن دليل الترجيح يجعل المشتمل على المرجح حجة بحيث لولاه لما كان حجة.

مثلا خبر الفاسق ليس بحجة في نفسه ولكن الحجة هو الخبر المظنون صدوره.

٤٦١

وعليه : فإذا ظن بصدور خبر الفاسق صار خبر الفاسق بواسطة الظن المذكور من افراد الحجة أما لو كانت الحجة خصوص خبر العادل فالظن بصدور خبر الفاسق لا يوجب كونه من افراد الحجة فلا يكون حجة ولا يكون الظن جابرا له ، أما الحكم في التوهين فعلى العكس من الجبران مثلا إذا كان خبر العادل حجة مطلقا ، أي سواء كان الظن موجودا على خلافه أم لم يكن بموجود على خلافه وعليه : فالظن على خلافه لا يوجب وهنه وضعفه ، إذ لا يخرج خبر العادل بالظن على خلافه عن موضوع الحجية والحجة ، أما إذا كان خبر العادل حجة بشرط أن لا يكون الظن على خلافه.

فقيام الظن على خلافه يوجب وهنه لأنه يخرج على هذا الفرض عن موضوع الحجة ، كما لا يخفى ، هذا مجمل القول فيما ذكر.

في تفصيل القول فيما ذكر

قوله : فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره ، أو بصحة ...

لما فرغ المصنف قدس‌سره عن إجمال القول فيما ذكر من الجبران والوهن والترجيح ، شرع في تفصيل القول في طي الامور الثلاثة المذكورة ، وقال : «فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بواسطة الظن بصدوره عن المعصوم عليه‌السلام ، أو بواسطة الظن بصحة مضمونه».

فالأول : راجع إلى جبران ضعف السند. والثاني : مربوط إلى جبران ضعف الدلالة. فالظن المذكور يكون جابرا لضعف سند الحديث ولضعف دلالته مثلا إذا كان الخبر ضعيفا من حيث السند ولكن حصل لنا الظن بصدوره من جهة موافقة مضمونه لفتوى أكثر الأصحاب رضي الله عنهم ، فلا يبعد أن يكون هذا الظن جابرا لضعف سنده.

٤٦٢

فالنتيجة : يدخل هذا الخبر بسبب هذا الظن تحت الأدلة الدالة على حجية خبر يوثق بصدوره لأن المصنف قدس‌سره اختار في المقام حجية ما هو مظنون الصحة ومطابق مؤداه للواقع ولو بالنظر إلى الخارج كما لو كان الخبر موافقا لفتوى المشهور وإن لم يعتمدوا عليه كخبر الدعائم والفقه الرضوي ونحوهما من خبر الغوالي مثلا فالمصنف قدس‌سره استظهر الوجه الثالث من أدلة حجية الأخبار ولكن اختار جماعة من الأصحاب رضي الله عنهم ، حجية الخبر المظنون بصدوره بالنظر إلى نفس السند مثل كون الراوي ممن يظن بصدقه ووثاقته ، وذهب جمع منهم إلى حجية مظنون الصدور ولو بالنظر إلى ما هو خارج عن السند مثل عمل الأصحاب رحمهم‌الله به ، واعتمادهم عليه فالاحتمال بدوا في أدلة الحجية أحد امور ثلاثة مذكورة آنفا. وهي عبارة عن حجية الخبر المظنون الصحة ، وعن حجية الخبر المظنون الصدور بالنظر إلى نفس السند فقط ، وعن حجية الخبر المظنون الصدور وان كان الظن بالصدور من جهة عمل الأصحاب (رض) بالخبر.

وعليه : فراجع أيها الفقيه أدلة اعتبار أخبار الآحاد كي ينكشف لك الحال والحقيقة ، فلا يبعد عدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد الذي يحصل من الظن الخارجي ولا يحصل من ظاهر لفظ الحديث ، إذ دليل حجية الظواهر يختص بحجية الظهور في تعيين المراد من ظاهر الكلام ولكن الظن بالمراد من أمارة خارجية ، وهي الظن غير المعتبر لم يقم دليل خاص على اعتباره بالمراد لا يوجب ظهور اللفظ في المراد ، كما هو ظاهر لكل ذي مسكة ، مثلا دلالة قول الامام الصادق عليه‌السلام في الغنم السائم زكاة على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة من الغنم ضعيفة لقوة احتمال عدم المفهوم للوصف كما قال به صاحب المعالم في معالم الدين قدس‌سره.

وعليه : فلو قامت الشهرة الفتوائية على عدم وجوبها في المعلوفة فيحصل الظن والاحتمال القوي بسبب قيام الشهرة المذكورة بعدم وجوبها في المعلوفة من

٤٦٣

الغنم لكن هذا الظن لم يحصل لنا من جهة ظهور قول الامام عليه‌السلام ، وهو قوله : «في الغنم السائمة زكاة» بل يحصل لنا من الدليل الخارجي الذي هو عبارة عن الشهرة المذكورة فلا ينجبر ضعف دلالة قوله عليه‌السلام على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة بهذا الظن.

فالنتيجة : لا يكون مجرد الظن بالمراد موضوعا للحجية إلّا فيما ، أوجب القطع بالمراد ولو إجمالا ، بسبب اقتران اللفظ بما كان موجبا لظهور اللفظ في المراد ، وهو أي ما يوجب ظهور اللفظ في المراد قرينة لفظية تدل على المعنى المراد من اللفظ وتقترن به لو لا عروض انتفاء ما يوجب ظهور اللفظ في المراد ، وإن عرض انتفائه فلا يحصل القطع بالمراد أصلا ، إذ عروضه يسلب الظهور عن اللفظ.

ولا يخفى أن قوله إلّا فيما ، أوجب القطع ولو إجمالا استثناء منقطع لأن القطع بالظهور من ناحية أمارة خارجية يكون حجة بلا كلام ، وهو غير محل البحث ، إذ محله في مورد يكون الظهور مشكوكا فيه.

وعليه : فإذا حصل القطع بالظهور من ناحية أمارة خارجية ، ومن ناحية اقتران اللفظ بالقرينة اللفظية التي توجب الظهور فهذا غير محل البحث.

وفي ضوء هذا : فصار الاستثناء منقطعا نظير جاءني القوم إلّا حمارا.

قوله : وعدم وهن السند بالظن بعدم صدوره وكذا عدم وهن دلالته ...

أي لا يبعد عدم وهن سند الحديث بسبب الظن الانسدادي بعدم صدور هذا الحديث اما بخلاف الظن بالصدور ، أو الظن بصحة مضمون الحديث فإنهما كافيان في الجبر أي جبر سند الحديث وجبر دلالته ولكن الظن الانسدادي بعدم الصدور لا يوجب وهن السند وكذا لا يبعد أن يكون الظن بعدم الصدور بمجرد مخالفته ظاهر الحديث غير موجب لوهن دلالة الحديث إلّا في المورد الذي كشف بنحو معتبر الظن الانسدادي فيه عن ثبوت خلل في سنده وإلّا في المورد الذي كشف فيه عن

٤٦٤

وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهور الحديث في المعنى الذي كان الحديث ظاهرا فيه لو لا تلك القرينة.

ولا ريب في إن هذا الاستثناء منقطع لأن الكلام في توهين الحديث وتضعيفه بالظن غير المعتبر لا بالطريق المعتبر ولا إشكال في إن مفاد القرينة متبع عند أهل اللسان على نحو معتبر صحيح وكذا الظن الانسدادي معتبر إذا تمت مقدمات الانسداد وعلى فرض تسلمها.

وعلى طبيعة الحال : يكون الاستثناء منقطعا ، كما لا يخفى والسر في ذاك المطلب إنه لا يختص دليل اعتبار خبر الثقة ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره ، أو ظن بعدم إرادة ظهور الحديث بحيث إذا كان الظن موجودا بعدم صدوره فلا يكون خبر الثقة سواء كان الراوي عادلا أم كان موثقا حجة لأنا إذا أحرزنا ثقة الراوي سواء كان الظن غير المعتبر ، وذلك كالظن الانسدادي موجودا بعدم صدور الخبر أم لم يكن بموجود فهو حجة قطعا ، وبحيث إذا كان الظن غير المعتبر موجودا بعدم إرادة ظهور الحديث ، فليس الظهور حينئذ بحجة وليس الأمر كذلك ، إذ هو حجة مطلقا عند العقلاء بما هم عقلاء ولا تكون حجيته مقيدة بالظن بإرادة الظهور عندهم بما هم عقلاء ، كما لا يخفى.

شروع في بيان الترجيح بالظن

قوله : وأما الترجيح بالظن فهو فرع دليل على الترجيح به ...

وأما ترجيح الحديث بواسطة الظن غير المعتبر إذا كان على وفقه فهو فرع وجود الدليل على ترجيح الحديث بذلك الظن غير المعتبر لأن الأمارتين المتعارضتين بعد تساقطهما لا تكون إحداهما بالخصوص حجة للزوم الترجيح بلا مرجح.

٤٦٥

وعليه : فجعل إحداهما بالخصوص حجة بواسطة موافقة الظن غير المعتبر مع إحداهما يتوقف على وجود الدليل على الترجيح لهذا الحديث بذلك الظن غير المعتبر.

والظاهر عدم ثبوته ، وإن ادعى الشيخ الأنصاري قدس‌سره إثبات ذلك الدليل واستدل له بوجوه ، وستأتي هذه الوجوه في بحث التعادل والتراجيح ، إن شاء الله تعالى.

فالقاعدة الأولية في تعارض الأمارتين سقوطهما من البين بسبب التعارض وعدم حجية واحدة منهما بالخصوص وبقاء إحداهما على الحجية لا على التعيين للعلم الاجمالي بصدق إحداهما وكذب الاخرى كما قال المصنف قدس‌سره في التعادل والتراجيح.

قوله : فصل : التعارض وإن كان لا يوجب إلّا سقوط أحد المتعارضين عن الحجية رأسا ، إذ لا يوجب التعارض إلّا العلم بكذب أحدهما فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر إلّا إنه حيث كان بلا تعيين وبلا عنوان واقعا فلم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه لاحتمال كون كل منهما كاذبا لعدم التعين في الحجة أصلا ، كما لا يخفى ... انتهى كلامه رفع مقامه.

ولا يخفى عليك إن كلامه هذا موافق لما قلناه في التعارض واستدل الشيخ الأنصاري قدس‌سره للترجيح بالظن غير المعتبر ، وذلك كالظن الانسدادي ، بوجوه :

الأوّل : قد استدل للترجيح بمطلق الظن الخارجي بالأخبار العلاجية الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة المنصوصة ، إذ كلها يفيد الظن بصدور ذي مرجح من الأخبار وقال الشيخ الأنصاري قدس‌سره يستفاد منها عدم اختصاص المرجحات بالمرجحات المنصوصة في الأخبار العلاجية.

وعليه : يجوز التعدي منها إلى غيرها من كل ترجيح أحد المتعارضين على

٤٦٦

الآخر ولا ريب في أن الظن بالصدور من جملة المرجحات فالمرجحات المنصوصة وغير المنصوصة تفيدان كلتاهما الظن بالصدور فهما شريكان في المناط والملاك ولأجل هذا يجوز التعدي منها إلى غيرها فإذا كان الظن الانسدادي موافقا بأحدهما فهذا الظن موجب للظن بصدور الموافق له ، وهي عبارة عن الشهرة بين الأصحاب رضي الله عنهم ، بمعنى إن أكثرهم نقلوه في كتبهم والمخالفة للعامة والموافقة للكتاب الكريم ، والسنة الشريفة ، والأعدلية ، والأصدقية ، والأفقهية ، والأورعية ، والأفصحية ، وغيرها. ويأتي تفصيلها في بحث التعادل والتراجيح إن شاء الله تعالى.

الثاني : أن مقدمات الانسداد جارية في الأحكام الفرعية الكلية ، وهي توجب الترجيح بالظن غير المعتبر ، إذ نتيجتها على تقدير تسليمها حجية الظن مطلقا أي سواء كان متعلق الظن حكما فرعيا أم كان ترجيحا أم كان حجة أجاب المصنف قدس‌سره عنه بأن الظن الانسدادي يكون حجة إذا تعلق بالحكم الشرعي سواء كان إلزاميا كالوجوب والحرمة أم كان غير إلزامي كالندب والكراهة ، أو تعلق بالطريق إلى الحكم الشرعي وذلك كالظن بحجية الاجماع المنقول مثلا والظن بالترجيح خارج عن الحكم الشرعي وعن الطريق إلى الحكم الشرعي.

وبالجملة : فمقدمات الانسداد على تقدير تماميتها لا توجب حجية الترجيح بالظن ما لم توجب الظن بالحكم ، أو الطريق ، إلّا أن يوجب الظن غير المعتبر ظنا بالحكم ، أو ظنا بالحجية مثلا إذا توافق أحد الخبرين المتعارضين مع هذا الظن فهذا التوافق يوجب الظن بحجيته فيندرج في تحت الظن بالطريق كما هو نتيجة دليل الانسداد على قول ، فالظن بالترجيح إنصافا لا يقصر عن الظن بالحكم الشرعي الناشي من قول اللغوي في استلزامه للحجية.

وحاصل الكلام : إن الخبرين إذا تعارضا فلا يمكن لنا أن نرجح أحدهما على الآخر من حيث السند بمجرد توافقه مع الظن غير المعتبر ، نحو الظن الانسدادي ،

٤٦٧

ولا يخفى إن إجراء مقدمات الانسداد في الأحكام الشرعية إنما يكون باعثا للظن بالحكم ، أو للظن بثبوت الحجة ولا يوجب الظن بالترجيح ولا تجري المقدمات للانسداد في ترجيح أحد المتعارضين على الآخر بالظن.

وعليه : فلو جرت المقدمات في خصوص الترجيح فلا جرم من أن يستفاد منها في خصوص تعيين المرجح أي فلا بد من أن يستفاد منها ومن الظن الانسدادي في تعيين بعض من المرجحات بالاضافة إلى بعض آخر وليس نفس الظن الانسدادي بمرجح لأحد المتعارضين على الآخر إلّا أن يحصل لنا الظن من طريق آخر بكون الظن الانسدادي مرجحا أيضا كما إن الشهرة والموافقة للكتاب والمخالفة للعامة وغيرها مرجحات.

قوله : فتأمل جيدا ...

وهو إشارة إلى إن من قال بجريان مقدمات الانسداد في نفس الترجيح بهذا النحو إنا مكلفون في مقام التعارض بالرجوع إلى المرجحات فلو علم المرجح فهو المطلوب وإلّا فلا بد من الرجوع إلى الظن فمقدمات الانسداد على فرض تماميتها توجب الرجوع إلى الظن بالمرجح فهو حجة كالعلم بالمرجح.

وفي ضوء هذا : فيكون الظن بصدور الحديث في مقام التعارض من المرجحات وحجة فهو كالعلم بالصدور في كونهما حجتين ولكن مقدمات الانسداد في حجية أصل الظن ليست بتامة في الفقه الشريف.

وعلى طبيعة الحال : إذا فقد المرجح العلمي فلا جرم كان الرجوع إلى الاحتياط ، أو الاصول العملية على حسب اختلاف الموارد فلا تصل النوبة بحجية الظن بالترجيح ، هذا كله من الجبران والتوهين والترجيح في الظن الذي لم يقم دليل بخصوصه على المنع عن العمل به بخصوصه ، وذلك كالظن الحاصل من مقدمات الانسداد ومن الأسباب الخارجية الأخر مثل المرجحات المنصوصة في الأخبار

٤٦٨

العلاجية مثلا ، إذ كلها يفيد الظن بصدور ذي مرجح.

قوله : وأما ما قام الدليل على المنع عنه كذلك كالقياس ...

لمّا فرغ المصنف قدس‌سره عن بيان أحكام الظن الذي لم يصل إلينا من قبل الشارع المقدس المنع بالخصوص عن العمل به شرع في بيان أحكام الظن الذي وصل إلينا من قبل الشارع المقدس ، المنع بالخصوص عن العمل به ، وذلك كالظن القياسي.

أما بيان الاحكام فيقال إنه ـ أي الظن القياسي ـ لا يكون جابرا ولا موهنا ولا مرجحا لأحد المتعارضين على الآخر في مقام التعارض سواء قلنا بكون الظن الانسدادي جابرا لضعف سند الحديث ، أو لضعف دلالته وموهنا ومضعفا لحديث القوى سندا ودلالة ومرجحا لأحد المتعارضين على الآخر في مقام التعارض أم قلنا بعدم كونه مرجحا وجابرا وموهنا.

والسر في هذا المطلب : وضوح عدم خروج الخبر عن تحت دليل الحجية بسبب الظن القياسي إذا كان على خلافه بحيث لو لا الظن القياسي على خلافه لكان حجة أي على خلاف الخبر لكان هذا الخبر حجّة ، ووضوح عدم دخول الخبر في تحت دليل الحجية بواسطة الظن القياسي إذا كان على وفقه بحيث لولاه لما كان حجة. وليس الأمر كذلك.

فالنتيجة : وفي كل مورد لا يكون الظن الانسدادي جابرا ولا مرجحا ولا موهنا فالظن القياسي أيضا لا يكون جابرا ولا موهنا ولا مرجحا لاتحاد المناط والملاك لو لم يكن أولى في الظن القياسي ، وهو المنع عن العمل على وفق مطلق الظن.

وكذا لا يكون الظن القياسي جابرا ولا موهنا ولا مرجحا في المورد الذي يكون غيره من الظن الآخر فيه جابرا وموهنا ومرجحا ، وذلك المطلب ثابت لأجل دلالة المنع عن العمل بالظن القياسي على إلغاء الشارع المقدّس للظن القياسي رأسا

٤٦٩

وعلى عدم جواز استعماله في الشرعيات قطعا.

ومن الواضح : أن دخل الظن القياسي في واحد من الجبر والوهن والترجيح يكون مثل استعماله فيها أي في الشرعيات والأحكام الشرعية ، والحال إن استعماله فيها ممنوع قطعا.

فالنتيجة : أن دخله فيها ممنوع يقينا ، إذ القياس الاستثنائي ينتج رفع المقدم في صورة رفع التالي وصورة القياس المذكور لو كان الظن القياسي دخيلا في الجبر والتوهين والترجيح لجاز استعماله في الشرعيات.

والحال : أن استعماله فيها لا يجوز قطعا فينتج إن دخله فيها لا يجوز يقينا نظير لو كان هذا الشيء إنسانا لكان حيوانا إذ فيه ينتج رفع التالي رفع المقدم فكذا قياس لو كان الظن القياسي دخيلا فيها لجاز استعماله في الشرعيات ، والحال لا يجوز استعماله فيها قطعا فينتج انه ليس بدخيل فيها قطعا أي في الجبر والوهن والترجيح.

قوله : فتأمل جيدا ...

وهو إشارة إلى إنه ما الفرق بين دليل المنع عن الظن القياسي وبين دليل المنع عن مطلق الظن من الآيات المباركات ، الناهيات عن اتباع الظن وهل الفرق موجود بين قوله تعالى وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً. وبين قوله عليه‌السلام : إن دين الله تعالى لا يصاب بالعقول وإن السنّة إذا قيست محق الدين.

ولكن ليس الفرق بينهما بموجود من حيث الدلالة المطابقية ، إذ كل واحد منهما يدل على حرمة العمل على طبق الظن وعلى النهي عن اتباع الظن ، إلّا إن بينهما فرقا من حيث العموم والخصوص فان نسبة ما دل على ان الخبر المظنون صدورا إلى ما دل على المنع عن مطلق الظن نسبة الخاص إلى العام نحو اكرم العلماء ولا تكرم الشعراء منهم فيقدم الخاص على العام من باب نقدم الأظهر على

٤٧٠

الظاهر كما قد سبق هذا في بحث العام والخاص ، فراجع هناك.

وأما نسبة ما دل على إن الخبر المظنون الصدور حجة إلى ما دل على المنع عن القياس فهي نسبة العامين من وجه يرجع إلى الأصل في مورد التعارض وهو مورد اجتماعهما ، والأصل عبارة هنا عن أصالة عدم الحجية ، فلاحظ كي لا يشتبه عليك الأمر.

توضيح : وهو إن نسبة دليل حجية الخبر المظنون الصدور إلى الدليل الذي دل على حرمة العمل بالظن واضح وهي عموم وخصوص مطلقين ، إذ الدليل الدال على حرمة العمل بالظن عام شامل لكل مظنون سواء كان مظنونا صدورا أم كان غير مظنون صدورا.

ولا ريب في تقدم الخاص على العام في مورد تعارضهما ، وهو مظنون صدورا فيكون حجة ويصح العمل على طبقه ويبقى غير مظنون الصدور تحت الأدلة الدالة على حرمة العمل بالظن وأما نسبة الدليل الدال على حجية الخبر المظنون الصدور إلى الدليل الدال على المنع عن العمل على طبق الظن القياسي ، فهي عموم من وجه مادة اجتماعهما في الظن بحرمة النبيذ ، لأنها ثابتة بالخبر الواحد المظنون الصدور وبالقياس على الخمر من جهة اشتراكهما في وصف الاسكار ومادة الافتراق عن جانب الظن الخبري فيما إذا دل الخبر على حرمة الخمر مثلا ، ومادة الافتراق عن جانب الظن القياسي فيما إذا ثبتت حرمة العصير العنبي مثلا بقياسه على الخمر من جهة تحقق وصف الاسكار فيه ولم تثبت بالخبر المظنون الصدور. والله أعلم بالحقائق ومنه نستمد الاعتصام في البدء والختام ، وصلّ اللهم على سيدنا محمد وآله الأطهار الأبرار الكرام ، اللهم ارزقنا شفاعتهم واحشرنا معهم ، آمين ثم آمين.

٤٧١

المقصد السابع

في الاصول العملية

قوله : وهي التي ينتهي اليها المجتهد بعد الفحص واليأس ...

الاصول جمع تكسير الأصل وهو في اللغة بمعنى ما يبتنى عليه شيء آخر ، وفي الاصطلاح يجيء بمعنى الدليل والظاهر والقاعدة والاستصحاب. هذه الأربعة مشهورة عند الاصوليين ، ويجيء لمعان أخر والمراد منه هو الثالث ، أو الأول.

وأما الفرق بين الأمارات والاصول العملية فمن وجهين :

الأوّل : الفرق بينهما بعد كون جميع الأمارات والاصول العملية وظائف مقررة للجاهل بالواقع إن الجهل بالواقع والشك به لم يؤخذ في لسان دليل الأمارات ، إذ لم يقل المولى إذا كنت جاهلا بالواقع وشاكا متحيرا فيه فاعمل بخبر العدل ، أو الثقة ، أو الظاهر أي ظاهر الكلام ولكنهما قد أخذا في لسان دليل الاصول العملية مثل كل شيء طاهر حتى تعلم إنه قذر ، أو كل شيء نظيف حتى تعلم إنه قذر ومثل كل شيء لك حلال حتى تعرف إنه حرام بعينه فتدعه ومثل لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر ومثل الناس في سعة ما لا يعلمون ، ومثل رفع ما لا يعلمون.

الثاني : إن للأمارات جهة كشف وحكاية عن الواقع سواء كانت معتبرة كخبر الثقة ، أو العدل أم كانت غير معتبرة كخبر الفاسق ، أو مجهول الحال والاصول العملية ليس لها الكشف عن الواقع والحكاية عنه بل كانت وظيفة للجاهل في ظرف الشك والحيرة.

فالنتيجة : لم يلاحظ الشارع المقدس جهة الكشف عن الواقع فيها وعرّف

٤٧٢

المصنف قدس‌سره الاصول العملية بأنها هي التي ينتهي إليها المجتهد في مقام الاستنباط بعد الفحص عن الدليل الاجتهادي على الحكم الشرعي وبعد اليأس عن الظفر بدليل معتبر عليه ، وهي ـ أي الاصول العملية ـ عبارة عن الاصول العقلية التي يحكم بها العقل ، وتلك كالبراءة العقلية ، والتخيير العقلي ، والاشتغال العقلي ، وعن الاصول الشرعية التي يحكم بها الشرع ، كالبراءة الشرعية والتخيير الشرعي والاستصحاب ، أو التي يحكم بها عموم النقل مثل الناس في سعة ما لا يعلمون ومثل رفع ما لا يعلمون والما الموصولة من ألفاظ العموم وهو يشمل بعمومه الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية سواء كان منشأ الشبهة في الحكمية فقد النص ، أو إجماله ، أو تعارض النصين أم كانت وجوبية أم كانت تحريمية ، فهي كثيرة ، ولكن المهم منها أربعة وهي البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب. وهي مشهورة لجريانها في تمام أبواب الفقه ، اما بخلاف سائر الاصول فانه مختص بباب دون باب وعليه فليس الاصول منحصرة بالأربعة.

وأما أصالة العدم وأصالة عدم الدليل دليل على العدم وأصالة الحلية وأصالة الطهارة وأصالة الاباحة وغيرها من أصالة الصحة وأصالة الخطر وو ، فترجع الاولى منها إلى الاستصحاب والثالثة منها إلى البراءة والباقية من الأمارات لا الاصول العملية.

فإن قيل : إن الاصول العملية التي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل ليست بمنحصرة في الأربعة المذكورة لأنها كثيرة كما ذكرت سابقا فلم لم يتعرضوها في كتبهم الاصولية ومباحثهم القيمة.

قلنا عدم تعرضهم لها وحصرها في الأربعة لوجهين :

الأوّل : مربوط بالحصر ، وهو جريان الأربعة في جميع أبواب الفقه الشريف من الطهارة إلى الديات اما بخلاف غيرها فإنه مختص بباب دون باب مثلا قاعدة

٤٧٣

الطهارة تجري في باب الطهارة فقط وقاعدة الفراغ تجري في العبادات دون المعاملات والسياسات كالحدود والديات والقصاص والتعزيرات ، هذه سياسات الاسلام الحنيف ، إذ له قانون العبادات ، وقانون المعاملات ، وقانون السياسات.

الثاني : كثرة النقض والابرام بين الأصحاب رضي الله عنهم ، في هذه الأربعة مثلا قال الاصوليون منهم في الشبهة الحكمية التحريمية بالبراءة العقلية والنقلية ، نحو : شرب التبغ مثلا ، وقال الاخباريون منهم بالاحتياط فيها عقلا ونقلا لدوران الأمر بين الحرمة والاباحة دون غيرها ، إذ ليس النقض والابرام بموجود فيه فضلا عن كثرتهما مثلا قاعدة الطهارة تجري بالاتفاق في مورد الشك في طهارة شيء وفي نجاسته ، وكذا تجري قاعدة الحلية بالاجماع فيما إذا كان الشك في حلية شيء وفي حرمته وكذا حال غيرهما من قاعدة التجاوز ، وقاعدة اليد وقاعدة الفراش وو ، إذ كلها يجري في مواردها بالاتفاق ، في الفرق بين الشبهتين.

وأما مناط الفرق بين الشبهة الحكمية وبين الشبهة الموضوعية فهو إن دفع الشبهة في الاولى إنما يكون بيد المقنن والشارع المقدّس ودفعها في الثانية إنما يكون بيد أهل الخبرة وأهل العرف. هذا ، أولا.

وثانيا : إن منشأ الشبهة في الاولى إنما يكون لفقد النص ، أو إجماله ، أو تعارض النصين ولكن منشأ الشك في الثانية إنما يكون امورا خارجية مثلا إذا لم يعلم إن هذا المائع ماء ، أو بول مع العلم بحكم كليهما ويكون منشأ الشبهة اشتباه كل واحد منهما بالآخر فهذه شبهة موضوعية.

قوله : بالشبهة الحكمية ...

وإنما قيد المصنف قدس‌سره الشبهة بالحكمية للاحتراز عن الشبهة الموضوعية لأنها ليست مما ينتهي إليها المجتهد المقلد بالفتح بما هو مجتهد ، إذ إجراء أصالة الطهارة جائز لكل واحد من المقلد والمقلد بالكسر فالمجتهد ينتهي إلى الاصول

٤٧٤

العملية في الشبهات الحكمية لا في الشبهات الموضوعية ، إذ ليس وظيفته تعيين الموضوعات الخارجية بل كان وظيفة المجتهد وشأنه تعيين الأحكام الكلية واستنباطها عن مداركها المقررة.

تكميل : وهو إن المقلد بالكسر يجري الاصول الأربعة وغيرها أيضا في الشبهات الموضوعية بعد فتوى المقلد بالفتح في الشبهات الحكمية ولهذا يجوز إجراء البراءة للمقلد بالكسر إذا شك في إنه مديون لزيد بن أرقم مثلا بأربعة دراهم أم لا. فهو يجري البراءة عن الدين لافتاء المقلد بها في صورة الشك.

وإجراء أصالة الاحتياط والاشتغال فيما إذا شك في المكلف به مع علمه بأصل التكليف كما لا يعلم إن الصلاة الواجبة اما صلاة الظهر في الجمعة عصر الغيبة واما صلاة الجمعة في يومها.

وإجراء التخيير فيما إذا دار الأمر بين الوجوب وبين الحرمة ولم يمكن الجمع بينهما ، لان المكلف اما فاعل واما تارك ولا يمكن أن يكون فاعلا وتاركا بالاضافة إلى الشيء الواحد للزوم اجتماع الضدين. وإجراء الاستصحاب في ما إذا كان متيقنا على طهارة قبل ساعتين وشك في بقائها وزوالها بعدهما فيتم أركان الاستصحاب عنده فيستصحب.

وخلاصة الكلام : إن الاصول العملية لها جهتان :

الاولى : الشبهة الحكمية.

الثانية : الشبهة الموضوعية.

وإجراء الاصول العملية في الشبهة الحكمية مختص بالمجتهد المقلد ولكن إجرائها في الشبهة الموضوعية غير مختص به ، كما لا يخفى.

ولكن يحتاج تنقيح مجاري الاصول الأربعة وتهذيبها وتوضيح حكم العقل السليم في الاصول العملية وتوضيح مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان

٤٧٥

ومئونة إقامة الحجة والبرهان لكثرة الاختلاف والنقض والابرام في الأربعة المذكورة دون غيرها فكل يقيم البرهان على مدعاه.

الحاصل : إذا كثر الخلاف والاختلاف فقد طال البحث والقيل والقال كما في الأربعة منها ، دون غيرها. من اصالة الحل واصالة الطهارة واصالة الصحة لانها جارية في موارد خاصة ، اما بخلاف الأربعة المشهورة فانها جارية في تمام أبواب الفقه.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى إن الاصول الجارية في الشبهات الموضوعية مثل أصالة الصحة وأصالة الحرية ونحوهما من الاصول الجارية في الموضوعات الخارجية ليست من الاصول العملية ولا من شأن الاصولي البحث عنها بل هي من المسائل الفرعية الفقهية التي يكون البحث عنها من شأن الفقيه في علم الفقه الشريف وليس البحث عنها من شأن الاصولي في علم الاصول هذا مضافا إلى إن الاختصاص بباب الفقه دون بابه لا يصحح الاهمال وعدم ذكر غير الأربعة منها ، كما لا يخفى.

أصالة البراءة

قوله : فصل لو شك في وجوب شيء ، أو حرمته ولم تنهض عليه ...

لو شك في وجوب شيء وعدم وجوبه مع العلم بعدم حرمته وذلك كالدعاء عند رؤية هلال رمضان المبارك ، أو شك في حرمته وعدم حرمته مع العلم بعدم وجوبه ، نحو : شرب التتن مثلا.

فالأولى : تسمى بالشبهة الوجوبية. والثانية : بالشبهة التحريمية.

وقد جمع المصنف قدس‌سره في هذا الفصل مباحث ست مسائل لأجل وحدة المناط فيها وهو الشك في التكليف ، اما بيانها فإن الشك في الوجوب وعدمه إما

٤٧٦

يكون لفقد النص وإما يكون لاجمال النص وإما يكون لتعارض النصين ، وكذا الشك في الحرمة وعدمها إما يكون لعدم النص في البين وإما يكون لاجمال النص وإما يكون لتعارض النصين ، فهذه ست مسائل ولكن ما ذكره المصنف قدس‌سره أولى من صنع الشيخ الأنصاري قدس‌سره في الرسائل لأنه عقد فيها ست مسائل ، إذ اختلاف منشأ الشك من حيث فقدان النص وإجماله وتعارضه مع الاتحاد في مناط البحث وهو الشك في التكليف لا يصحّح عقد مسائل بل عقد الشيخ قدس‌سره في فرائده للشبهة ثمانية مسائل :

الاولى : شبهة وجوبية حكمية يكون منشأ الشبهة ، فقدان النص ، وذلك كفقد النص المعتبر على وجوب صلاة الجمعة أو الظهر يوم الجمعة عصر الغيبة. ولهذا أفتى أكثر العلماء (رض) بوجوب الظهر وأفنى كثيرهم (رض) ومنهم سيّدنا الأعظم الخميني قدس‌سره بوجوب صلاة الجمعة عصر الغيبة.

الثانية : شبهة وجوبية حكمية يكون منشأها إجمال النص ، نحو قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) لأن الصلاة الوسطى قد فسّرت في بعض الروايات بصلاة الظهر ، وفي بعضها الآخر بصلاة الجمعة فليس لنا بمعلوم تفصيلا المراد منها.

الثالثة : شبهة وجوبية حكمية يكون منشأها تعارض النصين ، كما إذا سافر زيد أربعة فراسخ وهو يريد مبيت ليلة رأس أربعة فراسخ والرجوع في الغد هل صلاته قصر أو تمام والروايات متعارضات.

الرابعة : شبهة وجوبية يكون منشأها امورا خارجية واشتباه الامور الخارجية نحو شرب هذا المائع الذي يحتمل كونه خمرا مثلا كان الاناءان موجودين أحدهما ماء والآخر خمر واشتبها ولكن شرب الماء صار واجبا بالعرض لأجل رفع العطش الذي ينجر إلى هلاك النفس المحترمة.

الخامسة : شبهة تحريمية يكون منشأها عدم النص المعتبر ، نحو شرب التبغ.

٤٧٧

مثلا.

السادسة : شبهة تحريمية يكون منشأها إجمال النص ، نحو دوران الأمر في قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بين التشديد والتخفيف فالأمر دائر بين حرمة القرب قبل انقطاع الدم أم قبل الاغتسال.

السابعة : شبهة تحريمية يكون منشأها تعارض النصين المعتبرين ، كالآية الشريفة المذكورة بناء على تواتر القراءات.

الثامنة : شبهة تحريمية يكون منشأها اشتباه امور خارجية لا بأس بذكر الأمثلة.

وهي شبهة موضوعية كالاناءين المشتبهين بحيث كان أحدهما خمرا والآخر خلّا واشتبها.

وعلى ضوء الأمثلة : فلو شك المكلف في وجوب شيء وعدم وجوبه مع العلم بعدم حرمته ولم تنهض حجة معتبرة على كل واحد من الوجوب والحرمة جاز عقلا وشرعا ترك ما يحتمل وجوبه كالدعاء عند الهلال ، وفعل ما يحتمل حرمته كشرب التبغ ، وكان المكلف مأمونا من عقوبة مخالفة ما يحتمل وجوبه إن كان واجبا واقعا ، أو حرمته لو كان حراما واقعا سواء كان عدم نهوض الحجة على الحكم الالزامي من الوجوب والحرمة لأجل فقدان النص أم كان لأجل إجماله واحتماله الكراهة في صورة الشك في الحرمة واحتماله الاستحباب في صورة الشك في وجوب الشيء أو لتعارض النص.

هذا المقال لتوضيح إجمال النص ، كما إذا قال المولى اغتسل للجمعة مثلا ، فإذا قلنا : بالاشتراك اللفظي في صيغة الأمر فهذا مجمل لفقدان القرينة المعينة على الفرض فهذا الكلام يحتمل الوجوب والاستحباب ، وكذا إذا قال لا تشرب التبغ فهذا محتمل للحرمة والكراهة حرفا بحرف أي بناء على القول بالاشتراك.

٤٧٨

أم كان لأجل تعارض النص إذا لم يثبت الترجيح من حيث السند والصدور ومن حيث الدلالة والظهور بين النصين المتعارضين بناء على التوقف في مسألة تعارض النصين ، وعلى هذا المبنى تجري البراءة وأما بناء على التخيير بينهما كما هو المشهور كما سيأتي تفصيل هذا إن شاء الله تعالى في بحث التعادل والتراجيح.

فلا مجال حينئذ لأصالة البراءة لا عقلا ولا شرعا لوجود الحجة المعتبرة على الحكم الالزامي وهي عبارة عن أحد النصين ذي مرجح سندا ، أو دلالة ، كما لا يخفى.

وكذا لا مجال للاستصحاب حينئذ حرفا بحرف وليعلم إن في مورد التعارض قولين أحدهما هو التوقف بحيث إذا تعارضا تساقطا ولا يعمل بأحدهما لا بهذا ولا بذاك بل يرجع إلى أصل من الاصول العملية على حسب اختلاف الموارد.

وثانيهما : هو التخيير البدوي ، أو الاستمراري بينهما ، وهذا هو المشهور عند الأصحاب رضي الله عنهم ، وعلى هذا المبنى لا تجري البراءة أصلا لوجود الدليل الاجتهادي ، وهو أحد النصين المتعارضين يكون ذا ترجيح في البين.

أدلة البراءة

وقد استدل الاصوليون رضي الله عنهم ، على البراءة العقلية والنقلية في الشبهة الحكمية التحريمية والوجوبية بالأدلة الأربعة وهي العقل ، والآيات ، والسنة ، والاجماع ، أما الكتاب الكريم فبآيات قدّم المصنف قدس‌سره الكتاب الكريم أي الاستدلال به على غيره لشرافته والاشرف مقدم على غيره.

أما الآيات المباركات ، فمنها قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي لا يكلف الله تعالى نفسا إلّا بالحكم الواقعي الذي أعلم الله تعالى بتوسط إرسال الرسل وإنزال الكتب نفسا ، فالاعلام لا يصدق في الحكم الذي لا ينصب أمارة عليه.

٤٧٩

وعليه : فلا تكليف قبل البيان ولكن يحتمل احتمالا قويا أن يكون المراد من الموصول في كلمة ما آتاها المال فالمعنى أن الله تعالى لا يكلف نفسا إنفاق مال إلّا ما أعطاها من المال هذا المعنى ظاهر الآية الشريفة بقرينة قبلها وبعدها من الآيات الأخر (١) كما في تفسيرها. ويكون هذا الاحتمال موجودا.

ومنها قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٢).

ومن الواضح : إن امتثال الحكم المجهول خارج عن وسع المكلف في نظر أهل العرف ، ولكن ظاهرها نفي التكليف بغير المقدور.

ومن المعلوم : إن هذا النفي أجنبي عن البراءة ، إذ ليس الاحتياط الذي يتحقق بترك الشيء الذي يحتمل فيه الحرمة كشرب التبغ مثلا ، من التكليف بغير المقدور بل فيه كمال القدرة ، كما لا يخفى.

في الاستدلال بآية التعذيب :

ومنها قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٣) طريق الاستدلال بها على المدعى أن بعث الرسول كناية عن بيان الأحكام والتكاليف وعن قيام الحجة على التكليف.

وعليه : فإذا فعل ما يحتمل تحريمه ، أو ترك ما يحتمل وجوبه فليس العقاب بمحقق على مخالفة الواقع ، إذ لا عذاب موجود قبل بيان الحكم والتكليف فيكون المراد من قوله تعالى لا يحسن منا العذاب قبل البيان وهذا معنى البراءة من التكليف الالزامي من الوجوب والحرمة ولا يخفى عليك أن الاستدلال بها يتوقف على تحقق الأمرين فيها.

__________________

١ ـ سورة الطلاق آية ٧.

٢ ـ سورة البقرة صدر الآية ٢٨٦.

٣ ـ سورة الاسراء آية ١٥.

٤٨٠