البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

الرجالي ليس من باب الشهادات بعدالة الراوي كي يعتبر فيه التعدد والعدالة كما يعتبر إن في الشاهد ، وليس اعتبار قول الرجالي ثابتا من باب الرواية كي يعتبر فيه ما يعتبر في الراوي من العدالة ، أو الوثاقة بل يعتبر قوله من باب حجية مطلق الظن بدليل الانسداد بناء على الحكومة كاعتبار الظنون الأخر في حال الانسداد فاعتبار قول الرجالي يكون مثل اعتبار قول اللغوي في كون حجية الظن الحاصل من كليهما بدليل الانسداد فقط.

إيضاح : في طي الألفاظ التي تقع في الوصية وغيرها من الاقرار والنذر والحلف والعهد ، كما إذا ، أوصى زيد لعمرو بجزء شائع في التركة فإذا قال اللغوي إن المراد منه هو النصف فقوله لا يعيّن مراد الموصي من لفظه هذا ، أو قال الموصي لعمرو شيء من مالي وفسّره اللغوي بالسدس من التركة فلا يقبل منه ولا يعيّن قوله مراده من لفظه.

وكذا لو قال المقر له عليّ شيء من الدراهم ، أو قال له عليّ من الدراهم فإذا قال اللغوي مراده من الشيء هو سدس الدرهم ، أو قال مراده من لفظ الدراهم درهم واحد بقرينة وضع كلمة من للتبعيض والدراهم جمع وأقل الجمع ثلاثة عند أكثر الأعلام رضي الله عنهم ، وبعض الثلاثة ينطبق على درهم واحد فلا يترتب عليه أثر في الفقه الشريف.

وكذا إذا قال الناذر لله تعالى عليّ أن أصوم أياما إذا شفى مريضا مثلا وقال اللغوي وضع الأيام لثلاثة أيام فليس قوله بحجة في هذه المرحلة كي يجب عليه صوم ثلاثة أيام.

وكذا إذا قال الحالف والله عليّ أن أحجّ في هذا العام إذا شفى الله تعالى مرضي ، أو قال المعاهد عاهدت بالله تعالى أن أزور الرضا عليه‌السلام في أيام إذا قضى ديني ، أو إذا رزقت ولدا ذكرا صالحا مثلا وقال اللغوي المراد زيارته عليه‌السلام في ثلاثة

٤٤١

أيام لوضع الجمع لغة لثلاثة أيام فلا يسمع قوله في هذه الموارد ولا يترتب عليه أثر أصلا بل يرجع إلى هذه الموارد إلى أشخاصهم حتى يتبينوا مرادهم من هذه الألفاظ والكلمات ، أو يرجع في تعيين المراد إلى أهل العرف بما هم من العقلاء ، وبما هم من أهل العرف.

فالنتيجة : أن مراد الشارع المقدس يعين من لفظه الواقع في الكتاب المجيد نحو لفظ الصعيد بقول اللغوي تعيينا ظنيا ولا يترتب عليه تعيين مراد الموصي ، والناذر ، والمقر ، والحالف ، والمعاهد من ألفاظهم.

والسّر فيه : أن مرجع العمل بقول اللغوي إلى العمل بالظن في الموضوعات الخارجية المترتبة عليها الأحكام الجزئية ولكن لا دليل على جواز العمل بقول اللغوي في هذا المورد فإن العمل بقول اللغوي بالألفاظ الواقعة في الكتاب المجيد أو الرواية الشريفة مثل لفظ الصعيد والمشكاة مثلا.

وإن كان عملا بالظن في الموضوعات الخارجية التي تترتب عليها الأحكام الكلية الشرعية لا الأحكام الجزئية ، كما في موارد الوصية والاقرار ونحوهما من النذر ، والحلف ، والعهد ، فقول اللغوي حجة في الموضوعات الخارجية المترتبة عليها الأحكام الكلية ولا يكون حجة في الموضوعات الخارجية المترتبة عليها الأحكام الجزئية ، وأما الفرق بين الأحكام الكلية وبين الأحكام الجزئية فمن وجهين :

الأوّل : إن الكلية منها محتاجة إلى بيان الشارع المقدّس والجزئية منها لا تحتاج إلى بيانه.

الثاني : إن باب العلم منسد بالنسبة إلى الكلية منها وليس بمنسد بالاضافة إلى الجزئية منها.

وعلى طبيعة الحال : فالظن معتبر في الاولى عند الانسداد ، دون الثانية لعدم

٤٤٢

انسداد باب العلم فيها كما سيجيء هذا المطلب في طي الأمر الرابع إن شاء الله تعالى.

قوله : تنبيه لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة ...

كلمة التنبيه بحسب الاعراب اما مرفوع على إنه خبر لمبتدا مقدر في نظم الكلام أي هاهنا تنبيه ، واما منصوب على إنه مفعول به لفعل مقدر أي أذكر لك تنبيه ، واما مسكون ذكر للتنبيه ، نظير كلمة الأسد الأسد في مقام تحذير المخاطب.

والغرض منه إنه إذا حصل الظن بالحكم الشرعي الكلي من أمارة قامت عليه ولكن كان احتمال الخلاف ناشئا من احتمال امور كثيرة مربوطة تارة بسند تلك الأمارة ، واخرى بدلالتها ، وثالثة بجهة صدورها. ورابعة بمتنها ، ولكن إذا تمكن المجتهد من سدّ بعض أبواب تلك الاحتمالات بسبب الفحص عن وجود حجة رافعة لبعضها ، أو لتمامها سواء كانت الحجة المذكورة علما أم كانت علميا فقد وجب عليه تحصيل تلك الحجة ورفع الاحتمال حتى الامكان ، وإن لم ينته إلى العلم بالحكم الشرعي.

والسر في الأمر : إن ارتفاع احتمال الخلاف ولو من بعض الجهات موجب لقوة الظن بالحكم فالعقل يحكم في زمان الانسداد بعدم جواز التنزل من الظن القوي إلى الظن الضعيف وبعدم جواز العمل على طبق الضعيف بمناط أقربية القوى منه إلى الواقع من الضعيف منه.

وعلى طبيعة الحال : يجب الاقتصار على القوي منه ، ولا يجوز التنزل في صورة انسداد باب العلم والعلمي إلى الضعيف من الظن مع التمكن من القوى منه كما لا يجوز للمجتهد بل للمكلف التنزل من العلم إلى الظن عقلا ، إذ العلم أقرب من الظن إلى الواقع فالاحتمالات الحادثة بسند الرواية ، أو الدلالة ، أو جهة الصدور واجبة الدفع مهما أمكن ، إذ فهم مراد الشارع المقدس من الأخبار والروايات يتوقف على إحراز سند الروايات والأخبار وإحراز دلالتها وإحراز جهة صدورها حتى يحصل

٤٤٣

الظن بالحكم الشرعي حال الانسداد بواسطة دليل الانسداد فكل أمارة قد احرزت فيها جهات الثلاث جهة السند ، وجهة الدلالة ، وجهة الصدور ، تكون حجة في الفقه الشريف سواء انفتح باب العلم وباب العلمي في سائر الموارد أم انسد بابهما فيه ، وإحراز السند عبارة عن كشف الفقيه حال رواتها من حيث الوثاقة والعدالة ومن حيث عدم الوثاقة والعدالة ومن حيث كونها مجهولة الحال ، وإحراز الدلالة عبارة عن كشف الفقيه دلالتها على الحكم الشرعي بالمنطوق ، أو بالمفهوم ، أو بالصراحة ، أو بالظهور ومن حيث السلامة عن المعارض القوي ومن حيث عدم سلامتها عنه ومن حيث سلامتها عن القرينة الدالة على خلاف ظاهرها ومن حيث عدم سلامتها عنها ، وإحراز جهة الصدور عبارة عن إحراز الفقيه المستنبط جهة صدورها لبيان الحكم الواقعي ، أو للتقية.

وبعد اللتيا والتي ، لا يجوز التنزل عقلا في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي ، أو من العلمي وهو الظن الخاص فالمراد من القوي هو العلم ، ومن الضعيف هو الظن ، كما إن المراد من بحكم القوي هو العلمي والظن الخاص ، كما لا يخفى.

أو يكون المراد من الضعيف هو الظن الضعيف ، والمراد من القوي هو الظن القوي والمراد من بحكم القوي هو الظن البرزخ بين القوي وبين الضعيف.

قوله : فتأمل جيدا ...

وهو تدقيقي بقرينة كلمة الجيد وتقييدها بها.

الظن بالفراغ

قوله : فصل إنما الثابت بمقدمات دليل الانسداد في الأحكام ...

ولا ريب في إن الثابت بمقدمات دليل الانسداد في الأحكام حجية الظن في

٤٤٤

الأحكام الشرعية في مقام الاشتغال وفي ثبوت التكليف الواقعي به ولا تثبت بها حجيته في الانتقال انطباق الواقع على المأتي به في الخارج مع حجيته في الأحكام.

وعليه : فيتبع الظن مثلا في وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة ولا يتبع الظن في إتيانها وانطباقها وامتثالها بل لا بد في امتثالها وإتيانها من علم لقاعدة الاشتغال وهي تقتضي الفراغ اليقيني وهو يتحقّق بالعلم بامتثال الأمر ، ومن الواضح أن للعمل بالظن وغيره من الحجج والأمارات والطرق ، مقامين :

أحدهما : مقام الاشتغال.

ثانيهما : مقام الفراغ والامتثال ولا تلازم بين المقامين ، إذ فكم من حجة في الأول لا تكون حجة في الثاني وبالعكس ، ومقدمات الانسداد إذا اقتضت حجية الظن أما حكومة وأما كشفا في المقام الأول فلا يلزم أن يكون الظن حجة في المقام الثاني وحينئذ يكون المرجع في مقام الفراغ والامتثال قواعد أخر كقاعدة الفراغ ، وقاعدة الصحة ، وقاعدة التجاوز مثلا ولا يكفي مجرد الظن في فراغ الذمة وفي امتثال أمر المولى الجليل ، بل لا بد في امتثاله من علم ، كما لا يخفى هذا المطلب على اولي الألباب ، إذ الانسداد إنما يؤثر في الحكم والتكليف ولا يؤثر في الامتثال والفراغ ، بل لا بد في الامتثال من تحصيل العلم واليقين.

توضيح في طي المقامين المذكورين

وهو أن بين المقامين عموما من وجه ، مادة اجتماعهما في الحجة التي تكون حجة اشتغالا وامتثالا ، وتلك كآية الوضوء والتيمم مثلا ، لأنها تدل بالمنطوق على اشتغال ذمة المكلف بهما وعلى وجوب امتثال أمرهما عليه ، أي على المكلف ، ومادة الافتراق عن جانب الاشتغال في الحجة التي تدل على الاشتغال ولا تدل

٤٤٥

على وجوب الامتثال ، وتلك كالحجة التي تدل على وجوب الوضوء والغسل ولا تدل على وجوب امتثال أمرهما إذا صارا ضرريين ، ومادة الافتراق عن جانب الامتثال في الحجة التي تدل على الامتثال فقط ولا تدل على الاشتغال ، وتلك كقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز م مثلا.

ولا بد هنا من ذكر المثال لتوضيح الممثل ، وهو إنه لو ظن المكلف بوجوب الاقامة ، أي اقامة الصلاة ، مثلا بدليل الانسداد ، أول الظهر ثم ظن بالاتيان في الساعة الثالثة بعد الظهر فلا يكون ظنه هذا حجة لأن مقدمات الانسداد لا تدل أصلا على حجية الظن في الامتثال بل لا بد أن يرجع في مقام الامتثال إلى قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز وقاعدة الصحة والاستصحاب مثلا ، بمعنى انا نمتثل في كل يوم وليل أمر المولى ونقيم الصلاة في أوقاتها وفي يوم الخميس مثلا نشك في الاتيان وعدم الاتيان فنستصحب الاتيان لتمامية أركان الاستصحاب وهي عبارة عن اليقين السابق والشك اللاحق.

قوله : نعم ربّما يجري نظير مقدمات الانسداد في الأحكام في بعض الموضوعات ...

نعم ربّما يجري في بعض الموضوعات الخارجية نظير مقدمات الانسداد تجري في الأحكام أي كما تجري مقدمات الانسداد في الأحكام عند الانسدادي فكذا تجري في بعض الموضوعات التي انسد فيها باب العلم غالبا هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : اهتم الشارع المقدس فيه بحيث لا يرضى بمخالفة الواقع فيه أصلا بإجراء الاصول العملية فيه مهما أمكن ونعلم بعدم وجوب الاحتياط شرعا فيه ، أو نحرز عدم إمكان الاحتياط عقلا فيه ، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة مثلا.

وفي ضوء هذا : فيقال بعد انسداد باب العلم في بعض الموضوعات

٤٤٦

الخارجية إنا نعلم باهتمام الشارع المقدس في مراعاة الواقع بنحو لا يرضى باجراء الاصول العملية في كل مورد مورد ونعلم بعدم وجوب الاحتياط فيه شرعا ، أو إنه لا يمكن الاحتياط فيه عقلا لكون الدوران في موارد احتمال الاحتياط من قبيل الدوران بين محذورين الوجوب والحرمة ، إذ على تقدير ثبوت الضرر واقعا بالوضوء أو الغسل يحرم كل واحد منهما وعلى تقدير عدم الضرر فيجب فبضميمة قبح ترجيح المرجوح على الراجح يحكم بوجوب الأخذ بالظن بالوجوب ، أو الحرمة لأن الظن أقرب من الشك ومن الوهم إلى إدراك مصلحة الواقع فيكون الظن فيه حجة كما يكون حجة في الأحكام الشرعية على تقدير الانسداد.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أن خوف فوت الوقت الموجب لسقوط اعتبار بعض ما يعتبر في الصلاة جزء ، وذلك كالسورة مثلا ، أو شرطا كاباحة الستر والمكان مثلا ، يكون من موارد عدم إمكان الاحتياط عقلا.

الظن في اصول الدين

قوله : خاتمة يذكر فيها الأمران استطرادا ...

الاستطراد هو سوق الكلام على وجه يلزم منه كلام آخر وانتقال من ذاك الكلام إلى هذا الكلام ، لمّا انجرّ كلام المصنف قدس‌سره إلى حجية الظن في الأحكام الفرعية التي يكون المقصود فيها العمل بالجوارح إذا انسد فيها باب العلم والعلمي فانتقل من ذاك الكلام إلى حجية الظن في اصول الدين وفي الاصول الاعتقادية المقصود فيها هو العمل بالجوانح أي المطلوب فيها هو الاعتقاد قلبا ، وعقد القلب على الأصل الاعتقادي وتحمله والانقياد له ، وإعراب كلمة الخاتمة كاعراب كلمة التنبيه ، وقد سبق إعرابها هل الظن حجة فيها ، أو لا ، الظاهر انه لا يكون حجة في

٤٤٧

الاصول الاعتقادية من التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد فإن الأمر الاعتقادي وإن انسد باب القطع فيه تفصيلا ، ولكن باب الاعتقاد الاجمالي بما هو واقعه والانقياد له بواقعه وتحمله على ما هو عليه غير منسد لنا إما بخلاف العمل بالأعضاء والجوارح فإنه لا يكاد يعلم مطابقة العمل مع ما هو واقعه إلّا من جهة الاحتياط الذي فرض عدم وجوبه علينا شرعا ، أو فرض عدم إمكانه عقلا.

والحال : إنه لا طريق أقرب إلى الواقع من الظن ومن العمل على وفق الظن فيتعين الاتباع عن الظن حينئذ ولكن لا يصح هذا الحكم في الاصول الاعتقادية.

والخلاصة : مع انسداد باب العلم والقطع في الاعتقاديات فليس الموجب بموجود على إتيان عمل الجوانحي على طبق الظن مع إمكان ترتيب أعمال الجوانحية على ما هو الواقع فيها بحسب الاعتقاد الاجمالي على ما هي عليه كما اعتقدنا إجمالا بالحشر والنشر والسؤال في القبر مثلا على ما هي عليه واقعا.

وعليه : فلا يتحمل في الامور الاعتقادية أمر غير الواقع ولا يجوز الانقياد بغير الواقع فيها وإن كان غير الواقع مظنونا راجحا عند المكلف ، أما بخلاف العمليات فإنه لا محيص عن العمل على طبق الظن فيها بعد فرض انسداد باب العلم والعلمي والظن الخاص الحاصل من الدليل الخاص غير دليل الانسداد في العمليات والأعمال الجوارحية.

والسر في هذا الأمر المهم واضح ، إذ الاعتقاد الاجمالي في الاعتقادات كاف بإجماع العلماء رضي الله عنهم ، أما في العمليات فالمقصود فيها هو العمل بالجوارح فإذا انسد باب العلم والعلمي فيها فلا جرم من العمل على طبق الظن بمناط أقربيته إلى الواقع وإلى إدراك مصلحته من الشك والوهم.

فالنتيجة : لا تقاس الامور الاعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح بالفروع العملية المطلوب فيها عمل الجوارح فإن الفروع العملية إذا انسد باب العلم فيها فلا

٤٤٨

يمكن العلم بمطابقة عمل الجوارح مع الواقع إلّا بالاحتياط التام في الشبهات الحكمية والموضوعية وهو إما يوجب العسر والحرج فلا يجب حينئذ شرعا وإما يوجب الاخلال بالنظام فيحرم حينئذ عقلا.

إما بخلاف الامور الاعتقادية فإنها إذا انسد باب العلم فيها فيمكن العلم بمطابقة عمل الجوانح مع الواقع بالاعتقاد الاجمالي بما هو واقعها وعقد القلب عليها من دون لزوم عسر وحرج والاخلال بالنظام ، إذ هو خفيف المئونة لا يوجب الاعتقاد الاجمالي العسر والاخلال وبالجملة إن الاحتياط في الفروع العملية بعد انسداد باب العلم بها موجب للعسر ، أو الاخلال فنتنزل فيها إلى العمل بالظن وأما الاحتياط في الامور الاعتقادية خفيف المئونة فلا موجب للتنزل فيها إلى العمل بالظن.

وجوب المعرفة

قوله : نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات ...

وقد علم من العبارة السابقة كفاية الاعتقاد الاجمالي بما هو واقعه في الاصول الاعتقادية بلا دخالة العلم فيها.

وعليه : فإذا انسد باب العلم بها فعلى طبق القاعدة العقلية لا بد أن يعمل فيها بطريق أقرب إلى الواقع بعد العلم وهو عبارة عن الظن الراجح ولكن لا نقول في الاعتقاديات بهذه المقالة بل نقول فيها بلزوم مراعات الواقع على ما هو عليه ولا يتوهم عدم دخالة العلم التفصيلي في الاعتقاديات كلا ، إذ هي على نحوين :

الأوّل : كفاية الاعتقاد الاجمالي بما هي واقعة وبما هي عليه كالاعتقاد الاجمالي بعالم الحشر والنشر والبرزخ وسؤال القبر مثلا.

الثاني : يجب تحصيل العلم التفصيلي فيها وذلك كوجوب معرفة المبدأ تبارك

٤٤٩

وتعالى ، وكوجوب معرفة صفاته الثبوتية والسلبية ، إذ معرفة الصانع الحكيم واجب نفسي أداء لشكر بعض نعمائه الظاهرة وآلائه الباطنة فالله تعالى منعم حقيقي فشكره واجب عقلا ، إذ في ترك الشكر احتمال ضرر ودفع الضرر المحتمل واجب بحكم العقل وهو لا يدفع إلّا بشكره في مقابل بعض نعمائه لا في مقابل كل نعمائه لأنها لا تعد ولا تحصى فالشكر في مقابل جميع نعمائه لا يمكن أصلا لأحد من البشر المحدود.

ولهذا قال المصنف قدس‌سره أداء لشكر بعض نعمائه ، وكذا يجب معرفة أنبيائه العظام عليهم‌السلام إجمالا لأنهم وسائط بين الخالق المنعم والمخلوق المنعم عليه في نعمه الظاهرة ؛ وآلائه الباطنة فالعقل كما يحكم بوجوب معرفة المنعم فكذا يحكم بوجوب معرفة الواسطة في الفيض من ناحية الفياض المطلق بل وكذا يجب معرفة الامام المفترض طاعته علينا عليه‌السلام على وجه صحيح أي لكونه منصوبا من قبل الله تعالى جلّ جلاله كالنبي عليه‌السلام ، فإذا كان منصوبا من قبله عزّ اسمه ، ومنصوصا من ناحيته جلّ وعلا ، كان واسطة في الفيض والنعمة ويجب معرفته وجوبا نفسيا فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي وبوجوب معرفة وصي النبي المكرم عليهما‌السلام أداء لشكر بعض نعمائه وآلائه وأداء لشكر وسائطه جلّ وعلا في النعم هذا ، أولا.

وثانيا لاحتمال الضرر في ترك معرفتهما ودفع الضرر المحتمل فضلا عن المقطوع والمظنون واجب عقلا وهو لا يدفع إلّا به أي المعرفة ، ولكن لا يجب عقلا معرفة غير من ذكر سابقا من معرفة واجب الوجود ومن معرفة صفات ثبوتية ذات الباري عزّ اسمه ، وصفات سلبية واجب الوجود جلّ جلاله ، ومن معرفة أنبياء العظام عليهم‌السلام ، ومن معرفة ، أوصياء الكرام عليهم‌السلام لا سيما يعسوب الدين ومولى الكونين أمير المؤمنين علي وأولاده الأحد عشر عليهم صلوات الله الملك العلام ، وكذا لا يجب علينا معرفة الامام عليه‌السلام على وجه آخر قال به العامة وهو عبارة عن

٤٥٠

عدم كون الامامة منصبا إلهيا كالنبوة بل تكون من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين أي يجب على الرعية نصب الامام لحفظ النظام وقطع اللجاج ورفع الخصوصة ، وهذه الامور واجبة قطعا شرعا ، فنصب الامام واجب شرعا لأنه مما يتم الواجب به وكل ما يتم الواجب به واجب.

فنصب الامام وتعيينه على الرعية واجب شرعا فوجود الامام على هذا المبنى ليس بواسطة الفيض والنعم كي تجب معرفته عقلا ، أو كمعرفة أمر آخر مما دل الشرع الأقدس ، على وجوب معرفته وذلك كمعرفة المعاد الجسماني ولم يحكم العقل بوجوب معرفة المعاد المذكور لعدم وجود مناط الحكم العقلي ، وهو شكر المنعم ، أو شكر واسطة الانعام فيه ، كي يجب تحصيل العلم والقطع به وكذا لا يصح الحكم بوجوب العلم فيه بملاك دفع الضرر المحتمل أيضا لأنه مربوط بالايمان والعمل الصالح والقلب السليم وليس بمربوط بالعلم والقطع نعم مقتضى كون المعاد من ضروريات الدين هو وجوب العلم واليقين به شرعا ، كما لا يخفى ، فمعرفة الامام على مبنى العامة واجب شرعا فقط مثل معرفة المعاد إذ هو واجب شرعا.

وكل ما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص لا من العقل ولا من الشرع الأقدس لكانت أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة قطعا لكون الشك في أصل وجوب معرفته وهو يكون مورد الشك في التكليف وهو مجرى البراءة بالاجماع وذلك كمعرفة كون علمه تعالى محيطا بالجزئيات والكليات ، أو بالكليات فقط وكمعرفة الفرق بين صفات ذاتية الباري عزّ اسمه ، وبين صفات فعلية الصانع الحكيم جلت قدرته ، وكمعرفة تعلق قدرته عظمت قدرته ، بالمحالات العقلية أم لا فلا يجب معرفة هذه الامور لا عقلا ولا شرعا.

٤٥١

قوله : ولا دلالة ...

لمثل قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(١) ولا لقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات ألا ترى إن العبد الصالح عيسى بن مريم عليه‌السلام قال : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٢).

ولا دلالة أيضا لما دلّ على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات الشريفة ، والروايات المباركة على وجوب معرفة غير المذكورات من معرفة الله تعالى والأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، وذلك كمعرفة خصوصيات العالم البرزخ وكمعرفة خصوصيات القبر من حيث السعة والضيق ومن حيث النور والظلمة ومن حيث كونه إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران وو.

ومن الآيات التي تدل على وجوب التفقه قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٣). ومن الروايات التي تدل على وجوب العلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة وهو مشهور بين الفريقين الخاصة والعامة فتدل الآيات والروايات بعمومها ، أو باطلاقها على وجوب معرفة غير المذكورات من الأصل الاعتقادي الآخر.

ولكن قال المصنف قدس‌سره لا دلالة لمثل قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَ) الآية ضرورة إن المراد من جملة ليعبدون هو خصوص عبادة الله تعالى بل خصوص معرفة الباري عزّ اسمه ، إذ فسرت كلمة ليعبدون بمعنى ليعرفون ، إذ العبادة فرع المعرفة أي ليعرفوني وحذف الياء المتكلم لدلالة كسر النون الوقاية عليها.

__________________

١ ـ سورة الذاريات : ٥٦.

٢ ـ وسائل ج ٣ باب ١٠ ح ١ ص ٢٥.

٣ ـ سورة التوبة آية ١٢٢.

٤٥٢

وعليه : فالمطلوب معرفة خصوص الباري جلّ جلاله ، لا معرفة مطلق الأصل الاعتقادي ، فلا عموم موجود في الآية الشريفة ، ولا إطلاق فيها كي تشمل مطلق الأصل الاعتقادي وحتى يجب معرفة عموم الأصل الاعتقادي غير معرفة المبدأ. والحديث الشريف يكون في مقام بيان فضيلة الصلوات الخمس وليس لاظهار وجوب المعرفة أصلا فلا يكون فيه إطلاق بحذف المتعلق بل يكون بعنوان القضية المهملة وهي عبارة عن القضية التي لم تتعرض فيها كميّة الموضوع ، مثل مساجد هذا البلد معمورة.

وأما مثل آية النفر : فهو يكون بصدد بيان الطريق الذي وصل المكلف به إلى التفقه الواجب وهذا الطريق عبارة عن النفر والهجرة إلى بلاد العلم لفقاهة ولا يكون بصدد بيان الأشياء التي يجب فيها العلم والتفقه كي يشمل بإطلاقه عموم الأصل الاعتقادي وأما الأحاديث التي تكون في مقام طلب العلم فهي إنما تكون في مقام تحريض المكلفين على طلب العلم والفقاهة ولا تكون في صدد بيان الأشياء التي يجب فيها العلم والمعرفة والفقاهة كي تشمل بعمومها ، أو بإطلاقها جميع الاصول الاعتقادية من معرفة المبدأ ومن معرفة صفاته الكمالية الجمالية الثبوتية منها والجمالية السلبية منها ومن معرفة خصوصياتها الذاتية منها والفعلية منها ومن معرفة الفرق بين الصفات الذاتية وبين الصفات الفعلية واجب الوجود جلّ وعلا وتقدست أسمائه ، ومن معرفة خصوصيات البرزخ والسؤال والصراط و ...

ومن معرفة النبوة ومن معرفة عدد الأنبياء العظام تفصيلا ومن معرفة الفرق بين النبي وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن معرفة المعاد أهو جسماني ، أو هو روحاني ومن معرفة صفات الامام تفصيلا كل ذلك ليس بواجب علينا بل يكفينا الاعتقاد الاجمالي بكل هذه الامور العالية ، ويجب العلم الاجمالي واليقين الاجمالي بها أي بالاصول الاعتقادية.

٤٥٣

ولا بأس للتعرض كيفية الاستدلال لوجوب المعرفة بعموم الأصل الاعتقادي بالآية الشريفة وما خلقت الجن والانس إلّا ليعبدون (١) أي ليعرفون فإذا كان المقصود من خلقة الجن والانس هو المعرفة.

ومن الواضح : إن تحصيل المعرفة واجب عليهما وإلّا يكون خلقتهما لغوا ، وهو محال لا يصدر من الخالق المتعال.

فإن قيل : يحتمل أن تكون الآية الشريفة لبيان معرفة خصوص الواجب الوجود جلّت عظمته ، لا لبيان معرفة عموم الاصول الاعتقادية فيكون الدليل أخص من المدعى.

قلنا إن متعلق المعرفة مقدر ومحذوف وحذفه دليل على عموم المتعلق فالآية الشريفة تدل على تعميم وجوب المعرفة ولكن الانصاف إن هذا الجواب مردود لكون نونها وقاية ولهذا تكون مكسورة ونون الجمع محذوف لأجل اجتماع النونين في الجملة الواحدة وهذا مستكره في كلام العرب ، وياء المتكلم محذوفة لدلالة كسرة ما قبلها عليها أي ليعرفوني فهي تدل على وجوب معرفة خصوص الباري تعالى ، فلا عموم فيها ولا إطلاق فيها ، كي تشمل جميع الاصول الاعتقادية.

فإن قيل : لم جيء بنون الوقاية في الكلام.

قلنا : جيء بها لأجل ياء المتكلم ، كما قال صاحب الألفية :

وقيل ياء النفس مع الفعل التزم

نون وقاية وليسي قد نظم

سمّيت وقاية لأجل وقاية لآخر الفعل من الكسرة ، فجواب المصنف قدس‌سره عن الآية الشريفة متين إنصافا ، وكيفية الاستدلال بالحديث الشريف ، وهي إن ذكر الصلوات الخمس بعد ذكر المعرفة دليل على أفضلية معرفتها بعد معرفة الاصول الاعتقادية.

__________________

١ ـ سورة الذاريات آية ٥٦.

٤٥٤

والحال : أن متعلق المعرفة محذوف ، وحذفه دليل على التعميم ، وكذا الروايات تدل على تعميم وجوب المعرفة لأجل عدم ذكر متعلق المعرفة فيها ، الجواب هو جواب المصنف قدس‌سره عن الاستدلال بالحديث الشريف ، وبالروايات المباركة ، فلا حاجة إلى الاعادة.

قوله : ثم إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته ...

قال المصنف قدس‌سره في كل مورد تجب فيه المعرفة عقلا ، أو شرعا لا يجوز الاكتفاء فيه بالظن وإن كان قويا ، إذ من المسلّم أن الظن لا يسمى عند العقلاء معرفة فلهذا يقال إذا فرضنا وجوب المعرفة عقلا ، أو شرعا فلا جرم يجب على المكلف تحصيل المعرفة حتى الامكان ومع العجر عن تحصيل العلم والمعرفة كان معذورا بشرط أن يكون العجز عنه مستندا إلى القصور سواء كان ناشئا عن عدم المقتضى ، وذلك كقلة استعداد المكلف وغباوته وغموض المطالب والمسائل مع قلة الاستعداد أم كان ناشئا عن وجود المانع نحو غفلة المكلف عن وجوب تحصيل العلم والمعرفة وعدم التفاته إليه وقلة الاستعداد مشاهدة في كثير من النسوان بل الرجال سيما النساء والرجال بعيدتان عن الحوزة العلمية وعن مركز العلوم الاسلامية.

أما بخلاف ما إذا كان العجز عن تحصيل العلم والمعرفة مستندا إلى التقصير في الاجتهاد وإن كان التقصير ثابتا للمكلف لأجل حب طريقة الآباء والأجداد وهو يتبع غالبا سيرة آبائه وطريقة أجداده لأجل كون التبعية عن سيرتهم أمرا جبليا فطريا للاخلاف والأبناء وربما تخلف عن سيرتهم فلا يكون حينئذ معذورا لأجل التقصير ، كما لا يخفى وإن كان يتوهم كون تلك الطريقة مطابقا للواقع.

قوله : والمراد من المجاهدة في قوله تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(١) الآية ....

وزعم المتوهم كيف يمكن أن يكون العجز عن تحصيل العلم والمعرفة

__________________

١ ـ سورة العنكبوت ، آية ٦٩.

٤٥٥

معلولا عن قصور ومسببا عنه ، والحال إن الله تعالى قال في كتابه المجيد : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(١) فكل من جاهد واجتهد ونظر في تحصيل العلم والمعرفة لوصل إليه ، أي إلى الواقع ، بسبب الهداية من قبل الله سبحانه إلى الواقع وإلى الصراط الحق بل إلى سبيل معرفة الله تعالى ومعرفة مرضاته وقرباته ، فكل من لم يصل إلى العلم بالواقعيات فهذا من تقصيره في الاجتهاد والنظر وليس عدم الوصول إلى الواقع معلولا عن قصور الشخص بسبب قلة الاستعداد وغموضة المطلب والمسألة.

فالنتيجة : ليس الجاهل القاصر بموجود في العالم بل كل الجهال مقصّرون لتقصيره عن تحصيل المعرفة بالحقائق أجاب المصنف قدس‌سره عنه بأن الآية الشريفة لا تكون بصدد بيان إثبات هذا المدعى لأن المقصود منها هو المجاهدة مع النفس الأمّارة ، وهو يتحقق بتحليتها بالفضائل والفواضل وبتخليتها عن الرذائل وعن الصفات الذميمة ، وهو يسمى في لسان الأخبار بالجهاد الأكبر فالجهاد مع المشركين والكفار يسمى بالجهاد الأصغر وليس المراد منه هو الاجتهاد والنظر في الحقائق والمطالب التي تكون الاصول الاعتقادية منها.

ويدل على هذا المطلب إنه لو كان المراد منه هو الاجتهاد في المسائل للزم إصابة الاجتهاد بالواقع دائما بمقتضى الآية الشريفة وبحسب وعد الله تعالى في كلامه المبارك لكن مع تخلف الاجتهاد والنظر عن الواقعيات كثيرا ، وهذا أدل دليل على أن المراد من المجاهدة في الآية الشريفة هو المجاهدة مع النفس لا الاجتهاد في المطالب العلمية فالنظر والاجتهاد يؤديان إلى الجهالة والضلالة لأنا لا نقول بالتصويب إلّا إذا كانت من ناحية الخالق الرحيم عناية خاصة تشمله فحينئذ يصل إلى الواقع ويدركه.

__________________

١ ـ سورة العنكبوت آية ٦٩.

٤٥٦

فإن قيل : لم يؤدي الاجتهاد والنظر إلى الجهالة تارة إذا لم يدرك الواقع أصلا وإلى الضلالة اخرى إذا أدرك خلاف الواقع وإلى الهداية ثالثة إذا أدرك الواقع على ما هو عليه ، قلنا لأن المجتهد غالبا يكون بصدد إثبات ما وجد آبائه عليه بأنه الحق المطابق للواقع وليس ثابتا بصدد الحق كي لا يؤدي اجتهاده إلى الجهالة تارة وإلى الضلالة اخرى ، إذ من الممكن أن لا يدرك آبائه الواقع أو يدركوا خلافه.

وفي ضوء هذا : فيكون الناظر مقصرا في اجتهاده ونظره ومؤاخذا إذا أخطأ في اجتهاده على قطعه لكونه جهلا مركبا.

توضيح ذلك : إن القطع اما يكون مطابقا للواقع وإما يكون مخالفا له.

فعلى الأول : يسمى القطع يقينا ، وعلى الثاني : يسمى جهلا مركبا ، هذا معيار الفرق بين اليقين والجهل المركب ، فبالنتيجة مؤاخذته على عدم إصابة الواقع بسبب تقصيره في طلب الحق والواقع مما لا إشكال فيه.

الظن في الامور الاعتقادية

قوله : ثم لا استقلال للعقل لوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم ...

زعم المتوهم وجوب تحصيل الظن في الاصول الاعتقادية مع اليأس عن تحصيل العلم فيما يجب فيه تحصيله عقلا مهما أمكن العلم ، وذلك كالمعاد الجسماني مثلا ، بمناط كون الظن أقرب إلى الواقع من الشك والوهم فهو كالعلم من ناحية المناط.

أما المصنف فقال في الموارد التي يجب فيها تحصيل العلم عقلا في صورة الامكان فإذا عجز المكلف عن تحصيله فالعقل لا يحكم بتحصيل الظن في الاصول الاعتقادية لو لم نقل باستقلال العقل بعدم وجوب تحصيل الظن بل يحكم العقل

٤٥٧

حينئذ بعدم جواز تحصيل الظن بحرمة الاعتقاد على طبق الظن ، إذ قد سبق مفصلا إنه إذا انسد علينا باب العلم والقطع في اصول الدين فيمكن لنا الاعتقاد الاجمالي فيها بما هو واقع الأمر وهو يكفينا ، إذ اعتقاد كثير من المسلمين يكون إجمالا لا سيما المعاد والنبوة والامامة ، ومن أجل هذا اختلف المسلمون في كيفية المعاد ، قال أكثرهم بانه جسماني وقال بعضهم بانه روحاني ، وكذا اختلفوا في عدد الأنبياء قال أكثرهم بانه مائة وعشرون وأربع نبيا ، وكذا اختلف الشيعة في عدد الأئمّة عليهم‌السلام.

نعم : وجود المبدأ جلّ وعلا فطري كل البشر سواء كان مسلما أم كان كافرا وكذا توحيده عزّ اسمه.

وعليه : فلا التجاء ولا اضطرار في الاصول الاعتقادية في التنزل إلى الظن مع اليأس عن تحصيل العلم في الاصول الاعتقادية التي انسد فيها باب العلم ، أما بخلاف الفروع العملية فإنه يجوز التنزل فيها إلى الظن في الفروع التي انسد فيها باب العلم ، كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى إنه قد سبق في مبحث القطع إن الأمارات لا تقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية فلا بد من تحصيل العلم والمعرفة مع الامكان ومع العجز عنه لا إشكال في إنه غير مكلف بتحصيل العلم ، إذ العقل مستقل بقبح التكليف بغير المقدور كما إنه لا إشكال في كونه غير معذور ومستحقا للعقاب إذا كان عجزه عن تحصيل العلم والمعرفة عن تقصير منه المعبر عنه بالجاهل المقصر إذ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار بالنسبة إلى استحقاق العقاب ، وإن كان ينافيه بالنسبة إلى التكليف ، كما قرر في محله ، وهو علم الكلام ، وهذا واضح.

إنما الكلام فيما إذا كان عجزه عن تحصيل العلم والمعرفة عن قصور للغفلة أو لغموض المطالب مع قلة الاستعداد والذكاوة كما هو المشاهد في كثير من النساء بل في غالب الرجال ويعبر عن هذا بالجاهل القاصر وكذلك لا دلالة من النقل على

٤٥٨

وجوب تحصيل الظن فيما يجب معرفته مع الامكان شرعا إذا عجز المكلف عن تحصيل العلم والمعرفة ، بل الأدلة الدالة على النهي عن اتباع الظن من الآيات والروايات الناهيتين عنه تدل على عدم جواز تحصيل الظن في الأصل الاعتقادي إذا انسد فيه باب العلم ، إذ من الممكن أن يعتقد المكلف بما هو واقعه بقوله إني أعتقد بما هو ثابت في الواقع.

وهذا الاعتقاد الاجمالي يكفينا قطعا لتعذر الاعتقاد التفصيلي ، ولتعذر قيام البرهان العقلي مثل إقامة برهان التمانع وبرهان الفرجة مثلا على توحيد الباري جلّ جلاله ، وكإثبات وجود الواجب الوجود من طريق بطلان الدور ، أو التسلسل ومن استحالتهما عقلا لكثير من الأشخاص والمسلمين والمسلمات ، كما لا يخفى.

قوله : وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا إن القاصر يكون ...

والكلام فيه يقع في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في وجود الجاهل القاصر وعدمه.

المقام الثاني : في ترتب أحكام الكفر عليه كالنجاسة والمنع من الارث والتناكح وغيرها من الأحكام الفرعية التي تترتب على الكفر.

المقام الثالث : في استحقاقه العقاب في الآخرة وعدمه.

أما المقام الأول : فحق القول فيه إنه لا يوجد الجاهل القاصر بالنسبة إلى وجود الصانع تعالى ذكره ، إذ كل إنسان ذي شعور وعقل وإن كان في غاية قلة الاستعداد يدرك وجوده تعالى ويدرك نفسه ويدرك إنه حادث مسبوق بالعدم ويدرك إنه ليس بخالق نفسه بل له خالق غيره كما قال الله سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... لَيَقُولُنَّ اللهُ)(١).

وكذا الحال بالنسبة إلى توحيده فإن كل إنسان ذي شعور وعقل يدرك إن له

__________________

١ ـ سورة العنكبوت ، آية ٦١.

٤٥٩

صانعا ويدرك بحسب ارتكازه الفطري إن الخالق جلّ ذكره واحد أحد صمد فرد لا شريك له ولا وزير له ولا ند له ولا ضد له.

نعم الجاهل القاصر بالنسبة إلى النبوة الخاصة والامامة والمعاد الجسماني في غاية الكثرة فإن نسوان اليهود والنصارى قاصرات من حيث الفكر والتفكر عن تحصيل مقدمات التصديق بالنبوة الخاصة ، وكذا نسوان المخالفين قاصرات بالنسبة إلى الامامة ، وكذا بعض الرجال بالنسبة إلى المعاد الجسماني.

وأما المقام الثاني : فالصحيح فيه جريان أحكام الكفر على الجاهل القاصر بالاصول الاعتقادية وإن كان جهله عن قصور لاطلاقات الأدلة الدالة على ترتب أحكام الكفر عليه ، مثلا إذا قلنا بنجاسة أهل الكتاب كاليهود ، والنصارى مثلا فلا فرق بين أن يكون جهلهم عن تقصير ، وأن يكون جهلهم عن قصور.

وأما المقام الثالث : فالمعروف بين الأعلام رضي الله عنهم ، إن الجاهل القاصر غير مستحق للعقاب ، إذ العقل يحكم مستقلا بقبح العقاب على أمر غير مقدور إذ عقابه عليه من ، أوضح مصاديق الظلم وهو قبيح عقلا فالجاهل القاصر غير معاقب على عدم معرفة الحق والحقيقة بحكم العقل إذا لم يكن يعاند الحق بل كان منقادا له على إجماله إذا احتمل الحق كما إن الحق وجود الجاهل القاصر بالاصول الاعتقادية فلا يصغى إلى القول بعدم وجود الجاهل القاصر في الاعتقادات لأن الوجدان أدل دليل على وجوده في النبوة الخاصة والامامة والمعاد الجسماني وعالم البرزخ ، واستدل من قال بعدم وجوده فيها بالآية الشريفة ، وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) الآية أي المجتهد والمجاهد في الحقائق لوصل إلى الواقع ولهدي إلى سبيل الله تعالى ، وهو عبارة عن الواقع ، الجواب هو جواب المصنف قدس‌سره عنه ، وهو قد سبق.

هذا بعض الكلام مما يناسب المقام ، إذ تمام الكلام في وجود الجاهل القاصر

٤٦٠