البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

الاجماع المحصل الذي يكشف قطعا عن رضاء المعصوم عليه‌السلام وكالدليل العلمي ، لكان خصوص موارد الاصول النافية في المظنونات والموهومات والمشكوكات محلا للاحتياط عقلا وشرعا.

أما عقلا فللعلم الاجمالي بالتكاليف.

وأما شرعا فللاجماع وللعلم باهتمام الشارع المقدّس بالتكاليف والقوانين بشرط أن لا يختل بالنظام وبشرط أن لا يوجب العسر والحرج فإذا ، أوجب الاحتياط التام في موارد الاصول النافية الاختلال بالنظام ، أو العسر والحرج فقد وجب الاحتياط بالمقدار الذي لا يوجب أحدهما فمحل احتياط الكلي ، أو الجزئي الذي يسمى في الاصطلاح بتبعيض الاحتياط هو موارد الاصول النافية وليس محله بمحتمل التكليف مطلقا أي سواء كان موارد الاصول المثبتة أم كان موارد الاصول النافية ، إذ قد عرفت سابقا عدم المانع عن إجراء الاصول المثبتة في أطراف العلم الاجمالي ، فتحصل مما ذكرناه إنه إذا انحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي ففي طرف يجري فيه الأصل المثبت فيحصل العلم التفصيلي التعبدي بالتكليف فيه وفي طرف لا يجري فيه الأصل المذكور فيتحقق الشك البدوي بالتكليف فيه ، وذلك كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة عصر الغيبة ، وكأصالة البراءة عن وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة بعد استصحاب وجوب صلاة الجمعة.

وإذا لم ينحل العلم الاجمالي بالتكاليف فالاحتياط واجب في أطرافه كلا إذا لم يوجب الاختلال بالنظام ، أو العسر والحرج وإلّا وجب بعضا ، والاصول النافية للتكليف عبارة عن أصالة البراءة واستصحاب عدم التكليف مثلا ، وكأصالة البراءة عن وجوب السورة ، أو كاستصحاب عدم وجوبها ، إذ قبل البلوغ لم تكن واجبة على المكلف قطعا وبعد البلوغ شك في وجوبها عليه فيستصحب عدم وجوبها بعده ليقين السابق والشك اللاحق فأركانه تامة ، في هذا المقام.

٣٦١

قوله ولو من مظنونات عدم التكليف ...

أي الاحتياط واجب في موهومات التكليف فالظن بعدم التكليف والوهم بالتكليف يكونان محلين للاحتياط.

وعليه : فإذا ظن المجتهد بعدم وجوب الاقامة فلا مناص من الاحتياط الذي يتحقق باتيانها وإن كان وجوبها موهوما وعدم وجوبها مظنونا كما عرفت كيفية الاحتياط في موارد جريان الاصول المثبتة للتكاليف.

قوله : لا محتملات التكليف ...

أي لا يجب الاحتياط لا عقلا ولا شرعا في جميع محتملات التكليف سواء كان موارد الاصول المثبتة للتكليف أم كان موارد الاصول النافية للتكاليف ، وقد سبق هذا ، ويكون الغرض من توضيح المطلب التكرار بمقتضى القاعدة المعروفة ، وهي كلما كرّر قرّر.

قوله : وأما الرجوع إلى فتوى العالم ...

لمّا فرغ المصنف قدس‌سره عن بيان الأمرين وهما عدم وجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إذا انحل ، وعدم جواز الرجوع إلى الأصل العملي في المسألة أخذ في بيان الأمر الثالث الذي قد ذكر سابقا في طي المقدمة الرابعة وهو عدم جواز رجوع المجتهد الانسدادي إلى المجتهد الانفتاحي وعدم جواز تقليده عنه ، ضرورة إن التقليد لا يجوز إلّا للجاهل فقط والمجتهد الانسدادي ليس بجاهل لأنه عالم بانسداد باب العلم والعلمي في الأحكام الفرعية وهو فاضل عالم بزعمه وهو يزعم إن الانفتاحي جاهل فلا تشمله أدلة جواز التقليد.

وفي ضوء هذا : فلا يكون رجوعه إليه إلّا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل وهو قبيح عقلا لأنه مستلزم لترجيح المرجوح على الراجح ولتفضيل المفضول على الفاضل.

٣٦٢

فالمصنف قدس‌سره سلّم من المقدّمة الرابعة هذا الأمر الثالث فقط ، هذا ، مضافا إلى دعوى الاجماع القطعي على عدم جواز تقليد الانسدادي من الانفتاحي لأنه مجتهد سيما إذا يرى الانسدادي خطأ الانفتاحي وغلطه ، كما هو الأمر كذلك.

المقدمة الخامسة :

قوله : وأما المقدمة الخامسة فلاستقلال العقل بها وأنه لا يجوز التنزل ...

وليعلم أن مراتب الاطاعة أربع :

الاولى : الاطاعة العلمية التفصيلية ولكن هي مفقودة في المقام لأن المفروض انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية.

الثانية : الاطاعة العلمية الاجمالية التي يعبر عنها بالاحتياط وفقدانها واضح في هذا المقام ، إذ المفروض عدم إمكانه ، أو عدم وجوبه ، كما سبق هذا.

الثالثة : الاطاعة الظنية.

الرابعة : الاطاعة الشكية ، أو الوهمية.

ولا بد هنا من بيان أمرين :

الأوّل : بيان أحكامها ولوازمها فيقال : إن حكم الاولى : هو علم المكلف باتيان المأمور به وبامتثال أمر المولى ، وحكم الثانية : هو حفظ الواقع على ما هو عليه ودركه ، إذ ملاك حسن الاحتياط عقلا هو حفظ الواقع ودركه على ما هو عليه ، وحكم الثالثة : هو ظن المكلف باتيان المكلف به وليس له العلم باتيانه وبامتثال أمر المولى. وحكم الرابعة : هو عدم حصول العلم ، أو الظن بامتثال الأمر وباتيان المأمور به ، هذا بيان الأمر الأول.

الثاني : بيان أمثلة الكل.

أما مثال الاولى : فكما إذا أمر المولى عبده باكرام زيد العالم الهاشمي بقوله :

٣٦٣

اكرم زيدا العالم الهاشمي ، فالعبد أكرمه فقد تحقق الامتثال بشرط أن يكون زيد المذكور منحصرا بفرد معين.

وأما مثال الثانية : فكما إذا أمره باعطاء الدرهم لزيد الهاشمي وهو يتردد بين الأشخاص فيجب الاحتياط على المكلف بحكم العقل وهو يحصل باعطائه لجميعها كي يحصل له العلم بفراغ الذمة بعد العلم باشتغالها.

وأما مثال الثالثة : فكما إذا أتى المكلف صلاة الظهر ، أو صلاة الجمعة في يومها إذا دار الأمر بينهما فيه.

وأما مثال الرابعة : فكما إذا أتى المكلف بما يشك كون المأتي به مكلفا به وبما يوهم كونه مأمورا به كما إذا حصل له الظن بوجوب صلاة الجمعة في يومها فيحصل له الوهم بوجوب صلاة الظهر قهرا ولكن أتى بها ، هذا مثال الوهم ، أو حصل له الشك بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة وهو أتى بها.

ومن الواضح بعد فقدان الأوليين تصل النوبة إلى المرتبة الثالثة ، دون المرتبة الرابعة ، لمرجوحيتها بالنسبة إليها ، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح واضح وجدانا.

فالاطاعة الظنية مسلّمة في صورة عدم التمكن من الاطاعة العلمية ، إذ لو جاز التنزل إلى المرتبة الرابعة مع التمكن من المرتبة الثالثة للزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وقبحه معلوم.

وعليه : لا يجوز التنزل عن السابق إلى اللاحق كالتنزل من الاطاعة العلمية التفصيلية إلى الاطاعة العلمية الاجمالية ، ومنها إلى الاطاعة الظنية ، ومنها إلى الشكية ، ومنها إلى الوهمية ، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح عقلا.

قوله : لكنك عرفت عدم وصول النوبة إلى الاطاعة الاحتمالية ...

لكن إذا لاحظت الاشكال الذي ، أورد على المقدمة الاولى ، وهو عبارة عن

٣٦٤

انحلال العلم الاجمالي الكبير بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة المقدسة بعلم الاجمالي الصغير بخصوص الأحكام التي هي موجودة في الكتب المعتبرة عند علماء الشيعة رحمهم‌الله.

وعليه : فيكون مقتضاه هو الاحتياط والعمل بالتكاليف التي هي ثابتة في الكتب المعتمدة فلا تصل النوبة بالعمل بالاطاعة الاحتمالية والظنية والشكية والوهمية حتى يقال إن الأمر دائر بين الاطاعة الظنية والاطاعة الشكية والاطاعة الوهمية فالاولى راجحة والثانيتان مرجوحتان فترجح عليهما لأجل قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

فإن قيل : إن الاحتياط بالعمل بالأحكام التي هي كائنة فيها مستلزم للعسر والحرج ، أو مستلزم لاختلال نظام المعاش.

وعليه : فيكون هذا الاحتياط فاسدا فلا محيص عن العمل بالظن المطلق قلنا إن هذا الاحتياط غير مستلزم للعسر والحرج فضلا عن استلزامه لاختلال النظام فالمصنف قدس‌سره استدرك بقوله لكنك عن تسليم المقدمة الخامسة بحكم العقل بل إذا لاحظت الاشكال الذي ، أوردناه على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الاصول العملية سواء كانت مثبتة للتكاليف كالاحتياط والاستصحاب المثبت للتكليف كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة ، وكاستصحاب بقاء حياة زيد وهو يثبت وجوب الانفاق على زوجته من ماله وكذا ينفق منه على ، أولاده مع إعسارهم أم كانت نافية لها كالبراءة العقلية والنقلية وكالاستصحاب النافي له مثل استصحاب عدم وجوب الجهاد مع الكفار على النسوان ، إذ لم يكن واجبا عليهن في صدر الاسلام وفي عصر الشارع المقدّس لوجود المقتضى لجواز الرجوع إليها وفقد المانع عنه.

أما المقتضي لجريان الاصول المثبتة لها فهو ثابت يتحقق العلم الاجمالي بها ، والمانع عنه هو مخالفة العملية القطعية من جهة جريانها مفقود ، إذ لا تلزم المخالفة

٣٦٥

المذكورة من جريانها ، وهذا واضح لكن بشرط أن تكون التكاليف في موارد الاصول المثبتة والتكاليف التي علمت تفصيلا ، أو نهض عليها دليل معتبر بمقدار المعلوم بالاجمال منها فلا مانع حينئذ من إجراءها أصلا فتكون الوظيفة هي العمل بالمقدار المعلوم بالاجمال الذي ثبت بعضه للمكلف بالعلم التفصيلي ، وبعضه بالاصول المثبتة لها ، فتستنبط الأحكام والتكاليف بالعلم التفصيلي والظن المعتبر الذي تدل عليه الاصول المثبتة فلا تصل النوبة إلى الاطاعة الشكية والوهمية كي يقال بتقديم الظنية على الشكية والوهمية لقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، فلا محل لهذا المقال أصلا.

قوله : وإلّا فإلى الاصول المثبتة وحدها ...

وإن لم تكن موارد الاصول المثبتة وما علم تفصيلا وما نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالاجمال فيعمل حينئذ بالاصول المثبتة فقط.

وأما خصوص موارد الاصول النافية فيكون محلا لحكومة العقل السليم ، وهو يحكم بترجيح مظنونات التكليف فيها على مشكوكات التكليف وعلى موهومات التكليف سواء وجب الاحتياط شرعا في الجملة أي وجب الاحتياط باتيان المشكوكات دون الموهومات مثلا أم لم يجب شرعا.

فالنتيجة : إذا كان ما علم تفصيلا وما نهض عليه دليل معتبر وموارد الاصول المثبتة بمقدار المعلوم بالاجمال من التكاليف فنعمل حينئذ بالاصول المثبتة والنافية معا وإلّا فنعمل بالمثبتة منها ، وفي موارد النافية نرجع إلى حكم العقل وهو يحكم بترجيح المظنونات على غيرها وإن وجب الاحتياط في الجملة شرعا بمقتضى أخوك دينك فاحتط لدينك وغيره كما سيأتي دليل الاحتياط شرعا في بحث البراءة إن شاء الله تعالى.

ولكن لا يجب الاحتياط التام الذي يتحقق باتيان جميع المحتملات الراجحة

٣٦٦

والمرجوحة لا شرعا لاستلزامه العسر والحرج وهما منفيان شرعا ولا عقلا لاستلزامه اختلال نظام معاش بني آدم كما سبق تفصيله في طي المقدمة الرابعة من مقدمات الانسداد ، وعرفته.

فالمتحصل : مما ذكر عدم تمامية المقدمة الاولى ، وهي العلم الاجمالي بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة المقدسة لانحلاله إلى العلم الاجمالي الصغير بثبوت التكاليف بسبب الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة عند علماء الشيعة رحمهم‌الله ، وتلك كالكتب الأربعة وغيرها ، من الوافي والوسائل والمستدرك ، فوجب الاحتياط في خصوص الأخبار ، فلو فرض تماميتها وعدم انحلال العلم الاجمالي المذكور.

ففي المقام تفصيل ، وهو : إذا كان مقدار من التكاليف التي ثبتت بالاصول المثبتة ومقدار منها ثابت بالعلم التفصيلي ومقدار منها ثابت بدليل معتبر من آية ورواية معتبرة وإجماع بمقدار المعلوم بالاجمال فتجري الاصول العملية أعم من المثبتة والنافية لوجود المقتضي وفقد المانع عن جريانها كما سبق هذا مفصلا ، وإن لم يكن المقدار المعلوم بالعلم التفصيلي والاصول المثبتة والدليل المعتبر ثابتا بالمقدار المعلوم إجمالا فتجري حينئذ الاصول المثبتة وتكون موارد الاصول النافية محلا للاحتياط العقلي المتحقق بترجيح المظنونات على المشكوكات والموهومات لكن بشرط عدم سقوط العلم الاجمالي عن كونه مؤثرا فيه أي في الاحتياط بسبب العسر والحرج المنفيين في الشريعة المقدسة يعني العلم الاجمالي بالتكاليف يكون مؤثرا من حيث الاحتياط في أطرافه إذا لم يستلزم الاحتياط فيها العسر والحرج ، وإلّا فلا.

ولا يخفى عدم تمامية المقدمة الثانية بالنسبة إلى العلمي من جهة قيام الأدلة التامة من الآيات المتعددة والسيرة العقلائية على حجية خبر يوثق بصدقه ، وهو

٣٦٧

بحمد الله تعالى واف بمعظم الفقه لا سيما بضميمة ما علم تفصيلا من الأحكام من وجوب الصلاة والزكاة والصوم وأمثالها.

نعم : تكون تامة بالاضافة إلى انسداد باب العلم بالأحكام بعد عصر الأئمة الأطهار عليهم‌السلام.

وأما المقدمة الرابعة والمقدمة الخامسة : فهما غير تامتين لجواز الرجوع إلى الاصول العملية المثبتة والنافية ، فلا تصل النوبة بالاطاعة الاحتمالية لكون ما علم تفصيلا من جهة الضرورة من الدين ، أو من جهة إجماع المسلمين على الأحكام ولكون ما ثبت منها بالاصول المثبتة ، أو بدليل علمي بمقدار المعلوم بالاجمال ، فالعمل بالأحكام منحصر بالعلم التفصيلي ، أو العلمي ، أو بمقتضى الاصول المثبتة ، أو النافية فلا تصل أصلا النوبة بالاطاعة الاحتمالية ، كي يقال بترجيح الظن على الشك والوهم من جهة قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

نعم : تكون المقدمة الثالثة تامة لعدم جواز إهمال التكاليف عقلا ، إذ في إهمالها يكون القطع بالحظر والعقل يحكم بتحصيل مؤمن منه ، وهو لا يحصل للعباد إلّا بامتثالها.

وفي ضوء هذا : فانقدح إن المصنف قدس‌سره لم يسلم الانسداد لعدم تمامية مقدماته بأسرها عنده قدس‌سره ، هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق ، أي عدم تمامية جميع مقدمات الانسداد يكون على وفق النظر الدقيق وإن كانت تامة بالنظر السطحي عند الانسدادي.

قوله : فافهم وتدبّر ...

وهو تدقيقي لوجهين :

الأوّل : لظهور كلمة فافهم في التدقيق لا في التمريض.

والثاني : لتعقيبه بكلمة التدبر.

٣٦٨

ولا ريب في إن المنجز للتكاليف الواقعية هو العلم باهتمام الشارع المقدس في مراعاتها ، وتلك كالدماء والفروج والأموال الخطيرة ، أو الاجماع على عدم جواز الرجوع إلى البراءة العقلية والشرعية نحو الجهاد الدفاعي مع الأشخاص الذين يخاف منهم إذا سلّطوا على بلاد الاسلام على بيضة الاسلام ، وهي التوحيد والرسالة ، أو العلم الاجمالي بالتكاليف ، كما هو المشهور.

وفي ضوء هذا : فقد انقدح إن ملاك وجوب الاحتياط في الأحكام الشرعية أمران :

الأول : هو الاجماع. الثاني : هو العلم بالاهتمام.

وبالجملة : فلو لم ينحل العلم الاجمالي الكبير بتكاليف كثيرة فعلية لكانت نتيجة مقدمات الانسداد وجوب الاحتياط التام في موارد الاصول النافية بشرط أن لا يلزم منه حرج وإلّا فيتعين التبعيض في الاحتياط بجعل مورده خصوص المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، والعلم عند الله تعالى.

الظن بالطريق والظن بالواقع

قوله : فصل : هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها ...

فهل يكون مقتضى مقدمات دليل الانسداد على تقدير سلامتها من الاشكال حجية الظن بالواقع وبالحكم الشرعي الفرعي كما إذا حصل الظن بوجوب غسل الجمعة ، أو بوجوب الاقامة في الصلاة ونحو ذلك ، أو حجية الظن بالطريق أي بالمسألة الاصولية كما إذا تحقق الظن بحجية خبر الثقة ، أو بحجية الظواهر ونحوهما ، أو حجية الظن بكليهما معا فيه أقوال ثلاثة :

اختار الشيخ الأنصاري والمصنف قدس‌سرهما وجماعة من الأعلام رحمهم‌الله حجية الظن بالواقع وحجية الظن بطريقية شيء إلى الواقع فيجب العمل على طبق خبر الثقة يدل

٣٦٩

على وجوب الشيء ، أو على حرمته سواء حصل الظن بهما أم لم يحصل بهما ، فمختارهم هو القول الثالث. ذهب جمع من الأعلام رحمهم‌الله إلى حجية الظن بالواقع فقط.

وعليه : إذا دل خبر الثقة على وجوب الشيء ، أو على حرمته فيجب العمل على طبقه إذا حصل الظن بهما ، وإلّا فلا.

واختار بعضهم رحمهم‌الله حجية الظن بالطريق فقط ، وعليه فيجب العمل على طبق خبر الثقة وإن لم يحصل الظن بمضمونه وبالواقع ، واستدل المصنف قدس‌سره على مدعاه بأنه لا ريب في أن همّ العقل السليم هو تحصيل المكلف المؤمّن من العقاب الذي يترتب على مخالفة التكاليف الشرعية سواء انفتح باب العلم بها أم انسد بها كما لا شبهة في استقلال العقل بتعيين المؤمّن منها فتحصيل المؤمّن من العقوبة الاخروية وتعيينه إنما يكونان بحكم العقل وبيده إذا لم يعينه الشارع المقدّس بل فوّض الأمر إليه لأنه هو الحجة الباطنة ، فدليل المصنف قدس‌سره مركب من الصغرى والكبرى على هيئة الشكل الأول ، وهو إن كل شيء يكون مؤمّنا من العقاب حال انفتاح باب العلم فيقوم الظن مقامه حال الانسداد فيكون مطلق الظن مؤمّنا منه حاله ، هذه المقدمة صغرى القياس ، وكل المؤمن منه حال الانفتاح هو القطع باتيان المكلف به الواقعي ، أو القطع باتيان المكلف به الجعلي التعبدي كما إذا أتى بمضمون خبر الثقة ، هذه المقدمة كبرى القياس ، فيكون كل مؤمّن من العقاب هو مطلق الظن حال الانسداد هذه المقدمة نتيجة القياس.

فثبت بهاتين المقدمتين اعتبار الظن مطلقا سواء تعلق بالواقع حال الانسداد أم تعلق بالطريق إلى الواقع حاله كما إذا تعلق الظن بحجية خبر الثقة وبحجية الظواهر مثلا.

فإن قيل : يحتمل أن يكون القطع بإتيان المكلف به الواقعي ، أو الجعلي

٣٧٠

التنزيلي ، حال الانفتاح بما هو مكلف به الواقعي ، أو المكلف به التنزيلي حجة لا بما هو معلوم ولا بما هو مؤدى الطريق المعتبر ولا بما هو متعلق العلم كي يقال إن الظن باتيان المكلف به الواقعي ، أو الجعلي التنزيلي حجة حال الانسداد فالواقع بما هو واقع ذو مصلحة ومما يتعلق به غرض المولى فيكون إتيانه موجبا لسقوط أمر المولى ولحصول غرضه وهما موجبان لسقوط العقاب فلا يكون الواقع بما هو معلوم وبما هو مؤدى الطريق المعتبر ذا مصلحة ومتعلق الغرض ، إذ ليس العلم والطريق بذي مصلحة وليسا بدخيلين في غرض المولى ، وفي سقوط العقاب فالمؤمّن من العقاب الاخروي يكون نفس إتيان الواقع بما هو واقع.

نعم : ما دام لم يكن للمكلف العلم بالواقع كي يفعله ويأتيه فالعقل يحكم بتحصيل العلم بحصول غرض المولى الجليل وبسقوط العقاب الاخروي ولكن هذا العلم يكون طريقا محضا إلى الواقع ولا يكون موضوعا لحكم.

وفي ضوء هذا : فالظن باتيان الواقع يكون مثل العلم باتيانه ، كما إن الواقع المعلوم يكفي في حصول الغرض وفي سقوط العقاب فكذلك الواقع المظنون كاف فيهما.

أما إذا قلنا إن الواقع بما هو معلوم كاف في حصول الغرض وسقوط العقاب فهذا يستلزم أن لا يكون الظن بالواقع أي الواقع المظنون كافيا فيهما بل يكفي فيهما الواقع المظنون الحجية ، إذ يكون المسقط حال الانفتاح العلم بالواقع فيلزم المظنون الحجية حال الانسداد كي يقوم الظن حاله مقام العلم.

فالظن بالواقع إذا لم يكن مظنون الحجية فهو لا يكفي ، إذ الحاكم في هذا الباب هو العقل وهو يستقل بكون العلم طريقا ذاتيا إلى الوقائع وليست طريقيته مجعولة لا إحداثا ولا إمضاء ولا إثباتا ولا نفيا ، كما قد سبق هذا المطلب في بحث حجيّة القطع ، فلن تناله يد الجعل لا إثباتا ولا نفيا ، فبعد ثبوت كون العلم بالواقع بما

٣٧١

هو واقع مسقطا للتكليف ومحصّلا للغرض حال الانفتاح ، فبملاحظة حكم العقل المسقط للعقاب هو العلم بالواقع الحقيقي ، أو الواقع التنزيلي حال الانفتاح فيكون الظن بالواقع الحقيقي ، أو الواقع التنزيلي مسقطا للعقاب ومحصّلا للغرض.

وعليه : فيكون الظن بالواقع والظن بالطريق كافيين في إسقاط العقاب ولا تختص حجية الظن بالظن بالواقع بل تشمل أدلة الحجيّة حجيّته بالواقع وبالطريق فالطريق باتيان المأمور به الظاهري الذي هو واقع تنزيلي مبرئ للذمة حال الانفتاح ومسقط للعقاب ، كذلك الظن باتيان المأمور به الجعلي مبرئ للذمة حال الانسداد فتحصل ممّا ذكر إن نتيجة دليل الانسداد حجية الظن مطلقا أي سواء كان الظن بالواقع أم كان الظن بالطريق ولا تختص حجيته بأحدهما بعد تمامية مقدمات الانسداد وبعد سلامتها عن الاشكال ، هذا جواب الاشكال المذكور في ضمن.

فإن قيل : ولكن توهم بعض أن مقتضى مقدمات الانسداد حجية الظن بالواقع فقط دون حجية الظن بالطريق ، كما زعم بعض الآخر إن مقتضاها حجية الظن بالطريق فحسب.

واستدل القائل الأول بأن باب العلم منسد في الفقه الشريف ، فتجري مقدمات الانسداد في الأحكام الفرعية.

وأما الاصول فليس فيها باب العلم بمنسد حتى يحكم العقل بحجية الظن فيها.

وعليه : فلا محيص عن انحصار حجية الظن بالأحكام الواقعية والظن بالطريق وفي الاصول ليس بحجّة أصلا.

تتمّة في بيان الامور الثلاثة :

الأول في توضيح الاصول التي ليس الظن فيها بحجة ويكون باب العلم فيها مفتوحا فيقال إن المراد منها هو الاصول العملية ، إذ العلم حاصل لنا بحجيتها في

٣٧٢

مؤداها بعد فقدان الدليل الاجتهادي وليس المراد منها في هذا المقام الاصول الدين من التوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والعدل ، والامامة ، وسيأتي بحث اصول الدين عن قريب إن شاء الله تعالى.

الثاني : في توضيح طريق الطريق فيقال : إن المراد منه هو دليل اعتباره ومدرك حجيّته ، وذلك كخبر الثقة يدل على حجية القرعة والشهرة الفتوائية والاجماع المنقول مثلا.

الثالث : في توضيح العبارة في هذا المقام ، فيقال إن مقتضى مقدمات الانسداد هو حجيّة الظن بالواقع من جهة اختصاص انسداد باب العلم بالفروع من الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والاباحة ، ومن الصحة والتمامية والفساد والناقصية والامضاء وعدم الامضاء ولا ينسد باب العلم بالاصول العملية من الاستصحاب والبراءة والتخيير والاحتياط وغيرها من القواعد الاصولية التي تكون طريقة إلى استنباط الأحكام الفقهية بل يكون فيها مفتوحا ، إذ يكون لنا العلم في عصر الغيبة بحجيّتها ، وفي مواردها.

وعليه : فليس الالتجاء بموجود لنا أن نتنزل فيها من العلم إلى الظن وقلنا بقيامه مقامه كما قلنا بقيامه مقامه في الفروع والفروع من الواقعيات فيكون الظن بالواقع حجة وليس الظن بالطريق حجة فأجاب المصنف قدس‌سره عن هذا التوهم بقوله.

ولكن عرفت إن هذا التوهم فاسد ، إذ العقل حاكم بأن المؤمّن من العقاب هو العلم حال الانفتاح.

ومن الواضح : أن العلم بإتيان الواقع الحقيقي ، أو التنزيلي يكفي في سقوط العقاب فكذا الظن بإتيان الواقع الحقيقي ، أو بإتيان التنزيلي الجعلي كاف فيه فإذا ثبتت حجيّة الظن فلا فرق في نظر العقل بين الظن بالواقع وبين الظن بالطريق إلى الواقع ، إذ يقوم الظن بهما حال الانسداد في نظر العقل مقام العلم حال الانفتاح.

٣٧٣

وأما وجه توهم الآخر ، وهو اختصاص حجية الظن بالطريق دون الظن بالواقع فأمران :

أحدهما : ما أفاده بعض الفحول ، وهو المحقّق الاصفهاني قدس‌سره صاحب الحاشية على المعالم ، وتبعه أخوه صاحب الفصول في الفصول ، وقال فيها إنا نقطع في عصر غيبة ولي الله الأعظم ، أرواحنا فداه ، بالتكليف الفعلي بالاضافة إلى كثير من الأحكام الشرعية ، ولكن بحكم العيان وشهادة الوجدان لا سبيل لنا في عصرنا هذا إلى القطع بها ، إذ عمدة مداركها وأدلتها كتاب وأخبار آحاد وكلاهما ظنيان من حيث الدلالة ، وكذا ليس لنا في عصر الغيبة القطع بطريق معين يحصل لنا القطع من الدليل السمعي إن الشارع المقدّس قد حكم بقيامه مقام القطع ، أي بقيام الطريق المعين مقام القطع ، وذلك كقيام خبر الثقة مقام القطع والعلم ، أو قد حكم الشارع المقدّس بقيام طريق الطريق المعين مقام القطع.

مثلا : إذا قام خبر الثقة على حجية الاجماع المنقول ، أو على حجية الشهرة الفتوائية والقرعة مثلا ، فالطريق المعين هو الاجماع المنقول والشهرة المذكورة وغيرها وطريق الطريق المعين هو خبر الثقة قام مقام القطع بحكم الشارع المقدّس سواء كان قيام الطريق ، أو قيام طريق الطريق المعين حال انفتاح باب العلم بالأحكام الشرعية مقام القطع أم كان قيامهما مقامه حال انسداد باب العلم بها وحال تعذره بالواقع.

وكذلك نقطع بأن الشارع المقدّس قد جعل لأجل نفعنا ومصلحتنا إلى تلك الأحكام المعلومة إجمالا طريقا مخصوصا بل طرقا مخصوصة ، ونقطع بأن الشارع المقدّس قد كلّفنا تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة وبمفادها وحيث انه لا سبيل لنا في عصر الغيبة غالبا إلى تعيين الطرق المخصوصة بسبب القطع ولا بطريق نعلم اعتباره وحجيته شرعا بحيث يحصل لنا القطع من الدليل السمعي ،

٣٧٤

كالآية الشريفة ، والخبر المعتبر مثلا ، بقيام هذا الطريق بالخصوص مقام القطع ، أو بقيام طريق الطريق مقام القطع بالخصوص.

وذلك كخبر الثقة يدل على حجية الشهرة الفتوائية مثلا ، حتى تكون طريقا إلى الأحكام الواقعية ولو كان قيامهما بعد تعذر القطع وبعد انسداد باب العلم بها وعليه : فيكون مقتضى القطعين المذكورين بحكم العقل مستقلا الرجوع في تعيين ذلك الطريق المذكور إلى الظن الفعلي الشخصي بشرط أن لا يكون الدليل المعتبر بموجود على عدم حجية ذاك الظن الشخصي لأن هذا الظن الفعلي يكون أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع مما عداه من الظن النوعي الذي يستفاد من القياس المنصوص العلّة والشهرة الفتوائية مثلا.

وعلى طبيعة الحال ، فقد ثبتت حجية الظن الشخصي وثبت قيامه مقام القطع.

أما الفرق بين الظن الشخصي ، وبين الظن النوعي ، فيقال : إن الأول عبارة عن الظن الذي ثبت اعتباره بالأدلة الخاصة غير دليل الانسداد ومقدماته من حجية الظواهر ومن حجية أخبار الآحاد ، فالظن الحاصل منها يكون ظنّا خاصّا وشخصيا.

والثاني : عبارة عن الظن الذي ثبت اعتباره بدليل الانسداد وبمقدماته بعد تماميتها وبعد سلامتها عن الاشكال ، وهذا واضح لا سترة فيه.

في جواب المصنف قدس‌سره عنه

قوله : وفيه أوّلا بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة باقية ...

فأجاب المصنف قدس‌سره عن هذا التوهم بجوابين بل بأجوبة :

الأوّل : إنه لا نسلم إن الشارع المقدّس نصب الطريق المعين إلى الأحكام الشرعية ، إذ من المحتمل أن يرجع المكلفين إلى الطريقة المتعارفة بينهم وعند العقلاء بما هم عقلاء في امتثالات اوامره ونواهيه فهم يرجعون بعد عدم التمكن من

٣٧٥

العلم في الامتثالات إلى الظن الاطمئناني ، أو إلى الاحتياط ، أو إلى مطلق الظن.

هذا ، مضافا إلى أنه لو كان الطريق الكذائي مجعولا من قبل الشارع المقدّس لنقل ولوصل إلينا من جهة شدة الاحتياج بهذا الطريق بالاضافة إلى عمومهم.

الثاني : بعد تسليم نصب الطريق المعين أي علمنا بنصبه ولكن ليس بقائه في بين الامارات المتعددة بمعلوم لنا إلى زماننا هذا ، إذ يحتمل إن الشارع المقدّس نصب الطريق الخاص ، وذلك كالخبر الصحيح مثلا ، وهو ليس بموجود في عصر الغيبة في بينها ، أو كان موجودا في بينها ولكن لم يكن بقدر الكفاية لكثرة الأحكام وقلته.

الثالث : إن نصب الطريق المعين صحيح إذا لم يكن القدر المتيقن في بين الامارات ونحتاج في تعيينه إلى الظن وإلّا أي إذا كان القدر المتيقن في البين وذلك مثل خبر الصحيح الأعلائي ثم الخبر الذي يكون راويه موثقا ثم الخبر الذي يكون ناقله إماميا ممدوحا ثم الخبر الذي عمل به أكثر الأصحاب ، رضي الله تعالى عنهم ، فلا بد حينئذ أن نأخذ القدر المتيقن كالخبر الصحيح الاعلائي مثلا ، ولا تصل النوبة في تعيينه إلى الظن نعم إذا لم يكن القدر المتيقن في البين وفي نظر العقل السليم ، يكون جميع الأمارات والطرق في مرتبة واحدة فلا بد أن نقول حينئذ بالاحتياط في هذه الطرق والأمارات لأنا نعلم إجمالا بكون الطرق المنصوبة في بينها فالعقل يحكم بالاحتياط وهو يتحقق بالعمل بتمامها وجميعها ولا يمكن لنا تعيين المعلوم بالاجمال بالظن ، بل لا وجه له ، كما لا يخفى.

قوله : لا يقال الفرض عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه ...

فلا يتوهم أن فرض كلام المستدل ، وهو صاحب الفصول ، في المورد الذي لا يكون الاحتياط فيه واجبا بل لا يكون فيه جائزا.

ومن الواضح أنه في هذا الفرض يكون مقتضى العلم الاجمالي المذكور أن

٣٧٦

يعمل بخصوص مظنون الطريقية فقط وليس مقتضاه هو العمل بكل الطريق المحتمل سواء كان مظنونا الطريقية أم كان مشكوكا الطريقية أم كان موهوما الطريقية إلى الواقع كي يلزم الاختلال بنظام معاش الانسان ، أو يلزم العسر الشديد والحرج الأكيد على آحاد المكلف فلا يرد الاشكال على الاستدلال الأول لصاحب الفصول رضى الله عنه إذا قلنا بهذا القول.

في جواب المصنف قدس‌سره على هذا الاشكال

أجاب المصنف قدس‌سره عنه بقوله لأن الفرض إنما هو عدم وجوب الاحتياط الكلي في الأحكام بحيث يلزم منه الاختلال بالنظام وليس الفرض بموجود في الاحتياط في الطرق والامارات التي تكون بأيدينا فعلا ، إذ لا يلزم منه العسر والحرج فضلا عن الاختلال بالنظام ، إذ نرفع اليد عن الاحتياط في غير موارد الامارات سواء كان موردا للاصول المثبتة أم كان موردا للاصول النافية.

وكذا نرفع اليد عنه في الموارد التي قامت الأمارات فيها على نفس التكليف والحكم ، إذ نحن معاشر الاصوليين قائلون في الشبهة الحكمية التحريمية بالبراءة وإن قال الاخباريون فيها بالاحتياط ، كما سيأتي هذا البحث ، إن شاء الله تعالى في بحث البراءة.

فالنتيجة : يكون الفرق موجودا بين الاحتياط في موارد الطرق المخصوصة ، وبين الاحتياط في أطراف العلم بالتكليف لأن الاحتياط في خصوص موارد الطرق والأمارات غير مستلزم للعسر والحرج فضلا عن استلزامه الاختلال بالنظام ، ولكن الاحتياط في أطراف العلم بالتكليف من جهة اتساع دائرته مستلزم لهما بل هو مستلزم للاختلال بنظام معاش الانسان وبني آدم ، فمقتضى دليل صاحب الفصول قدس‌سره هو وجوب الاحتياط في الصورة الاولى لا في الصورة الثانية.

٣٧٧

والسرّ في هذا الفرق بين الاحتياطين في هذين الموردين أن دائرة الاحتياط في الصورة الاولى متسعة جدا ، أما بخلاف الصورة الثانية فإن دائرته مضيقة قطعا لخروج كثير من الموارد عن تحت هذا الاحتياط.

القول في بيان الموارد التي لا مورد فيها للاحتياط

الف : إذا لم نقطع بقيام الطريق على ثبوت التكليف وليس الأصل المثبت للتكليف بموجود في البين.

وعليه : فلا محل للاحتياط في هذا المورد بل ندفع التكليف بأصالة عدمه ، أو نقطع بعدم قيام الطريق على التكليف ، ففي هذه الصورة لا مورد للاحتياط.

ب : إذا قام الطرق التي يحتمل اعتبارها على نفي التكليف ولا ريب في إن الاحتياط لا محل له في هذا الفرض ، وفي هذه الصورة ، إذ يكفي صرف عدم قيام محتمل الطريقية على ثبوت التكليف على عدم وجوب الاحتياط وعلى خروج هذا المورد عن تحت وجوب الاحتياط كما إذا فرض قيام الثقة والاجماع المنقول والشهرة الفتوائية وكل ما يحتمل طريقيته كالقياس المنصوص العلة على نفي التكليف وعلى عدم حرمة شرب التتن مثلا ، فلا مورد حينئذ للاحتياط كما لا يخفى.

ج : إذا تعارض الفردان من الطريق من حيث إثبات التكليف ومن حيث نفي التكليف ، مثلا إذا قام خبر الثقة على إثبات التكليف وقام خبر الثقة الآخر على نفي هذا التكليف.

ولكن كان للخبر الثقة النافي للتكليف مرجح من حيث السند ، أو من حيث الدلالة ، بحيث يجب الأخذ به.

وعليه : فلا مورد للاحتياط بل يكفي في عدم وجوب الاحتياط في هذا المورد إذا لم يكن للخبر المثبت للتكليف عند المعارضة بالخبر النافي له مرجح لا

٣٧٨

سندا ولا دلالة ، فيعمل حينئذ بالخبر النافي ، والاحتياط ساقط هنا إذا كان المتعارضان خبرين موثقين ، أو خبرين صحيحين.

وأما إذا كان المتعارضان إجماعين منقولين بحيث قام أحدهما على ثبوت التكليف والآخر على نفي التكليف مثلا قام الاجماع المنقول على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، وقام الاجماع المنقول الآخر على حرمتها فيه ، فيؤخذ بالنافي بلا إشكال سواء كان مقتضى التقديم للنافي موجودا أم لم يكن موجودا له لاختصاص الأخبار العلاجية بالخبرين المتعارضين ولا تشمل سائر الطرق المتعارضات ، كما سيأتي في مبحث التعادل والتراجيح إن شاء الله تعالى.

د : في المورد الذي يدل أحد الطريقين على وجوب الشيء ، وذلك كصلاة الجمعة ، والآخر يدل على حرمتها ، وهذا الفرض مشهور عند الاصوليين بدوران الأمر بين المحذورين ولا ريب في إن الأخذ بالاحتياط غير ممكن للمكلف لأنه إما أن يفعلها وإما أن يتركها ، فلا يمكن له الجمع بين الفعل والترك.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أن خروج هذه الموارد عن تحت قاعدة الاحتياط لا يكفي في رفع اليد عن هذه القاعدة بالاضافة إلى سائر أطراف العلم الاجمالي ولكن بشرط أن لا يلزم من الاحتياط عسر شديد ، فالمرجع في جميع ما ذكر من مورد تعارض الخبرين ، أو تعارض الاجماعين مثلا ، هو الأصل الجاري في هذه الطرق ولو كان هذا الأصل نافيا للتكليف فلا يجب الاحتياط فيها لعدم قيام طريق معتبر على خلاف هذا الأصل النافي للتكليف ولعدم نهوض طريق معتبر شرعا من غير أطراف العلم الاجمالي على خلافه.

فالمصنف قدس‌سره ذكر بعد ذكر موارد عدم وجوب الاحتياط إن المرجع في تمام هذه الموارد يكون أصلا جاريا فيها وإن للتكليف في هذا المقام ، إذ لم يقم دليل

٣٧٩

معتبر مثبت للتكليف في هذه الموارد كما إنه لم يكن في أطراف العلم الاجمالي شيء مخالف للأصل النافي للتكليف.

ه : كل مورد علمنا فيه بانتقاض الحالة السابقة فلا يجري فيه أصل سواء حصل العلم به بسبب العلم أم حصل بقيام أمارة معتبرة عليه وذلك كقيام البينة على الانتقاض للتكليف فلا يجري الاستصحاب المثبت للتكليف في هذه الموارد ، ومن الواضح إن في هذا الفرض لا محل للاحتياط.

ومن المعلوم : انه إذا قامت الأمارة المعتبرة على انتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف العلم الاجمالي فلا يجري استصحاب بقاء التكليف على رأي أكثر المحققين ، رضي الله عنهم ، في كل واحد من الأطراف فلا جرم بعد سقوط استصحاب بقاء التكليف ليس المحل بموجود للاحتياط بل يكون هذا المورد من موارد الأخذ بنفي التكليف هذا بناء على عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي سبب العلم بالانتقاض وإلّا فلا تصل النوبة بالأصل النافي للتكليف بل أخذنا بالاستصحاب المثبت للتكليف ، هذا ، أولا.

في الجواب الثاني عنه

قوله : وثانيا لو سلم إن قضيته لزوم التنزل إلى الظن ...

فاستشكل المصنف قدس‌سره ثانيا على استدلال الأول لصاحب الفصول قدس‌سره ، فقد قال إنا لو سلّمنا إن مقتضى العلم الاجمالي المذكور هو التنزل من العلم إلى الظن وحجية الطرق المظنونة فتوهم كون الوظيفة حين انسداد باب العلم هو العمل بالظن بالطريق بالخصوص فاسد جدا ، إذ الظن بالطريق لا يكون أقرب من الظن بمؤدى طريق معتبر إلى العلم بالواقع حتى يكون مقدما عليه كما لا يكون أقرب منه إلى الظن بالواقع ، كما لا يخفى على المتأمل.

٣٨٠