البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

في بيان إشكال المصنف قدس‌سره عليه

قال المصنف قدس‌سره إن هذا الوجه أيضا من مقدمات دليل الانسداد وليس هذا بدليل مستقل غير دليل الانسداد ، إذ لا ينتج هذا نتيجة مطلوبة ، وهي إثبات حجية مطلق الظن بدون سائر مقدمات الانسداد ومع انضمام سائر مقدماته يكون هذا الوجه دليل الانسداد بعينه.

الوجه الرابع :

فهذا الدليل مؤلف من المقدمات الخمسة ، فإذا تحققت هذه وتمت فالعقل حاكم مستقلا أي بلا لحاظ حكم الشارع المقدّس على طبق حكم العقل بكفاية الاطاعة الظنية سواء كان حكم العقل بالكفاية المذكورة على نحو الحكومة ، أو على نحو الكشف على ما ستعرف إن شاء الله تعالى ولا يخفى إن العقل لا يحكم أصلا بكفاية الاطاعة الظنية بدون مقدمات دليل الانسداد ، إذ الأصل عدم كفاية الاطاعة الظنية في صورة الشك في الكفاية وعدمها لأن الأصل الاولى حرمة العمل بالظن بما هو ظن إلّا ما خرج بالدليل المعتبر ويبقى الباقي تحت الأصل الاولى.

ومقدمات الانسداد خمسة :

أولاها : إنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة المقدسة بحيث يلزم امتثالها فعلا ، أو تركا ويحرم مخالفتها بحيث يستحق المكلف العقاب على مخالفتها.

وثانيتها : قد انسد علينا باب العلم وباب العلمي في عصر غيبة ولي الله الأعظم (عج) في كثير من التكاليف.

ثالثتها : إنه لا يجوز لنا إهمالها أصلا لبقائها بالضرورة إلى يوم القيامة بحيث يجوز لنا عدم امتثالها فعلا ، أو تركا.

٣٤١

رابعتها : إنه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا إجمالا بالتكاليف الكثيرة لاستلزمه العسر الأكيد والحرج الشديد بل لا يجوز الاحتياط في بعض أطراف علمنا الاجمالي بها كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في مورد الشك والشبهة من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط وكذا لا يجوز الرجوع إلى فتوى العالم بحكم المسألة كي نعمل فيها به بالافتاء ، إذ العالم الانفتاحي يكون جاهلا بالأحكام الفرعية عند الانسدادي ولا يرجع إلى الجاهل أصلا.

وأما وجه عدم الرجوع إلى الاستصحاب في كل مسألة فلعدم تمامية أركانه لفقدان الشك اللاحق ، إذ ليس لنا الشك في التكليف بل لنا العلم الاجمالي بها ، أي بالتكاليف ، ومن هنا يظهر وجه عدم الرجوع إلى أصل البراءة في كل مسألة للعلم الاجمالي بالتكاليف.

وأما وجه عدم الرجوع إلى أصالة التخيير في كل مسألة فلفقدان دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في جميع المسائل.

وأما وجه عدم الرجوع إلى أصالة الاحتياط في جميعها لاستلزامه العسر والحرج ، وهما منفيان في الشريعة.

خامستها : إنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا عقلا فيستقل العقل حين تمامية هذه المقدمات الخمسة بلزوم الاطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة لنا إجمالا وإلّا لزم بعد فرض انسداد باب العلم وباب العلمي بالأحكام الفرعية وبعد فرض عدم حكم العقل بلزوم الاطاعة الظنية أحد الطرق الخمسة.

أولها : على سبيل منع الخلو ، وهو إما يلزم إهمالها لو لم نعمل بشيء من الظن والوهم والشك ، وإما يلزم الاحتياط فعلا ، أو تركا في كل مسألة وفي أطراف العلم الاجمالي وإما يلزم الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة لكن مع قطع النظر عن العلم بحكمها إجمالا.

٣٤٢

وإما يلزم التقليد في أطراف العلم الاجمالي ، وإما يلزم الاكتفاء بالاطاعة الشكية ، أو الوهمية مع التمكن من الاطاعة الظنية ، وكلها باطلة.

أما بطلان الأول : فلاستلزامه تعطيل الأحكام الشرعية وهو باطل جدا فالأول باطل قطعا ، إذ مستلزم البطلان باطل.

وأما بطلان الثاني : فلاستلزامه الحرج الشديد والاختلال للنظام.

وأما بطلان الثالث : فلعدم الشك في الأحكام كي نجري الأصل العملي في المسائل.

وأما بطلان الرابع : فلعدم جواز رجوع العالم الانسدادي إلى العالم الانفتاحي ، إذ يكون باعتقاده جاهلا بالأحكام فلا يجوز الرجوع إلى الجاهل بها أصلا.

وأما فساد الخامس : فلاستلزامه ترجيح المرجوح ، وهو الاطاعة الشكية والوهمية على الراجح ، وهو الاطاعة الظنية ، وهو قبيح عقلا فالمستلزم القبيح قبيح أيضا.

مقدّمات دليل الانسداد

المقدمة الاولى :

وأما تضعيف المصنف قدس‌سره فهي وإن كانت بديهية بحيث لا تحتاج إلى تجشم الاستدلال وإقامة البرهان إلّا إنّك قد عرفت في بحث حجية أخبار الآحاد انحلال العلم الاجمالي بالتكاليف إلى العلم التفصيلي بالتكاليف الواقعة في مضامين الأخبار الصادرة عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام المنقولة في الكتب المعتبرة عند علماء الشيعة رضي الله عنهم ، والشك البدوي بالاضافة إلى الامارات الأخر ولا ريب في أن مع

٣٤٣

هذا الانحلال لا موجب للاحتياط إلّا في خصوص التكاليف الواقعة في الروايات الصادرة والأخبار المأثورة عنهم عليهم‌السلام ومن الواضح إن الاحتياط الذي يتحقق بالعمل بمضامينها لا يوجب العسر الشديد ولا الحرج الأكيد فضلا عن أن يوجب اختلال النظام وليس الاجماع ثابتا على عدم وجوب الاحتياط بالعمل بمضامين الروايات الصادرة عنهم عليهم‌السلام ولو سلم الاجماع على عدم وجوب الاحتياط بمضامين الروايات التي تكون في الكتب المعتمدة فهذا إنما يكون ثابتا إذا لم ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي وإلى الشك البدوي فحينئذ نعمل بمضامين الروايات والامارات جميعا وأما إذا انحل العلم الاجمالي الكبير إلى العلم الاجمالي الصغير الذي يعبر عنه في الاصطلاح بالعلم التفصيلي بالاضافة إلى الروايات الصادرة عنهم عليهم‌السلام وإلى الشك البدوي بالنسبة إلى الامارات الأخر فالاجماع قائم على وجوب الاحتياط التام بمضامين جميع الروايات التي لا تكون على خلاف الكتاب ولا على وفق العامة لأجل العلم الاجمالي بالصدور عنهم عليهم‌السلام.

المقدمة الثانية :

فأما بالنسبة إلى العلم بالأحكام الفرعية فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا واضحة وجدانية يعرف انسداد باب العلم كل من تعرض للاستنباط والاجتهاد ، إذ عمدة أدلتها الكتاب والسنة وهما ظنيان من حيث الدلالة وإن كان الأول قطعي الصدور والثاني ظني الصدور ، إذ المراد من السنة هو الآحاد منها. وأما بالنسبة إلى العلمي فالظاهر إن المقدمة الثانية غير ثابتة لما قد عرفت سابقا في بحث حجية الخبر الواحد أن الدليل القطعي قائم من السيرة العقلائية على حجية خبر الواحد.

وعليه : فينفتح باب العلمي إلى الأحكام الفرعية للفقيه في أمثال زماننا هذا لأن الدليل القطعي قائم على حجية خبر يوثق بصدوره وصدقه ، وهو بحمد الله

٣٤٤

تعالى كاف بمعظم الأحكام الفقهية خصوصا بضميمتها بالأحكام التي قد علمت لنا تفصيلا بالضرورة كوجوب الصلاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والزكاة والخمس ونحوها ، وكحرمة القتل والربوا والكذب وأمثالها ، كما لا يخفى.

المقدمة الثالثة :

فهي قطعية ، إذ من ضروريات الشرع الأقدس ، عدم إهمال التكاليف المعلومة إجمالا لأن الشارع المقدّس لم يرض بإهمال الأحكام والقوانين ولا بترك التكاليف المعلومة بالاجمال ولكن اختلف الاصوليون رحمهم‌الله في باب العلم الاجمالي هل هو منجز مطلقا أم لا فذهب بعض منهم بعدم كونه منجزا مطلقا سواء كان أطرافه محصورة مبتلا بها أم كانت غير محصورة غير مبتل بها ، وعليه فيجوز ارتكاب جميع أطرافه : وذهب بعضهم إلى جواز ارتكاب ما عدا المقدار الحرام المعلوم إجمالا.

وعليه : فلو اشتبه إناء نجس ، أو إناء غصبي في بين عشرة ، أواني مثلا فمن قال بعدم كونه منجزا للتكليف الفعلي قال بجواز ارتكاب جميع الأواني ولكن تدريجا لا دفعة ومن قال بكونه منجزا للتكليف بالمقدار المعلوم إجمالا قال بجواز ارتكاب تسعة منها.

وأما المشهور فقد قال بعدم ارتكاب كل واحد منها إلّا إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء ، أو كان مضطرا إليه فيجوز حينئذ ارتكاب الباقي وارتكاب المضطر إليه ، إذا عرفت ما ذكرنا ، فهذه المقدمة لا تتوقف على أن نختار في المقام مقالة المشهور وهي تنجيز العلم الاجمالي للتكليف الفعلي كالعلم التفصيلي.

٣٤٥

فالنتيجة : لو سلّمنا إن العلم الاجمالي منجّز للتكليف الالهي بحيث يوجب مخالفته استحقاق العقوبة ففي هذه الصورة لا يجوز إهمال التكاليف أصلا لوجود العلم الاجمالي بها. هذا ، أولا.

وثانيا : لتنجيز العلم الاجمالي لها على المكلف ، أما لو قلنا بأن العلم الاجمالي فليس بمنجّز للتكليف أصلا ، سواء كان بعض أطرافه جائز الارتكاب كما في موارد العسر والحرج بالاحتياط في جميع الأطراف فعلا ، أو تركا ، أم كان واجب الارتكاب كما في موارد اختلال النظام بالاحتياط التام أم لم يكن كذلك ـ فإهمال التكاليف لا يجوز لا عقلا ولا شرعا ولا إجماعا اما عقلا فالاحتمال الضرر بواسطة الاهمال والعقل يحكم بدفع الضرر المحتمل احتمالا راجحا واما شرعا فللقطع بعدم رضائية الشارع المقدس ، بالاهمال والتعطيل إلى يوم القيام والقيامة.

وعلى طبيعة الحال ، لا يجوز إهمال التكاليف سواء كان العلم الاجمالي بوجود واجبات بين المشتبهات والمحرمات منجزا للتكليف أم لم يكن منجزا له لوجوه الثلاثة المتقدمة.

فالاحتياط في أطراف العلم الاجمالي ، إذ استلزم العسر والحرج فارتكاب بعض أطرافه جائز وإذا استلزم اختلال النظام فارتكاب بعض الأطراف واجب. والوجه ظاهر ، سيأتي تفصيل بحث العلم الاجمالي في مبحث الاشتغال إن شاء الله تعالى.

أما فيما نحن فيه فليس العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات بمنجز للتكليف ـ إذ لو كان منجزا له فلا بد من الاحتياط في جميع أطرافه سواء كان الاحتياط في المظنونات أم كان في المشكوكات أم كان في الموهومات.

ومن الواضح : أن هذا الاحتياط مستلزم لأحد الأمرين أما العسر والحرج وأما اختلال النظام وكلاهما غير مرضيين عند العقل والشرع فالمصنف قدس‌سره سلّم

٣٤٦

المقدمة الثالثة ، وهذا ظاهر.

قوله : إن قلت إذا لم يكن العلم الاجمالي منجزا لها للزم الاقتحام ...

ولا يخفى إن مقصود المستشكل من هذا الاشكال إن العلم الاجمالي إذا لم يكن منجزا للتكاليف الواقعية ولو في خصوص ما جاز ارتكاب بعض أطرافه لدفع العسر والحرج ، أو ما وجب ارتكاب بعض الأطراف لدفع اختلال النظام ، كما فيما نحن فيه ، فما المقتضى لامتثال الواجبات المحتملات وفعلها ولامتثال المحرمات المحتملات بين المشتبهات وتركها.

وعليه : فإذا ارتكب المكلّف ـ بواسطة ارتكاب بعض الأطراف الحرام ـ الواقعي من باب المصادفة والتزمنا إنه يستحق العقاب بسبب ارتكاب الحرام الواقعي فهل لا يكون هذا العقاب من مصاديق العقاب بلا بيان ومن مصاديق المؤاخذة بلا دليل وبرهان بل يكون هذا العقاب من مصاديقهما بلا كلام لعدم تأثير العلم الاجمالي بالنسبة إلى التكليف فوجوده وعدمه مثلان فيكون التكليف مشكوكا وهو مجري أصالة البراءة بلا مزاحم لكون الشك في بقية الأطراف بدويا لاحتمال كون التكليف المعلوم بالاجمال في الطرف المرخص فيه نظير ما إذا علمنا إجمالا بوجود الحرام في أطراف نضطر إلى ارتكاب بعضها المعين فيكون العقاب على المخالفة في بقية الأطراف على تقدير المصادفة بلا بيان لانتفاء العلم الاجمالي ولانحلاله من أصله حين جواز الاقتحام في بعض الأطراف ، أو وجوب ارتكاب بعضها ، كما تقدم وجهه.

في جواب المصنف قدس‌سره عنه

أجاب عنه بأن هذا الاشكال إنما يلزم إذا لم نعلم بوجوب الاحتياط في بقية الأطراف وأما إذا علمنا بوجوبه على طريق اللم من جهة شدة اهتمام الشارع

٣٤٧

المقدّس بتكاليفه وقوانينه بحيث ينافيه عدم إيجاب الشارع المقدّس الاحتياط الموجب للزوم مراعاة التكاليف ومن هذه الجهة نكشف كشفا لميّا عن وجوب الاحتياط وإن كان في بعض الأطراف يكون غير البعض الذي جاز ارتكابه لدفع العسر والحرج ، أو وجب ارتكابه لدفع اختلال النظام ، أو بواسطة الاضطرار فاهتمام الشارع المقدّس بتكاليفه علة لوجوب الاحتياط في بعض الأطراف ، وهو معلوله فستكشف من وجود العلة ومن تحققها وجود المعلول وتحققه وهذا الكشف يمسى عند أهل المعقول بالبرهان اللمي ، وعكسه يسمى عنده بالبرهان الإني وكلاهما مفيدان للقطع واليقين بالنتيجة ، كما لا يخفى.

هذا ، مضافا إلى صحة دعوى إجماع أرباب الفتوى على عدم جواز إهمال التكاليف في هذا الحال أي في حال ما جاز ارتكاب بعض الأطراف ، أو في حال ما وجب ارتكابه ، إذ الاهمال في هذا الحال أمر مرغوب عنه شرعا ، إذ لم يرض به الشارع المقدّس قطعا.

فالنتيجة : لا يكون العقاب حين وجوب الاحتياط عقلا وشرعا بلا بيان وبلا برهان وإن كان الاحتياط ببعض المحتملات لا يوجب العلم بحصول الواقع ومع هذا الوصف يكون واجبا بلا إشكال بل بلا خلاف ، كما حققنا وجوبه في البحث وغيره ، أي في هذا البحث وغيره من البحوث الماضية واحققه في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

المقدمة الرابعة :

قوله : وأما المقدمة الرابعة فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط ...

فيقال إنها بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام في أطراف العلم الاجمالي إذا كان عسره بحد الإخلال بالنظام تامة مقبولة بلا كلام.

٣٤٨

وأما بالاضافة إلى عدم وجوب الاحتياط التام في الأطراف إذا كان الاحتياط يوجب العسر والحرج فقط بلا إخلال بالنظام فعدم وجوبه محل نظر وإشكال بل محل منع ، إذ لا تكون قاعدة نفي العسر ونفي الحرج حاكمة على قاعدة الاحتياط.

توضيح : وهو إن الثابت لنا في علم الفقه الشريف ، ثلاث قواعد :

أولها : قاعدة نفي العسر.

وثانيها : قاعدة نفي الحرج.

وثالثها : قاعدة نفي الضرر والضرار كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا ضرر ولا ضرار في الاسلام».

اعلم أن دليل نفي العسر ونفي الحرج ونفي الضرر والضرار يحتمل فيه معان كثيرة ولكن الأظهر عند الشيخ الأنصاري قدس‌سره كونه من قبيل نفي السبب بلسان نفي مسبّبه فالمعنى نفي الحكم الذي يأتي من قبله العسر والحرج والضرر ، فليس الحكم العسري والحكم الحرجي والحكم الضرري في الاسلام ، والأظهر عند المصنف قدس‌سره كونه من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه فالمعنى نفي الحكم الذي يكون للموضوع العسري والحرجي والضرري ويختص هذا المعنى بما في رفعه امتنان من قبل الشارع المقدّس على العباد ، فليس للوضوء الحرجي والعسري والضرري وجوب أصلا ، وكذا ليس لبيع الضرري لزوم أصلا.

وعلى طبيعة الحال ، فإذا كانت الأحكام الواقعية حرجية بسبب الجهل بها إذ هو موجب للتكرار وهو ربما يكون حرجيا ولكن ليست موضوعاتها حرجية ولا ضررية فعلى القول الأول يصح تطبيق قاعدة نفي العسر والحرج والضرر لرفع الأحكام الحرجية والضررية في هذه الموارد.

وعلى القول الثاني : لا يصح تطبيق القاعدة المذكورة لرفع الأحكام ما لم تكن موضوعاتها حرجية ، مثلا إذا كان لزوم البيع مستلزما للضرر والحرج والعسر

٣٤٩

فلزومه منفي في الاسلام وذلك كبيع الغبني والضرري مثلا ، لا نفس البيع منفي فيه فالقواعد المذكورة حاكمة على القاعدة الأولية في البيع وهي أصالة لزوم البيع ونحوه من المعاملات والعقود والايقاعات.

وكذا إذا كان وجوب الوضوء مستلزما للضرر والحرج فالقواعد ترفع وجوبه وعليه : فالقواعد المذكورة حاكمة على الأدلّة الأوّلية وهي : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ،) هذا على مختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره في هذا المقام ، واختاره في رسائله.

وأما مختار المصنف قدس‌سره فهذه القواعد ترفع البيع الضرري الحرجي العسري والوضوء الضرري الحرجي العسري ولا ترفع لزوم البيع ووجوب الوضوء إذا كانا ضرريين.

وعليه : فلا تكون القواعد الثلاث حاكمة على الأدلة الأولية وذلك لما حققناه في مبحث الاشتغال في معنى ما دل ـ على نفي الضرر والعسر والحرج ـ من التوفيق والجمع بين دليل نفي الضرر ونفي العسر ودليل التكليف ، وذلك كالدليل الدال على وجوب الوضوء ، أو على الوضع كالدليل الدال على لزوم العقد مثل يا أيها الناس أوفوا بالعقود سواء كان الوضوء ضرريا أم لم يكن بضرري لأن الوجوب قد تعلق بالوضوء بما هو وضوء وكذا لزوم الوفاء قد تعلق بالعقد أي عقد البيع مثلا ، سواء كان ضرريّا كالبيع الغبني أم لم يكن بضرري كالبيع المرابحة مثلا.

فالأدلّة الأوّلية دالّة على وجوب الوضوء وعلى لزوم العقد والعقود كعقد البيع وعقد النكاح وعقد الاجارة وأمثالها.

والأدلة الثانوية كدليل نفي الضرر وكدليل نفي الحرج دالّة على نفي حكم الضرري والحرجي بلسان نفي موضوعه أي لا يكون الوجوب واللزوم للوضوء الضرري والبيع الضرري ، إذ ليس الوضوء الضرري والبيع الضرري بثابتين في

٣٥٠

الشريعة المقدسة كي يحكم بوجوبه ولزومه أي وجوب الوضوء ولزوم البيع فتتعارضان في الحكم الضرري والحرجي فمقتضى الجمع بينهما هو نفي التكليف ، كالوجوب ، ونفي الوضع ، كاللزوم عن المتعلقين ، بلسان نفي الضرر ونفي الحرج فالتكليف والوضع منفيان عن الموضوع الضرري والحرجي كنفي الوجوب عن الوضوء الضرري وكنفي اللزوم عن البيع الضرري.

فالموضوع الضرري لا حكم له أصلا في الشريعة المقدسة فلا يكون دليل نفي الضرر والحرج حاكما على قاعدة الاحتياط الذي يستلزم العسر وناظرا إليها لأن موضوع التكليف ليس في إتيانه حرج وعسر مثلا ، ليس في إتيان الصلاة والصوم والحج حرج وعسر بل إنما يكونان من ناحية الجمع بين المحتملات والمشتبهات احتياطا.

ومن الواضح : إنها ليست بموضوع التكليف ولا متعلق الحكم كي ترتفع بنفي الحرج والعسر ، هذا إذا كان الاحتياط بحكم العقل.

وأما إذا كان الاحتياط بحكم الشرع الأقدس ، فحكومة قاعدة نفي الحرج والعسر على قاعدة الاحتياط مسلمة ، إذ متعلق الاحتياط ، وهو المحتملات ، حرجي وعسري.

وفي طبيعة الحال ، فلا يصح أن يقال في زمان الانسداد إن الاحتياط العسر مرفوع بسبب قاعدة نفي الحرج والعسر ومنتف بها إذا كان عقليا من باب دفع الضرر المحتمل وليس الأمر كذلك.

فإن قيل : بناء على هذا أي إذا كان مفاد قاعدة نفي الضرر نفي الوضوء الضرري والبيع الضرري يلزم الكذب لوجود البيع الضرري في الخارج ولوجود الوضوء الضرري فيه. قلنا إن نظر المصنف قدس‌سره في هذه القاعدة نفي الحكم بلسان نفي الموضوع فليس الوجوب ثابتا للوضوء الضرري وليس اللزوم بمعنى ترتب

٣٥١

الأثر ، وهو النقل للمثمن ، وانتقال الثمن لبيع الضرري والغبني ، وعليه لا يلزم الكذب أصلا.

وعلى أي حال ، فلا بد في المقام من بيان الثمرة بين مختار الشيخ الأنصاري ومبنى المصنف قدس‌سرهما في مفاد القواعد الثلاثة ، وهي تظهر بينهما في المورد الذي يشتبه فيه ثوب طاهر في ما بين مائة لباس مثلا ، فإذا احتاط المكلف فليفعل مائة صلاة الظهر مثلا ، في مائة ثوب على التناوب ، ولا ريب في إن هذا الاحتياط مستلزم للعسر والحرج عليه فبناء على مذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره فليس الوجوب للاحتياط بثابت في الاسلام ، إذ في وجوبه عسر وحرج على المكلف ولا ريب في إن العسر والحرج ربما مستلزمان للضرر البدني ، أو المالي فقاعدة العسر والحرج والضرر حاكمة على الأدلّة الأوّلية وعلى قاعدة الاحتياط بناء على مختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

وأما طبق مبنى المصنف قدس‌سره فليس العسر والحرج في موضوع التكليف ، وهو الصلاة ، وفي متعلق الحكم ، وهو إقامة الصلاة ، بموجودين ، إذ أوجب الشارع المقدس الصلاة الواحدة على المكلف وهي ليست بحرجية ولا ضررية أما إذا اشتبه لباس الطاهر فالعقل يحكم بالاحتياط والاتيان بمائة صلاة في مائة ثوب لا الشرع لأنّ الشارع المقدّس قد حكم بإتيان الصلاة الواحدة.

ومن الواضح : إنه ليس في إتيانها عسر ولا حرج ولا ضرر عليه.

فالنتيجة : إن الشيخ الأنصاري رضى الله عنه ذهب إلى نفي الحكم الضرري والحرجي والعسري في الاسلام وأن المصنف قدس‌سره مشى في إن المنفي هو الموضوع الضرري والحرجي والعسري في الدين وفي الاسلام.

وعليه : فإذا أحرز الموضوع أنه حرجي وضرري فقاعدة نفي الضرر ونفي الحرج تنفي حكمه.

٣٥٢

نعم : لو كان معنى دليل نفي الحرج ونفي الضرر نفي الحكم الناشي من قبله العسر والحرج كما قيل هذا المعنى القائل به هو الشيخ الأنصاري قدس‌سره لكانت قاعدة نفي الضرر والحرج حاكمة على قاعدة الاحتياط لأن الشارع المقدّس قد نفى الحكم الذي ينشئ من قبله الضرر والحرج والعسر ولم يجعله فالعسر والحرج اللذان يكونان في الاحتياط من جهة فعلية التكاليف المجهولة يرفعان وجوب الاحتياط.

قوله : ولا يخفى إنه على هذا لا وجه لدعوى استقلال ...

قال المصنف قدس‌سره لو سلّمنا مذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره أي قلنا بنفي نفس الحكم الضرري والحرجي لا بنفي موضوع الضرري والحرجي فلا يجب الاحتياط في بعض الأطراف بل لا وجه لوجوبه فيه من ناحية حكم العقل بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمام الأطراف لأجل العسر والحرج في الاحتياط التام ولأجل الحكومة وللاضطرار بل لا بد من دعوى وجوبه شرعا في بعض الأطراف من جهة علمنا باهتمام الشارع المقدّس بتكاليفه وقوانينه فلا جرم يكون هذا الاهتمام علة لوجوب الاحتياط شرعا وإلّا لزم إهمال معظم الأحكام الشرعية وعدم الاجتناب عن كثير من المحرمات الالهية ولا ريب في إن هذا مبغوض عند الشارع المقدّس قطعا فنستكشف هذا لما ، كما قد سبق في طي المقدمة الثالثة.

توضيح : في طي مذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، وهو إذا نفى الحكم الضرري والحرجي للقاعدتين المذكورتين ، والوجه كما عرفت أنهما من قبيل نفي السبب ، وهو الضرر والحرج بنفي المسبب ، وهو الحكم الضرري والحرجي فلا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف يعني أنه ، إذا بنى على رفع اليد عن الاحتياط التام بأدلة الحرج والعسر من جهة إنها موجبة لرفع التكليف المؤدي إلى الحرج والعسر فحينئذ لا يكون علم بالتكليف في بعض الأطراف فلا مقتضى

٣٥٣

للاحتياط في الباقي لكون العقاب على التكليف عقابا على تكليف محتمل وهو عقاب بلا بيان.

وبتقرير آخر : وهو لا يخفى أنه بناء على حكومة أدلة العسر والحرج على قاعدة الاحتياط جاز الاقتحام ، أو وجب الاقتحام في بعض الأطراف كالمشكوكات والموهومات لدفع الحرج ، أو لدفع اختلال النظام فلا يبقى السبب لمراعاة قاعدة الاحتياط في المظنونات لصيرورة الشك فيها بدويا لاحتمال أن تكون التكاليف المعلومة بالاجمال كلها في خصوص الأطراف المرخصة فيها لدفع الحرج ، أو لدفع اختلال النظام لأن الاحتياط إنما وجب للعلم الاجمالي فإذا انحل العلم الاجمالي فلا موجب للاحتياط لا في تمام الأطراف ولا في بعض الأطراف.

وفي ضوء هذا : ففي مراعات الاحتياط في المظنونات لا بد من دعوى وجوبه شرعا إما لأجل استكشافه بنحو اللم من ناحية شدة اهتمام الشارع المقدّس بتكاليفه ، أو لأجل انعقاد إجماع أرباب الفتوى عليه في حال ما جاز الاقتحام ، أو في حال ما وجب الاقتحام في بعض الأطراف لدفع الأمرين المذكورين ، أو لأجل الاضطرار كما سبق هذا في جواب إن قلت في طي المقدمة الثالثة.

قوله : فافهم وتأمل جيدا ...

وهو تدقيقي.

قوله : وأما الرجوع إلى الاصول فبالنسبة إلى الاصول المثبتة من احتياط ...

لمّا فرغ المصنف قدس‌سره عن نفي وجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي شرع في جواز الرجوع وعدم جوازه إلى الاصول العملية ولكن المستدل قال بعدم جواز الرجوع إلى الاصول قال المصنف قدس‌سره إن عدم جواز الرجوع بالنسبة إلى الاصول المثبتة للتكليف ممنوع كالاحتياط واستصحاب بقاء التكليف ، إذ لا مانع

٣٥٤

من إجرائها عقلا.

هذا ، مضافا إلى إن حكم العقل وعموم النقل يوافقان مع إجرائها أي إجراء الاصول المثبتة للتكليف ولا بد هنا من بيان تقسيم الاصول ، وهي ثلاثة أقسام :

الأوّل : الأصل العملي المثبت للتكليف دائما وذلك كالاحتياط وأصالة الاشتغال مثلا.

الثاني : الأصل العملي النافي له دائما وذلك كأصالة البراءة.

الثالث : الأصل العملي المثبت له تارة. واخرى : ينفيه وذلك كالاستصحاب مثلا ، إذا استصحبنا وجوب صلاة الجمعة فهذا الاستصحاب يكون مثبتا للتكليف ، وإذا استصحبنا عدم وجوب القصر في صورة الشك فيه مثلا إذا قطع المكلف مسافة أربع فراسخ وبات في رأس المسافة ورجع غدا فيشك في صلاة العشاء أهي قصر أم هي تمام فاستصحبنا عدم وجوب قصرها فهذا ناف للتكليف ، وسيأتي هذا في الاصول النافية.

قوله : فلا مانع عن إجراءها عقلا ...

إذ المنجز للواقعيات إما يكون العلم الاجمالي وإما يكون الخروج عن الدين وإما يكون الاجماع وإما يكون العلم بالاهتمام ولكن الجميع لا يصلح للمنع عن الاصول المثبتة للتكليف ، كما هو ظاهر ، بل يكون مؤيدا لها.

قوله : مع حكم العقل ...

يعني إذا لم يكن مانع بموجود عن إجراءها لوجب أن تجري لوجود المقتضى لجريانها من حكم العقل وفقدان المانع عنه إذا كان الأصل المثبت عقليا كالاحتياط ، أو من عموم النقل إذا كان نقليا كالاستصحاب ، إذ هو مؤيد للاحتياط الذي هو عبارة عن عدم نقض الشك اللاحق لليقين السابق ودليل الاستصحاب نحو لا تنقض اليقين بالشك عام شامل لما نحن فيه.

٣٥٥

قوله : ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي ...

إذ إجراءه فيها يوجب حصول التناقض في مدلول دليل الاستصحاب ضرورة ثبوت المنافاة بين حرمة نقض اليقين بالشك في كل واحد من الأطراف بمقتضى لا تنقض ـ وبين وجوب النقض في بعض الأطراف بمقتضى ولكن تنقضه بيقين آخر مثلا ، إذا كانت حالة سابقة الإناءين طهارة فتنجس أحدهما بملاقات النجاسة واشتبه الاناء المتنجس بينهما وعلمنا بنجاسة أحدهما.

وعليه : فإذا عملنا بمقتضى صدر دليله ، وهو لا تنقض اليقين بالشك لزم منه الحكم بطهارة كليهما ، إذ كل واحد منهما مشكوك النجاسة بعد ما كان متيقن الطهارة فيتم أركان الاستصحاب في كل واحد منهما ، وإذا لاحظنا اليقين بنجاسة أحدهما فهو يقتضي الحكم بنجاسة كليهما على البدل كما إن مقتضى ذيل دليل الاستصحاب ، وهو ولكن أنقضه بيقين آخر ، الحكم بنجاسة كل واحد على البدل.

فالنتيجة : إن صدره يقتضي الحكم بطهارتهما على البدل ، وذيله يقتضي الحكم بنجاستهما على البدل.

ومن الواضح : أن التناقض بين الطهارة والنجاسة واضح ، والمنافاة بينهما عيان لا يحتاج إلى البيان أما بيان علة إجراء الاستصحاب فيما نحن فيه ، فهو إنه إذا أجرينا الاستصحاب في بعض الأطراف فليس الشك بفعلي في سائر الأطراف.

مثلا : إذا أجرى المجتهد حال الاستنباط الاستصحاب بالاضافة إلى وجوب صلاة الجمعة وليس له التفات إلى التكاليف المعلومة بالاجمال بل تكون مغفولا عنها فلا يلزم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب وبين ذيله لأنه أجرى الاستصحاب بملاحظة صدره في بعض الأطراف ولا يلاحظ ذيله بالاضافة إلى سائر الأطراف كي يلزم التناقض بينهما فيما نحن فيه.

ومن الواضح : أنه يشترط في إجراء الاستصحاب أن يكون الشك اللاحق

٣٥٦

فعليا لا تقديريا.

فالتناقض إنما يلزم إذا كان الشك في أطراف العلم الاجمالي فعليا ، كما في الإناءين المشتبهين ، بالنسبة إلى كل واحد منهما على البدل.

واما إذا كان الشك فعليا في بعض الأطراف فقط وبعض الآخر يكون غير ملتفت إليه فلا يكون موردا للشك كما هو حال المجتهد وقت الاستنباط في كثير من أطراف العلم الاجمالي ومحتملاته فإجراء الاستصحاب في بعض محتملاته غير موجب للتناقض أصلا لأن مقتضى لا تنقض اليقين بالشك حرمة نقض اليقين السابق بالشك اللاحق في خصوص الطرف المشكوك ، فبعد إجراءه فيه ، لا يحصل العلم بانتقاض اليقين السابق باليقين اللاحق كي يلزم الحكم بمقتضى ذيل دليل الاستصحاب بانتقاض اليقين السابق باليقين اللاحق وكي يلزم التناقض بين الصدر والذيل.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى إن التناقض بينهما يتوقف على شمول دليل الاستصحاب لكل واحد من الأطراف لكن شموله كذلك ممتنع ، إذ هو يتوقف على تحقق موضوع الاستصحاب ، وهو الشك في البقاء في كل واحد من الأطراف ، وهذا الشك غير حاصل للمجتهد وقت استنباط الأحكام من مداركها ، إذ التفاته إلى الفروع تدريجي ، لأنه ليس علمه بها لدني ، كي يكون التفاته إليها دفعيا ، ولازم ذلك عدم العلم الاجمالي بالانتقاض في جميع الأطراف أي عدم العلم الاجمالي بانتقاض اليقين السابق باليقين اللاحق بلحاظ ذيل دليل الاستصحاب ، كما لا يخفى.

قوله : ومنه قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة ...

قد ظهر لك من عدم العلم الاجمالي بالانتقاض أي انتقاض اليقين باليقين الآخر لأجل الغفلة والذهول عن بعض الأطراف ـ ثبوت حكم العقل وعموم النقل

٣٥٧

بالنسبة إلى الاصول النافية للتكليف أيضا ، إذ لا يلزم محذور لزوم التناقض من جهة شمول الدليل للأطراف لو لم يكن هناك مانع عقلي ، أو شرعي ، إذ المانع من جريان الاصول النافية أما العلم الاجمالي بالتكليف الكثير.

وأما الاجماع على وجوب الاحتياط في الجملة ، وأما العلم بالاهتمام الذي يستكشف به وجوب الاحتياط شرعا في الأطراف ، وجميع هذه الموانع الثلاثة لا تصلح للمنع عن جريانها في الأطراف.

أما الأول فإنما يمنع عنه لو لم ينحل بثبوت مقدار من التكليف بتوسط العلم أو بتوسط العلمي ، أو بتوسط الاصول المثبتة التي قد عرفت جريانها في بعض الأطراف ، أما إذا ثبت مقدار من التكاليف بواسطة الامور المذكورة يساوي المعلوم بالاجمال فإنه ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي في بعض الأطراف كوجوب صلاة الجمعة ، والشك البدوي ، كوجوب صلاة الظهر ، فحينئذ لا مانع عقلا من جريان الاصول النافية ، وهي عبارة عن أصالة عدم وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ، عصر الغيبة.

وأما الأخيران فالقدر المتيقن من منعهما عن جريانها صورة عدم ثبوت مقدار ما من التكليف سواء كان مساويا للمعلوم بالاجمال أم لم يكن مساويا له أما إذا ثبت مقدار منه بحيث لا يكون الاجماع ثابتا على وجوب الاحتياط فيما عداه وبحيث لا يكون العلم بالاحتياط من طريق حكم العقل ثابتا فيه فلا يمنعان من جريان الاصول النافية في بعض الأطراف أيضا.

فالنتيجة : إن العلم الاجمالي بالتكليف لا يكون مانعا عن جريان الاصول النافية في بعض الأطراف ولا يلزم التناقض في صدر دليل الاستصحاب وذيله بشرط أن لا يكون المانع العقلي ولا المانع الشرعي في البين.

فإن قيل : إن العلم الاجمالي بالتكليف أليس بمانع عقلي عن جريان الأصل

٣٥٨

النافي في بعض الأطراف ، أو إن الاجماع واهتمام الشارع المقدّس أليسا بمانعين شرعا عن جريانه ، بل كان الأمر كذلك.

قلنا : إنها مانعة عنه إذا لم يستكشفنا بواسطة الأصل المثبت وبواسطة العلم التفصيلي وبواسطة الدليل العلمي ، كخبر الثقة ، مقدارا من المعلوم بالاجمال وأما إذا استكشفنا بها هذا المقدار فلا مانع عن جريانه في الطرف الآخر بل ليس المانع عن جريانه بموجود إذا استكشفنا بها مقدارا من التكليف ليس بمقدار المعلوم بالاجمال ، أما فيما نحن فيه فقد استكشفنا بها المقدار المساوي بالمعلوم بالاجمال ، وهذا واضح لا غبار عليه.

قوله : ومن الواضح إنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ...

ولا يخفى أن انحلال العلم الاجمالي بواسطة العلم التفصيلي ، أو بواسطة الاصول المثبتة ، أو بواسطة الدليل العلمي متفاوت بحسب الأشخاص والمجتهدين مثلا ، زيد المجتهد قائل بحجية خبر العادل الذي ذكّى راويه بعدلين وأما بكر المجتهد فهو يقول بحجية خبر الموثق أيضا سواء كان راويه إماميا أم كان غير إمامي.

وعلى طبيعة الحال : فالأول : يستنبط قليلا من الأحكام الفرعية من الدليل العلمي. والثاني : يستنبط كثيرا منها من الدليل العلمي.

وقد يحصل للمجتهد أحكام معلومة بالتفصيل كثيرا لأنه ينحل العلم الاجمالي بالتكاليف على نحو الكلي بواسطة خبر الموثق وبواسطة الشهرة الفتوائية وبواسطة الاصول المثبتة للتكليف.

وعليه : فلا مانع من إجراء الاصول النافية للتكليف بالاضافة إلى الطرف المشكوك بدوا بعد الانحلال ، وقد لا يحصل للمجتهد الآخر أحكام معلومة بالتفصيل كثيرا لأنه لا ينحل العلم الاجمالي بالتكاليف على نحو الكلي ، إذ هو لم

٣٥٩

يقل بحجية خبر الموثق والشهرة الفتوائية ، هذا اختلاف المجتهدين بحسب الآراء.

وأما اختلافهم بحسب الأحوال فلأن المجتهد قد يكون في زمان يتمكن فيه من انحلال العلم الاجمالي بالتكاليف ببركة العلم التفصيلي والظن المعتبر ، وذلك كالظن الخبري ، والاصول المثبتة للتكليف ، وقد لا يكون كذلك ، إذ رب حال أمكن فيه تحصيل العلم التفصيلي الوجداني ، أو تحصيل العلمي بمقدار من الأحكام إذا انضم هذا المقدار إلى الاصول المثبتة للتكليف لانحل العلم الاجمالي بها من أصله أما بخلاف حال آخر وزمان آخر فانه لا يمكن من تحصيل العلم التفصيلي الوجداني ، أو العلمي بالمقدار من الأحكام الفرعية ، فلا موجب حين انحلال العلم الاجمالي للاحتياط عقلا ولا شرعا أصلا.

أما الأول فلانحلال العلم الاجمالي بواسطة الامور المذكورة.

وأما الثاني فلانتفاء الاجماع على وجوبه في الأطراف المشكوكة بدوا إذا كانت كثيرة ، أو في الطرف المشكوك بدوا إذا كان واحدا فحسب.

قوله : كما ظهر إنه لو لم ينحل بذلك كان خصوص موارد الاصول ...

وقد ظهر انحلال العلم الاجمالي الكبير بسبب ثبوت مقدار من التكاليف بالعلم التفصيلي الذي يحصل بالضرورة ، أو الاجماع القطعي ، أو بالاصول المثبتة للتكاليف فالعلم التفصيلي أعم من العلم الوجداني ومن العلم التعبدي التنزيلي كما في موارد الاستصحاب المثبت للتكليف كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة عصر الغيبة مثلا ، أو بسبب ثبوت مقدار من التكاليف بالامارات المعتبرة ، فلا موجب بموجود حين انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى العلم التفصيلي وإلى الشك البدوي للاحتياط ، كما قد سبق هذا.

كما ظهر أن العلم الاجمالي بالتكاليف لو لم ينحل بالاصول المثبتة وتلك الضميمة ، وتلك كالعلم التفصيلي الوجداني بالتكليف الحاصل من الضرورة ، أو

٣٦٠