البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

الصادرة عن الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام موجودة يقينا في طي الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة فيكون صدور غيرها عنهم عليهم‌السلام مشكوكا فيه.

وثانيتها انّها تبيّن أجزاء الاصول الضرورية وشرائطها وموانعها.

وثالثها انّها تكون بمقدار الكفاية ، ونحن نعلم باعتبارها وحجيتها فينحل العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الإجمالي الصغير بالإضافة إلى الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة. وغيرها يكون خارجا عن طرف العلم الإجمالي. كما قلنا بهذا الانحلال في تقريب الوجه الأوّل ، حيث قال المصنّف قدس‌سره يعلم إجمالا بصدور كثير من الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة وهو واف بمعظم الفقه.

فتحصّل ممّا ذكر انّ العلم باعتبار الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة وعدم العلم باعتبار غيرها من الأخبار والأحاديث موجبان لهذا الانحلال المذكور كما لا يخفى فلا يجب العمل بكل خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئية والشرطية والمانعية.

ولا يلزم الاحتياط والعمل بكل خبر دلّ على جزئية شيء ، أو شرطيته ، أو مانعيته ، بل يلزم الاحتياط والعمل بكل خبر موجود في الكتب الأربعة ودلّ على اجزاء الاصول الضرورية وشرائطها وموانعها ، كما لا يخفى ، فالوظيفة هو العمل بالأخبار التي هي في الكتب الأربعة وترك العمل بغيرها من الأخبار والأحاديث.

قوله : اللهمّ إلّا أن يمنع عن ذلك وادّعى عدم الكفاية ...

إلّا أن يدعى عدم الانحلال المذكور ، إذ لا نسلم كفاية الأخبار التي هي موجودة في الكتب الأربعة في بيان الأجزاء والشرائط والموانع أي اجزاء الاصول الضرورية وشرائطها وموانعها.

وعليه فلا ينحل العلم الإجمالي الكبير إلى الصغير منه من جهة العلم باعتبار الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة. إلّا أن يدّعى العلم واليقين بصدور الأخبار

٣٢١

والأحاديث غير الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة فهذا العلم مانع عن الانحلال المذكور.

فخلاصة الكلام أن ندعي أوّلا أنّ الأخبار التي تكون معلومة الصدور كالأخبار التي في الكتب الأربعة غير كافية في بيان الأجزاء والشرائط والموانع وندعي ثانيا أنّ الأخبار المعتبرة في الكتب الأربعة ليست ثابتة بقدر الكفاية. وندعي ثالثا إنّا نعلم بصدور غير أخبار الكتب الأربعة ، أو باعتباره من الأحاديث الموجودة في الكتب الأخر ، فهذه الامور الثلاثة موجبة لعدم الانحلال المذكور ، كما لا يخفى.

قوله : فتأمّل ...

وهو إشارة إلى أنّه لا نسلم الدعوى الاولى والثانية ، إذ أخبار الكتب الأربعة تكون بقدر الكفاية في جميع امور الناس ، معاشهم ومعادهم وعباداتهم ومعاملاتهم وسياساتهم وعقودهم وإيقاعاتهم وأخلاقياتهم ومعاشراتهم.

ولأجل هذا قال المصنّف قدس‌سره كلمة اللهمّ في المقام ، إذ هي إشارة إلى ضعف عدم دعوى انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الإجمالي الصغير.

قوله : وثانيا بأنّ قضيته انّما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية ...

الثاني من الإيرادين على استدلال صاحب الوافية قدس‌سره أنّ مقتضى هذا الدليل العقلي على حجية أخبار الآحاد لزوم العمل بالأخبار المثبتة للجزئية والشرطية والمانعية أمّا الأخبار النافية للجزئية والشرطية فليست بحجة ، نظرا إلى هذا الدليل العقلي ، إذ هو مركب من أمرين :

الأوّل : بقاء التكليف إلى يوم القيامة.

الثاني : ثبوت أكثر الأجزاء والشرائط والموانع بأخبار الآحاد غير المحفوفة بالقرائن القطعية وإن ثبت أقلها بالأخبار المتواترة لفظا ، أو معنى ، أو بأخبار الآحاد

٣٢٢

المحفوفة بالقرائن القطعية ، وهذا واضح.

قوله : والاولى أن يورد عليه بأن قضيته انّما هو الاحتياط ...

قال المصنّف قدس‌سره والاولى أن يورد ايراد الثاني من قبل الشيخ الأنصاري رضى الله عنه على استدلال صاحب الوافية رضى الله عنه بهذا البيان وهو انّ الشيخ الأنصاري رضى الله عنه قال لازم دليل صاحب الوافية قدس‌سره الأخذ بكلّ خبر دلّ على الجزئية والشرطية والمانعية ولا يقتضى دليله الأخذ بالأخبار النافية للجزئية والشرطية والمانعية بشرط أن لا تكون الحجة المعتبرة على نفى الجزء والشرط من عموم دليل ، أو إطلاقه ولا يكون لازم دليله حجية أخبار الآحاد بحيث يخصص بالمثبت من الأخبار عموم الدليل ، أو يقيد به إطلاقه أي يخصص به عموم الآيات القرآنية وعموم الأخبار ، أو يقيد به إطلاقها وإطلاقها وبحيث يعمل بالنافي من الأخبار في قبال الحجّة على ثبوت التكليف سواء كانت الحجة آية من الآيات القرآنية أم كانت خبرا ، أو أصلا مثلا ، إذا دلّ الخبر على نفي جزئية السورة للصلاة المكتوبة ولكن كانت في قباله قاعدة الاشتغال وهي تقتضي جزئيتها لها ، إذ اشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني وهو لا يحصل إلّا بإتيان السورة المشكوك فيها ، إذ الفرض عدم ضرر الزيادة وضرر النقيصة.

أمّا دليل صاحب الوافية رضى الله عنه فهو يقتضي العمل على طبق الخبر النافي للتكليف. ومدعاكم إثبات الحجية لمطلق الخبر سواء كان مثبتا للتكليف أم كان نافيا له ، فهذا الدليل أخص من المدعى وهو لا يثبته بأسره وتمامه ، كما لا يخفى.

في ثالث الوجوه العقلية

قوله : ثالثها ما أفاده بعض المحققين بما ملخصه إنّا نعلم بكوننا مكلّفين ...

قد استدلّ الشيخ محمّد تقي الاصفهاني قدس‌سره في حاشيته على المعالم المسماة

٣٢٣

بهداية المسترشدين على حجيّة خبر الواحد بالوجه العقلي وقد عدّه المصنّف قدس‌سره وجها ثالثا من الوجوه العقلية.

وملخصه إنّا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب الكريم والسنّة الشريفة وبالعمل على طبق مضامينهما العالية نسلا بعد نسل إلى يوم القيامة.

وعلى ضوء هذا فإن تمكنّا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم لنا بالحكم الشرعي ، أو يحصل الظن الذي يقوم مقام العلم به فلا بد حينئذ من الرجوع إليهما عقلا لأجل حصول العلم ، أو الظنّ المتاخم للعلم بالحكم الشرعي. وإن لم يحصل التمكن لنا من الرجوع إليهما على النحو المذكور فلا محيص عن الرجوع إلى الظن يحصل به الخروج عن عهدة التكليف الإلهي ، إذ لو لم يتمكنا من القطع بالصدور والمقطوع الصدور ، وهو القرآن الكريم والمتواتر ومن المقطوع الاعتبار.

وهو الخبر الواحد المحفوف بالقرائن القطعية.

فلا بد من التنزل إلى الظن ، أو إلى الظن بالاعتبار أي إلى مظنون الصدور ، أو إلى مظنون الاعتبار خروجا عن عهدة التكليف الثابت المعلوم بالضرورة.

والمظنون صدورا أو اعتبارا يكون الخبر الواحد الذي لا يكون محفوفا بالقرائن القطعية بحيث تدل على تيقن صدوره ، أو على تيقن اعتباره ولا ريب في ان الظن بالحكم يتحقق بواسطة الخبر الواحد.

وهذا معنى حجيته ، إذ العقل يحكم بوجوب متابعة الظن بالأحكام الشرعية بعد عدم تمكن المكلف من القطع بالحكم ، وهذا واضح.

في تقرير إشكال المصنف قدس‌سره عليه

قوله : وفيه إن قضية بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنّة كما صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه زيد في علو مقامه ...

٣٢٤

واستشكل المصنّف قدس‌سره على هذا الوجه العقلي بأن مقتضى بقاء التكليف إلى يوم القيامة ومقتضى التكليف بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنّة كما صرّح المحقق الاصفهاني قدس‌سره في ذيل كلامه بأن المقصود من السنة هو الاخبار الحاكية عن السنّة وليس المراد منها نفس المحكي عنه وهو قول المعصوم ، أو فعله ، أو تقريره إنما هو الاكتفاء في الرجوع إلى الأخبار التي تكون متيقنة الاعتبار ويكون اعتبارها يقينيا فان وفي المتيقن الاعتبار بمعظم الأحكام الفقهية فقد حصل المطلوب وان لم يف المتيقن الاعتبار بالمعظم فقد اضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالاضافة ولو كان إمارة اخرى غير الأخبار ولكن بشرط تحقق المتيقن الاعتبار الاضافي والنسبي في المورد.

وذلك كخبر العدل بالاضافة إلى خبر الامامي الممدوح وهو بالاضافة إلى خبر الموثق غير الامامي.

وان لم يتحقق المتيقن الاعتبار في البين فيلزم الاحتياط كما عرفت في الوجه الأول.

والثاني أن لا تكون الوظيفة الرجوع إلى الأخبار المظنون الصدور ، أو الاعتبار لأن الاحتياط الذي ملاكه حفظ الواقع مقدم على العمل بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا.

وذلك التقدم يكون ثابتا بحكم العقل والذوق السليمين ، كما لا يخفى ، هذا ، مضافا إلى تمكننا من رجوع العلمي بالاخبار والروايات بمعنى أن نرجع إلى الأخبار التي يكون اعتبارها يقينيا رجوعا علميا تفصيليا بعدة منها.

ورجوعا علميا إجماليا بعدة اخرى منها فنأخذ مثبتها للتكليف ونعمل به ، وهكذا نأخذ نافيها له ونعمل به بشرط أن لا يكون في قبال النافي منها أصل مثبت للتكليف من استصحاب ، أو قاعدة الاشتغال مثلا.

٣٢٥

فالنتيجة : إنه لم تثبت حجية الأخبار التي تكون مظنونة الصدور ، أو مظنونة الاعتبار بواسطة هذا الوجه الثالث.

كما ادعى المحقق الاصفهاني قدس‌سره ذلك ، هذا ، مع ان مجال المنع عن ثبوت التكليف بالروايات والسنّة الحاكية غير معلومتين صدورا ، أو اعتبارا واسع ، إذ لا دليل العقلي ولا الدليل النقلي بموجودين في اعتبار مطلق الأخبار سواء كانت معلومة الصدور ، أو معلومة الاعتبار والحجية أم لم تكن معلومة من حيث الصدور أو الاعتبار فلم تثبت حجية الأخبار المظنونة الصدور ، أو الاعتبار كما هي مدعى صاحب الحاشية قدس‌سره.

في إشكال الشيخ الأنصاري قدس‌سره عليه

قوله : وأمّا الايراد عليه برجوعه إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى ...

واستشكل الشيخ الأنصاري قدس‌سره على الوجه الثالث بأن مرجعه إما إلى دليل الانسداد ثبت به حجية مطلق الظن وإما إلى الدليل الأول فليس دليلا مستقلا في قبالهما.

أما بيان ذلك فلأن مناط هذا الوجه إن كان دعوى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الواقعية فيرجع إلى دليل الانسداد ، إذ مقدمة الاولى منه دعوى العلم الاجمالي بثبوت التكاليف الكثيرة الفعلية في الشريعة المقدسة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأما إذا كان مناطه دعوى العلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار التي تكون بأيدينا فيرجع إلى الوجه الأول كما عرفته مفصلا سابقا.

٣٢٦

في رد المصنف قدس‌سره هذا الاشكال

قال المصنف قدس‌سره إن هذا الإشكال ليس بصحيح ، إذ ملاكه دعوى العلم بالتكليف إلى يوم القيامة وهو يقتضي الرجوع إلى الكتاب الكريم. وإلى الأخبار والروايات في الجملة أي إلى الأخبار التي تكون معلومة الصدور لنا ، أو معلومة الاعتبار والحجية لنا لا إلى كل الأخبار ومطلق الأخبار لا الرجوع إلى كثير من الأخبار التي تكون بأيدينا كي يرجع إلى الوجه الأول ولا الدعوى العلم الاجمالي بثبوت التكاليف الواقعية كي يرجع إلى دليل الانسداد فإن شئت كشف الحال فراجع تمام كلامه قدس‌سره في حاشيته على المعالم فتعرف حقيقة مرامه ومذهبه في هذا المقام.

فالنتيجة : إن هذا التقرير ليس معه الإشكالان المذكوران.

الوجوه التي أقاموها على حجية الظن

قوله : فصل : في الوجوه التي أقاموها على حجية الظن وهي أربعة الأول : ...

لمّا فرغ المصنف قدس‌سره عن الأدلة التي أقاموها على حجية الظن الخاص الحاصل من الأخبار التي هي بأيدينا شرع في بيان الوجوه التي أقاموها على حجية مطلق الظن ، وهي أربعة :

الوجه الأوّل : مركب من الصغرى والكبرى على هيئة الشكل الأول.

أما بيانه إن مخالفة المجتهد لمظنونه إذا كان حكما إلزاميا من وجوب ، أو تحريم مظنة الضرر ودفع الضرر المظنون لازم بحكم العقل.

أما توضيح الصغرى فيقال ان الظن بوجوب شيء ، أو الظن بحرمة شيء

٣٢٧

يلازم الظن بالعقوبة على مخالفة الظن المذكور تركا ، أو فعلا والظن بالمفسدة في مخالفة الظن بناء على تبعية الأحكام الالهية للمصالح والمفاسد ، كما هو الحق ، إذ في ترك الواجب المظنون مفسدة مظنونة كما ان في فعل الحرام المظنون مفسدة مظنونة أيضا.

وأما توضيح الكبرى فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح العقليين ، إذ قد عرفت سابقا ان وجوب دفع الضرر ليس من الأحكام العقلية بل هو من الفطريات التي جبلت عليها النفوس ، إذ لا ريب في بناء من له أدنى شعور وإدراك على الفرار من الضرر والاضرار حتى الحيوانات والأطفال في مبدأ نشئهم وإدراكهم والوجدان أقوى شاهد على هذا المطلب.

والظاهر انه لا فرق بين دفع الضرر وجلب النفع لكون الحيوان دافعا للضرر من نفسه ومن ، أولاده وجالبا للنفع إلى نفسه وإلى أبنائه والمراد من كونه من الفطريات أنه إذا أدرك الفاعل المختار الضرر في شيء ، رجّح عدمه على وجوده وتعلقت كراهته به فيفر عنه من دون توسط إدراك العقل حس الفرار من الضرر ، كما يفر الغنم من الذئب ، والفأرة من الهرّة.

وكذا إذا أدرك المنفعة في شيء رجّح وجوده على عدمه وتعلقت إرادته به من دون توسط حكم العقل بحسنه فوجوب الفرار عن الضرر ووجوب السعي إلى جلب النفع إنما هما يكونان بملاك وجوب تحصيل الغرض حيث ان الغرض دفع الضرر وجلب النفع لا بملاك الحسن والقبح العقليين كما قالت العدلية والمعتزلة بالحسن العقلي والقبح العقلي. وأما الأشاعرة فقد أنكرهما وقال الحسن ما حسّنه الشارع المقدس والقبيح ما قبّحه الشارع المقدس فلو قلنا بمقالة الأشاعرة لوجب دفع الضرر المظنون لوضوح أن ملاك حكم العقل لا ينحصر بالتحسين والتقبيح العقليين فلا ارتباط وجودا ولا عدما بين مسألة التحسين والتقبيح العقليين.

٣٢٨

وبين مسألة وجوب دفع الضرر المظنون ، إذ لا دليل على أن يرجع جميع أحكام العقل إلى الحسن العقلي والقبح العقلي ، والعقل يستقل بدفع الضرر سواء كان مظنونا أم كان محتملا لحفظ النفس عن الوقوع فيه.

ويدل على عدم ارتباطهما بالآخر اختلاف العقلاء في الحسن والقبح العقليين واتفاقهم في وجوب دفع الضرر المظنون عقلا وهذا الاتفاق مع ملاحظة ذاك الاختلاف يكشف كشفا قطعيا عن إن مناط حكم العقل بوجوب دفع الضرر المظنون لا يرتبط أصلا بمسألة التحسين والتقبيح العقليين لا وجودا ولا عدما.

فالنتيجة : فالعقل يستقل بدفع الضرر المظنون وهو لا يستقل بالتحسين والتقبيح عند جميع العقلاء بما هم عقلاء.

قوله : فتدبر جيدا ...

وهو تدقيقي لوجهين :

الأول : لظهور كلمة التدبر في التدقيق.

الثاني : لظهور كلمة الجيد فيه لا في التمريض ، كما لا يخفى.

قوله : والصواب في الجواب هو منع الصغرى ...

والصحيح في الجواب منع إحدى المقدمتين على سبيل منع الخلو بأن تمنع الصغرى على تقدير والكبرى على تقدير آخر وكلتاهما على تقدير ثالث.

بيان ذلك : أنه إن كان مراد المستدل من الضرر هو الضرر الاخروي فالكبرى وإن كانت صحيحة تامة ، إذ العقل مستقل بدفع الضرر المظنون بل بدفع الضرر المحتمل أيضا ، ولأجل هذا وجب الاحتياط في الشبهة البدوية قبل الفحص وفي أطراف العلم الاجمالي وما هذا إلّا لدفع الضرر المحتمل عقلا بل الضرر محتمل حتى في موارد العلم التفصيلي بالتكليف فإن استحقاق العقاب على المخالفة وإن كان مقطوعا به فيها إلّا ان العقاب الاخروي فيها أيضا محتمل وليس بمعلوم

٣٢٩

لاحتمال صدور العفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالى ، ولاحتمال شفاعة الشفعاء. اللهم ارزقنا شفاعتهم ، آمين يا إله العالمين.

وبالجملة لا ينبغي الشك في الكبرى على هذا التقدير والفرض المذكور إلّا إن الصغرى ممنوعة ، إذ لا ملازمة بين التكليف الواقعي وبين استحقاق العقوبة على المخالفة حتى يكون الظن بالتكليف الالزامي من وجوب ، أو حرمة مستلزما للظن بالعقاب على المخالفة وإلّا كان احتمال التكليف مستلزما لاحتمال العقاب على المخالفة ولزم الاحتياط في الشبهات البدوية ولو بعد الفحص ، إذ دفع الضرر المحتمل أيضا واجب عقلا كالضرر المظنون مع كونه واضح الفساد لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان وبقبح المؤاخذة بلا برهان.

وبعبارة اخرى : استحقاق العقاب على المخالفة من لوازم تنجز التكليف لا من لوازم وجوده الواقعي فمع عدم تنجزه بالعلم الوجداني ولا بالحجة المعتبرة لا عقاب على مخالفته من جهة قبح العقاب بلا بيان بحكم العقل.

فتحصل مما ذكر : أنه لا ملازمة بين الظن بالتكليف وبين الظن بالعقوبة على المخالفة أي على مخالفة التكليف المظنون نعم تكون الملازمة بين معصية التكليف وبين استحقاق العقوبة على معصية التكليف المنجز الفعلي فالظن بالتكليف لا يوجب تنجزه كي تكون مخالفته عصيانا ، إذ لا دليل على اعتبار هذا الظن لا عقلا ولا سمعا ، إلّا أن يقال إن العقل لا يحكم بتنجز التكليف بمجرد حصول الظن به بحيث يحكم العقل باستحقاق العقوبة على مخالفته إلّا أن العقل لا يحكم أيضا بعدم استحقاق العقوبة مع الظن بالتكليف ، وعليه نحتمل ترتب العقاب على مخالفة التكليف المظنون حينئذ.

فإن قيل : الضرر المشكوك يحتمل في المقام إذا خالف المكلف التكليف المظنون ، ودفعه ليس بواجب ، كالضرر المظنون فلا بأس موجود على مخالفته.

٣٣٠

قلنا : لو ادعى إن العقل يستقل بوجوب دفع الضرر المشكوك كما يستقل بدفع الضرر المظنون لكان هذا الادعاء صوابا سيما إذا كان الضرر المشكوك اخرويا ، كما لا يخفى ، وإن كان مراد المستدل من الضرر هو الضرر الدنيوي فتمنع كلتا المقدمتين الصغرى والكبرى معا وقد تمنع الكبرى فقط.

بيان ذلك : ان التكليف الوجوبي ليس في مخالفته إلّا تفويت المصلحة بناء على ما هو المعروف بين الطائفة العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، وعليه فالظن بالوجوب لا يستلزم الظن بالضرر في المخالفة بل هو مستلزم للظن بفوت المصلحة وفواتها.

ومن الواضح : إنه لا يصدق عليه الضرر ، إذ هو عبارة عن النقص المالي ، أو البدني ، أو العقلي والروحي ولا يصدق شيء منها على فوات المصلحة.

وكذا الحال في التكاليف التحريمية الناشئة عن المفاسد النوعية الراجعة إلى اختلال النظام كحرمة قتل النفس وحرمة أكل مال الغير غصبا وعدوانا فإنه ليس في ارتكاب تلك المحرمات ضرر دنيوي على الفاعل المباشر ففي مورد الظن بالتكليف الوجوبي ومورد الظن بهذا النوع من التكليف التحريمي كانت الصغرى والكبرى كلتاهما ممنوعتين.

أما دعوى لزوم جلب المصلحة المظنونة في صورة الظن بالتكليف الوجوبي ولزوم دفع المفسدة النوعية المظنونة في صورة الظن بالتكليف التحريمي فهي ساقطة جدا لا شاهد لها وإلّا لزم الاحتياط في الشبهات الموضوعية مع احتمال الوجوب أو مع احتمال هذا النوع من الحرمة ولم يلتزم به أحد لا الاصوليين ولا الإخباريين (رض).

وأما التكاليف التحريمية الناشئة عن المفسدة الشخصية بمعنى كون الحرمة ناشئة عن الضرر المتوجه إلى شخص المرتكب كحرمة أكل السم وحرمة شرب

٣٣١

المسكر ونحو ذلك مما يكون في ارتكابه ضرر على الفاعل ونقص في بدنه ، أو ماله أو في عقله ، أو في عرضه ، فالظن بمثل هذا النوع من التحريم وإن كان يستلزم الضرر إلّا إن الكبرى ممنوعة ، إذ لم يدل دليل على وجوب دفع الضرر الدنيوي المظنون في هذه الموارد مما لم يكن التكليف فيه منجزا وإلّا لزم الاحتياط في الشبهات الموضوعية أيضا مع الظن بالضرر ولم يلتزم به أحد ؛ بل يمكن أن يقال إنه لا دليل على وجوب دفع الضرر الدنيوي المتيقن ولا سيما إذا كان فيه غرض عقلائي فكيف بالضرر المظنون ، أو المحتمل إذا كان دنيويا كالانفاقات في سبيل الخير والجهاد في سبيل الله تعالى.

نعم قد دل الدليل على حرمة الإضرار بالنفس في موارد خاصة مثل قتل الانسان نفسه ، أو كقطع البشر بعض أعضائه وجوارحه كما دل الدليل على حرمة ارتكاب ما يخاف ضرره في موارد خاصة كالصوم الضرري والغسل الضرري والوضوء الضرري فلا بد حينئذ من الاقتصار في مورد النص ، إذ لا يستفاد منه كبرى كلية مع إن الاعتبار في تلك الموارد بخوف الضرر المنطبق على احتمال الضرر أيضا لا خصوص الظن بالضرر فهذه الموارد خارجة عما نحن فيه ، كما لا يخفى.

قوله : وأما المفسدة فلأنها وإن كان الظن بالتكليف يوجب ...

وإن كان مقصود المستدل من الضرر هو المفسدة فلا ريب في إن الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع في المفسدة في صورة المخالفة إلّا إن المفسدة ليست بضرر على كل حال وعلى نحو الكلي ضرورة أن كلما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله بل ربما يوجب القبح حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذم العقلاء على الفعل القبيح فاعله بلا ضرر على الفاعل أصلا ، كما لا يخفى فليست الملازمة بين المفسدة وبين الضرر على نحو الإيجاب الكلي بحيث يصح أن يقال كل مفسدة ضرر وكل ضرر مفسدة فليست النسبة بينهما

٣٣٢

تساويا كليا كالانسان والناطق بل تكون بينهما عموما من وجه كالانسان والأبيض مثلا بحيث يكون الضرر أخص من وجه وتكون المفسدة أعم من وجه وبالعكس فيصح أن يقال بعض الضرر مفسدة وبعض المفسدة ضرر كما إن بعض الانسان أبيض وبعض الأبيض إنسان.

مثلا إذا ألقى الشخص أمواله في البحر ، أو النار فيكون هذا ضررا ومفسدة معا وإذا زنى بامرأة العياذ بالله تعالى ومن الواضح إن عمل الزنا قبيح وذو مفسدة ولكن ليس بمضرة للزاني والزانية. فالمفسدة قد تكون ملازمة للضرر كما في بعض المحرمات الشرعية كإحراق الأموال وإيراد النقص على الجسم والبدن ، وقد لا تكون ملازمة له كما في الزنا المحرم والسرقة مثلا ، كما لا يخفى وقد يتحقق الضرر المالي بلا مفسدة كما في الواجبات المالية.

وفي ضوء هذا : فالصغرى ممنوعة وإن كان مراد المستدل من الضرر هو تفويت المصلحة أي يكون مخالفة المجتهد مظنونه مستلزما لتفويت المصلحة التي قد كانت في متعلق الحكم المظنون فيقال في الجواب عنه ، أولا بأنه ليس الضرر في تفويت المصلحة أصلا كي يحكم العقل بوجوب دفعه بل ربما يكون الضرر في استيفاء المصلحة وذلك كما في الإحسان بالمال إلى الغير.

فالنتيجة : إن بعض المفسدة ضرر وبعضها ليس بضرر وبعض الضرر ليس بمفسدة ، إذ هو مستلزم لتلف مقدار من المال ، وفي طبيعة الحال ، فلا ملازمة بين تفويت المصلحة وبين الضرر ، إذ ربما يكون تفويت المصلحة ضررا دنيويا ، كما في ترك التجارة ، مثلا وربما يكون تفويت المصلحة نافعا ، إذ في استيفائها ضرر دنيوي ، كما في الاحسان بالمال.

وثانيا لا نسلم كون الأحكام سواء كانت إلزامية ، كالوجوب والحرمة ، أم كانت غير إلزامية كالاستحباب والكراهة والإباحة سواء كانت تكليفية أم كانت

٣٣٣

وضعية كالصحة والفساد والتمامية والناقصية ونحوها تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها حتى يكون تفويت المصلحة في ترك الواجبات وجلب المفسدة في فعل المحرمات بل إنما هي تابعة لمصالح فيها ، أي في الأحكام ، كما حققناه في بعض فوائدنا فجعل الأحكام وإنشائها على القول التحقيق تابع لمصالح في الأحكام نفسها.

قال رحمه‌الله كما حققنا هذا المطلب في حاشيتنا على فرائد الشيخ العلامة الأنصاري قدس‌سره فعدم الاتيان بمتعلق الحكم ليس مستلزما لتفويت المصلحة كما إنه ليس بمستلزم لجلب المفسدة.

مثلا : إذا قال المولى لعبده أدخل السوق واشتر اللحم ولا ريب في إن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد على مذهب العدلية والمعتزلة قال الأكثر إن المصلحة والمفسدة إنما تكونان في المأمور به والمنهي عنه وفي متعلق الأحكام فدخول السوق واشتراء اللحم ذو مصلحة.

وذهب المحققون ومنهم المصنف قدس‌سره إلى إن المصالح والمفاسد إنما تكونان في نفس وجوب الدخول وفي وجوب الاشتراء في الأوامر ، وفي نفس الحرمة في النواهي ، وعليه ففي صورة عدم الإتيان بمتعلق الأحكام ليس تفويت المصلحة بموجود ولا جلب المفسدة بمتحقق ، إذ لا تكون المصلحة ولا المفسدة فيه ، وعلى هذا المبنى ، ليس الضرر بموجود في صورة مخالفة المجتهد مع مظنونه من وجوب الشيء ، أو من حرمته ولا المفسدة بموجودة حينئذ.

فخلاصة الكلام : أن المفسدة والمنفعة الفائتة اللتان في الأفعال وانيط بهما الأحكام الالهية ليستا بمضرتين أصلا ، مثلا في شرب الخمر مفسدة لكونه محرما وكل محرم ذو مفسدة ، فهذا ذو مفسدة ، وكذا في ترك الواجب وعدم الاتيان به فوت المنفعة والمصلحة وليس الضرر بواسطة فعل الحرام والإتيان بالمحرم وبواسطة عدم

٣٣٤

الإتيان بواجب من الواجبات الشرعية بمتحقق.

فإن قيل : إذا لم ترجع المصلحة والمفسدة الكائنتان في الواجب والحرام إلى الضرر فكيف يحكم العقل السليم بأن شرب الخمر مثلا قبيح والإتيان بالصلاة حسن.

ومن الواضح : إن في شرب الخمر مفسدة وكذا في ترك الصلاة مفسدة.

قلنا : وليس فيهما الضرر إما الدنيوي منه فواضح ؛ وإما الاخروي منه فغير واضح لاحتمال صدور العفو من الله الكريم ، واحتمال الشفاعة من الشفعاء عليهم‌السلام.

أما حكم العقل بقبح الأول وبحسن الثاني على القول باستقلال العقل بحسن بعض الأفعال كالعدل وبقبح بعض الأفعال كالظلم ، فليس بمناط حكمه ، أي حكم العقل بالحسن والقبح ، كون ما فيه المصلحة ذا نفع عائد إلى المكلف وذا ضرر وارد عليه.

ولعمري أي أقسم بروحي : إن هذا المطلب الذي ذكر آنفا واضح لا يحتاج إلى تجشم الاستدلال وإقامة البرهان ، لأنه وجداني كالجوع والشبع والعطش والريان مثلا ، فكل من راجع وجدانه يجده.

وفي ضوء هذا : فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا ، إذ المظنون للمجتهد ليس من صغريات هذه القاعدة لما عرفت من إن فوت المصلحة وجلب المفسدة في ترك الواجب وفي إتيان الحرام ليسا بملازمين للضرر أعم من الضرر الدنيوي ومن الضرر الاخروي ومن غير فرق بين كون الحكم المظنون وجوبيا ، أو تحريميا ، كما لا يخفى.

فإن قيل : إن هاهنا قاعدة اخرى وهي مسلمة عند الكل وهي عبارة عن إن الظن بحرمة شيء يستلزم احتمال المفسدة في فعله بل يستلزم الظن بالمفسدة وإن لم يكون الضرر مظنونا وكذا الظن بالوجوب يستلزم فوت المصلحة في تركه والعقل

٣٣٥

السليم يستقل بقبح ما فيه مظنة المفسدة وبقبح ما فيه مظنة فوت المصلحة وإن لم تكن مظنة المفسدة ومظنة فوت المصلحة ضرريتين عند العقلاء.

فالنتيجة : إن مخالفة المجتهد مظنونه يستلزم مظنة المفسدة ، أو مظنة فوت المصلحة فالعقل يستقل بقبحهما وكل قبيح يجب دفعه وهو لا يتحقق إلّا بعدم مخالفة المجتهد مظنونه.

قلنا : إن استقلال العقل ثابت بقبح ما فيه المفسدة المحرزة وبقبح ما فيه فوت المصلحة المحرزة ، ولا يستقل بقبح ما فيه مظنة المفسدة ، أو مظنة فوت المصلحة وبتقرير آخر ، وهو لا استقلال للعقل بقبح الفعل الذي فيه احتمال المفسدة ، أو بقبح ، ترك الفعل الذي فيه احتمال المصلحة.

فالنتيجة : إن في مخالفة المجتهد مظنونه احتمال المفسدة واحتمال فوت المصلحة وهما ليسا بواجب الدفع عقلا ، وعليه فالصغرى ممنوعة.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى إنه لو سلّمنا الملازمة بين الظن بوجوب الشيء أو الظن بحرمة الشيء وبين الظن بالضرر في الترك في الاول ، وفي الفعل في الثاني ، فلا فرق حينئذ بين أن تكون المصلحة في المأمور به والمفسدة في المنهي عنه وأن تكونا في نفس الأمر وفي نفس النهي وتلك كاتمام الحجة على العباد لتكون الله تعالى حجة على الناس وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ، فمراد المصنف قدس‌سره ليس بواضح في هذا المقام فلا تغفل.

الوجه الثاني :

من الوجوه التي اقيمت على حجية مطلق الظن : أن الأخذ بخلاف الظن ترجيح المرجوح على الراجح مثلا ، لو لم نعمل بالظن بعد فرض انسداد باب العلم

٣٣٦

وباب العلمي بالأحكام بأن نعمل بالوهم ، أو الشك للزم ترجيح المرجوح ، وهو الوهم والشك على الراجح ، وهو الظن ، وهو قبيح بحكم العقل.

وعليه : فالظن عبارة عن الطرف الراجح والوهم عبارة عن الطرف المرجوح والشك عبارة عن تساوي الطرفين بلا ترجيح أحدهما على الآخر.

وفيه : إن تمامية هذا الوجه متوقفة على أمرين :

أحدهما : تنجز التكليف. وثانيهما : عدم إمكان الاحتياط ، إذ على تقدير عدم كون التكليف ثابتا لا مانع من الرجوع إلى البراءة العقلية ، وهي عبارة عن قبح العقاب بلا بيان ، والبراءة الشرعية ، وهي رفع المؤاخذة في صورة عدم العلم بالتكليف الالزامي من الوجوب والحرمة على تقدير المخالفة ، وليس في هذا الفرض ترجيح المرجوح على الراجح ، وهذا ظاهر ، وكذا لو تنجز التكليف ولكن تمكن المكلف من الاحتياط. فعليه يكون العمل بالاحتياط لقاعدة الاشتغال وليس فيه أيضا ترجيح المرجوح على الراجح.

نعم : فيما إذا تنجز التكليف ولم يمكن الاحتياط.

كما إذا ترددت القبلة بين جهتين ولكن تكون القبلة مظنونة في إحداهما وموهومة في الاخرى ولم يمكن الاحتياط بفعل الصلاة في كلتيهما لضيق الوقت مثلا ، فقد تعين الأخذ بالظن لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

وفي ضوء هذا : فلا يكون هذا الوجه المذكور إلّا إحدى مقدمة من مقدمات دليل الانسداد فلا ينتج إثبات المدعى إلّا بانضمام الباقي منها إليها.

ولهذا ، أورد المصنف قدس‌سره إشكالا عليه وقال : وفيه أنه لا يلزم من عدم الأخذ بالظن ترجيح المرجوح على الراجح على نحو الكلي بل يلزم هذا الترجيح القبيح في موردين :

أحدهما : هو المورد الذي يكون الأخذ بالظن ، أو الأخذ بالوهم ، أو الشك

٣٣٧

واجبا ولا يمكن الجمع بينهما عقلا ففي هذه الصورة لو قدمنا الوهم ، أو الشك على الظن للزم ترجيح المرجوح على الراجح.

واما وجه عدم الجمع بين الظن والوهم عقلا فلأنّ العقل يحكم بأن الاحتياط التام الكامل الذي يتحقق بالعمل فيهما معا موجب لاختلال نظام معاش بني آدم.

وأما وجه عدم وجوب الجمع بينهما شرعا فلأن الشرع يحكم بأن العمل بهما مستلزم للعسر الأكيد والحرج الشديد وهما منفيان في الشريعة المقدسة فوجوب العمل بهما منفي في الشريعة الاسلامية الغراء.

ولا يخفى عليك إن دوران الأمر بين العمل بالظن وبين العمل بالوهم ثابت إذا تمت مقدمات دليل الانسداد وإن لم تتم مقدمات الانسداد فاللازم بحكم العقل هو الرجوع إلى العلم ، أو العلمي ، أو الاحتياط وقاعدة الاشتغال ، أو البراءة ، أو الاستصحاب ، أو فتوى المجتهد على حسب اختلاف الأشخاص واختلاف الأحوال لاختلاف الأشخاص في التمكن من الرجوع إلى العلم وعدم التمكن من الرجوع إليه ، ولاختلافهم في الرجوع إلى العلمي وعدم الرجوع إليه ، إذ بعضهم قائل بحجية الخبر الواحد (وبعضهم ذهب إلى عدم حجيته.

فالأول : متمكن من الرجوع إلى العلمي.

والثاني : غير متمكن من الرجوع إليه ، إذ الأول قائل بانفتاح باب العلم والعلمي ، والثاني قائل بانسداد باب العلم والعلمي.

ولاختلاف أشخاص المجتهدين في الاستظهار من الأدلة والمدارك فبعضهم يستظهر منها الاحتياط ، وبعضهم يستظهر البراءة ، كما في الشبهة الحكمية التحريمية ، وذلك كشرب التتن مثلا ، إذ حكمه مشتبه لنا لفقد النص ، أو لإجماله ، أو لتعارضه فالاصوليون من المجتهدين يستظهرون من الأدلة البراءة والاخباريون منهم الاحتياط.

٣٣٨

قوله : ولاختلاف الأحوال ...

مثلا كل من قال بانفتاح باب العلم والعلمي فيرجع إلى الدليل الاجتهادي في حال الانفتاح وكل من ذهب إلى انسداد باب العلم والعلمي فيرجع إلى الدليل الفقاهتي من الاستصحاب ، أو البراءة ، أو الاشتغال ، أو التخيير ، وهذا منوط باختلاف مقدمات دليل الانسداد على ما ستطلع على حقيقة الحال إن شاء الله تعالى ، مثلا إذا سلّمنا انسداد باب العلم والعلمي وعدم وجوب الاحتياط التام فاللازم هو الرجوع إلى الدليل الفقاهتي من الاستصحاب والبراءة والاشتغال والتخيير وإلّا فالواجب هو الرجوع إلى العلم أو العلمي.

وعلى أيّ حال ، فلا بد من الأخذ بالظن من جهة ثبوت مقدمات الانسداد وسيأتي تفصيلها في محلها بتوفيق الملك العلّام ، وهو حسبي ، وإلّا فلا ، بل يرجع إلى العلم أو العلمي ولا يؤخذ بالظن ولا الوهم كي يلزم على تقدير الأخذ بالوهم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح عقلا.

فالنتيجة : لا تصل النوبة إلى العمل بالظن حال الانفتاح أصلا.

الوجه الثالث :

قوله : الثالث ما عن السيد الطباطبائي قدس‌سره من إنه لا ريب ...

احتج السيد المجاهد قدس‌سره لحجية مطلق الظن بأنا نعلم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى هذا العلم الإجمالي وجوب الاحتياط عقلا بإتيان كل ما يحتمل وجوبه ، إذ دوران الأمر يكون بين الوجوب وغير الحرمة من الاستحباب والاباحة وبترك كل ما يحتمل حرمته ، إذ دوران الأمر يكون بين الحرمة وغير الوجوب.

فالعقل يحكم بالاحتياط وهو يتحقق بالترك كما إنه في الأول يتحقق بالفعل

٣٣٩

سواء كان احتمال الوجوب ، أو الحرمة بين المشتبهات مظنونا أم كان موهوما ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج والعسر عدم وجوب الاتيان بكل ما يحتمل الوجوب وعدم وجوب الترك بكل ما يحتمل الحرمة ، إذ هما مستلزمان للعسر الأكيد والحرج الشديد وهما منفيان في الشريعة المقدسة بمقتضى الآيتين الشريفتين وهما قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١) وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢).

فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط ونفي الحرج والعسر العمل بالمظنونات بين المشتبهات دون المشكوكات ودون الموهومات لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

فالنتيجة : أن العمل بالمظنونات يكون لمقتضى قاعدة الاحتياط وإن ترك العمل بالمشكوكات والموهومات بين المشتبهات يكون لمقتضى قاعدة نفي العسر والحرج.

فإن قيل : إنا نعمل ببعض المظنونات والمشكوكات وببعض الموهومات ، فهذا العمل مستلزم لاخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات وعليه : تلحظ قاعدة الاحتياط وقاعدة نفي الحرج والعسر ، كما لا يخفى.

قلنا : هذا الطريق باطل إجماعا ، إذ لم يقل بهذا الجمع بينهما أحد من الاصوليين قدس‌سرهم ولا يخفى إن هذا الجمع يسمى بالتبعيض في الاحتياط هذا مضافا إلى إن هذا مستلزم لترجيح المرجوح على الراجح إذا عملنا ببعض الموهومات والمشكوكات ولم نعمل ببعض المظنونات ، ولا ريب إن هذا قبيح عقلا والقبيح لا يصدر من المولى عزّ اسمه.

__________________

١ ـ سورة البقرة : ١٨٥.

٢ ـ سورة الحج : ٧٨.

٣٤٠