البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

ممنوعة لوجهين :

أحدهما : لزوم العقاب بلا بيان حينئذ ، وثانيهما : للنقض في الشبهات البدوية التي لا حجة فيها على التكليف الإلزامي. ومع هذا الوصف حسن الحذر فيها بلا وجوبه على المكلف ، فحسنه لا يدلّ على وجوبه لأنّه لازم الأعم وهو لا يدلّ على الملزوم الأخص واذا لم يكن الحذر واجبا فلم يكن الإنذار حجة ، وإذا لم يكن حجة فلم يجب قبوله ؛ وإذا لم يجب القبول فليس بحجة. فلا مانع من التفكيك بين حسن الحذر ووجوبه إذا لم تقم حجّة على التكليف ، فعدم الفصل بينهما ، أي بين حسن الحذر ووجوب الحذر لم يثبت. غاية الأمر عدم القول بالفصل ثابت في المقام ، وهو لا يدل على عدم الفصل بينهما ثبوتا وواقعا ، كما أنّ قول المستدلّ لوجوب الحذر مع وجود مقتضيه ممنوع بل لا ريب في حسنه مع وجود مقتضيه ، ولكن مع عدم وجوبه كما في جميع موارد الاحتياط في الشبهات البدوية التي يرجع فيها إلى أصالة البراءة عند الاصوليين (رض).

فالنتيجة أنّه لا ريب في ثبوت القول بالفصل بين حسن الحذر عقلا وبين وجوبه ، لما عرفت آنفا من حسن الاحتياط عندهم في الشبهات البدوية مع كون المرجع البراءة. هذا تمام الإشكال في الوجه الأوّل.

في بيان الإشكال على الوجهين

ويستشكل على الوجه الثاني والثالث بأنّا لو سلّمنا اقتضاء ما ذكر من التقريبين المذكورين لوجوب الحذر المترتب على الإنذار ، لكن لم يظهر من الآية الشريفة وجوب الحذر مطلقا أي سواء أفاد إنذار المنذر العلم للمنذر بالفتح أم لم يفده له ، بل المستفاد منها وجوب الحذر في الجملة أي كان وجوبه مختصا بصورة إفادة الإنذار العلم ، إذ يكفي ذلك في كون الحذر فائدة لوجوب الإنذار وعدم كونه

٢٨١

لغوا كما يكفي في كونه غاية للواجب.

فالنتيجة اختصاص وجوب الحذر بصورة إفادة الإنذار للعلم.

فإن قيل : هذا الاختصاص خلاف إطلاق الآية الشريفة.

قلنا : إنّ الآية المباركة ليست مسوقة لبيان وجوب الحذر لأجل كونه فائدة لوجوب الإنذار ، أو لأجل كونه غاية للإنذار كي يكون الحذر واجب على المكلف ، سواء أفاد الإنذار للعلم أم لم يفده ؛ بل الآية الشريفة مسوقة لبيان وجوب النفر وإذا لم تكن مسوقة لذلك ، فلم يكن لها إطلاق لعدم كون المتكلم في مقام بيان وجوب الحذر وهو شرط انعقاد الإطلاق للكلام أي الآية الشريفة ليست لبيان غاية التحذر لوجوب الإنذار كي يجب الحذر مطلقا أي سواء أفاد الإنذار العلم أم لم يفده. ولعلّ وجوب الحذر كان مشروطا بما إذا أفاد الإنذار للعلم لو لم نقل بكون التحذر مشروطا بما إذا أفاد العلم ، كما قال به الشيخ الأنصاري قدس‌سره في فوائده.

والوجه في الاشتراط المذكور أنّ النفر إنّما يكون لأجل التفقه ولأجل تعلّم معالم الدين ، ولأجل معرفة ما جاء به سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القانون الإلهي كي ينذر النافرون المتخلفين بمعالم الدين ، أو كي ينذر المتخلفون النافرين بمعالم الدين على الوجهين في تفسير الآية المباركة.

ففي أحدهما أنّ المراد تفقه النافرين بمعالم الدين لينذروا المتخلفين ، وفي الآخر تفقه المتخلفين عن الجهاد لينذروا النافرين عند رجوعهم إلى المتخلفين. فعلى الأوّل ضمير الغائب في (لِيَتَفَقَّهُوا) و (لِيُنْذِرُوا) و (رَجَعُوا) راجع إلى الطائفة النافرين وضمير (إِلَيْهِمْ) و (لَعَلَّهُمْ) راجع إلى المتخلفين عن الجهاد مع الكفار ؛ وعلى الثاني ضمير (لِيَتَفَقَّهُوا) و (لِيُنْذِرُوا) و (إِلَيْهِمْ) راجع إلى المتخلفين ، وضمير (رَجَعُوا) و (لَعَلَّهُمْ) راجع إلى النافرين.

ولا يخفى أنّ في الآية الشريفة تسعة ضمائر ، أربعة منها بارزة وخمسة منها

٢٨٢

مستترة.

قوله : ثمّ إنّه أشكل أيضا بأنّ الآية الشريفة لو سلّم دلالتها على وجوب الحذر ...

واستشكل ثالثا على الاستدلال بآية النفر بأنّ الانذار بمعنى التخويف من العقاب ، إنّما هو وظيفة الواعظ والمفتي. أمّا الواعظ فينذر الناس من العقاب فيخوف الناس من ترك الصلاة ونحوها من الواجبات بما ورد فيه من العقاب ، أو يخوف الناس من شرب الخمر ومن ارتكاب المحرمات كذلك ، ولا ريب في وجوب الحذر على الناس عند إنذاره لكون الحكم ـ أعني منه الوجوب والحرمة ـ معلوما ومسلّما.

وأمّا المفتي فيفتي لمقلديه بما استنبطه من المدارك المقرّرة من الواجبات والمحرمات ، وافتاؤه بهما إنذار بالدلالة الالتزامية وتخويف من العقاب على ترك الواجبات وفعل المحرمات.

وعليه فلا شبهة في وجوب الحذر على مقلديه لكون فتواه حجة عليهم ، أمّا بخلاف نقل الرواية فإنّه لا إنذار فيه ، إذ ربما ينقل الراوي مجرد الألفاظ ولا يفهم المعنى لينذر به لكونه عاميا محضا ولذا ورد عنهم عليهم‌السلام : ربّ حامل فقه غير فقيه ، أو ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

وعلى هذا فلو سلم دلالة الآية المباركة على وجوب الحذر مطلقا ، أي سواء حصل العلم من إنذار المنذر بالكسر للمنذر بالفتح ، أم لم يحصل منه له فلا دلالة لها على حجية الخبر الذي يكون خاليا عن الإنذار والتخويف ، لأنّ الآية الشريفة تدلّ على حجية الخبر الذي يكون فيه إنذار وتخويف كان يقول المخبر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من ترك الصلاة عامدا ، أو متعمدا فقد كفر ومن كفر كان جزاؤه عذابا أليما مثلا. ومن الواضح أنّ أغلب الأخبار المروية عن الرسول

٢٨٣

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ليس مقرونا بالإنذار والتخويف ، والحال أنّ وظيفة الراوي يكون نقل ما تحمله من المعصوم عليه‌السلام ولا تكون وظيفته إنذارا وتخويفا كالواعظ والمفتي المرشد بالإضافة إلى المتعظ المسترشد وبالاضافة إلى المقلد (بالكسر) ، إذ تكون وظيفتهما إنذارا وتخويفا من العقاب. فانقدح لك من هذا البيان أن الدليل يكون أخص من المدعى ، كما لا يخفى.

أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا الإشكال بقوله لا يخفى عليك أنّه ليس حال الرواة قدس‌سرهم في الصدر الأوّل وفي عصر حضور النبي الأكرم والأئمة المعصومين عليهم‌السلام في نقل ما تحملوا من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو الإمام عليه‌السلام من الأحكام إلى الأنام وعباد الله تعالى ، إلّا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام. ولا شبهة في أنّه يصح من نقلة الفتاوى إلى الأنام والعوام التخويف في مقام الإبلاغ ، ويصح منهم الإنذار والتحذير والتخويف بالبلاغ ، فكذا من الرواة رضي الله عنهم ، حرفا بحرف ، وعلى ضوء هذا فالآية الشريفة لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف والإنذار لكان نقله عن المعصوم عليه‌السلام حجة بدون التخويف أيضا لعدم القول بالفصل بينهما جزما ، إذ كل من قال بحجية الخبر قال بحجيته مطلقا أي سواء كان نقله مقرونا بالتخويف أم لم يكن مقرونا به ، وكلّ من قال بعدم حجيته قال بعدم حجيته مطلقا.

وعلى ضوء هذا إذا قيل بحجيته إذا كان مقرونا به وبعدمها إذا لم يكن مقرونا به ، فهذا القول يكون قولا بالفصل وهذا لا يجوز قطعا لأنّه خرق للإجماع المركب.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أنّ الآية الشريفة قد دلت على وجوب الحذر عقيب الإنذار المترتب عليه ، ولا ريب في أنّ الإنذار هو الإبلاغ بقصد التخويف ، والتخويف إنّما يكون بإعمال النظر ودقّة الفكر ، ولا شبهة في أنّه وظيفة المجتهد المفتي. فوجوب

٢٨٤

الحذر بعده راجع إلى جعل حجية فتواه واجتهاده.

وعلى ضوء هذا فالآية المباركة تدل على حجية فتوى المفتي لا على حجية أخبار الآحاد.

الاستدلال بآية الكتمان

قوله : ومنها آية الكتمان وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(١) ...

وتقريب الاستدلال بها على المدعى بدعوى الملازمة عقلا بين حرمة كتمان البينات والهداية ووجوب العمل وإلّا لزم كون تحريم الكتمان لغوا ولذا حكموا بحجية إخبار المرأة عن كونها حاملا تمسكا بقوله تعالى : (أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)(٢) ، إذ حرمة الكتمان تدل على وجوب قبول قولها ، وإلّا لزم كون تحريم الكتمان لغوا.

وفيه أنّه لا ملازمة عقلا بين حرمة الكتمان ووجوب القبول تعبدا في المقام إذ الموضوع لحرمة الكتمان عام استغراقي بمعنى حرمة الكتمان على كلّ أحد ، نظير أكرم كلّ العلماء أي أكرم كلّ واحد منهم فيحتمل احتمالا قويا أن يكون الوجه في حرمة الكتمان أن إخبار الجميع مما يوجب العلم كما في الخبر المتواتر والخبر الواحد المحفوف بالقرائن الواضحة. ولا يقاس المقام بحرمة الكتمان على النساء ، لأنّ طريق إحراز ما في الأرحام منحصر في إخبارهنّ ، والحال أنّ إخبار المرأة ممّا لا يفيد العلم غالبا ، فلو لم يكن إخبارها حجة تعبدا وقيدت بالعلم لكان تحريم

__________________

١ ـ سورة البقرة ، آية ١٥٩.

٢ ـ سورة البقرة ، آية ٢٢٨.

٢٨٥

الكتمان عليها لغوا.

وعلى ضوء هذا فصحّ دعوى الملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول هناك أي في إخبار المرأة عمّا في الأرحام. أمّا بخلاف المقام فإنّ حرمة الكتمان فيه إنّما هو على علماء اليهود الذين أخفوا على الناس ما كان ظاهرا في التوراة من علامات نبوة نبينا وشفيعنا ومن صفاته الكمالية محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث لو لا كتمانهم لظهر الحق لعامة الناس ، فالغرض من تحريم الكتمان إنّما هو ظهور الحق ، وهو نبوة نبيّنا وحصول القطع به لكافة الناس ، وليس الغرض منه قبول الخبر تعبدا.

والذي يشهد بما ذكرناه من أنّ المراد حرمة كتمان ما هو ظاهر في نفسه لو لا الكتمان قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) أي أظهرناه من نبوّة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم بالبينات. فتحصّل أنّه لا ملازمة عقلا بين حرمة الكتمان ووجوب القبول تعبدا في المقام كما لا يخفى ؛ ، إذ مورد الآية المباركة هو نبوة نبينا أشرف الكائنات صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن الظاهر عدم حجية خبر الواحد في اصول الدين والعقائد الاسلامية من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد ، إذ يشترط فيها اليقين الراسخ ، وخبر الواحد لا يفيد العلم واليقين ، فالآية الشريفة أجنبية عمّا نحن فيه.

الإشكال على الاستدلال بآية الكتمان

قوله : ولا يخفى أنّه لو سلمت هذه الملازمة فلا مجال للإيراد على هذه الآية الشريفة ...

والمستدلّ يصرّ إصرار شديدا على أنّ الآية الشريفة مفهوما تدل على حجية خبر الواحد وليست بمربوطة بنبوة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره : لو سلمنا الملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب

٢٨٦

القبول عقلا ليورد على الاستدلال بهذه الآية المباركة الإيراد الذي ، أورد على الاستدلال بآية النفر وهذا الإيراد عليه عبارة من دعوى الإهمال والإجمال ، إذ لا إطلاق في آية النفر يدلّ على وجوب الحذر عقيب الإنذار ، سواء أفاد إنذار المنذر العلم للمنذر بالفتح أم لم يفده له كي يشمل حجية خبر الواحد غير العلمي ، فالآية الشريفة من هذه الناحية مهملة ، أو استظهار اختصاص وجوب الحذر بالإنذار الذي يفيد العلم كما سبق هذا الاشكال مفصّلا ، فكذا في آية الكتمان ، إذ لا إطلاق فيها يدلّ على حرمته سواء وجب إظهار الحقّ أم لم يجب سواء أفاد الإظهار العلم بالحق أم لم يفده به كي يشمل تحريم الكتمان كون الخبر الواحد الذي لا يفيد العلم بالمخبر به حجة وواجب القبول ، وعليه لا يمكن الاستدلال بها على المدعى. قد أجاب المصنّف قدس‌سره عنه بأنّا لو سلمنا الملازمة العقلية بين وجوب الاظهار وبين وجوب القبول لما يرد هذا الإشكال في الاستدلال بآية الكتمان أصلا إذا الملازمة المذكورة تنافي إهمالها واختصاص الوجوب أي وجوب القبول بما إذا أفاد الإظهار العلم بالحق إذ هما يدلان على نفي الملازمة العقلية بين حرمة الكتمان ووجوب القبول على نحو الإطلاق.

والحال أنّ الملازمة المذكورة لو سلمت بينهما لثبتت على نحو الإطلاق ، أي سواء أفاد الاظهار العلم بالحق أم لم يفده به ، إذ لا تخصيص في حكم العقل كما قرّر هذا في محلّه بالبرهان القطعي.

قوله : لكنها ممنوعة ...

أي الملازمة العقلية بين وجوب الاظهار للحق ووجوب القبول ممنوعة ، فإنّ لغوية حرمة الكتمان مع عدم وجوب القبول ممنوعة لعدم انحصار فائدة عدم الكتمان وإظهار الحقّ في القبول تعبدا لامكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل أن يكثر المظهرون للحق ، وهو نبوة نبيّنا ، فيتضح الحق لعامة الناس ويحصل العلم من

٢٨٧

قولهم للناس فيعمل بالعلم لا بقول المظهرين بما هو هو تبعدا كما نسبه الطبرسي قدس‌سره في ذيل تفسير الآية الشريفة إلى حبر الامة عبد الله بن عباس بن عبد المطلب (رضي الله تعالى عنهم) ، وأكثر أهل العلم من أنّ المقصود بها علماء اليهود والنصارى ، إذ كتموا نبوة سيد الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حال كونهم واجدين في التوراة والانجيل نبوّة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالمقصود منها إظهار الحق وإيضاحه وحرمة الكتمان إنّما تكون ثابتة لأجل وضوح الحقّ بسبب كثرة من أفشى الحق وبيّنه للناس لئلا يكون للناس على الله حجة وبرهان في عدم الاعتقاد باصول الدين يوم القيامة ، بل كان له عليهم الحجة البالغة بعد الرسل ، وهي تتم بالإرسال ولا ريب في أنّ هذا الكلام ، أي كلام المصنّف وهو قوله : لئلا يكون للناس على الله حجّة إلى آخره اقتباس من كلام الله الواحد الأحد في سورة النساء (١) وفي سورة الإنعام قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين (٢).

الاستدلال بآية السؤال

قوله : ومنها آية السؤال عن أهل الذكر وهي قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٣) ...

وتقريب الاستدلال بها على حجية خبر الواحد ما في آية الكتمان من دعوى الملازمة العقلية بين وجوب السؤال تدلّ صيغة الأمر وهي (فَسْئَلُوا) عليه ووجوب القبول أي قبول الجواب ، وإلّا تلزم لغوية وجوب السؤال بدون وجوب قبول الجواب. فيجب على العامي أن يسأل عن أهل الذكر وإذا أخبره عن المسئول

__________________

١ ـ سورة النساء ، آية ١٩٥.

٢ ـ سورة الإنعام ، آية ١٤٩.

٣ ـ سورة النحل ، آية ٤٣.

٢٨٨

به فيجب عليه القبول. وعلى طبيعة الحال فيشمل قوله تعالى خبر الواحد.

في الإشكال على الاستدلال بآية السؤال

قوله : وفيه أنّ الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم لا للتعبد بالجواب ...

فإنّ تعليق وجوب السؤال على عدم العلم ظاهر في أنّ الغرض منه حصول العلم لا التعبد بالجواب كي يشمل حجية خبر الواحد غير العلمي ، هذا ، أولا ؛ وثانيا لو سلّمنا التعبد بالجواب أي لو سلمناه بقبول جواب أهل الذكر ولكن لا نسلم التعبد بقول الراوي سواء كان من أهل الذكر والاجتهاد أم لم يكن من أهل الذكر بل لا بد من أن ينطبق عليه عنوان المذكور فيها ، وهو كونه من أهل الذكر ، ولمّا لم يكن كلّ الراوي من أهله فينبغي أن يقال انّ الآية الشريفة تدلّ على حجية فتوى المفتي والفقيه الجامع للشرائط ، فالاولى أن يستدل بها عليها لا على حجية قول الراوي. هذا مضافا إلى أنّ مورد هذه الآية المباركة أيضا هي نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمأمورون بالسؤال هم عوام اليهود والنصارى ؛ وخبر الواحد لا يكون حجة في اصول الدين ، كما تقدم هذا في الآية السابقة. ولا ينافي ذلك ما في أخبارنا من أنّ المراد من أهل الذكر الأئمّة الاثنا عشر ، عليهم صلوات الله الملك المنان ، لأنّ عنوان أهل الذكر عنوان عام يشمل الجميع ، ولكن يختلف باختلاف الموارد ، إذ انطباق هذا العنوان عليهم عليهم‌السلام يكون على نحو الأكمل وعلى غيرهم على نحو الأضعف.

وعليه تكون هذه الآية الشريفة في مقام اثبات النبوة الخاصّة بما وصف الله تعالى نبيه الخاتم في الكتب السماوية ، ويكون المراد من أهل الذكر علماء اليهود والنصارى ولا يصحّ أن يراد في هذا المقام منه الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، لأنّ الإمامة فرع النبوة.

٢٨٩

وعلى ضوء هذا فكيف يمكن إثبات النبوة بالسؤال عن الإمام عليه‌السلام الذي ثبتت إمامته بنص من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. نعم بعد إثبات النبوة والإمامة يكون الأئمة الأطهار عليهم‌السلام أهل الذكر فلا بد من السؤال منهم عليهم‌السلام فيما يتعلق بالأحكام الشرعية كما أنّ أهل الذكر في زمان الغيبة الكبرى هو الرواة العظام بالنسبة إلى الفقهاء الكرام وهو الفقهاء العظام بالاضافة إلى العوام ، ولكن المعنى واحد في الجميع ، وإنّما الاختلاف يكون في المصاديق بحسب الموارد.

في الجواب عن الإشكال الثاني

وفيه أنّ كثيرا من الرواة يصدق عليهم أنّهم أهل الذكر والاطلاع على رأي الإمام عليه‌السلام ، إذ لا منافاة بين مرتبة الفتوى والاجتهاد ، وبين مرتبة الرواية مثل أن يكون عدة من أصحاب الصادقين عليهما‌السلام مجتهدين وأهل الذكر راوين لأقوالهما واولئك الأشخاص كزرارة بن أعين ومحمّد بن مسلم وأمثالهما مثل يونس بن عبد الرحمن وأبان بن تغلب وهشام بن الحكم وأبي بصير وغيرهم من أجلّاء الرواة ، إذ كان كلهم من المجتهدين ومن أهل الفتوى ومن الرواة وعليه فيصدق على السؤال عنهم كون السؤال عن أهل الذكر وأهل العلم سواء كان السائل من أمثالهم أم كان من العوام.

وعلى طبيعة الحال فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب عن السؤال بمقتضى مدلول هذه الآية الشريفة ، إذ مدلولها يكون وجوب السؤال وهو يقتضي وجوب قبول الجواب فقد وجب قبول رواية المجتهدين من الأصحاب قدس‌سرهم ، ورواية غير المجتهدين منهم من العدول من الأصحاب قدس‌سرهم مطلقا ، أي سواء كان روايتهم ابتدائيا غير مسبوق بالسؤال عنهم أم كان مسبوقا بالسؤال سواء كان السائل من أهل الذكر أم لم يكن من أهله بل يروي ما سمعه عن الإمام عليه‌السلام ، أو عن غيره ، أو يروي

٢٩٠

السائل ما رءاه فحسب مثل العوام من الرواة. فإذا ، أوجبنا قبول قول العادل فلا فرق بين أن يكون من أهل الذكر والاجتهاد وبين أن يكون عاميا متجزئا ، أو عاميا محضا ولا بين أن يكون قوله ابتدائيا ، أو يكون مسبوقا بالسؤال لعدم الفصل جزما في وجوب القبول بين المبتدي والمسبوق بالسؤال ولا بين أمثال زرارة بن أعين رضى الله عنه وغيرهم.

وعلى طبيعة الحال فلو قلنا بوجوب القبول إذا كان مسبوقا بالسؤال ، أو إذا كان الراوي المجيب من أهل الذكر لكان هذا قولا بالفصل وخرقا للإجماع المركّب وهذا غير جائز قطعا كما ثبت في محلّه ، إذ القائل بوجوب القبول فهو قائل بالوجوب مطلقا كما أنّ القائل بعدم وجوب القبول قائل بعدمه مطلقا.

وعليه فليس الدليل أخص من المدعى ، إذ الآية الشريفة إذا دلت على حجيّة أحدهما فقد دلت على حجة الآخر لعدم الفصل بينهما.

فالاستدلال بها يكون مثل الاستدلال بالآيات السابقة في كونه غير ظاهر على حجية خبر الواحد ، إذ لا يخلو الاستدلال بها على حجية أخبار الآحاد من شائبة الإشكال.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أنّ قوله لعدم الفصل جزما في وجوب القبول غير تام لما تقدم في آية النفر من أنّه لم يثبت هاهنا عدم الفصل بل ثبت عدم القول بالفصل وهو لا يدلّ على عدم الفصل بين وجوب السؤال وبين وجوب القبول تعبدا ثبوتا ، إذ لا تنحصر فائدة السؤال بالقبول لأنّه من المحتمل أن تكون فائدته افشاء الحقّ وكثرة بيانه ، كما لا يخفى جواز التفكيك بينهما على أحد كما مرّ هذا في طي الاستدلال بآية النفر.

٢٩١

الاستدلال بآية الاذن

قوله : ومنها آية الإذن وهي قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١) ...

ومن جملة الآيات التي قد استدلّ بها على حجية خبر الواحد آية الاذن ، وتقريب الاستدلال بها أنّ الله تعالى مدح رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه يصدّق المؤمنين وأنّ الله تعالى قرن تصديقه إياهم بتصديقه تعالى ؛ ومن الواضح الذي لا ينكر أنّ تصديق الله تعالى حسن عقلا ونقلا ، فتصديق المؤمنين حسن أيضا بقرينة التقارن بينهما فتدل الآية الشريفة بالدلالة المنطوقية على تصديق المؤمن العادل إذا جاءكم خبرا والتصديق معنى حجية خبره.

ولكن استشكل المصنّف قدس‌سره على الاستدلال بها بإشكالين ، أحدهما أنّ الله تعالى مدح نبيه فيها بأنّه اذن أي سريع القطع وليس المدح بموجود في قبال أنّه يقبل قول الغير تعبدا كي يكون المدح دليلا على حجية قول العادل تعبدا.

وثانيهما أن المقصود من تصديق المؤمنين أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رتب الآثار التي تكون على نفعهم بحيث لا تضرّ بحال غيرهم وليس المقصود ترتيب جميع الآثار حتّى الآثار التي تضرّ بحال غير المؤمنين كما أنّ ترتيب جميع الآثار مطلوب في باب حجية الخبر ، كما لا يخفى.

ثمّ قال المصنّف قدس‌سره ويكون المظهر لهذا المعنى المذكور أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصدق النمام متى قال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ ما نممت وتصدّق الله تعالى متى أخبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه نمّم فهذا أدل دليل وأوضح شاهد على أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن اذنا في خبر المخبر كي ينتفع المخبر فقط بل ينتفع جميع الناس من هذه

__________________

١ ـ سورة التوبة ، آية ٩١.

٢٩٢

السيرة المباركة والروية المقدسة.

وهذا المعنى الذي ذكر للتصديق يكون المراد من التصديق الذي ذكر في كلام المعصوم أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام. قال عليه‌السلام : يا أبا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك. فإن شهد عندك خمسون قسامة ، ـ وهي بمعنى خمسين شاهدا ـ إنّه قال قولا وقال لم أقله فصدقه وكذّبهم. فيكون مراد الإمام عليه‌السلام تصديق أخيك المؤمن المنكر بما ينفعه ولا يضر القسامة الذين شهدوا عليه بأنّه قال قولا كذا وكذا فصدقه كما يكون مراده عليه‌السلام تكذيب القسامة فيما يضرّ الأخ المؤمن ولا ينفعهم.

وهذا المعنى مراد من التصديق والتكذيب وإن لم يكن هذا المعنى مرادا بل المراد ترتيب جميع الآثار بحيث يكون ضارّا به ونافعا بهم ، أو لم يكن نافعا بهم سواء كان نافعا به أم لم يكن نافعا به ، كما هو المطلوب في حجيّة خبر الواحد أي ترتيب جميع الآثار النافعة والضارّة مطلوب القائل في حجية أخبار الآحاد فكيف يحكم الإمام عليه‌السلام بتصديق رجل واحد وتكذيب خمسين رجلا ؛ وعليه فالآية الشريفة لا تدلّ على المدّعى.

ولا يخفى أنّ المراد من تكذيب السمع والبصر انّه إذا رأيت من أخيك شيئا ، أو سمعت منه كلاما وكان ترتب الأثر عليهما على ضرر الأخ المؤمن فكذّب سمعك أي كأنّك ما سمعت منه كلاما أصلا وكذّب بصرك أي كأنّك ما رأيت منه شيئا منكرا. وهكذا المراد بتصديق المؤمنين حرفا بحرف وقصة إسماعيل بن مولانا الصادق عليه‌السلام معروفة مذكورة في رسائل الشيخ الأنصاري قدس‌سره. وخلاصتها أنّه كان لإسماعيل دنانير وأراد أن يخرج بها رجل إلى اليمن فقال له مولانا الصادق عليه‌السلام يا بنيّ أما بلغك أنّه شارب الخمر قال سمعت الناس يقولون أنّه شارب الخمر فقال عليه‌السلام يا بني إنّ الله تعالى يقول في مدح نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين أي يصدّق الله تعالى ويصدّق المؤمنين ورسول الله أسوة بمقتضى الآية الشريفة وهي

٢٩٣

قوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(١).

وعليه إذا شهد عندك المسلمون بشيء فصدقهم ، فالمراد من التصديق في هذا المقام ترتيب الأثر الذي ينفعه ولا يضرّ به غيره وليس المراد ترتيب جميع الآثار بحيث يضرّه وينفع به غيره كي يترتب عليه حدّ شرب الخمر وهو ثمانون جلدة إذ إجراؤه عليه يكون مضرا بحاله ونافعا بالشهداء ، كما لا يخفى.

توضيح في طي القسامة وهو أنّها بفتح القاف بمعنى الإيمان تقسم من قبل حكّام الشرع الأنور على ، أولياء القتيل إذا ادعوا الدم على شخص من الأشخاص ولم يكن لهم شهداء إلّا أنفسهم ، فلا يثبت بها القتل وان قسم خمسون رجلا من أوليائه.

قوله : فتأمّل جيدا ...

وهو تدقيقي بقرينة كلمة الجيد ، كما مرّ هذا مرارا في الجزء الأوّل والثاني.

الاستدلال بالاخبار على اعتبار أخبار الآحاد

قوله : فصل في الأخبار التي دلّت على اعتبار أخبار الآحاد ...

ولا ريب في أنّ هذه الأخبار تكون على طوائف ، إذ بعضها يدلّ على حجية خبر الثقة والموثق وبعضها يدلّ على حجية خبر العادل ، وبعضها يدلّ على حجية خبر الشيعة كثّر الله تعالى أمثالها في أقطار العالم شرقا وغربا جنوبا وشمالا ، وبعضها يدلّ على حجية الثقة العادل كما يظهر هذا المطلب من مراجعة الوسائل والرسائل وغيرهما من الكتب الأحاديث من الكافي والتهذيب والإستبصار ومن لا يحضره الفقيه ، ولكن يؤخذ بأخصها مضمونا وهي الأخبار التي تدلّ على اعتبار خبر الثقة العدل لا الثقة فقط من دون أن يكون عادلا.

__________________

١ ـ سورة الأحزاب ، آية ٢١.

٢٩٤

وفي كون هذا الخبر أخص مضمونا توضيح وهو كلّما كان خبر الشيعة حجّة كان خبر الثقة العادل من الشيعة حجة وليس العكس بموجود ، إذ الشيعة أعم من الثقة العادل والعام لا يدل على خصوص الخاص ، وعلى طبيعة الحال فلا تستلزم حجية خبر الثقة العادل حجية خبر الشيعة كما لا تستلزم حجية خبر الثقة العادل حجية الثقة غير العادل ، والوجه واضح.

فالنتيجة كلّما تحقّق الموثق العادل تحققت الثقة والشيعة ، وليس كلّما تحققت الثقة ، أو الشيعة تحققت الثقة العادل كما أنّه كلّما تحقّق الفرس في الخارج تحقّق الحيوان. وليس كلّما تحقّق الحيوان تحقّق الفرس مثلا. إذ تحقق العام لا يدلّ على تحقّق خصوص الخاص.

الإشكال على الاستدلال بالأخبار

قوله : إلّا أنّه يشكل الاستدلال بها على حجية أخبار الآحاد ...

أمّا بيانه فإنّ الاستدلال بها على حجية أخبار الآحاد مشكل جدّا ، إذ يكون نفس هذه الأخبار أخبار آحاد فيكون الاستدلال بها مصادرة وهي لا تقبل في مقام الاحتجاج والاستدلال على المدّعى.

والحال أنّها ليست بمتواترة لفظا ، أو معنى ، بل كلّها آحاد فلا جرم يكون باب الاستدلال بها على حجية أخبار الآحاد مسدودا ، أو بتقرير ، أوضح ، وهو أنّ هذه الأخبار التي قد استدلّ بها على حجية أخبار الآحاد تكون فاقدة للحجية لأجل كونها آحادا وليست بمتواترة لفظا ، أو معنى. ومن الواضح ان فاقد الشيء كيف يكون معطيا لهذا الشيء. واما الفرق بين التواتر اللفظي والتواتر المعنوي فقد سبق مكرّرا فلا حاجة إلى الاعادة.

٢٩٥

في دفع هذا الإشكال

فقد دفع المصنّف قدس‌سره هذا الإشكال بأنّها وإن لم تكن بمتواترة لا لفظا ولا معنى ولكنّها متواترة إجمالا نعلم أنّ بعضها صادر عن الصادقين وغيرهما من الائمة الأطهار عليهم‌السلام إجمالا لأجل كثرة هذه الأخبار وكثرة عدد رواتها ، ولكن مقتضى العلم الإجمالي بصدور بعضها*** وإن كان حجية أخصها مضمونا ، وهو خبر الثقة العادل ، إذ مضمونه أخص المضامين الثلاثة وهي الشيعة والثقة والممدوح ، إذ كل موثق العادل شيعي وليس كل شيعي موثق عادل وكذا كل موثق العادل ثقة ، وليس كل ثقة بموثق العادل وكذا كل موثق العادل ممدوح وليس كل ممدوح بموثق العادل كما لا يخفى ، إلّا إنّه يتعدى عن الأخص مضمونا إلى الأعم مضمونا بهذا الطريق وهو إنّه إذا كان بين هذه الأخبار خبر يدل على حجية خبر الثقة والموثوق به فهو يدلّ على حجية خبر كل الثقة سواء كان عادلا أم كان غير عادل بأن كان فاسقا في غير الكذب القولي من المحرمات في الشريعة المقدسة سواء كان ضبّاطا ، أم كان غير ضبّاط ، وليعلم أنّ النسبة بين العادل والموثوق به عموم من وجه إذ قد يكون عادلا موثقا وذلك كزرارة وأمثاله قدس‌سره وقد يكون عادلا غير موثوق به لكثرة خطأه وسهوه ، وقد يكون موثقا غير عادل كما يشاهد هذا بالإضافة إلى الاشخاص الكثيرة.

ويستفاد من بعض الأخبار أنّ حجية خبر الثقة من الأصحاب قدس‌سرهم مفروغا عنها عند السائل والمجيب ، إذ السائل إذا استفهم عن الإمام عليه‌السلام بقوله أفيونس بن عبد الرحمن رضى الله عنه ثقة نأخذ معالم ديننا عنه ، فأجاب الإمام عليه‌السلام بأنّه ثقة مأمون على الدين والدنيا فإنّ ظاهره كون حجية خبر الثقة مفروغا عنها بين الإمام عليه‌السلام والسائل.

وعلى ضوء هذا يكون السؤال ناظرا إلى الصغرى فقط والكبرى مفروغ عنها ،

٢٩٦

وهي حجية خبر كل الثقة كما تكون النسبة بين العادل والضبّاط عموما من وجه أيضا ، إذ لهما مادة الاجتماع ومادّة الافتراقين كالإنسان والأبيض مثلا ، وهذا ظاهر لا سترة عليه.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى استقرار بناء الاصحاب قدس‌سرهم على العمل بإخبار الضعاف مع اقترانها بما يوجب الوثوق بصدورها سواء كان سبب الوثوق بالصدور عمل الأصحاب رحمهم‌الله أم كان عمل الأساطين والفحول بها فالعمدة في المقام الوثوق بصدورها سواء كان الراوي عادلا ضبّاطا أم كان غير عادل بأن كان موثقا غير عادل غير ضبّاط.

الإجماع على حجيّة الخبر

قوله : فصل في الإجماع على حجية الخبر ...

وتقرير الإجماع على حجية خبر الواحد من وجوه :

الوجه الأوّل : الإجماع المنقول من الشيخ الطوسي قدس‌سره على حجية خبر الواحد.

الوجه الثاني : الإجماع القولي من جميع العلماء قدس‌سرهم عدا السيد المرتضى والسيد أبو المكارم ابن زهرة وابن إدريس وأتباعهم قدس‌سرهم ، عليها ولكن خلافهم غير قادح في حجية الإجماع لكونهم معلومين بالنسب.

الوجه الثالث : الإجماع القولي من جميع العلماء حتّى السيد المرتضى وأتباعه بدعوى أنّهم اختاروا عدم الحجية لأجل اعتقادهم انفتاح باب العلم بالأحكام الشرعية ؛ ولو كانوا في زماننا الذي انسد فيه باب العلم بها لعملوا بخبر الواحد جزما.

٢٩٧

الوجه الرابع : الإجماع العملي من جميع العلماء رحمهم‌الله على العمل بالأخبار التي بأيدينا ، ولم يخالف فيه أحد منهم.

الوجه الخامس : الإجماع العملي من جميع المتشرعة من زمن الصحابة الكرام ، رضي الله تعالى عنهم ، إلى زماننا هذا على العمل بأخبار الآحاد فيكون كاشفا عن قول المعصوم عليه‌السلام.

الوجه السادس : دعوى الإجماع من تتبع فتاوى الأصحاب رحمهم‌الله على الحجية من زماننا هذا إلى زمان الشيخ الطوسي قدس‌سره ونستكشف من جميعها على الحجية رضا المعصوم عليه‌السلام بهذا الإجماع ويقطع من فتاواهم برضاه عليه‌السلام ، أو يكون دعوى الإجماع من تتبع الإجماعات المنقولة من قبل العلماء ، رضي الله تعالى عنهم ، بحيث يحصل العلم من مجموعها برضا المعصوم عليه‌السلام وبقوله عليه‌السلام ولا يخفى أنّ الإجماع على الوجه الثاني ، وهو دعوى الإجماع من تتبع الإجماعات المنقولة يكون محكيا متواترا لا بنقل الآحاد حتّى يلزم الدور كما أنّه يكون محصّلا بناء على الوجه الأوّل ، وهو دعوى الإجماع من تتبع الفتاوى.

وأمّا توضيح الدور إذا كان نقل الإجماع على الحجية بنقل الآحاد فيقال أنّ حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد يتوقف على حجيّة خبر الواحد وإلّا فلا يكون الإجماع المذكور بحجة ؛ وحجية خبر الواحد تتوقف على حجية الإجماع المذكور على فرض كونه دليلا عليها لكن لا يخفى عليك مجازفة هذه الدعوى ، إذ أقوال العلماء وفتاواهم في حجية أخبار الآحاد مختلفة جدّا لأنّ بعضهم يقول بحجية أخبار الصحاح والبعض قائل بالحجية إذا كان خبر الواحد محفوفا بالقرينة القطعية التي تدلّ بصدوره عن الإمام عليه‌السلام والبعض معتقد بحجية أخبار الكتب الأربعة ومع هذه القيود المختلفة والخصوصيات المتشتتة كيف يدعى إجماع الأصحاب رحمهم‌الله. وكذا الحال في تتبع أقوال العلماء قدس‌سرهم ومع هذا الاختلاف لا مجال لتحصيل القطع

٢٩٨

برضا المعصوم عليه‌السلام.

اللهمّ إلّا أن يدعى توافقهم على الحجية في الجملة أي على نحو الموجبة الجزئية ، أي تكون أخبار الآحاد حجّة إذا اجتمع فيها شرائط الحجية وإن كانوا مختلفين في خصوصيات الحجية وقيودها ، ولكن دون إثباته خرط القتاد ، ولا ريب في ان اختلاف الشرط يدل على اختلاف المشروط فكلّ واحد من القائل بالحجية يقول بحجية نوع خاص من الخبر بحيث لا يقول بها من اشترط فيها شرطا آخر. مثلا من يقول بحجية الصحاح من الأخبار فهو لا يقول بحجية غيرها من الثقات والأخبار الكتب الأربعة وغيرها ومن يقول بحجية الأخبار التي عمل بها المشهور فهو لا يقول بحجية غيرها. مثلا من يقول بحجية الأخبار التي إذا كان راويها من الشيعة الاثني عشرية فهو لا يقول بحجية الأخبار التي إذا كان راويها من غير الشيعة وإن كان من الثقات ومتحرزا عن الكذب. وهكذا.

قوله : ثانيها : دعوى اتفاق العلماء رحمهم‌الله عملا بل كافة المسلمين ...

ثاني الوجوه من تقرير الإجماع دعوى إجماع العملي من اتفاق العلماء بل كافة المسلمين على العمل بخبر الواحد في امور معاشهم وفي امور معادهم كما أنّ المقلدين يأخذون فتاوى المجتهدين العظام من الناقل لها ، أو من الناقلين إياها لهم وكذا سائر أحكام الموالي والعبيد والامراء والحكّام والنجار والخياط والحدّاد وأمثالها لأنّ كلّهم يرجعون إلى أخبار الآحاد في امورهم ويعملون بها. وهذا معلوم من سيرتهم المستمرة على ذلك ، كما لا يخفى.

في رد المصنّف للوجه الثاني

قوله : وفيه مضافا إلى ما عرفت ممّا يرد على الوجه الأوّل ...

وردّ المصنّف قدس‌سره الوجه الثاني ، أولا بما ردّ به الوجه الأوّل من اختلاف

٢٩٩

القائلين بالحجية في شرائطها وخصوصيتها ؛ وثانيا لو سلمنا اتفاق كافّة المسلمين على حجية خبر الواحد وعلى شرائطها ، ولكن هذا الإجماع لا يكشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام لم يحرز لنا أنّهم بما هم مسلمون يقولون بحجية أخبار الآحاد ، أو هم بما هم عقلاء يقولون بحجيتها ويتفقون عليها كما يتفق العقلاء بما هم عقلاء على العمل بأخبار الآحاد في امور عادياتهم ومعاشهم.

وعليه فيرجع هذا الوجه إلى ثالث الوجوه وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان السماوية وغيرهم على العمل بخبر الثقات واستمرت هذه السيرة من عصر الشارع المقدّس إلى زماننا هذا ولم يردع عن العمل بالخبر المذكور نبي من الأنبياء ولا وصي من الأوصياء ، عليهم صلوات الله الملك المنّان ، ضرورة أنّه لو كان المنع من قبلهم لاشتهر ولوصل إلينا. والحال أنّه لم يشتهر ولم يصل إلينا فثبت أنّ المنع لم يكن ثابتا أصلا ، إذ انتفاء الجزاء يدلّ على انتفاء الشرط ، أو بعبارة اخرى وهي انتفاء اللازم يدلّ على انتفاء الملزوم في القضايا الشرطية المتصلة اللزومية نظير قولك لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا ، وكذا مثل لو كان هذا الشيء إنسانا لكان حيوانا إذ انتفاء الحيوانية يدلّ على انتفاء الإنسانية ، إذ انتفاء الفساد يدلّ على انتفاء الآلهة غير الخالق العالم. فإذا ثبتت السيرة المستمرة على العمل بأخبار الموثقين في غير الشرعيات. فيكشف كشفا قطعيا عن رضا الشارع المقدّس بالعمل بخبر الثقة في الشرعيات أيضا كما أنّه كاشف عن رضا الشارع المقدّس في العاديات.

فإن قيل : من أين يحرز رضاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها أي في الشرعيات أيضا قلنا إن الشارع المقدّس اعتمد في إيصال القوانين الإلهية إلى المكلفين ببناء العقلاء بما هم عقلاء ولم يخترع فيه طريقا آخر وإلّا يلزم أن لا يعمل بفرضه وهو مستحيل في حقّه عقلا لأنّه نقص والنقص محال في حقّه ، فهذا محال في حقّه.

فإن قيل : أنّه يحتمل أن يكون المانع موجودا له عنه مع قيام المقتضى له ، قلنا

٣٠٠