البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

التكليف ما دام لم يبلغ مرتبة البعث ، والارادة ، والزجر ، والكراهة ، لم يصر فعليّا كما سيأتي هذا في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إن شاء الله تعالى ، وما لم يصر فعليا فلم يبلغ مرتبة التنجّز واستحقاق العقوبة على المخالفة بسبب تعلّق القطع به.

فالنتيجة : التكليف إذا لم يبلغ مرتبة الفعلية فلم يكن أمر بموجود ولا نهي بموجود وإذا لم يكونا بموجودين فلم تكن الإرادة والكراهة بموجودين فلا معنى حينئذ لتنجّزه إذا تعلق به القطع.

نعم : ربّما يوجب موافقة الحكم الإنشائي الذي لم يبلغ مرتبة الفعلية استحقاق المثوبة لكون الإنشائي المذكور محبوبا عند المولى فعلا ، أو تركا وهو أتى به أي المكلّف أتى به ، أو تركه فيستحق المثوبة على الفعل إذا كان محبوبا لدى المولى ، أو على الترك إذا كان الترك محبوبا لديه ، فمخالفة حكم الانشائي عن عمد ليس بعصيان ، بل كان هذا الحكم ممّا سكت الله تعالى عنه كما في الخبر المروي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ان الله تعالى حدّد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تعصوها فسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلّفوها رحمة من الله تعالى لكم (١).

فلاحظ وتدبّر كي تعلم عدم العقاب والعقوبة على مخالفة حكم الانشائي لأنّه مسكوت عنه ، وكلّ مسكوت عنه لا يوجب عصيانه عقوبة كما ان العمل به ليس بمحرّم بقرينة جملة فلا تتكلفوها ، وجملة رحمة من الله تعالى لكم من كورتين في الخبر الشريف ، كما لا يخفى.

قوله : نعم في كونه بهذه المرتبة موردا للوظائف المقرّرة شرعا ...

يعني ان الحكم إذا كان فعليّا ففي كونه موردا للأحكام الظاهرية المقرّرة

__________________

١ ـ الوسائل ، كتاب القضاء ، الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي ، ح ١٦.

٢١

للشاك أي إذا كان مفاد الامارات الشرعيّة والاصول العمليّة حكما ظاهريّا فعليّا فيلزم أحد المحذورين ؛ اما اجتماع المثلين إذا طابقت الامارة الواقع ، واما اجتماع الضدّين إذا خالفته.

وكذا الكلام في جانب الاصول حرفا بحرف.

وسيأتي الجمع بينهما في أوّل مبحث الظنّ إن شاء الله تعالى.

وهذا الإشكال مختص بالحكم الفعلي دون الإنشائي والاقتضائي فإنّه لا إشكال في جواز كون كل واحد منهما موردا للوظائف المقرّرة للشاكّ وستأتي الإشارة إلى ذاك الأمر أيضا إن شاء الله تعالى في مبحث حجّية الظنّ.

٢٢

في مبحث التجري

قوله : الأمر الثاني قد عرفت انّه لا شبهة في ان القطع يوجب ...

الفرض من عقد هذا الأمر بيان الأمرين :

الأوّل : حكم مخالفة القطع إذا لم يكن مصيبا للواقع وانّها هل توجب استحقاق العقوبة أم لا وهذا هو المسمّى بالتجرّي.

الثاني : حكم موافقة القطع غير المصيب للواقع وانّها هل توجب استحقاق المثوبة أم لا؟ وهذا هو المسمّى بالانقياد.

وعليه : فالتجرّي عبارة عن مخالفة القطع غير المصيب ، وذلك كمن قطع بخمرية مائع فشربه ولكن كان هذا المائع خلّا واقعا لكون القطع جهلا مركّبا.

والانقياد عبارة عن موافقة القطع غير المصيب للواقع ، مثلا من قطع بوجوب الشيء فانقاد وأتى به ، أو قطع بحرمة شيء ، فانقاد وتركه ولكن كان هذا الشيء الذي قطع بوجوبه حراما واقعا ، أو كان هذا الشيء الذي قطع بحرمته واجبا واقعا لكون القطع جهلا مركّبا ، والإطاعة عبارة عن موافقة القطع الذي كان مصيبا للواقع كما إذا قطع القاطع بوجوب شيء من أي سبب كان فقد أطاع وأتى به وكان هذا الشيء واجبا واقعا ، كالواجبات الشرعيّة ، كالصلاة والصيام والجهاد مثلا ، والعصيان عبارة عن مخالفة القطع مصيبا للواقع ، كمن ترك الواجبات الشرعية التي قطع بوجوبها ، أو فعل المحرّمات الشرعية.

فلنرجع إلى بحث التجرّي ، فيقال : ان المتجرّي هل هو يستحقّ العقاب أم لا بعد الاتفاق على استحقاقه الذم من العقلاء واللوم من المولى من جهة خبث باطنه وسوء سريرته.

٢٣

فاختار المصنّف قدس‌سره استحقاق المتجري للعقاب واستدلّ عليه بامور :

الأوّل : شهادة الوجدان السليم بصحّة مؤاخذته بل بشهادة كافة العقلاء بها بمعنى ان العبد إذا أتى بما اعتقد حرمته ، أو إذا ترك ما اعتقد وجوبه ثم عاقبه المولى لم يذمه العقلاء ولا يرونه ظالما مفرطا في حق عبده بل يرون العبد أهلا لذلك.

الثاني : صحّة ذمّه على تجرّيه وعلى هتكه لحرمة مولاه.

الثالث : خروجه عن رسم عبوديته وكونه بصدد الطغيان لمولاه ، إذ رسوم العبودية اتيان كلّ شيء اعتقد محبوبيّته ، أو ظنّ بها بل احتملها عند المولى وترك كلّ شيء اعتقد مبغوضيته عنده ، أو احتملها احتمالا راجحا لا إتيان محتمل المبغوضية ولا ترك محتمل المحبوبيّة.

الرابع : عزمه على العصيان هذا حكم التجرّي.

وامّا حكم الانقياد ، فالمختار عند المصنّف قدس‌سره صحّة مثوبته واستدلّ عليه بأمرين :

الأوّل : صحّة مدح العقلاء المنقاد على إقامته بما هو قضيّة عبوديته لمولاه إذا أتى بما قطع بمحبوبيّته عند المولى ، أو ترك ما قطع بمبغوضيته عنده وعزم على موافقة القطع.

الثاني : بنائه على إطاعة المولى.

وعلى طبيعة الحال ، فوحدة مناط استحقاق العقوبة بين المعصية الحقيقية والحكمية ، وهو الطغيان على المولى الناشئ من خبث باطن العبد وسوء سريرته موجود في كليهما ، كما لا يخفى.

كما ان وحدة مناط استحقاق المثوبة ، بين الإطاعة الحقيقية والإطاعة الحكمية ، وهو البناء على إطاعة المولى موجود في كليهما.

وان قلنا : بأن القاطع المتجرّي لا يستحق المؤاخذة ما دام لم يعزم على

٢٤

المخالفة بمجرّد سوء سريرته ، وبأن القاطع المنقاد لا يستحق مثوبة بمجرّد حسن سريرته وباطنه ما دام لم يعزم على الموافقة.

امّا المتجرى والمنقاد ، فيستحقّان المؤاخذة والمثوبة لوجود العزم على مخالفة المولى وعلى موافقة المولى فيهما.

ولهذا نختار مؤاخذة الأوّل ومثوبة الثاني في المقام وان كان السيئ السريرة مستحقّا للذمّ في الدنيا ؛ وان كان حسن السريرة مستحقّا للمدح فيها بسبب استلزام سوء السريرة استحقاق الذم واللوم ؛ واستلزام حسن السريرة استحقاق المدح كسائر الصفات والأخلاق الذميمة والحسنة ، كالبخل والجبن والحسد ونحوها ، كما يقال في مقام الذم والمذمة ، فلان بخيل ، وفلان جبان ، وفلان حسود ، وكما يقال في صورة المدح والثناء ، فلان كريم ، وفلان شجاع.

وبالجملة : ما دامت فيه صفة كامنة أي خفية بحيث لا يظهر آثارها في الخارج لا يستحق العبد بها إلّا مدحا إذا كانت حسنة ، أو ذمّا ولوما إذا كانت ذميمة رذيلة ولكن انّما يستحق الجزاء بالمثوبة ، أو يستحق الجزاء بالعقوبة مضافا إلى المدح ، أو الذم إذا صار العبد بصدد الجري والمشي على طبق الصفة الكامنة والعمل على وفقها ، والعزم على وفقها وطبقها.

فالنتيجة إذا كان العبد خبيث الباطن وسيّئ السريرة وكان بصدد المشي على طبق السريرة وجزم قلبا أن يعمل على طبق السريرة وعزم خارجا على اتيان الشيء بحسب مقتضى السريرة الخبيثة فهو يستحق حينئذ عقوبة.

وكذا إذا كان حسن السريرة وطاهر الباطن وكان بصدد الجري على طبقها وعزم أن يعمل على طبقها ، فعمل على وفقها فهو يستحق حينئذ مثوبة في العقبى أيضا ، ولا تصحّ المؤاخذة ولا المثوبة بمجرّد سوء سريرته من دون العزم وبمجرّد حسن سريرته.

٢٥

ويشهد الوجدان السليم بأعلى صوته إذا راجعناه بهذا المطلب ، وهو حاكم بالاستقلال مع قطع النظر عن حكم الشرع في مثل باب إطاعة المولى وباب عصيانه ، وهو حاكم بالاستقلال بما يستلزمانه من استحقاق النيران واستحقاق الجنان (بكسر الجيم) جمع تكسير الجنّة لا بفتحها ، إذ هو بمعنى القلب.

توضيح : وهو ان العقل حاكم مستقلا بوجوب إطاعة المولى ، وبحرمة عصيانه.

ولهذا يقال : ان أمر الشارع المقدّس بإطاعة المولى ارشادية وليس بمولوي لأنّ المولى منعم وشكره واجب ، إذ في ترك شكره يحتمل الضرر ، ودفعه واجب بحكم العقل وهو لا يدفع إلّا بالشكر الذي هو عبارة عن إطاعة المولى وعن ترك عصيانه وطغيانه ، وكذا العقل حاكم بالاستقلال مع قطع النظر عن حكم الشرع بأن من أطاع المولى فهو يستحق الجنان ، ومن عصاه فهو يستحق النيران لأنّ العقل يدرك عدالة المولى وهي تقتضي الاستحقاقين.

تتمّة : في الفرق بين الصفات والأخلاق

وهو ان الاولى يمكن أن تكون بسبب اقتضاء الطبع ، وذلك كالكرم والبخل والشجاعة والجبن مثلا ، وان لا تكون بسبب اقتضائه ، وذلك كعنوان الزراعة والصياغة والنجارة ونحوها ، ولهذا ربّما يرفع الشخص الزارع والصائغ والنجّار يده عن هذه العناوين ويختار شغلا آخر فصارت قسمين امّا بخلاف القسم الأوّل منها فإنّ الشخص الكريم والشجاع لا يرفع يده عنهما وكذا الشخص البخيل والجبان ، حرفا بحرف.

والثانية انّما تكون باقتضاء الطبع ولهذا يكون علم الأخلاق أحد أقسام الحكمة العملية ، وقسم آخر تدبير المنزل ، والقسم الثالث منها تشكيل المدينة

٢٦

الفاضلة ، كما في الحكمة العالية.

فذكر الأخلاق بعد ذكر الصفات في كلام المصنّف قدس‌سره من قبيل ذكر الخاص بعد العام وهو شائع لشدّة الاهتمام بالخاص ، نظير قوله تعالى (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) فذكر جبريل بعد الملائكة من هذا القبيل ، والوجه كما ذكر آنفا.

في بقاء الفعل المتجرّي به على واقعيته

قوله : ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجري به والمنقاد به على ما هو عليه ...

ولا يخفى عليك ان حكم العقل والوجدان باستحقاق الثواب والعقاب على الانقياد والتجرّي ، مع بقاء الفعل المتجرى به والمنقاد به على ما هو عليه واقعا من الحسن والقبح والوجوب والحرمة ، ولا يوجب التجرّي حرمته أصلا ، ولا الانقياد وجوبه.

مثلا : إذا اعتقد العبد بخمرية المائع الفلاني ، أو اعتقد بوجوب شيء فتجرّى وشربه ، وانقاد وفعله فحكم العقل بحرمة التجرّي وباستحقاق المتجري عقوبة لا يوجب أن يكون المائع حراما واقعا بل لا يغير حكمه الواقعي فهو باق على حكمه الأوّلي الواقعي.

وكذا الفعل الذي اعتقد بوجوبه ثم فعله بعنوان انّه واجب فهو باق على حكمه الأوّلي الواقعي عند العقل ، إذ استحقاق الثواب والعقاب انّما يكون لقصد الإطاعة والعصيان ولا ربط له بفعل الخارجي ، فاعتقاد الخمرية ليس مثل اعتقاد المضرية ، إذ عنوان مضرية المباح يوجب حرمته ويوجب تغيّر حكمه الواقعي بخلاف اعتقاد خمرية المباح فإنّه لا يوجب حرمته ولا يوجب تغيّر حكمه الواقعي.

ويشهد بذلك الوجدان السليم ، فكذا القطع بوجوب شيء ليس من العناوين التي توجب تغيّر حكمه الواقعي ، وذلك كالاعتقاد بمقدّمية شيء للواجب ، إذ هو

٢٧

مغيّر لحكمه الواقعي ، نحو الطهارات الثلاث ، لأنّها واجبة غيريّة ومستحبّة نفسية.

وعليه : فعلم ان الفعل المتجرّى به والفعل المنقاد به باقيان على حكمهما الواقعي الأوّلي.

فتلخّص ممّا ذكر ان الموجب للثواب والعقاب هو قصد الطاعة والعصيان الذين يقارنان مع الفعل وليس نفس الفعل موجبا لهما ، إذ لا يحدث تفاوت في الفعل بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم الوجوبي ، أو التحريمي.

وذلك كمن قطع وجوب شيء ، وهو مباح واقعا ، أو كمن اعتقد حرمة شيء ، وهو مباح واقعا ، وكذا لا يحدث تفاوت في الفعل بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحسن والقبح ، فالقطع بوجوب شيء في صورة غير اصابته للواقع لا يوجب حسن ذاك الشيء ؛ وكذا القطع بحرمة شيء في صورة الخلاف لا يوجب قبح ذاك الشيء ، ضرورة ان القطع بالحسن ، أو القبح ليس من الوجوه والاعتبارات التي بها يوجد الحسن والقبح عقلا ؛ وليس القطع ملاكا للمحبوبيّة والمبغوضيّة شرعا.

ويشهد بذلك الأمر الوجدان السليم أوّلا.

وثانيا : ان قتل ابن المولى لا يخرج عن كونه مبغوضا له وان اعتقد العبد بأنّه عدوّه وان قتل عدوّه لا يخرج عن كونه محبوبا لديه وان قطع العبد بأنّه ابنه فالقطع إذا كان جهلا مركّبا لا يغيّر حكم الفعل لأنّه ليس من العناوين المحسّنة والمقبّحة أصلا ، كما رأيت في مثال قتل الابن والعدو.

بقي الكلام في توضيح الوجوه والاعتبارات والعناوين المحسّنة والمقبّحة ، وتلك كالمصالح الشخصية ، أو النوعية.

والمفاسد الشخصية ، أو النوعية مثلا ، الصدق حسن عقلا ولهذا أمر الشارع المقدّس به ، والكذب قبيح عقلا ، ولأجل هذا نهى الشارع المقدّس عنه امّا إذا كان الصدق ذا مفسدة ، كهلاك المؤمن مثلا ، فهو قبيح عقلا وحرام شرعا ؛ وكذا الكذب إذا

٢٨

كان ذا مصلحة ، نحو اصلاح ذات البين مثلا إذا توقف على الكذب ، فهو حسن عقلا وواجب شرعا.

فالقطع بمعنى جهل المركّب إذا تعلّق بوجوب شيء فهو لا يوجب حسنه عقلا ووجوبه شرعا وكذا إذا تعلّق بحرمة شيء فلا يوجب قبحه عقلا وحرمته شرعا.

قوله : هذا مع ان الفعل المتجرّى به ، أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة ...

واستدلّ المصنّف قدس‌سره على مدعاه ثانيا ، وهو ان الانقياد والتجري يوجبان استحقاق العقوبة والمثوبة بسبب القصد على الطاعة والعزم على العصيان والطغيان فهما مربوطان بعمل القلب والنفس ولا يرتبطان بعمل الخارجي ، إذ هو باق على ما هو عليه من الحكم ؛ بأن المتجري والمنقاد في الخارج لا يقصدان إلّا شرب الخمر وفعل الواجب بعنوان الخمرية والوجوب ولا يلتفتان غالبا إلى ان هذا المائع مقطوع الخمرية وان هذا الفعل مقطوع الوجوب كي يتجنب عن شربه بهذا العنوان ، فلهذا إذا سئل عنه أي شيء ، شربت ، فيجاب شربت الماء في صورة الموافقة وشربت الخمر في صورة المخالفة ، ولا يقول شربت مقطوع المائية ومقطوع الخمرية ، وكي يفعله بعنوان كونه مقطوع الوجوب فإذا لم يلتفت إليه فلم يقصده وإذا لم يقصده فلم يكن عنوان القطع اختياريّا : وإذا لم يكن اختياريا فلم يكن محسّنا ولا مقبّحا لأنّ الحسن والقبح يكونان من صفات الأفعال الاختيارية فإذا لم يكن القطع بمعنى جهل المركّب موجبا لهما أي الحسن والقبح عقلا فلم يكن ملاكا للوجوب والحرمة شرعا ، كما لا يخفى.

وملاك الوجوب شرعا هو المحبوبية ؛ وملاك الحرمة شرعا هو المبغوضية.

فالقطع لا يكون موجبا لايجادهما في المقطوع به ، فالقطع بالوجوب ليس بملاك الوجوب شرعا ، وكما ان القطع بالحرمة ليس بملاك الحرمة شرعا لأنّه مغفول عنه حين الفعل والترك ، وكل مغفول عنه ليس باختياري ، إذ الفعل الاختياري

٢٩

ما يصدر عن المكلف بالقصد وإذا لم يكن اختياريّا فلا يعقل أن يكون القطع بالوجوب ، أو الحرمة من جهات الحسن ، أو القبح عقلا. ومن مناطات الوجوب ، أو الحرمة شرعا ، فلا توجد صفة اختيارية موجبة للحسن الصدوري ، والقبح الصدوري عقلا وللوجوب والحرمة شرعا.

قوله : ان قلت إذا لم يكن الفعل كذلك فلا وجه لاستحقاق العقوبة ...

فإذا كان الفعل المتجري به بعنوان معلوم الخمرية غير اختياري ، كما ذكر وجهه ، فلا وجه حينئذ لاستحقاق المتجري الذم في الدنيا والعقاب في العقبى ، إذ ما وقع لم يقصد لأنّه وقع شرب مقطوع الخمرية من المتجري.

وهو غير مقصود له ، إذ مقصوده شرب الخمر بما هو خمر : لا بما هو مقطوع الخمرية ، وما قصد لم يوقع ، إذ وقع في الخارج شرب الماء لا شرب الخمر كان مقصودا له فكان العقاب على مخالفة القطع على الأمر الذي ليس بالاختيار ، وهو فاسد عقلا ، وممنوع شرعا ، وقبيح عرفا.

أجاب المصنّف قدس‌سره بقوله : قلت العقاب في التجري انّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان وهما ناشئان من سوء السريرة. وصادران منه بالاختيار لا على الفعل الصادر منه بلا اختيار ، وهو شرب مقطوع الخمرية ، كما سيأتي هذا إن شاء الله تعالى. كما ان الثواب في الانقياد انّما يكون على قصد الطاعة وهو ناشئ من حسن السريرة لا على الفعل الخارجي الصادر منه بلا اختياره.

قوله : ان قلت ان القصد والعزم انّما يكونان من مبادئ الاختيار ...

ولا ريب في ان لاختيار الفعل مقدّمات ، وهي عبارة عن خطور الشيء في النفس ، ثم الميل وهيجان الرغبة إليه ، ثم الجزم ، وهو التصديق بفائدته ، ثم العزم والقصد ، وهو الشوق الأكيد المسمّى بالإرادة المستتبع لحركة العضلات نحو الفعل ونحو اختياره خارجا.

٣٠

ومن الواضح : ان مقدّمات اختيار الفعل غير اختيارية لأنّ اختيارية الأفعال انّما تكون بهذه المقدّمات المذكورة ؛ فلو كانت هذه المقدّمات اختياريّة أيضا لكانت بمقدّمات اخرى ، إذ لا بد في كل الأمر الاختياري من هذه المقدّمات ، ومن جملتها : العزم والقصد ، فلو كانا اختياريين لاحتاجا إلى العزم والقصد الآخرين ثم ننقل الكلام إليهما فلو كانا اختياريين لاحتاجا إلى العزم والقصد فإذا كانا أولين لزم الدور ، وإذا كانا غيرهما وغير الثانيين والثالثين وهكذا لزم التسلسل.

فدفعا لهذين المحذورين نحن نقول ان القصد والعزم ليسا باختياريين فإذا كانا غير اختياريين فلم يصح العقاب عليهما عقلا ولا شرعا ولا عرفا ، كما ذكر وجهه سابقا.

في جواب المصنّف قدس‌سره عنه

قوله : قلت مضافا إلى ان الاختيار وإن لم يكن بالاختيار ...

أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا الإشكال بجوابين :

الأوّل : إذا راجعنا إلى وجداننا فنجد بعض مقدّمات الإرادة في اختيارنا ، بمعنى ان العبد يقدر أن يترك العزم على العصيان بسبب التأمّل في لوازمه وتبعاته من البعد عن المولى والوقوع في معرض سخطه وغضبه واستحقاق العقاب في العقبى واللوم من المولى والمذمّة من العقلاء في الدنيا كما وقع هذا لأولياء الله تعالى حين قرب وقوعهم فيه ، كما في يوسف الصدّيق على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام مع زليخا امرأة العزيز في مصر ، بل لا يخطر بقلبه عزم العصيان لكمالهم في العصمة.

مثلا : إذا خطر الإنسان شيئا في القلب ، نحو شرب الخمر مثلا ، ثم تصوّر مضارّه ومنافعه ثم رجّح فعله على تركه ، أو رجّح تركه على فعله وهو قادر حين

٣١

التصوّر والترجيح لأحدهما على الآخر على ترك الشرب إذا أراد فعله وهذا المقدار من القدرة يكفي في اختيارية بعض المقدّمات وفي مناط استحقاق الثواب والعقاب ، كما لا يخفى ، فمقدّمات اختيار فعل الشيء أربعة :

أوّلها : خطور الشيء في النفس.

وثانيها : الميل إليه ، وهما أمران قهريان خارجان عن تحت الاختيار والقدرة.

وثالثها : الجزم وهو أمر اختياري لإمكان التأمّل والتفكّر فيما يترتّب على الفعل من اللوم والذم والعقاب فيصرف النفس عنه ويمنع ذلك التأمّل عن وصول الميل إلى حدّ الجزم والتصديق بالفائدة وعن الشوق الأكيد المستتبع لحركة العضلات نحو الفعل وجانبه.

ورابعها : الشوق الأكيد المذكور آنفا.

الثاني : ان استحقاق العقاب ، وحسن المؤاخذة إنّما يكونان من جهة البعد ، والبعد عن ساحة المولى من جهة تجرّيه عليه ومن جهة قصد المعصية ، والتجري من سوء سريرته وخبث باطنه وهما ذاتيان ، والذاتي لا يعلّل ، كما تقدّم في مبحث الطلب والإرادة مفصّلا في الجزء الأوّل.

كما ان استحقاق العقاب في المعصية الحقيقية يكون من جهة البعد عن ساحة المولى بسبب الاتيان بالمعصية ولكن المنشأ والسبب سوء السريرة وخبث الطينة وهو ذاتي ومسبب عن نقصان مرتبة الوجود.

ولا شك في أن مراتب وجود الموجودات العلوية والسفلية مختلفة وبحسب اختلاف مراتب الوجود تختلف الاستعدادات واختلاف مراتب الوجود يوجب حسن السريرة وطيب الطينة وسوء السريرة وخبث الطينة.

فالأوّل : يوجب اختيار الحسنات.

والثاني : يوجب اختيار السيئات ، فلما كان الوجود بجميع مراتبه المختلفة

٣٢

خيرا من العدم فأنحاء الموجودات من كل سنخ كالإنسان والحيوان بل النباتات والجمادات مختلفة ذاتا وخصوصية ، بل الفردان من سنخ واحد ليسا بمتّحدين في جميع الخصوصيات.

ولهذا يقال الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ، كما في الخبر. فوجود الموجودات كلّا خير من عدمها لأنّه صدر من منبع الخير والفيض فيصدر منه خير محض ، إذ صدور الشرّ قبيح منه والقبيح لا يصدر من منبع الخير والفيض ، كما لا يخفى. فوجود الجمادي والترابي في حده مرتبة من الوجود الذي هو خير من العدم فالآثار القبيحة التي تنشئ من الوجودات الناقصة ثابتة من جهة نقصان مرتبة وجودها.

وفي ضوء هذا : فقد انقدح وجه إرادة الكافر والعاصي الكفر والعصيان وإرادة المؤمن والمطيع الايمان والطاعة لأنّ كل واحد منها انّما يكون من جهة اقتضاء ذاتها.

وإذا انتهى الأمر إلى الذاتي يرتفع الإشكال وينقطع السؤال بلم ، إذ منشأ استحقاق العقاب والثواب والمثوبة يكون أمرا ذاتيّا فيرتفع الإشكال من البين لأنّ الذاتيّات ضروري الثبوت للذات نظير إثبات الحيوانية والناطقية للإنسان والذاتي لا يعلل فكما ينقطع السؤال بلم يكون الإنسان حيوانا ، أو ناطقا فكذا ينقطع السؤال بلم يكون العبد متجرّيا على مولاه ومنقادا لمولاه.

وكذا ينقطع السؤال بلم يختار المؤمن والمطيع الايمان والطاعة والكافر والعاصي الكفر والعصيان ولا يحتاج الذاتي إلى ذكر العلّة وبيان السبب لأنّه ضروري الثبوت للشيء ؛ وكل ضروري الثبوت لا يحتاج إلى ذكر العلّة وبيان السبب فهذا لا يحتاج إليه نظير الوجود لذات الباري جلّ جلاله ، إذ هو ضروري الثبوت له تعالى لكونه واجب الوجود امّا بخلاف الممكن الوجود فإن كل واحد من وجوده وعدمه

٣٣

يحتاج إلى العلّة والمؤثر ، إذ ليس وجوده ولا عدمه بضرورين كي لا يحتاج كلّ واحد منهما إلى العلّة بل الوجود والعدم بالنسبة إليه على حدّ السواء ، ككفي الميزان.

ونظير القضايا الضرورية نحو الإنسان حيوان ناطق بالضرورة ؛ ولا شيء من الإنسان بحجر بالضرورة فليس للسؤال بلم مورد لأنّ الحيوان جزء ماهية الإنسان وكذا الناطق وثبوت الجزء للكل سواء كان عقليّا ، كالجنس والفصل للشيء ، أم كان خارجيا ، كالرقبة والرأس للإنسان ضروري لا يحتاج إلى ذكر العلّة وبيان السبب.

فكذا قضيّة هذا العبد متجري على مولاه.

وذاك العبد منقاد لمولاه ، وهذا كافر ، وهذا عاص حرفا بحرف ، إذ العصيان مسبوق بالتجرّي على مولاه والتجرّي مسبب عن سوء السريرة وهو مثل حيوانية الإنسان وناطقيته ذاتي ونقص وجودي لا ينفك عنه.

وبالجملة تفاوت أفراد الإنسان من لحاظ القرب والبعد بساحة المولى وعن ساحته تعالى يوجب لاختلافها في استحقاق بعضها الجنّة ودرجاتها. وفي استحقاق بعضها الآخر النار ودركاتها ، ويجب لتفاوت بعضها في نيل شفاعة الشافعين يوم الآخرة وبعضها الآخر في عدم نيل الشفاعة ولكن تفاوت أفراد الإنس والجن في الأمر المذكور يكون ذاتيا ، والذاتي لا يعلّل ، فإنّ السؤال عن الذاتي يساوق السؤال عن الإنسان لم يكون ناطقا. والحمار لم يكون ناهقا. امّا بخلاف العرضي فإنّه يعلل أي يحتاج إلى ذكر العلّة ، مثلا إذا قيل الإنسان ضاحك فهو يحتاج إلى البرهان وإلى بيان العلّة ، ولهذا يقال لأنّه متعجب. وكل متعجّب ضاحك ، فهذا ضاحك ، وكذا إذا قيل الإنسان ماش لأنّه حيوان : وكل حيوان ماش ، فهذا ماش.

امّا بخلاف ما إذا قيل الله واجب الوجود ، أو قيل الإنسان حيوان ناطق فإنّه لا يحتاج إلى البرهان وإلى ذكر العلّة لأنّ الحيوانية والناطقية جزءان للماهية الإنسان عقلا ، وثبوت الجزء للكل ضروري ، وثبوت الجنس والفصل للماهية ضروري.

٣٤

قوله : ان قلت على هذا فلا فائدة في بعث الرّسل وإنزال الكتب ...

فإذا كان أفعال العباد مستندة إلى الإرادة : والإرادة مستندة إلى سوء السريرة وخبث الطينة وحسنها وطيبها وسوء السريرة وحسنها ذاتيان لا ينفكان عن الإنسان.

وعليه : فكل شخص لا بدّ أن يفعل في الخارج فعلا يكون لازم ذاته من الطاعة والعصيان والطغيان.

وإذا كان الأمر كذلك فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإرشاد والانذار أي إرشاد الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام وانذارهم.

والحال : ان العقل والشرع حاكمان بلزوم هذه الامور المذكورة.

قوله : قلت ذلك لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته لتكمل به نفسه ويخلص مع ربّه أنسه ...

أجاب المصنّف قدس‌سره عنه بأن في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار فائدتين :

الاولى : انتفاع من حسنت سريرته وطابت طينته لتكمل بسبب هذه الامور نفسه ويخلص مع ربه انسه ، كما ورد في المأثور : جلوس خمسين نبيّا تحت موعظة لقمان الحكيم عليه‌السلام ، وما هذا إلّا للانتفاع (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(١).

الثانية : اتمام الحجّة على من سائت سريرته وخبثت طينته ، ولأجل هذا نسبت الهداية إلى الله تعالى في الآية الشريفة وهي قوله تعالى : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ)(٢) ففائدة البعث والانزال اتمام الحجّة على هؤلاء الأشخاص الذين كانوا متجرءين عاصين ، لا هدايتهم لأنّ الهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب

__________________

١ ـ سورة الأنفال ، آية ٨.

٢ ـ سورة الأعراف الآية ٧.

٣٥

مختص بذات الباري عزّ اسمه ، كما اختص نفع الذكرى بالمؤمنين في قوله تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(١) ، فإتمام الحجّة للعاصين وعنوان التذكّر بالإضافة إلى المؤمنين.

فتأمّل في المقام حتى لا تزل من حيث الاعتقاد وتقول ان العباد مضطرّون في أفعالهم لانتهاء الأمر إلى سوء السريرة وخبث الطينة وحسنها وطيبها وإلى الشقاوة والسعادة ، وكل واحد منها ذاتي والذاتي ضروري الثبوت نظير القضايا الضرورية نحو الإنسان حيوان ناطق بالضرورة مثلا ، فإذا كان ضروري الثبوت فهو لا يعلّل وينقطع السؤال بلم ولكن قول ان الذاتي لا يعلّل صحيح مقبول.

امّا الإرادة بجميع مقدّماتها فليست غير اختيارية ، إذ الجزم والشوق الأكيد المستتبع لحركة العضلات أمران اختياريان ، لأنّ التأمّل فيما يترتّب على الفعل القبيح من اللوم والذم في الدنيا ، والعقاب في الآخرة ، يمنع النفس عن حدّ الجزم وعن الشوق الأكيد ، فالإنسان أراد بالاختيار بلا اضطرار واجبار إذا وقع في المسيرين امّا مسير الضلال وامّا مسير الهداية ، فإرادة العصيان والطاعة بالاختيار ، كما لا يخفى كما ان التأمّل فيما يترتّب على الفعل الحسن من المدح في الدنيا ، والثواب في العقبى ، يصل النفس إلى حدّ الجزم وإلى الشوق الأكيد المستتبع لحركة العضلات ، وهذا واضح لمن راجع الوجدان ، فمسألة السعادة والشقاوة كمسألة العلم والجهل لا كمسألة الزوجية للأربعة والفردية للخمسة مثلا فيسأل حينئذ بلم الثبوتي فيقال لم صار زيد عالما مجتهدا فيقال في الجواب لأنّه يحصل العلم مدّة عشرين سنة مثلا ولم يكون زيد جاهلا الجواب ، لأنّه لا يحصل العلم ويترك التعلّم : وكذا يقال : لم صار زيد شقيّا فيقال في مقام الجواب لأنّه أراد العصيان والطغيان على مولاه ، ولم صار بكر سعيدا الجواب ، لأنّه أراد الطاعة والقرب ولا يصح أن تقول لم

__________________

١ ـ سورة الذاريات : ٥٥.

٣٦

صارت الأربعة زوجا ولم صارت الثلاثة فردا ، إذ عنوان الزوجية والفردية لا زمان لذاتهما ولازم الذات ضروري الثبوت وكل ضروري الثبوت ذاتي والذاتي لا يعلّل ، فهذا لا يعلّل.

قوله : ولا يخفى ان في الآيات والروايات شهادة على صحّة ما حكم به الوجدان ...

ولا يخفى ان عدّة من الآيات القرآنية والروايات الشريفة ، تدلّ على صحّة ما حكم به الوجدان والعقل ، من استحقاق المتجرّي على مولاه العقاب في العقبى ، لأنّه قصد المعصية وعزم عليها وان لم تتحقّق في الخارج ، إذ تحقّق فيه شرب الماء مثلا لا شرب الخمر.

ومن الآيات الشريفة قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١).

ومنها قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ ، أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(٢).

ومنها قوله تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً)(٣) وطريق الاستدلال بها واضح لا يحتاج الى بيان.

أمّا بيان دلالتها على المدعى ، فإنّ الاولى : تدلّ على ترتّب العذاب الأليم بالمحبة لاشتهار أفعال السوء للناس بحيث تصير مشهورة يطلع بها عدّة من الناس.

والمحبّة عبارة عن نيّة القلبي وقصده ، فالعذاب مترتّب على النيّة.

والثانية : تدلّ على ترتّب المحاسبة على اظهار النيّة القلبية وعلى اخفائها.

والثالثة : تدلّ على جعل درجات الآخرة ونعيمها لغير المتكبّر والمفسد ،

__________________

١ ـ سورة النور : ١٩.

٢ ـ سورة البقرة : ٢٨٤.

٣ ـ سورة القصص : ٨٣.

٣٧

ولا ريب في ان التكبّر مربوط بالنيّة والقصد. وعلى هذا فإذا تكبّر شخص فهو يستحق النار ودركاتها.

فالنتيجة ان العقوبة ثابتة لمحبّ شياع الفاحشة واشتهارها بين الناس ، ولنيّة السوء سواء أظهره في الخارج ، أو أخفاه ، ولمريد العلوّ والتكبّر والفساد.

وامّا الروايات فكثيرة :

منها : من رضى بفعل قوم فهو منهم (١).

ومنها : نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرّ من عمله (٢).

ومنها : وكل عامل يعمل على نيّته ان الله يحشر الناس على نيّاتهم (٣).

ومنها : القضاة أربعة ثلاثة في النار ، وواحد في الجنّة ؛ رجل قضى بالجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة (٤).

فإن قيل : كيف تكون نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرّ من عمله؟ قلنا : ربّما كان العمل رياء للمخلوقين والنيّة خالصة لربّ العالمين فيعطي عزوجل على النيّة ما لا يعطي على العمل ، وامّا الكافر فينوي من الشرّ ما لا يدركه من حيث العمل. مثلا الكافر ينوي هدم أركان الإسلام ولكن لن يصله أبدا عملا فانقدح ان نيّته شرّ من عمله وغيرها من الروايات التي رتّبت الأعمال من حيث الحسن والقبح بالنيّة والقصد ، لأن الرضا أمر قلبي وكذا القضاوة بالجور وبالحق مربوطة بالنية ، فيترتب كون القوم المصلح ومن القوم المفسد على الرضا ، كما يترتب الجزاء ، وهو

__________________

١ ـ الوسائل ١٨ : ١١ ح ٦.

٢ ـ الوسائل ١ : ٣٥ ح ٣ باب ٦ من أبواب مقدّمات العبادات.

٣ ـ الوسائل ١ : ٣٤ الباب الخامس ح ٥.

٤ ـ الوسائل ١٨ : ١١ ح ٦.

٣٨

كونه في النار أو الجنة على القضاوة إذا نوى القاضي الجور أو الحق والثانية والثالثة ظاهرتان لا حاجة إلى التوضيح. فالمتجرّي لمّا نوى المعصية وقصدها فهو يستحقّ العقاب في العقبى ، على حسب نيّته.

في البرهان الرباعي

قوله : ومعه لا حاجة إلى ما استدل على استحقاق المتجرّي للعقاب ...

مثلا : لو فرض شخصان قاطعين بأن ما في انائهما خمر ثم شرب كل منهما ما في انائه وكان في الواقع أحد الإناءين خمرا والآخر ماء فلا يخلو المقام هذا من إحدى الاحتمالات الأربعة :

الأوّل : فامّا أن يستحقا العقاب

الثاني : أما أن لا يستحقه كلاهما معا.

الثالث : امّا يستحقه من صادف قطعه الواقع دون الآخر.

الرابع : امّا بعكس الثالث ، ولا يخفى انّه لا سبيل إلى الثاني والرابع ، إذ لازمهما القول بعدم الاستحقاق على المعصية ، وهو باطل ، بناء على التحسين والتقبيح العقليين الذين هما مبنى البحث في مسألة التجرّي.

فيدور الأمر حينئذ بين الأوّل والثالث وحيث ان الثالث يلزم منه إناطة العقاب بالمصادفة للواقع ، إذ لا فرق بين الشخصين إلّا في ذاك المصادفة وعدمه فالفرق بينهما في العقاب لا بدّ أن يستند إلى ذلك المصادفة وهذا الاستناد باطل قطعا ، إذ يلزم منه إناطة العقاب بما هو خارج عن الاختيار من مصادفة القطع الواقع ، فتعيّن احتمال الأوّل ، وهو المطلوب.

ولكن قال المصنّف قدس‌سره لا حاجة إلى هذا البرهان الرباعي لاثبات استحقاق العقاب للمتجرّي بعد وجود الآيات والروايات المذكورتين الدالتين على صحّة

٣٩

حكم الوجدان ، وبعد دلالة الوجدان السليم على استحقاق المتجري للعقاب ، وعليه فإذا كان الاستحقاق للعقاب من الوجدانيات فلا حاجة إلى تجشّم الاستدلال وإقامة البرهان ، كما لا يخفى هذا.

قوله : مع بطلانه وفساده ، إذ للخصم أن يقول بأن استحقاق العاصي ...

هذا مضافا إلى بطلان هذا البرهان الرباعي ، إذ يمكن للخصم أن يقول إن وجه استحقاق العاصي الحقيقي صدور علّته منه عالما وعامدا ، وهي شرب الخمر واقعا مثلا ، فإذا وجدت العلّة فوجد المعلول ، وإذا تحقّق السبب فقد تحقّق المسبّب ، امّا بخلاف المتجرّي فلا يتحقّق منه سبب الاستحقاق ؛ ولا تصدر عنه علّته ، ولو بلا اختيار.

ومن الواضح : ان المعلول فقد إذا فقدت العلّة وان كان فقدان العلّة لا عن اختيار وبلا اختيار وهو عبارة عن عدم مطابقة قطعه للواقع وعن عدم مصادفة قطعه الواقع.

ولا ريب في ان مصادفة القطع الواقع ، كما في العاصي ، وعدم مصادفته إيّاه ، كما في المتجرّي ، أمران خارجان عن تحت قدرة المكلّف واختياره فالعاصي اتى بالعمل المبغوض عالما عامدا بلا إكراه واضطرار ، ولهذا يستحق العقاب واللوم والذم بلا إشكال.

وامّا المتجري فلم يأت بالعمل المبغوض لدى المولى لأنّه إذا قطع ان هذا المائع خمر وشرب وكان في الواقع ماء ، ولا ريب في انّه لم يأت بشرب المحرم المبغوض واقعا والقطع لا يصلح ان يصير غير المبغوض واقعا مبغوضا واقعا فلم يفعل المتجري عملا مبغوضا بل لا يصدر منه في بعض الصور عمل اختياري كي يستحق العقاب عليه لأنّه قطع بكون هذا المائع الخارجي خمرا وشربه حال كون هذا الشرب في الواقع شرب ماء لا شرب الخمر فيكون هذا الشرب من باب ما وقع

٤٠