البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

للظن يكون أصعب من خرط القتاد ، بل بنائهم على حجية الظن الحاصل من الظواهر والحاصل من أخبار الآحاد فحسب.

فخلاصة الكلام ان ماء الموصولة في كلمة ما اشتهر ينصرف بقرينة السؤال إلى الشهرة الروائية ولا يشمل الفتوى وتعليق وجوب الأخذ بالمشهور بما لا ريب فيه ليس ظاهرا في العلية بحيث يعتمد عليه حتى يقال ان الشهرة الفتوائية ممّا لا ريب فيه من باب اللطف ، أو الملازمة العادية بين قول المعصوم عليه‌السلام وبين قول المشهور والأكثر ، بل تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية ، والاشعار لا يعدّ عند أهل الفن ظهورا نحو إذا قال المولى لعبده أكرم عالما لعلمه ولا يكون ظاهرا في علية المأخذ ، أي مأخذ الاشتقاق ، إذ نحتمل أن تكون علّة وجوب الاكرام شيئا آخر وعنوان العالمية يكون عنوانا مثيرا نظير أكرم هذا الجالس ، هذا مضافا إلى ان الشهرة الفتوائية ليست ممّا لا ريب فيه.

الوجه الثالث : لحجية الشهرة الفتوائية ـ وهو عموم التعليل الوارد في ذيل آية النبأ وهو قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) والمراد من الجهالة هو السفاهة باتفاق المفسّرين رضي الله عنهم.

وطريق الاستدلال ان التعليل قد يكون مخصّصا للحكم المعلّل به كما في قولنا : لا تأكل الرمّان لأنّه حامض وقد يكون معمّما له كما في قولنا : لا تشرب الخمر لأنّه مسكر فإنّه يحكم بحرمة كلّ مسكر ولو لم يكن خمرا ، كما ان في المثال الأوّل يحكم بحرمة الحامض سواء كان رمانا أم كان غير رمّان ولا يحكم بحرمة حلو ؛ ومفاد التعليل في الآية الشريفة عدم لزوم التبيّن في كل ما ليس العمل به سفاهة.

ولا يخفى ان العمل بالشهرة الفتوائية لا يكون بسفاهة فلا يجب فيها التبيّن من حيث العمل من أجل مقتضى عموم التعليل ، وفيه منع الصغرى والكبرى.

امّا الصغرى فهي عبارة عن العمل بالجهالة سفاهة.

٢٤١

وامّا الكبرى فهي عبارة عن كلّ سفاهة يجب فيها التبيّن.

امّا الصغرى ؛ فلأنّ المراد من الجهالة في الآية الشريفة ، امّا السفاهة بمعنى العمل بشيء بلا لحاظ مصلحة وحكمة فيه قبالا للعمل العقلائي الناشئ من ملاحظة المصلحة والحكمة فيه ؛ وامّا الجهل فيها قبالا للعلم ، ولفظ الجهالة قد استعمل لغة في كل من المعنيين.

والتفصيل : فإن كان المراد منها السفاهة كان العمل بالشهرة الفتوائية من السفاهة ، إذ العمل بما لا يؤمن معه من الضرر والعقاب المحتمل يكون سفاهة بحكم العقل ، فإنّ العقل يحكم بتحصيل المؤمن من العقاب من أجل وجوب دفع الضرر المحتمل والعمل بالشهرة الفتوائية بلا دليل على حجيّتها لا يكون مؤمنا من العقاب بحكم العقل فيكون سفاهة وغير عقلائي ؛ وان كان المراد منها الجهل بمعنى عدم العلم فالأمر ، أوضح ، إذ الشهرة الفتوائية لا تفيد العلم فيكون العمل بها جهالة لا محالة.

وامّا منع الكبرى : فلأنّ التعليل وإن كان يقتضي التعميم نحو المثال المذكور إلّا انّه لا يقتضي نفي الحكم عن غير مورده ممّا لا توجد فيه العلّة ، إذ لا مفهوم له لأنّه فرع انحصار العلّة وهو لا يستفاد من التعليل ولا ربط له بعموم التعليل فإنّ التعدي إلى غير الخمر من المسكرات والحكم بحرمتها لعموم التعليل ـ لا يوجب الحكم بحليّة كل ما ليس بمسكر ؛ بل قد يكون الشيء حراما مع عدم كونه مسكرا كما إذا كان نجسا ، أو كان مال الغير مثلا.

فالحكم بوجوب التبيّن في كلّ ما كان العمل به سفاهة ؛ بل لا يدل على عدم وجوب التبيّن في كل ما ليس العمل به سفاهة ، بل يمكن أن يكون التبيّن فيه واجبا مع عدم كون العمل به سفاهة.

فتحصّل ممّا ذكر : ان الشهرة الفتوائية ممّا لم يقم دليل معتبر على حجيّتها ،

٢٤٢

لأن الأدلّة التي اقيمت على حجيتها من المقبولة والمرفوعة والمفهوم بالأولوية ، وعموم التعليل في الآية الشريفة مردودة جدّا كما عرفت.

حجيّة خبر الواحد

قوله : فصل : المشهور بين الأصحاب حجيّة الخبر الواحد ...

فهذه المسألة أي مسألة حجيّة خبر الواحد من أهم مسائل علم الاصول لوجهين :

الوجه الأوّل : ان العلم الضروري بالأحكام الشرعية غير حاصل إلّا في الأحكام الشرعية الكلية الإجمالية ، كوجوب الصوم والصلاة وأمثالهما ، والعلم غير الضروري بالأحكام كالعلم الحاصل من الخبر المقطوع صدوره للتواتر ، أو للقرينة القطعية ـ قليل جدّا ، لقلّة الخبر المقطوع الصدور.

الوجه الثاني : ان غالب الأحكام الشرعية وأجزاء العبادات والمعاملات وشرائطهما انّما يثبت بأخبار الآحاد.

وعليه : فالبحث عن حجيتها من أهم المسائل الاصولية ، وباثبات حجيتها ينفتح باب العلمي بالأحكام الشرعية وينسدّ باب الانسداد بها ، وبعدم حجيتها ينسد باب العلمي بها وينفتح باب الانسداد ، ولهذا قال المشهور بين الأصحاب قدس‌سرهم حجية الخبر الواحد في الجملة بالخصوص.

والفرق بين في الجملة وبالجملة : ان مفاد الاولى ايجاب الجزئي في قبال السلب الكلي ؛ وان مفاد الثانية هو السلب الكلي ، فالمراد بيان إثبات حجية الخبر الواحد بالخصوص أي بالدليل الخاص كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وليس المراد إثبات حجية كل خبر واحد على نحو الإيجاب الكلّي ، وكذا ليس المراد إثبات حجيته بدليل الانسداد.

٢٤٣

ولهذا قال المصنّف قدس‌سره في الجملة ، إذ لحجية الخبر الواحد شرائط ، كما ستأتي إن شاء الله تعالى.

ولا يخفى ان هذه المسألة من أهم المسائل الاصولية للوجهين السابقين ، وقد عرفت في أول الكتاب في بيان موضوع علم الاصول ان الملاك في المسائل الاصولية صحّة وقوع نتيجة المسألة في طريق استنباط الأحكام الكلية الذي هو وظيفة المقلّد لا وظيفة المقلد بالكسر ، إذ وظيفة المقلد العامي هي الأحكام الجزئية ، فالذي يقع في طريق استنباط الأحكام الجزئية هو المسائل الفرعية الفقهية لا المسائل الاصولية.

ولا يخفى ان نتيجة المسألة الاصولية تقع كبرى القياس الذي ينتج حكما كليّا فرعيّا مثل الصلاة واجبة في الشريعة الإسلامية المقدّسة ، إذ دلّ على وجوبها من القرآن الكريم قوله تعالى : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)(١) وغيرها من الآيات القرآنية ، فالصلاة مأمور بها بالأمر الإيجابي ، لأن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب وكل ظاهرة حجّة ، وكلّ مأمور به بالأمر الإيجابي واجب ، فالصلاة واجبة ونرتّب القياس على هيئة الشكل الأوّل ونأخذ صغراه من الكتاب العزيز مثلا ونأخذ كبراه من قواعد علم الاصول بعد انضمام الصغرى إلى الكبرى ينتج حكما فرعيّا كليّا ، وهو وجوب كلّ صلاة إلّا ما خرج بالدليل الخاص وهو الصلاة المندوبة وهي كثيرة في الشريعة الإسلامية المقدسة.

ولا يخفى ان هذه النتيجة تتوقّف على تحقّق أمرين :

الأوّل : كون صيغة الأمر وهي أقيموا مثلا ظاهرة في الوجوب.

الثاني : كون ظهور القرآن الكريم حجّة ويتكفّل علم الاصول بيان هذين الأمرين.

__________________

١ ـ سورة النساء ، آية ١٠٣.

٢٤٤

فإذا علم الفقيه من هذا العلم ان صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب للأدلّة التي اقيمت عليه ؛ وان ظهور القرآن الكريم حجّة استطاع أن يستنبط منها ان الصلاة واجبة والأدلّة التي اقيمت على حجية الظهور قد مرّت في بحث حجية الظواهر ، وهكذا كلّ حكم شرعي مستفاد من أي دليل شرعي ، أو عقلي ، وذلك كوجوب مقدّمة الواجب المطلق فلا محالة يتوقّف استنباطه من الدليل على مسألة ، أو أكثر من مسائل علم الاصول ، كما لا يخفى.

فإن قيل : بناء على ما اشتهر من ان الموضوع لعلم الاصول هو الأدلّة الأربعة : الكتاب المجيد ، والسنّة الشريفة ، والاجماع ، ودليل العقل.

وعليه : يشكل جعل مسألة حجية الخبر الواحد من مسائل علم الاصول إذ موضوعها هو الخبر الواحد ، وذلك كخبر زرارة بن أعين قدس‌سره وهو ليس من الأدلّة المذكورة.

امّا كونه ليس بكتاب ولا إجماع ولا العقل فواضح ؛ وامّا انّه ليس من السنّة الشريفة فلأنّ السنّة عبارة عن قول المعصوم عليه‌السلام وفعله وتقريره وليس هو أحدها ، بل انّما هو حاك عن أحدها أي قوله عليه‌السلام ، أو فعله ، أو تقريره والحاكي غير المحكي عنه.

ومن هنا يظهر أن ما تجشّمه صاحب الفصول قدس‌سره في دفع الاشكال الوارد على المشهور من ان البحث عن دليلية الدليل بحث عن حال الدليل وعن عوارضه ليس له مساس في دفع هذا الإشكال لأنّ البحث عن حجية الخبر الواحد وان كان بحثا عن دليلية الخبر لكنّه ليس بحثا عن دليلية أحد الأدلّة الأربعة بل هو بحث عن دليلية الحاكي للسنة ، وهذا واضح.

وعلى ضوء هذا فقد ظهر وجه كون قول صاحب الفصول قدس‌سره تجشّما ، إذ كون المسائل اصولية أن يبحث فيها عن أحوال الأدلّة الأربعة في فرض كون موضوع

٢٤٥

علم الاصول هو الأدلّة الأربعة بوصف دليليتها كما هو مشهور في ألسنة الفحول قدس‌سرهم فلا يكون البحث عن دليلية أخبار الآحاد وحجيّتها بحثا في مسألة اصولية.

قوله : كما لا يكاد يفيد عليه تجشّم دعوى ...

هذا تعريض بالشيخ الأنصاري قدس‌سره.

حيث أجاب عن الإشكال المذكور بأنّ مرجع البحث في المقام إلى ان السنّة أعني قول المعصوم وفعله وتقريره عليه‌السلام هل تثبت بخبر الواحد أم لا؟ فيكون البحث حينئذ بحثا عن عوارض الدليل وهو السنة بالمعنى المصطلح عليه. فإذن يصحّ أن يقال : ان موضوع علم الاصول هو الأدلّة الأربعة المعهودة.

وحاصل التعريض ان الثبوت المبحوث عنه ليس هو الثبوت حقيقة وواقعا بل المراد منه هو الثبوت تعبّدا الراجع إلى وجوب العمل وترتيب آثار الثبوت الحقيقي الواقعي ، وهذا المعنى من الثبوت ليس من عوارض السنة المذكورة ، إذ لا نزاع في وجوب العمل على طبق السنة الواقعية بل هذا من عوارض مشكوك السنة الذي هو مؤدّى الخبر الواحد ومن أحواله كما هو الظاهر ، وقد سبق هذا في أوّل الكتاب ، مع انّه يرد على جواب الشيخ الأعظم قدس‌سره إشكال آخر وهو ان الثبوت ليس المبحوث عنه في بحث الاخبار بل المبحوث عنه فيه حجية الاخبار الآحاد ، ومن لوازم الحجية ثبوت السنة بها ، ولكن الملاك الذي تعد به المسألة من مسائل الفن كون نفس المبحوث عنه من عوارض الموضوع فلا يكفي كون لازمه من العوارض كما في هذا المقام.

فالنتيجة : إذا اخترنا مذهب المشهور الذي يقول ان موضوع علم الاصول هو الأدلّة الأربعة بوصف دليليتها ، أو إذا اخترنا مذهب صاحب الفصول رضى الله عنه وهو يقول :

ان موضوع علم الاصول هو الأدلّة الأربعة بما هي هي أي ذواتها ، فيرد عليهما اشكال ويرد على كلّ واحد منهما بالخصوص إشكال.

٢٤٦

امّا بيان الاشكال المشترك فلأنّ البحث عن المسائل المهمّة ، وتلك كالبحث عن حجية أخبار الآحاد وعن التعادل والتراجيح وعن أحد الخبرين المتعارضين سندا ، أو دلالة لا يكون البحث عن عوارض أحد الأدلّة الأربعة لأنّ الخبر حاك عن السنّة وليس نفسها كي يكون عن عوارضها ، أي عوارض اخبار الآحاد ، بحثا عن عوارض السنّة ، هذا بيان الاشكال المشترك.

وامّا بيان الاشكال الوارد على قول المشهور فهو ان الفقيه لا بدّ أن يبحث في علم الفقه الشريف ، عن وجود الأدلّة والدليل على الأحكام الشرعية ، إذ دليليتها مسلّمة ، والبحث عن وجود الدليل عليها ليس من عوارضها ، إذ البحث عن عوارضها الذاتية يكون بعد الفراغ عن وجودها أي إذا كانت ظواهر الكتاب المجيد ، أو السنّة أو الاجماع ، أو دليل العقل على الأحكام موجودة.

فإذن الفقيه يبحث في الفقه الشريف ، عن دليليتها وحجيتها على الأحكام الشرعية وعن عدمهما عليها كما تقدّم هذا في أوّل الكتاب ، في بيان موضوع علم الأصول.

وامّا بيان الاشكال الوارد على قول صاحب الفصول قدس‌سره فهو عبارة عن عدم صحّة انحصار الأدلّة على الأحكام الشرعية بالأربعة ، إذ كل دليل يصلح أن يكون دليلا على الأحكام الشرعية ، فلا محالة يكون هذا دليلا عليها ، كقول اللغوي والشهرة الفتوائية والقياس المنصوص العلّة مثلا.

وامّا بناء على مختار المصنّف قدس‌سره من كون موضوع علم الاصول كليّا متّحدا مع موضوعات مسائل الفن كاتحاد الكلي الطبيعي مع أفراده فلا يلزم شيء من الاشكال وقد تقدّم هذا مفصّلا في أوّل الكتاب.

وكيف كان الموضوع لعلم الاصول فالمحكيّ عن السيّد المرتضى والقاضي ابن البراج والسيّد ابن زهرة وأبو علي الطبرسي وابن إدريس قدس‌سرهم في استدلال

٢٤٧

المنكرين عدم حجية الخبر الواحد أصلا ، واستدل لهم بالآيات الناهية عن اتباع الظن الذي هو غير العلم ؛ والروايات الدالّة على ردّ ما لم يعلم انّه قول الأئمّة عليهم‌السلام ؛ أو لم يكن عليه شاهد من كتاب الله المجيد ، أو شاهدان ، أو لم يكن موافقا لكتاب الله تعالى وللقرآن الكريم إليهم ، أو على بطلان ما لا يصدّقه كتاب الله ، أو على ان ما لا يوافق كتاب الله زخرف ، أو على النهي عن قبول حديث إلّا ما وافق الكتاب ، أو السنّة ، إلى غير ذلك من الروايات المتعدّدة في هذا الباب ، كما لا يخفى.

ولا بدّ هنا من بيان ثلاثة امور :

الأوّل : وجه تقديم المصنّف قدس‌سره أدلّة المنكرين لحجية الأخبار على أدلّة القائلين بحجيتها ، وهو ان أدلّتهم على مدّعاهم محصورة ، وأدلّة القائلين بالحجية غير محصورة ، والمحصور قد يتقدّم على غيره طلبا للإيجاز والاختصار ؛ نظير تقديم النحاة اعراب التقديري على اعراب اللفظي ، لأنّ الأوّل محصور في الأسماء المقصورة كموسى مثلا ، وفي الأسماء المضافة إلى ياء المتكلّم ، كغلامي مثلا ، والثاني غير محصور.

الأمر الثاني : بيان الآيات الناهية عن اتباع غير العلم على نحو الإطلاق الذي يشمل الأحكام الشرعية والموضوعات الخارجية والعقائد القلبية.

فمنها : (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(١).

ومنها : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢).

ومنها : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ)(٣).

__________________

١ ـ النجم : ٢٨.

٢ ـ يونس : ٣٦.

٣ ـ آل عمران : ١٥٤.

٢٤٨

ومنها : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً)(١). وغيرها من الآيات المباركات ، وهي كثيرة جدّا.

الأمر الثالث : بيان الروايات الناهية عن اتباع غير العلم والدالّة على ردّ ما لم يعلم من قولهم عليهم‌السلام ، أو على ردّ ما لم يكن موافقا لكتاب الله عزوجل ، أو على ردّ الخبر الذي لا يكون كتاب الله مصدقا له.

فمنها : خبر عبد الله بن كبير عن رجل عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا ، أو شاهدين من كتاب الله تعالى فخذوا به وإلّا فقفوا عنده ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم (٢).

ومنها : رواية أيّوب بن راشد عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف وباطل (٣).

ومنها : حديث ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به ، قال عليه‌السلام : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله تعالى ، أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلّا فالذي جاءكم به أولى به. وروى البرقي في المحاسن عن عليّ بن الحكم مثله (٤) ، وغيرها من روايات الباب وهي كثيرة أيضا.

ولا يخفى ان التعبيرات في الروايات مختلفة جدّا كما رأيت واضحا ، إذ في بعضها عبّر بعدم الموافقة لكتاب الله وفي بعضها عبّر بعدم الشاهد ، أو شاهدين من كتاب الله ، وفي الثالث عبّر عن الخبر الذي لا يوافق كتاب الله بزخرف وباطل.

__________________

١ ـ النساء : ١٥٧.

٢ ـ وسائل الشيعة ١٨ : باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١٨.

٣ ـ المصدر نفسه باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١٢.

٤ ـ المصدر نفسه باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١١.

٢٤٩

واستدلّ لهم ثالثا بالإجماع المحكي عن السيّد المرتضى قدس‌سره في مواضع من كلامه ، فالاجماع لطائفة الشيعة قائم على عدم حجية أخبار الآحاد بل في نظرهم ثابت ان العمل بأخبار الآحاد كالعمل بالقياس ، فكما انهم بريئون من القياس ومن العمل به كذلك بريئون من العمل بالخبر الواحد ، فمن شعارهم حرمة العمل بالقياس فجعل العمل بالخبر الواحد كالعمل بالقياس في وصف الحرمة بالإجماع عند الشيعة ، كثّر الله تعالى أمثالها في أقطار العالم.

في جواب المصنّف قدس‌سره

وامّا الجواب عن الآيات المباركات ، فوجوه ثلاثة :

الوجه الأوّل : ان ظاهر الآيات الناهية المذكورة وغيرها ، وسياقها اختصاص النهي عن اتباع غير العلم ، وهو الظنّ بأصول الدين والعقائد ، ولا يشمل هذا النهي الفروع والأحكام الشرعية نظرا إلى شأن نزولها ومواردها ، إذ بعضها نزل في ذمّ المشركين الذين اعتقدوا بأن الملائكة بنات الله تعالى ، والحال ليس لهم بذلك الأمر علم بل هم يتّبعون الظن فيه.

وبعضها الآخر : نزل في ذمّ النصارى لمّا ظنّوا قتل عيسى بن مريم عليه‌السلام (١).

وبعضها نزل في ذمّ المطففين ، إذ ظنّوا الجزاء والبعث (٢).

وبعضها نزل في ذمّ الكفّار الذين قلّدوا آبائهم في اتباع الظن بالإضافة إلى معرفة الحق ، إذ لا بدّ في انتفاع الحقّ من معرفته وعلمه (٣).

وكذا كلّ آية تضمن النهي عن اتباع الظن نزلت في ذمّ الكفّار الذين يتّبعون

__________________

١ ـ كالآية ١٥٧ من سورة النساء.

٢ ـ كآية ٤ سورة المطففين.

٣ ـ كآية ٣٦ من سورة يونس.

٢٥٠

الظن في اصول الدين ، ونزلت في ذمّ النصارى بالإضافة إلى قتل النبي المسيح على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام ونزلت في ذمّهم من جهة اتباعهم ظنّا بالنسبة بيوم الجزاء والقيامة وليس فيها أثر من ذمّ من اتبع الخبر الواحد الذي يفيد الظن بالأحكام الشرعية ، كما لا يخفى.

فإن قيل : ان الآيات مطلقة وبإطلاقها تشمل مطلق الظن سواء كان في الاصول والعقائد أم كان في الفروع والأحكام الشرعية ، والحال انّه ليس الدليل على تقييدها بالاصول بموجود.

قلنا : ان الدليل على تقييدها بالاصول موجود ، وهو اقتران الآيات المباركات بما يصلح للقرينية والدليلية عليه ، وهو سياقها وقبلها وبعدها يظهر هذا الأمر والمطلب للمتأمّل المدقّق.

هذا هو الوجه الثاني أي الجواب الثاني عن الآيات الناهية عن اتباع غير العلم في الاصول والعقائد.

الوجه الثالث : على فرض تسليم عموم الآيات للاصول والفروع نحن نقول بتخصيصها بالأدلّة التي تدلّ صراحة على حجيّة أخبار الآحاد كما اشتهر في الألسن تخصيص العمومات حتى قيل : ما من عام إلّا وقد خصّ ، كما ستأتي إن شاء الله تعالى.

وامّا الجواب عن الروايات الناهية عن اتباع غير العلم فبأن الاستدلال بها على عدم حجية أخبار الآحاد غير سديد أي غير مستقيم لاستلزامه الدور.

امّا بيانه فلأنّ عدم حجية خبر الواحد موقوف على حجية هذه الروايات التي قد استدلّ بها عليه. وحجية هذه الروايات موقوفة على حجية مطلق خبر الواحد إذ لو لم يكن مطلق الخبر حجّة لما صحّ الاستدلال بها على عدم حجية أخبار الآحاد.

٢٥١

وبتقرير آخر وهو يلزم من الاستدلال بها على عدم حجية خبر الواحد عدم حجية نفس هذه الأخبار ، فيلزم من وجود الحجية عدمها.

ومن الواضح : ان ما يلزم من وجوده عدمه محال ، فالاستدلال بها عليه محال.

توضيح في الدور المحال في المقام

وهو ان حجية هذه الروايات تكون تارة موقوفا عليها ؛ واخرى تكون موقوفة ، فهذا المقدار كاف في لزوم الدور وان كان الموقوف والموقوف عليه شيئين من الطرف الآخر ، إذ يكون الموقوف تارة عدم حجية الخبر. والموقوف عليه اخرى حجية الخبر على نحو الإطلاق.

ومن الواضح : ان عدم الشيء غير الشيء ، إذ العدم مباين للوجود ومضادّ له ، كما لا يخفى.

في الاعتراض على جواب المصنّف قدس‌سره

قوله : لا يقال انّها وان لم تكن متواترة لفظا ولا معنى ...

وليعلم ان المتواتر بناء على المشهور نوعان :

النوع الأوّل ؛ متواتر لفظي وهو أن يتواتر الخبر بلفظ واحد وبعبارة واحدة وذلك كحديث : إنّما الأعمال بالنيّات. وكحديث يوم الغدير : «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» ، صلوات الله تعالى على قائله وعلى المقول له.

والثاني : أن يتواتر الخبر بألفاظ متعدّدة وبعبارات مختلفة ولكن كلّها يدلّنا إلى معنى واحد ، كما أخبر زيد بن الحارثة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قتل يوم الخندق عمرو بن عبد ود ، لعنه الله ، وأخبر أبو ذر الغفاري رضى الله عنه أن أمير المؤمنين حارب في احد حربا شديدا مع الكفّار ، وأخبر المقداد بن الأسود رضى الله عنه أن أمير

٢٥٢

المؤمنين عليه‌السلام لم يفرّ من الحرب أصلا ، وأخبر سلمان الفارسي رضى الله عنه أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان أوّل محارب في الإسلام في كثير من الغزوات وو.

فهؤلاء الأشخاص وإن لم يتفقوا في اللفظ والعبارة إلّا انّهم متّفقون بأن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام كان رجلا شجاعا ، فأخبار هذه الجماعة تدلّ بالالتزام على شجاعة شخص المخبر عنه ، وهو مولانا وإمامنا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

والثالث : أن يتواتر الخبر إجمالا وهو الخبر الذي لا يكون متواترا لفظا ، ولا متواترا معنى بل المتواتر الاجمالي عبارة عن عدّة أخبار مختلفة لفظا ومتفاوتة مفهوما ، ولكن نعلم إجمالا بصدور بعضها عن المعصوم عليه‌السلام وان لم يكن الخبر المصدور عنه عليه‌السلام بمعلوم لنا شخصا وسبب العلم الاجمالي بصدور بعضها كثرتها وتظافرها وكثرة عدد رواتها.

فإذا لاحظنا كلّ واحد من الأخبار الناهية عن اتباع غير العلم فلا يثبت به شيء من مفاهيمه المتفاوتة على القول بعدم حجيّة خبر الواحد ، ولكن يثبت بمجموعها الجامع بين كلّ الأخبار وهو العنوان الذي ينطبق عليه جميع العناوين التي قد ذكرت في الأخبار وذلك كعنوان المخالف للكتاب الكريم ، إذ ينطبق عليه عنوان عدم العلم بأن المخالف قول المعصوم عليه‌السلام وينطبق عليه انّه ليس له شاهد ، أو شاهدان من كتاب الله تعالى ، أو من قول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينطبق عليه انّه لم يوافق القرآن.

توضيح التواتر الإجمالي في طيّ المثال

وهو إذا أخبرنا زيد بأن عمروا قد مات في الأمس ، وأخبرنا بكر بأن عمروا قد قتل على فراشه في الأمس وأخبرنا وليد بأن عمروا قد صلب في الأمس ، وأخبرنا خالد بأن عمروا قد غرق وهلك في الأمس ، وأخبرنا خالد بأن عمروا قد

٢٥٣

انخسف به الأرض ثم هلك ، فقد رأيت رؤية واضحة ان المعاني متفاوتة لتفاوت ألفاظها وعباراتها ولكن يحصل لنا العلم الاجمالي بصدق بعضها لامتناع تواطئهم على الكذب عادة ، امّا مجموع الأخبار من حيث المجموع فقد اتفق على القدر الجامع وهو زهوق روح عمرو عن جسمه وموته فالمجموع حجّة فيه ، كما لا يخفى.

وكذا ما نحن فيه ، إذ الأخبار وإن كانت مختلفة من حيث المضامين والمعاني وكان كلّ واحد منها خبرا واحدا لا يثبت به شيء من تلك المعاني على القول بعدم حجية خبر الواحد ، ولكن مجموع تلك الروايات قد اتفقت بالنسبة إلى مخالف القرآن الكريم انّه ليس بحجّة قطعا.

هذا خلاصة إشكال القائلين بعدم حجية خبر الواحد على المصنّف قدس‌سره فيثبت بها عدم حجية أخبار الآحاد لتواترها إجمالا.

أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا الإشكال : بأنّ تلك الأخبار وان كانت متواترة بالتواتر الاجمالي تفيد العلم بصدور بعضها عن المعصوم عليه‌السلام ولكنّها لا تفيد العلم إلّا فيما توافقت تلك الأخبار الكثيرة عليه ، وهو القدر الجامع بين جميعها وهو الخبر المخالف للكتاب المجيد ، والمخالف للسنّة الشريفة.

وهذا المقدار لا يفيد بحالكم أيّها القائلون بعدم حجية أخبار الآحاد على نحو السالبة الكلية وعلى طريق السلب الكلي ، كما ان الالتزام بعدم حجيّة خبر الواحد مخالف للكتاب الشريف ، والسنّة الشريفة ليس بضائر بحال القائلين بحجية الخبر وأخبار الآحاد ، إذ هم قائلون بحجية خبر الواحد مع وجود الشرائط فيه لا مطلقا ؛ ومن جملتها عدم مخالفته للقرآن المجيد ، والسنّة السنية ، كما ستأتي الشرائط إن شاء الله تعالى.

بل لا بدّ بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب الحميد ، في مقام المعارضة والتعارض.

٢٥٤

مثلا : إذا وصل إلينا الخبران أحدهما مخالف للكتاب الكريم ، والآخر موافق له فلا إشكال في ترجيح الموافق على المخالف ، فيؤخذ الموافق ويطرح المخالف قطعا ، أو يضرب على الجدار ، كما سيأتي في بحث التعادل والتراجيح إن شاء الله تعالى.

مثلا : فالمضمون الذي توافقت عليه النصوص المعلوم إجمالا صدور بعضها وان كان يجب العمل به لكنّه لا ينفع في إثبات نفي الحجية عن كل فرد من الخبر كما هو مدعى النافين للحجية ، بل انّما ينفع في نفي الحجية عن نوع خاص منه وذلك ليس محل الكلام هنا ، لأنّ الكلام في حجية الخبر بمعنى الموجبة الجزئية والدليل المذكور للنافي انّما يقتضي السالبة الجزئية وهي لا تنافي الموجبة الجزئية التي يدّعيها المثبت ولا تثبت السالبة الكلية التي يدّعيها النافي.

في الجواب عن الاجماع

قوله : وامّا عن الاجماع فبان المحصل منه غير حاصل والمنقول منه ...

أجاب المصنّف قدس‌سره عن الاجماع الذي ادّعاه النافين في المقام بوجوه أربعة :

الوجه الأوّل : ان الاجماع امّا محصل وامّا منقول ، امّا المحصل منه فغير حاصل ، إذ يمتنع مع مخالفة جمع كثير من الأعلام والفحول (رض) كما سيأتي هذا إن شاء الله تعالى. هذا أوّلا.

وثانيا : بعد تسليم تحقّق الاجماع المحصّل فيما نحن فيه لا يجوز الاعتماد عليه لاحتمال استناد المجمعين إلى الوجوه المتقدّمة من الآيات والروايات الناهية عن اتباع الظن فيكون هذا الاجماع مدركيا ، وهو ليس بحجّة.

فإن قيل : كون هذا الاجماع مدركيا محتمل وليس بمقطوع ولا مظنون والعقلاء بما هم عقلاء لا يعتنون بمثل هذا الاحتمال؟

٢٥٥

قلنا : هذا الاحتمال كاف في هذا المقام لأنّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال كما هو المشهور في ألسنة الاساتيذ ؛ وامّا الاجماع المنقول فلا يصلح الاستدلال به لنفي حجية الخبر لعدم حجيّته كما عرفته سابقا. هذا أوّلا.

وثانيا : إذا قطعنا النظر عن عدم حجيّته وبنينا على حجيته في بعض الموارد ولكن يستلزم الاستدلال به محالا سواء قلنا بحجية الخبر أم قلنا بعدم حجيّته ؛ امّا على تقدير عدم حجية الخبر فواضح ، إذ هذا الاجماع المنقول يكون من أفراده ومصاديقه وإثبات عدم حجية الخبر بالإجماع المنقول ليس إلّا تحصيلا للحاصل وهو قبيح من المولى الحكيم ، إذ المقصد الأصلي من هذه الأبحاث معرفة كلام المولى جلّ وعلا ، والقبيح يستحيل صدوره منه عزّ اسمه.

وامّا على تقدير حجية الخبر الواحد فالاستدلال به لنفي حجية الخبر الواحد يستلزم حجية نفس الاجماع لأنّه إذا لم يكن حجة فلا يصحّ الاستدلال به على مدعى النافين.

فالنتيجة : يكون الاستدلال به على فرض عدم حجية الخبر الواحد مبطل لنفسه لكونه من مصاديق الخبر الواحد ومن أفراده ، هذا محال أيضا لا يصدر من المولى الحكيم جلّ وعلا ، هذا مضافا إلى ان الاجماع الذي ادّعاه النافين معارض بالاجماع الذي ادّعاه المثبتون والقائلون بحجيته ، ومضافا إلى ان هذا الاجماع موهون بذهاب المشهور إلى حجية أخبار الآحاد.

فجواب المصنّف قدس‌سره أربع :

الأوّل : هو قوله والمنقول منه ليس بحجّة.

الثاني : هو قوله بعد تسليم الاجماع في المقام انّه مدركي ليس بكاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام.

الثالث : هو قوله مع انّه معارض بمثله.

٢٥٦

الرابع : هو قوله مع أنّه موهون بذهاب المشهور إلى خلافه.

تتميم

بقي في هذا المقام بيان امور :

الأمر الأوّل : قوله خصوصا في المسألة يحتاج إلى التوضيح ، وهو ان الاجماع المنقول بخبر الواحد من صغريات خبر الواحد ولا يمكن الاستدلال بنفس خبر الواحد على عدم حجيّته أي على عدم حجية خبر الواحد لأنّه يستلزم إبطال نفس المستدلّ به أي يلزم من وجود حجيّته عدم حجيّته وما هذا إلّا تناقض ، هذا وجه الخصوصية ، إذ الاجماع المنقول ليس بحجّة أصلا ، كما تقدّم هذا مفصّلا.

الأمر الثاني : قوله وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه يحتاج إلى التوضيح أيضا ، وهو ان موهونا اسم مفعول من باب وهن يهن وهنا ، كوعد يعد وعدا ، بمعنى أضعفه. فموهون بمعنى مضعف (بالفتح) ، أو من باب وهن يوهن وهنا ، كوجه يوجه وجها ، بمعنى ضعف في الأمر ، أو العمل ، أو البدن ، فموهون بمعنى ضعيف ، كما في المنجد ، أي ضعيف إجماعهم.

الأمر الثالث : في ان الدليل العقلي هل هو موجود لعدم حجية الخبر الواحد أم لا؟

نعم هو موجود عليه قد استدل به ابن قبة ومن تبعه قدس‌سرهما من كونه مستلزما لتحليل الحرام وتحريم الحلال لو كان حجة.

مثلا : إذا قام خبر الواحد على حرمة شيء وكان في الواقع حلالا ، أو قام على حليّة شيء وكان في الواقع حراما ، فالتحليل والتحريم باطلان ، فحجيّة الخبر الواحد باطل جدّا.

وامّا الجواب عنه انّا نعلم إجمالا بصدور جملة من تلك الأخبار عن

٢٥٧

المعصوم عليه‌السلام ولا نحتمل أن يكون جميعها مجعولا كي تستلزم حجيّته تحليل الحرام ، أو تحريم الحلال ولا سيّما بعد ملاحظة جهد العلماء وسعيهم قدس‌سرهم في تهذيبها وتنقيحها وإسقاط الضعاف منها ، ولذا ادّعى صاحب الحدائق قدس‌سره العلم بصدور جميع ما في الكتب الأربعة ، ومقتضى هذا العلم الإجمالي هو الاحتياط والأخذ بجميع هذه الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة عند الشيعة (رض) بحكم العقل.

الاستدلال بآية النبأ

قوله : وقد استدلّ للمشهور بالأدلّة الأربعة ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان أدلّة المنكرين لحجية أخبار الآحاد أخذ في بيان أدلّة المثبتين لحجيّتها وهي أربعة :

الأوّل : هو الآيات التي قد استدل بها وقدّمها على الثلاثة الباقية لشرافتها بالاضافة إليها ، والأشرف مقدّم على غيره.

فمنها : آية النبأ ، قال الله تبارك وتعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) ، ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه :

الوجه الأوّل : هو الاستدلال بمفهوم الوصف باعتبار ان الله تعالى ، أوجب التبيّن عن خبر الفاسق ، والتبين ليس بواجب نفسي بل هو شرط لجواز العمل بالخبر إذ التبيّن عنه بلا تعلّقه بعمل ليس بواجب يقينا ، بل لا يبعد أن يكون حراما شرعا ، فإنّ التفحّص عن كون الخبر صادقا ، أو كاذبا يكون من باب التفحّص عن عيوب الناس والدليل الذي يدلّ على كون وجوب التبيّن شرطيّا هو التعليل المذكور في ذيل الآية الشريفة ، وهو قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) ، فيكون مفاد

__________________

١ ـ الحجرات : ٦.

٢٥٨

الآية الشريفة ان العمل بخبر الفاسق يشترط فيه التبيّن والتفحّص عنه ، فيجب التبيّن عنه في مقام العمل به ، ويكون المفهوم بمقتضى التعليق على الوصف ، وهو فاسق ، ان العمل بخبر غير الفاسق لا يشترط فيه التبيّن عنه فلا يجب التبيّن عن خبر غير الفاسق في مقام العمل به ، وهذا هو المقصود.

الوجه الثاني : ان لخبر الفاسق حيثيتين :

احداهما : ذاتية وهي كونه خبر الواحد.

والاخرى : عرضية وهي كون الخبر خبر الفاسق ، وقد علّق في الآية الشريفة وجوب التبيّن على العنوان العرضي فيستفاد من هذا التعليق ان العنوان العرضي هو العلّة لوجوب التبيّن ، دون العنوان الذاتي.

وعليه : فيستفاد انتفاء وجوب التبيّن عند انتفاء هذا العنوان العرضي ، وهو كونه خبر الفاسق ، فإذا لم يجب التبيّن عن خبر العادل فلا جرم يكون مقبولا وواجب الاتباع وهذا معنى حجيّة الخبر الواحد.

فإن قيل : ان الذاتي امّا ذاتي باب الكليّات وباب الايساغوجي ، وامّا ذاتي باب البرهان الأوّل ، هو الجنس والفصل ، وذلك كالحيوان ، والناطق للإنسان.

ومن الواضح : ان كون خبر الفاسق خبر الواحد ليس بجنس ولا فصل للماهية الخبر بل هو عارض عليه كعروض الضحك على الانسان مثلا. وكذا لا يكفي تصوّر الخبر بما هو خبر في صحّة حمل خبر الفاسق عليه كما يكفي تصوّر الإنسان بما هو إنسان في صحّة حمل الإمكان العام عليه ، وكما يكفي تصور الأربعة في حمل الزوج عليها فيقال الأربعة زوج ، فيقال : الإنسان ممكن الوجود ولكن لا يكفي تصوّر الخبر بما هو خبر مع قطع النظر عن كون المخبر فاسقا في صحّة حمل خبر الفاسق عليه كي يكون كون الخبر خبر الفاسق من الذاتي باب البرهان فكون خبر الفاسق خبر الواحد ذاتيّا غير مقبول ، فهذا الوجه مردود.

٢٥٩

قلنا : ان المراد من حيثية الذاتية في المقام هو الذاتي باب البرهان ، إذ الخبر الواحد في نفسه يحتمل الصدق والكذب ، كما هو مشهور في الألسنة ، ويقال ان الخبر يحتمل الصدق والكذب.

وعليه : يصحّ حمل خبر الفاسق عليه إذا تصوّرناه كما يصحّ حمل خبر العادل أو الموثق عليه بلا حاجة إلى ملاحظة أمر خارج عنه فكونه خبرا واحدا ذاتي له لكن ذاتي باب البرهان لا ذاتي باب الكليات والايساغوجي ، كما لا يخفى.

الوجه الثالث : هو الاستدلال بمفهوم الشرط بتقريب أن وجوب التبيّن عن الخبر قد علّق على مجيء الفاسق به فينتفي وجوب التبيّن عند انتفاء مجيء الفاسق نظرا إلى مفهوم الشرط ، فلا يجب التبيّن عن الخبر عند مجيء غير الفاسق به فلا محالة يجوز قبوله وإلّا يلزم الردّ وهو باطل ، إذ هو يقتضي كون العادل أسوأ حالا من الفاسق ، وهو معنى الحجية.

ولا يخفى ان الوجه الثالث أظهر الوجوه لأنّ الوجه الأوّل متفرّع على مفهوم الوصف ، وهو محل النزاع بين الأعلام (رض) وهو واضح. والمصنّف قدس‌سره قائل بعدم المفهوم للوصف ، كما سبق هذا في الجزء الأوّل.

ومن الواضح : انّه إذا لم يتحقّق المتفرّع عليه لم يتحقق المتفرّع بل التحقيق عدم المفهوم للوصف.

وامّا الوجه الثاني : فلأنّه يرجع إلى الظنّ بعلية وصف الخاص أعني منه الفسق لعدم قبول الخبر من جهة عدم ما يوجب الأمن من تعمّد الكذب في الفاسق وحجيّة مثل هذا الظن أوّل الكلام فصار الوجه الثالث خاليا عن شائبة الاشكال ، ولذا قال المصنّف قدس‌سره هو أظهرها.

قوله : ولا يخفى انّه على هذا التقرير لا يرد ان الشرط في القضية ...

اعترض بأن القضية الشرطية قد تكون لبيان تحقّق الموضوع ، وقد تكون

٢٦٠