البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

ظواهره المتضمّنة لبيان الأحكام والتكاليف فلو لم يكن ظاهرا فيها للزم الاغراء بالجهل وتعطّل الأحكام إلى طلوع شمس الهداية ، وهو كما ترى.

وامّا الثالثة : فلأنّ الظاهر ليس من المتشابه الممنوع اتباعه فإنّ الظاهر ان المتشابه هو خصوص المجمل وليس المراد منه ما يعمّ المجمل والظاهر.

فإن قيل : قولكم يجوز التمسّك بظاهر الكتاب مصادرة ، والحال ان حجيته أوّل الكلام فيكون هذا مصادرة.

قلنا : ليس المقصود من قولنا فإن الظاهر من المتشابه هو خصوص المجمل ان الظاهر من قوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) الآية ، هو ذلك حتى يكون مصادرة أي ما أثبتنا كون المتشابه مجملا بالآية الشريفة وبظاهر القرآن الكريم ، بل المقصود من قولنا المذكور ان المتبادر من لفظ المتشابه عند العرف وأهل اللسان مع قطع النظر عن كون لفظ المتشابه في الكتاب المبين والقرآن الكريم هو خصوص المجمل.

ومن المعلوم : الذي لا ينكر أصلا ان فهم العرف متبع في تعيين مداليل الألفاظ ومفاهيمها ، فلا مصادرة وليس المتشابه بمتشابه ، بمعنى هل هو يشمل المجمل والظاهر؟ أم يشمل المجمل فقط؟

قال المصنف قدس‌سره : ليس المتشابه بمتشابه اذ هو يشمل المجمل لا غير ، كما ادعى هذا ، ولو سلّم تشابه المتشابه وانّه يحتمل شموله للظاهر لدار الأمر بين الأقلّ والأكثر ، فالمتيقّن من حرمة العمل بالمتشابه هو المجمل فقط دون المجمل والظاهر معا لأنّ البراءة انّما تجري عن حرمة العمل بالأكثر الذي هو عبارة عن المجمل والظاهر كما ان الأقلّ عبارة عن المجمل فقط ، فالعمل بالظاهر ليس بحرام شرعا لعدم احراز كونه من المتشابه كي يحرم به.

وامّا الرابعة : فلأنّ العلم إجمالا بعروض ارادة خلاف الظاهر من

١٨١

المخصّصات والمقيّدات وقرائن المجاز لا يوجب اجمالها وعدم جواز العمل بها رأسا ، فإنّا إذا تفحصنا في الروايات وظفرنا فيها بالمخالفات بمقدار المعلوم بالاجمال فقد انحل العلم الاجمالي من أصله إلى العلم التفصيلي والشك البدوي ، فلا يبقى حينئذ مقتضى لإجمالها بعد التفحّص التام أبدا ، هذا ، مع إمكان دعوى العلم الاجمالي بوجود مخالفات خاصّة بحيث لو تفحّصنا عنها لظفرنا عليها.

وعليه : ففي كل ظاهر من ظواهر الكتاب الكريم ، إذا تفحصنا الروايات عمّا يخالف ظاهرا من ظواهره ولكن لم نظفر فيها بشيء من خلاف الظاهر جاز العمل به وان كان العلم الاجمالي بالنسبة إلى سائر الظواهر باقيا على حاله.

وذلك لخروج هذا الظاهر الذي تفحصنا في الروايات عمّا يخالفه ـ عن كونه طرفا للعلم الاجمالي ، إذ المفروض انّا نعلم بمخالفات خاصّة في الموارد المعيّنة المحدودة لو تفحصنا عنها لظفرنا عليها وهذا الظاهر قد تفحصنا عمّا يخالفه ولم نظفر فيه بشيء.

فالنتيجة : لا يكون هذا الظاهر الذي تفحصنا عمّا يخالفه من أطراف العلم الاجمالي. وبالجملة فالفرق واضح بين الجواب الثاني والجواب الأوّل.

فعلى الأوّل : لا يمكن العمل بظاهر من الظواهر حتّى نظفر في الروايات على المخالفات بمقدار المعلوم بالاجمال وحتى ينحل العلم الاجمالي من أصله.

وعلى الثاني : لا يجب ذلك بل إذا تفحصنا في خصوص ظاهر من الظواهر ولم نظفر فيه بشيء عمّا يخالفه جاز العمل به أي بظاهر الكتاب العزيز.

وإن كان العلم الاجمالي بالنسبة إلى سائر الموارد والظواهر باقيا على حاله فقد أجاب المصنّف قدس‌سره عن الوجه الرابع بجوابين ، وذكر الفرق بينهما.

فتحصّل ممّا ذكر : ان العلم الاجمالي بعروض إرادة خلاف الظاهر انّما يمنع من أصالة الظهور إذا لم ينحل بالعلم التفصيلي بالمخصّصات والمقيّدات. وامّا إذا

١٨٢

انحل بالعلم التفصيلي بسبب الفحص والبحث فلا يؤثر أثره ، كما لا يخفى ولا يمنع عن العمل بظاهر الكتاب الكريم.

وامّا الخامسة : فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي أوّلا ، إذ معنى التفسير لغة كشف القناع عن الشيء ، أي رفع الحجاب عنه وليس في ظهور اللفظ في المعنى حجاب حتى يحتاج إلى كشف القناع.

وثانيا : لو سلم ان حمل اللفظ على المعنى يكون تفسيرا بالرأي ، ولكن ليس هذا تفسيرا بالرأي ، إذ حمل لفظ على معناه من جهة الوضع والقواعد ليس برأي أصلا ، لأن الرأي عبارة عن الاستحسان العقلي والاعتبار الظنّي الذي لا اعتبار به أصلا.

مثلا : إذا كان اللفظ ظاهرا في المعنى ونحن نحمله بلحاظ الاستحسان العقلي على خلاف ظاهره ، أو إذا كان اللفظ مجملا ونحن نعيّن معناه بملاحظة الاستحسان العقلي من دون أن يراجع إلى الأئمّة المعصومين والأوصياء عليهم‌السلام كما هذا عادة العامّة ومن دون السؤال عنهم عليهم‌السلام ، وفي بعض الأخبار المأثورة عنهم عليهم‌السلام ورد انّما هلك الناس في المتشابه لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء الكرام عليهم‌السلام فيعرفونهم.

والحال ان الناس مأمور بالسؤال عنهم عليهم‌السلام لأنّهم أهل الذكر وبالمراجعة إليهم في معضلاتهم ومشكلاتهم لأنّهم هم الراسخون في العلم.

فالحكمة في المتشابهات هي مراجعات الناس إلى الراسخين في العلم وهم الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام.

فالحاصل : ان حمل اللفظ على ظاهره مستند إلى الوضع لا إلى الاعتبار الظنّي والاستحسان العقلي ، فإذا كان الأمر كذلك فلا بأس به.

١٨٣

قوله : هذا مع انّه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير ...

وخلاصة الجواب الثالث عن الوجه الخامس انّه لو سلم شمول الروايات الناهية عن التفسير بالرأي لحمل اللفظ الظاهر على ظاهره فلا محيص حينئذ عن حمل التفسير بالرأي فيها بحمل اللفظ على خلاف ظاهره ، أو على أحد محتملاته بمجرّد الاعتبار الظنّي والاستحسان العقلي وفلا محيص عن اخراج حمل الظاهر على ظاهره عن تحت هذه الأخبار المذكورة آنفا ، وذلك بمقتضى الجمع بينها وبين ما دلّ من الأخبار على جواز التمسّك بالقرآن مثل خبر الثقلين ، وهو معروف بين الفريقين : «اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا ألا وانّما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» وما دلّ على جواز التمسّك بالقرآن ، وما دلّ على العمل به ، وما دل على عرض الأخبار المتعارضة على القرآن.

وما دلّ منها على ردّ الشروط المخالفة للقرآن الكريم ، فحمل الظاهر على ظاهره خارج عن تحت الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي بحسب الجواب الأوّل والثاني موضوعا وبحسب الجواب الثالث تخصيصا وحكما وجمعا بين الروايات هو مهما أمكن أولى من الطرح ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث التعادل والتراجيح.

وغير الأخبار السابقة المعارضة للأخبار الناهية عن التفسير بالرأي من الأخبار الدالّة على جواز التمسّك بالكتاب المبين. ومنها قوله عليه‌السلام لما قال زرارة ابن أعين (رض) من أين علمت ان المسح ببعض الرأس لمكان الباء وهي للتبعيض؟ فعرّفه عليه‌السلام مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب المبين. ومنها قول إمامنا الصادق عليه‌السلام في مقام نهي منصور الدوانيقي عن قبول خبر النمّام انّه فاسق.

قال الله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية ، ومنها قول الامام

١٨٤

الناطق بالحق عليه‌السلام لابنه اسماعيل ، وهو توفى في حياة أبيه ، ان الله تعالى قال يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم ؛ وغيرها من الروايات الكثيرة ، فهذه الروايات تدلّ بالصراحة على ان الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام أرجعوا الناس إلى ظواهر القرآن الكريم.

ومن المعلوم ان الارجاع انّما يكون إلى الظواهر لا إلى خصوص نصوصه ومحكماته ، إذ الآيات المتكفّلة للأحكام ليست إلّا ظاهرة في مفاهيمها وليست بصريحة فيها ، كما لا يخفى.

في العلم الاجمالي بوقوع التحريف

قوله : ودعوى العلم الاجمالي بوقوع التحريف فيه ...

ولا يخفى ان العلم الاجمالي بوقوع التحريف في الكتاب المبين امّا بإسقاط بعض الآيات الشريفة ، وامّا بتغيير موضع بعضها ، وامّا بتصحيف يوجب سقوط الظهور عن الاعتبار ، أو يمنع عن انعقاد الظهور في الكتاب الشريف.

اختلف الأعلام قدس‌سرهم في وقوع التحريف في الكتاب العزيز ، وعدمه فيه قال أكثر المحقّقين بعدم الوقوع ، وذهب بعض إلى الوقوع. ولا بدّ قبل ذكر أدلّة الطرفين من بيان التحريف لغة وصيغة.

امّا صيغته فهو مصدر باب التفعيل نحو حرّف يحرّف تحريفا على وزن فعّل يفعّل تفعيلا.

قال شيخنا الطريحي (رض) في مجمع البحرين : تحريف الكلام عبارة عن تغييره عن مواضعه.

قال الطبرسي قدس‌سره في تفسير مجمع البيان : فإمّا الزيادة في القرآن الكريم ، فأجمع المسلمون قاطبة على بطلانه ، وامّا النقصان فقد روى جماعة من

١٨٥

أصحابنا قدس‌سرهم وجماعة من العامّة ان في القرآن الكريم تغييرا ونقصانا ، نحو : وتجعلون رزقكم بدل شكركم في سورة الواقعة ، ونحو : طلع بدل وطلح منضود في السورة المذكورة وغيرهما.

ولكن الصحيح من مذهب أصحابنا قدس‌سرهم خلافه وهو الذي نصره السيّد المرتضى قدس‌سره في جواب المسائل الطرابلسيات وذكر في مواضع ان العلم بصحّة نقل القرآن الكريم كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار التي وقعت في العالم والكتب القيّمة المشهورة وأشعار العرب المسطورة ، إذ الدواعي توفّرت على نقله وحراسته وصيانته لأنّ القرآن الشريف معجز النبوّة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، كما لا يخفى ولهذا اهتم المسلمون اهتماما شديدا بحراسته.

ولكن قال المصنّف قدس‌سره : ودعوى العلم الاجمالي بوقوع التحريف في القرآن المجيد امّا بإسقاط ، وإما بتصحيف وان كانت غير بعيدة كما يشهد به بعض الأخبار والروايات ويساعده الاعتبار إلّا انّه لا يمنع عن حجية ظواهره لأنّ القرآن يشتمل على الأحكام وهو ظاهر فيها كما هو ظاهر في القصص والحكايات والارشاد والهداية والوعظ والانذار وذكر الموت وفي أحوال القيامة وغيرها من الأمثال والأخبار عن المغيبات و ...

فلو فرض انّه ليس للقرآن ظهور أصلا لقلنا ليس له ظهور في غير الأحكام وامّا فيها فله ظهور فيها قطعا ، وإلّا لزم الاغراء بالجهل وهو قبيح لا يصدر من المولى الحكيم لأنّ المقصود منها هو العمل على طبق مؤداها.

امّا بخلاف سائر الآيات فإنّ المقصود منها ليس بعمل بالأركان فعدم ظهور غير آيات الأحكام لا يقدح في ظهور آيات الأحكام في مؤداها.

ومحلّ الحاجة ، والبحث هو آيات الأحكام لا غيرها من الآيات القصص وغيرها فليس لنا العلم بوقوع الخلل في ظواهر القرآن أصلا ، ولو سلّم وقوع الخلل

١٨٦

فيها به فلا علم لنا بوقوع التحريف في آيات الأحكام ؛ لاحتمال وقوعه في غيرها.

فإن قيل : إنّا نعلم إجمالا بوقوع التحريف في آيات الأحكام ، أو في غيرها من الآيات الأخر.

وعليه : فتسقط حجية ظواهر القرآن الكريم لأجل العلم الاجمالي بوقوع التحريف.

قلنا : ان العلم الاجمالي بوقوعه فيها ، أو في غيرها غير ضائر بحجية آيات الأحكام لأنّ العلم الاجمالي انّما يؤثّر إذا كان كلّ من الأطراف موردا للابتلاء حال كونه ذا أثر شرعي.

امّا إذا لم يكن أحد الطرفين ، أو أحد الأطراف موردا للابتلاء حال كونه ذا أثر شرعي فليس العلم الاجمالي حينئذ منجزا للحكم على المكلّف ، مثلا إذا علمنا بوقوع قطرة من الدم ، أو البول في أحد الإناءين أحدهما خارج عن محل الابتلاء فالعلم الاجمالي لا يؤثر في الاجتناب عن الطرف الذي هو محل الابتلاء ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لعدم حجية ظاهر سائر الآيات التي ليست مرتبطة بالأحكام ، بل هي لبيان القصص والحكايات والأمثال وذكر الموت والقيامة مثلا ، وإذا لم يكن سائر الآيات القرآنية حجّة كان أحد طرفي العلم الاجمالي بالتحريف بلا أثر شرعي فلا يكون العلم منجزا كما لو علمنا بوقوع التحريف في هذا الحديث ، وذلك كحديث زرارة بن أعين مثلا ، أو في كلام زيد بن أرقم فهذا العلم لا يوجب سقوط الحديث المذكور عن الحجية أصلا ، إذ كلام زيد خارج عن محل الابتلاء لعدم كونه حجّة على المكلّف.

وعليه : فلو كان العلم الاجمالي بوقوع التحريف مانعا عن حجية الظواهر كلّها للزم سقوط جميع الظواهر عن الحجية ، إذ ما من ظاهر من الظواهر الا يحتمل وقوع الخلل والتحريف فيه.

١٨٧

ومن الواضح ان الالتزام بسقوط جميع الظواهر عن الحجية ينافي الارجاع إلى القرآن الكريم في كلّ واقعة من الوقائع وحادثة من الحوادث الواقعة ، كما في الرواية.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى منع خروج ظواهر غير آيات الأحكام عن محل الابتلاء والاحتياج ، إذ يكفي في كونها محل الابتلاء كونها موضوعا لجواز الاعتماد عليها في الأخبار عن مضامينها الواقعية سيما إذا كان مضامينها العالية الأخبار عن وجود المبدأ وعن ، أوصافه الكمالية وعن النبوّة والمعاد والقيامة فحجية أصالة الظهور لا تختص بالأحكام الشرعية بل تعمّ غيرها أيضا ، كما لا يخفى.

نعم : لو كان الخلل الحاصل من التحريف مانعا من انعقاد الظهور نظير القرائن المتصلة من المخصّص المتصل والشرط المتصل والوصف المتصل والغاية المتصلة بالعام ومانعا عن العمل بالظهور نظير القرائن المنفصلة من المخصص المنفصل والشرط المنفصل والوصف المنفصل والغاية المنفصلة عن العام ؛ لأمكن المنع من حجية الظواهر ، وذلك لأنّ العلم الإجمالي يوجب الشك في انعقاد الظهور فيما هو محل الابتلاء من آيات الأحكام ومع هذا الشك كيف يكون الظهور حجّة لأنّ أصالة الظهور انّما تجري بعد الفراغ عن أصل الظهور لا مع الشك فيه ، وهذا معلوم لا شبهة فيه.

وبقى في المقام بيان الأمرين الأوّل : هو بيان الفرق بين الاسقاط والتصحيف ان الأوّل عبارة عن اسقاط بعض الكلمات ؛ وان الثاني عبارة عن تبديل حرف بحرف آخر.

الثاني : في قول المصنّف قدس‌سره كما شهد بوقوع التحريف في القرآن الكريم بعض الأخبار ويساعده الاعتبار ، امّا الأوّل فكثير ، وامّا الثاني فلعدم مناسبة بعض

١٨٨

كلمات القرآن مع البعض الآخر نحو : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ،) إذ لا مناسبة ذوقية بين خوف عدم القسط في أموال اليتامى وبين نكاح النساء ظاهرا ، وكذا غير هذه الآية الشريفة من الآيات القرآنية.

تواتر القراءات

قوله : ثم ان التحقيق ان الاختلاف في القراءة بما يوجب ...

ولا يخفى ان الاختلاف في قراءة القرآن الكريم موجب لتغيّر المعنى نحو قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) بالتخفيف ، أو بالتشديد ، إذ قراءة التخفيف تدلّ على جواز وطء النساء بعد طهرهن عن الحيض وان لم يغسلن وقراءة التشديد تدلّ على جواز وطيهن بعد غسلهن وقبل الغسل لا يجوز.

ففي اختلاف القراءة لا يجوز التمسّك والاستدلال بإحدى القراءتين ، إذ لا يحرز ما هو القرآن حتى يجوز الاستدلال عليها على الأحكام.

والحال : انّه لم يثبت تواتر القراءات ولم يثبت الاستدلال بالقراءات ولكن نسب إلى المشهور تواترها لكنّه ممّا لا أصل له بل انّما الثابت جواز القراءة بالقراءات المتداولة بين الناس ، كما ورد في الرواية : اقرءوا القرآن كما يقرأ الناس وكما تقرأ القراءات السبعة وهي : ابن كثير ، ونافع وابو عمرو ، وعلاء ، وحمزة ، وابن عامر ، وعاصم ، فالأوّل مكي ، والثاني مدني ، والثالث بصري ، والرابع بصري أيضا ، والخامس كوفي ، والسادس شامي ، والسابع كوفي أيضا.

فجواز القراءة بها لا يدلّ على كونها من القرآن المجيد ، ولا على جواز الاستدلال بها ولا على جواز الافتاء بها فلا ملازمة بين جواز القراءة وبين جواز الاستدلال على ثبوت الأحكام بالقراءة ، إذ من المحتمل أن تكون القراءة جائزة

١٨٩

ولكن لا تكون مدركة للأحكام ، فلو فرضنا ثبوت تواتر القراءات في مورد ، أو لو فرضنا من جواز القراءة جواز الاستدلال بها على الأحكام ففي مورد تعارض القراءتين لا جرم امّا نقول بتساقطهما إذا قلنا بكون الامارات الظنّية حجّة من باب الطريقية والرجوع إلى الاصول والقواعد التي تكون حاكمة في هذا المورد ؛ وامّا نقول بالتخيير بدويا ، أو استمراريا من حيث العمل إذا قلنا بكون الامارات حجّة من باب الموضوعية والسببية.

مثلا ؛ إذا أخبرنا زرارة بن أعين رضى الله عنه عن اختلاف القراءة في الآيات القرآنية فلا يخلو من وجهين :

احدهما : حجيّته من باب الطريقية المحضة ، فلا بدّ أن نقول بتساقطهما للعلم الاجمالي بكذب إحدى القراءتين ، إذ ليس للواقع طريقان مختلفان ، فمن جهة قبح الترجيح بلا مرجّح نحكم بتساقطهما.

وثانيهما : حجيته من باب الموضوعية والسببية فلا محيص من أن نقول بالتخيير بينهما لجعل الحكم المماثل في مؤدى الامارة على هذا المبنى ولكن ليس للواقع حكمان مماثلان فكنّا مخيرين بإحدى القراءتين من حيث العمل والافتاء على طبق احداهما.

فإن قيل : نرجع في تعارض القراءتين إلى المرجّحات من حيث الفصاحة والضبط والشهرة لأحد القارى ولإحدى القراءة.

قلنا : إذا كان الدليل على وجوب الرجوع إلى المرجّحات عند التعارض موجودا فهو انّما يكون ثابتا عند تعارض الخبرين فحسب وفي غيرهما ، امّا تساقط والرجوع إلى الأصل والقاعدة ، وامّا تخيير ، نعم يمكن ان نرجع إلى استصحاب حرمة الوطء قبل النقاء بمعنى ان الوطء قبل النقاء كان محرّما قطعا امّا بعد النقاء وقبل الاغتسال فنشك في حلية الوطء وحرمته فتتم أركان الاستصحاب حينئذ

١٩٠

فنستصحب حرمة الوطء.

ويمكن أن نرجع فيما نحن فيه إلى عموم جواز وطء الحليلة وهو عموم : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(١) ، لكن خرج منه أيّام الحيض وبقى الباقي تحته وعموم الجواز يشمل النقاء قبل الاغتسال لعدم كونه مصداقا للحيض وأيّامه.

فالنتيجة : فإذا قلنا باستقلال كل زمان في جواز الوطء فنرجع إلى عموم جواز الوطء.

وامّا إذا قلنا بعدم استقلال كلّ زمان في جوازه فنرجع إلى الاستصحاب المذكور آنفا ونتمسّك به للحرمة أي حرمة الوطء.

وفي طبيعة الحال : فأصالة العموم تقتضي حلية الوطي من حين النقاء إلى حين الاغتسال كما يقتضي حليّته بعد الاغتسال.

ولا بأس بالإشارة إلى أسامي القرّاء السبعة المشهورة ، إذ هم أساتيد القراءة وهي بو عمرو علاء نافع ابن كثير حمزة بن عامر عاصم كسائي كما قال الشاعر :

استاد قرائت بشمر پنج ودو پير

بو عمر وعلاء ونافع وابن كثير

پس حمزة وابن عامر وعاصم دان

از جنس كسائى شمر وهفت بگير

در مكه نخست ابن كثير است امام

نافع ز مدينه ابن عامر از شام

در بصره أبو عمر وعلاء دارد نام

عاصم چو كساء وحمزة از كوفة تمام

في احراز الظهور بالقطع

قوله : فصل قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام ...

قد علم ممّا سبق من حجية ظهور الكلام ان ظاهر كلام الشارع المقدّس ، بل

__________________

١ ـ سورة البقرة : ٢٢٣.

١٩١

ظاهر كلام كلّ متكلّم قصد تفهيم السامع بمدلوله حجّة في تعيين مرامه واستدلّ على حجية الظهور ببناء العقلاء وسيرتهم ولكن يكون هذا الظهور حجّة إذا كان معلوما ومحرزا عند أهل العرف بحيث إذا أطلق الكلام ليفهم منه العرف ذاك المعنى فإذا لم يعلم لنا ظهور ، والحال انّا شككنا في ان هذا الكلام ظاهر في هذا المعنى أم لا؟

ومن المعلوم انّه مع الشك في الظهور لا معنى للقول بحجيته فلا جرم كان الظهور مشكوكا فيه في حكم المعدوم إلّا في الموضع الذي يكون الشك في الظهور من جهة الشك في وجود القرينة ، كما ان صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب في حدّ ذاتها ولكن نشك في مورد ان الصيغة ظاهرة في الوجوب أم لا من جهة احتمال وجود القرينة على خلاف الظاهر ففي هذا المورد يحملها العقلاء على الوجوب وعلى الظاهر ولا يعتنوا باحتمال وجود القرينة على خلاف الظاهر لأنّ الأصل عدمها عند الشك في وجودها وعدمها ويتمسّكون بأصالة الظهور من جهة بناء العقلاء عليها.

والسرّ في بناء العقلاء عليها ان أغلب الظواهر خال عن هذا الاحتمال أي احتمال وجود القرينة على خلاف الظاهر ، كما لا يخفى.

فإن أحرز الظهور بالقطع ، فلا كلام في أن هذا المعنى الظاهر مراد المتكلّم من كلامه ، مثلا : إذا قال رأيت أسدا فإنّا نقطع بكون لفظ الأسد ظاهرا في الحيوان المفترس ، فلو فرض شكّنا في إرادة المعنى المجازي وان كان الشك المذكور لأجل احتمال وجود القرينة وقد خفيت علينا فلا خلاف بين الأعلام رضي الله عنهم ، في أن الأصل عدم القرينة ، إذ قبل التكلّم بهذا الكلام لم تكن القرينة بموجودة قطعا وبعد التكلّم به نشك في وجودها وعدمها ، فالأصل عدمها لأنّه لو لم يتمسّك بها أي بأصالة عدم القرينة حين الشك فيها لانسدّ باب التمسّك بالظاهر ؛ هل ان العمل بالظاهر في مورد احتمال وجود القرينة فيه يستند إلى أصالة الظهور فقط أم يستند

١٩٢

إليها ، أي الى اصالة عدم القرينة وإلى أصالة الظهور معا ، فيه خلاف.

ذهب بعض الأعلام قدس‌سرهم إلى الثاني ، وذهب المصنّف قدس‌سره إلى الأوّل فقال : الظاهر عند أهل اللسان والذوق البناء على المعنى الذي لو لا القرينة لكان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء أي قبل التمسّك بأصالة عدم القرينة لا أنّه يبنى على المعنى الذي كان اللفظ ظاهرا فيه بعد البناء على عدم القرينة بحيث كان العمل بالظاهر مستندا إلى أصلين : أحدهما : أصالة الظهور ، والآخر أصالة عدم القرينة ، كما لا يخفى.

قوله : فافهم ...

وهو تدقيقي إشارة إلى دقّة المطلب المذكور ، أي : دقّق كون اللفظ ظاهرا في المعنى وكون الظاهر مرادا للمتكلّم فيتحقّق كلا الأمرين واحرازهما بحمل اللفظ على المعنى الذي كان اللفظ ظاهرا فيه ؛ وان كان الشك في الظهور من جهة احتمال وجود القرينة في الكلام بأن كان اللفظ الذي كان ظاهرا في المعنى مقترنا بشيء يحتمل أن يكون قرينة صارفة اللفظ عن ظهوره في المعنى الحقيقي الى المعنى المجازي ؛ كوقوع الأمر عقيب الحظر المتحقّق ، أو المتوهّم ، إذ وقوعه عقيبه يحتمل أن يكون قرينة صارفة صيغة الأمر عن ظهورها في الوجوب إلى الاباحة مثلا.

فهذا الظهور وإن كان ليس بخال عن الاشكال والمحذور ، لأجل شكّنا في ان مستند العقلاء بما هم عقلاء في التمسّك بالظواهر هل يكون بناء على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبّد المحض أي يحملون الألفاظ على معانيها الحقيقية تعبّدا وان لم تكن ظاهرة فيها ؛ أم يكون بنائهم على حجية أصالة الحقيقة من باب الظهور فيحملون الألفاظ على معانيها الحقيقية إذا كانت ظاهرة فيها.

وفي ضوء هذا : فإن كان المستند طريق الأوّل فلا يعتنى بمحتمل القرينية ويحمل اللفظ على ظاهره من غير توقف في البين.

وان كان طريق الثاني فلم يحمل اللفظ على ظاهره لأجل الشك في أصل

١٩٣

انعقاد الظهور فمتى لم يحرز الظهور بالقطع ، أو الاطمينان لا تترتّب عليه حجّة إذ تترتّب الصغرى والكبرى ونقول هذا ظاهر وكل ظاهر حجّة فلا بدّ في صحّة الانتاج من احراز الصغرى ، والحال انها لم تحرز ، إذ هي أول الكلام.

إلّا ان الظاهر من موارد الاستدلال أن يعامل مع الكلام المحفوف بما يصلح للقرينية معاملة المجمل من التوقّف إلى أن يتبيّن الحال ، أو الرجوع إلى الأصل العملي في المسألة على اختلاف الرأيين.

فأصالة الحقيقة حجّة من باب الظهور لا من باب التعبّد ، إذ أصالة الحقيقة ليست بأصل مستقلّ في قبال أصالة الظهور ، إذ أحد مصاديق أصالة الظهور كون اللفظ ظاهرا في معناه الحقيقي.

وعليه : لا بدّ من احراز الظهور كي تترتّب الصغرى والكبرى فمتى لم تحرز الصغرى ليس الظهور بموجود كي يقال انّه حجّة.

وان كان الشك في الظهور لأجل الشك في المعنى الذي وضع اللفظ له لغة وذلك مثل لفظ الصعيد مثلا ، إذ لا يعلم وضعه لغة للتراب الخالص ، أو لمطلق وجه الأرض.

وان كان الشك في الظهور لأجل الشك في المفهوم من اللفظ عرفا وان كان المعنى اللغوي لهذا اللفظ معلوما ، وذلك كلفظ الدابة الذي وقع موضوعا للحكم ووجوب النزح عند القدماء (رض) واستحباب النزح عند المتأخّرين (رض) ، إذا ماتت في البئر ، ولم يعلم ان المعنى العرفي من لفظ الدابة أهو الحمار ، أو الفرس ، أو البغل مثلا ، بعد العلم بأن معناها اللغوي هو كل ما يدبّ على وجه الأرض ، فالأصل يقتضي عدم الحجية أي عدم حجية الظن في هذا الظهور ، إذ هذا الظن ظن في ظهور اللفظ في المعنى الذي لم يعلم وضعه له.

ومن المعلوم عدم حجية هذا الظن ، إذ لا دليل على حجية الظن بالظواهر لا

١٩٤

من طريق العقل ولا من طريق الشرع ، نعم يكون الدليل ، وهو سيرة العقلاء ، على حجية الظواهر.

حجية قول اللغوي

قوله : نعم نسب إلى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان حدود أصالة الظهور سعة وضيقا في طي الفروع الأربعة :

الأوّل : أن يكون منشأ الشك في ظهور اللفظ في معناه الحقيقي من جهة احتمال وجود القرينة الصارفة في الكلام ؛ قال المصنّف قدس‌سره : تجري أصالة الظهور في هذا المقام.

الثاني : أن يكون منشأ الشك فيه بسبب احتمال قرينية الموجود في الكلام ، قال المصنّف قدس‌سره في جريان أصالة الظهور إشكال ، وقد مرّ تفصيله.

الثالث : أن يكون منشأ الشك فيه عدم العلم بالموضوع له ، قال المصنّف قدس‌سره : لا تجري أصالة الظهور ، إذ الأصل عدم حجيّتها لأنّها تفيد الظن بالظهور والأصل عدم حجية هذا الظن.

الرابع : أن يكون الشك في الظهور لأجل الشك في المفهوم من اللفظ عرفا ، ولا ريب في أن حال الرابع كحال الثالث ، كما مرّ هذا أيضا.

شرع في بيان حجيّة قول اللغوي في تعيين الأوضاع والموضوع له ألفاظ العرب وكلماته ؛ قد علم ممّا سبق ان ظاهر الكلام حجّة لبناء العقلاء على الاخذ به بشرط أن يكون معلوما ، وامّا إذا لم يعلم فهل يصحّ الرجوع إلى اللغوي في تعيين الظاهر بلا اعتبار ما يعتبر في الشهادة من التعدّد والعدالة ، أم لا يصحّ الرجوع إليه ، فيه خلاف بين الاصوليين (رض).

١٩٥

ذهب الأكثر إلى حجيّة قول اللغوي في تعيين الأوضاع ، وذهب بعض الأخر إلى عدم حجية قوله فيه ؛ واستدل القائل بحجيّة قول اللغوي بوجوه :

الوجه الأوّل : ان اللغوي من أهل الخبرة في تعيين الأوضاع وظواهر الألفاظ وقد تحقّق البناء من العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة في كلّ فن من الفنون بلا اعتبار التعدّد والعدالة كالرجوع إلى الطبيب في تشخيص المرض وعلاجه وكالرجوع إلى المهندس في تقويم الدار وو.

والحال إنّه لم يثبت ردع شرعي عن ذلك أصلا وإلّا لوصل إلينا قطعا.

فإن قيل : لم اعتبرت العدالة في الفقيه الذي يكون مرجعا في تعيين الأحكام الشرعية والوظائف الدينية.

قلنا : هذا انّما يكون لدليل خاصّ ، وهو قول امامنا العسكري عليه‌السلام : وأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر المولى فللعوام أن يقلّدوه.

هذا في بيان العدالة بل في بيان الورع ؛ وفيه ان الرجوع إلى أهل الخبرة انّما هو في الامور الحدسية التي تحتاج إلى إعمال النظر والرأي لا في الامور الحسّية التي لا دخل للنظر والرأي فيها وتعيين معاني الألفاظ من قبيل الامور الحسّية لأنّ اللغوي ينقلها على ما وجده في الاستعمالات والمحاورات وليس للغوي اعمال النظر والرأي فيها.

فبالنتيجة : ليس اللغوي من أهل الخبرة بالنسبة إلى تعيين ظواهر الألفاظ بالوضع ، أو بالقرينة العامّة ، بل هو من أهل الخبرة بالنسبة إلى موارد الاستعمال فقط.

الوجه الثاني : دعوى إجماع العلماء بل العقلاء على العمل بقول اللغوي ، فإنّ علماء الأمصار في جميع الأعصار يراجعون كتب اللغة ، وتلك كالقاموس والصحاح

١٩٦

والمنجد مثلا ، ويعملون بها في تعيين معاني الألفاظ ويحصل لهم ظنّ بالظواهر من قول اللغوي ، فكما ان أصالة الظهور من الامارات المعتبرة ومن الظنون الخاصّة التي ثبتت حجيتها بغير دليل الانسداد ، فكذا الظن الحاصل من قول اللغوي من الظنون الخاصّة أيضا ، لأنّ العلماء قدس‌سرهم اتفقوا في الرجوع إلى قول اللغوي وفي الرجوع إلى كتب اللغة من جهة تشخيص معاني ألفاظ العرب وكلماته ، فلو وقعت المخاصمة بينهم في تعيين معاني الألفاظ لاستندوا إلى قوله ويرفعون المخاصمة والنزاع واللجاج ، وهذا معلوم من عادتهم من غير نكير من أحدهم.

مثلا : إذا قال أحدهم ، أو أكثرهم ان معنى الصعيد هو مطلق وجه الأرض ، وقال بعضهم : ان معنى الصعيد لغة هو التراب الخالص ثم رجعوا إلى كتب اللغة واستنبطوا معناه ، وهو التراب الخالص أو مطلق وجه الأرض ، اقتنعوا جميعا وما هذا إلّا من جهة ارتكاز حجية قول اللغوي في أذهانهم وإلّا لم يكن وجه لاقتناع الخصم ويرتفع النزاع من البين ، ونقل عن السيّد المرتضى علم الهدى قدس‌سره الاجماع على حجية قول اللغوي.

وفيه أوّلا : ان الاجماع القولي غير متحقّق فإنّ كثيرا من العلماء لم يتعرّضوا لهذا البحث أصلا ، وكذا الاجماع العملي ، غير حجّة لأنّ عملهم بقول اللغويين لعلّه لحصول الاطمينان لهم من اتفاقهم على معنى من المعاني ، وذلك كاتفاق اللغويين على ان معنى السماء هو جهة العلوّ مثلا ، فهذا الاجماع مدركي وليس بتعبّدي كاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام لاحتمال أن يكون مستند المجمعين هو الوجه الأوّل أو الوجه الثالث الذي ستعرفه ، وما فيه من الخدشة إن شاء الله تعالى.

وثانيا : ان الاتفاق ممنوع لأنّ الرجوع بقول أهل اللغة فيما لا يفيد العلم والوثوق ليس بمسلّم بل المسلّم هو الرجوع بقول اللغوي مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة.

١٩٧

الوجه الثالث : ان جريان انسداد صغير في خصوص اللغات يستلزم حجية قول اللغوي ، فإنّ معاني الألفاظ مجهولة غالبا ، امّا أصلا وامّا سعة وضيقا ؛ ولذا ذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره في كتاب الطهارة ان مفهوم الماء مع كونه من ، أوضح المفاهيم العرفية ؛ وهو جسم لطيف سيّال بارد رطب بالطبع ، ولكن نشك فيه من حيث السعة والضيق كثيرا ، إذ نشك ان الماء الوحل ماء أم لا ، وان الماء المضاف ماء أم لا ، فلا بدّ من الرجوع حينئذ إلى قول اللغوي في تعيين مفهوم الماء وقوله حجّة عند العقلاء.

وفيه : ان انسداد باب العلم في اللغة ممّا لا يترتّب عليه أثر ، إذ مع انفتاح باب العلم في الأحكام لا وجه للرجوع إلى قول اللغوي سواء انسد باب العلم في اللغة ، أم انفتح باب العلم في اللغة ومع انسداد باب العلم في الأحكام وتمامية سائر المقدّمات للانسداد كان الظن بالحكم الشرعي حجّة سواء حصل الظنّ من قول اللغوي أم حصل من غيره ، وسواء كان باب العلم باللغة منفتحا أم كان منسدا ؛ امّا بيان انسداد الصغير وانسداد الكبير فسيأتي إن شاء الله تعالى في طي مبحث دليل الانسداد.

وامّا الاجماع الذي ادّعاه السيّد المرتضى قدس‌سره فهو على قسمين المحصّل والمنقول ؛ امّا المحصل منه فغير حاصل لكثرة علماء الأعلام وتفرّقهم في الأمصار المتعدّدة المتباعدة ، فلا يمكن لنا استيفاء آرائهم كي يتحقّق الاجماع المحصّل.

وامّا المنقول منه فليس بحجّة لعدم الدليل على حجيّته لا من العقل ولا من جهة الشرع ، كما سيأتي ، خصوصا في مثل هذه المسألة ، إذ يحتمل استناد المجمعين إلى دليل ومدرك فيها ، وهو الوجه الأوّل ، أو الوجه الثالث ، أو يحتمل احتمالا قريبا أن يكون وجه ذهاب الجلّ لو لا الكل هو اعتقاد انّه ممّا اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة في كلّ صنعة من الصنائع فيما اختص بها.

ولا ريب في ان هذه العبارة علقة لكثرة الضمائر وهي خمسة فيها ، ولذا

١٩٨

احتاجت إلى التوضيح ، وهو راجع إلى الوجه والضمير في انّه راجع إلى الوجه أيضا والماء الموصولة في ممّا عبارة عن الرجوع إلى أهل الخبرة والضمير في عليه عائد الموصول والضمير المستتر في اختص راجع إلى أهل الخبرة ، والماء الموصولة فيما عبارة عن الصنعة والضمير في بها عائد الموصول وتأنيث الضمير من جهة مراعاة المعنى.

أجاب المصنّف قدس‌سره ثانيا عن دعوى الاجماع ؛ بأنّ المتيقن من رجوع الجاهل إلى العالم المتخصّص ليس بمطلق أي سواء حصل من قوله الوثوق والاطمينان أم لم يحصل من قوله ، بل الرجوع ثابت إذا حصل من قوله الوثوق والاطمينان كما هو المشاهد بالحسّ والعيان من عادة الناس.

ولكن لا يكاد يحصل من قول اللغوي إذا راجعنا إليه الوثوق بالأوضاع ، إذ ليس اللغوي من أهل الخبرة في الأوضاع ، إذ هو من أهل الخبرة في موارد الاستعمال بداهة ان همّه العالي ضبط موارده أي موارد الاستعمال ولا يكون همّه تعيين الاستعمال الحقيقي أو المجازي.

وإلّا أي وان كان أهل اللغة خبيرا بكل من الحقائق والمجازات لكان اللازم على اللغوي وضع علامة لتشخيص المعاني الحقيقية عن المعاني المجازية ، فعدم وضعها له علامة عدم اطلاع اللغوي بالأوضاع.

فإن قيل : لا حاجة إلى وضع العلامة لتشخيص الحقائق عن المجازات لأنّ اللفظ إذا كان له معنى حقيقي ومجازي فكل معنى ذكره اللغوي أوّلا هو المعنى الحقيقي وكل معنى ذكره اللغوي ثانيا فهو معنى مجازي ، فتقديم أحدهما على الآخر دليل على ان المعنى الذي ذكر أوّلا المعنى الحقيقي للفظ.

قلنا : هذا منقوض باللفظ المشترك بين المعنيين ، أو المعاني ، إذ من المسلّم ان جميع معانيه قد وضع اللفظ المشترك له فلو كان الأمر كذلك للزم الخلف باللفظ

١٩٩

المشترك كلفظ العين والقرء مثلا ، إذ الأوّل وضع للذهب والفضة والشمس وو ... الثاني وضع للطهر تارة وللحيض اخرى على نحو تعدّد الوضع وتعدّد الموضوع له.

الوجه الرابع : لحجيّة قول اللغوي ان موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن تحصى لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالبا بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك ، أو بخروجه.

مثلا : إنّ أرض الجص داخل في مفهوم الصعيد حتى يجوز التيمّم به أم خارج عنه كي لا يجوز التيمّم به فلا بدّ من العلم التفصيلي بمعاني الألفاظ وهذا لا يحصل إلّا بقول اللغوي والمراجعة إلى كتب اللغة والأخذ بقوله وإن كنّا نعلم إجمالا معاني الألفاظ في الجملة ، فالمصنّف قدس‌سره ادّعى انسداد الصغير لحجية قول اللغوي ثم رتّب مقدّمات عديدة :

الاولى : ان باب العلم والعلمي بتفاصيل اللغات منسد.

الثانية : الرجوع إلى البراءة غير جائز لاستلزامها المخالفة القطعية في كثير من الموارد.

الثالثة : ان الاحتياط غير واجب للعسر والحرج.

الرابعة : ترجيح المرجوح على الراجح قبيح.

وعليه : فيتعيّن العمل بقول اللغوي لإفادته الظن.

وبالجملة : فانسداد باب العلم والعلمي بتفاصيل اللغات بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك ، أو بخروجه يوجب اعتبار الظن الحاصل فيها بقول اللغوي للاحتياج إلى معرفة معانيها تفصيلا في استنباط الأحكام ، وتلك كألفاظ الكنز ، والغوص ، والغبن ، والمعدن ، والصعيد ، مثلا.

أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا الوجه ؛ بأن انسداد باب العلم والعلمي في اللغات لا يوجب اعتبار قول اللغوي إذا انفتح باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعية ، كما

٢٠٠