البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

امّا إذا شككنا في حكمه الواقعي أهو حلال أم هو حرام فقد راجعنا إلى الرواية وهي قوله عليه‌السلام : كلّ شيء شكّ في حليّته وحرمته واقعا فهو لك حلال ظاهرا. وهذا مفاد كلّ شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه ، بنظر المحقّقين.

وعليه : فالحلية الظاهرية متأخّرة بمرتبة عن موضوعها ، الذي هو عبارة عن الشك في حكمه الواقعي من باب تأخّر الحكم سواء كان واقعيا أم كان ظاهريا عن موضوعه رتبة والشك في الحكم الواقعي متأخّر عن الحكم الواقعي من باب تأخّر الشكّ عن المشكوك فيه بمرتبة.

فالنتيجة : ان الحكم الظاهري ، وهو الحلية الظاهرية ، متأخّر عن الحكم الواقعي بمرتبتين لأنّه متأخّر عن الشك في الحكم الواقعي والشك في الحكم الواقعي متأخّر عن الحكم الواقعي ، فالحكم الظاهري متأخّر عن الحكم الواقعي بمرتبتين فلا اصطكاك بينهما أصلا ولا مانع من اجتماعهما عقلا فلأنّ التنافي بين الضدّين ليس بأعظم من التنافي بين النقيضين.

ومن المعلوم جواز اجتماع النقيضين مع اختلاف الرتبة ، مثلا : طلوع الشمس علّة لوجود النهار وهو معلوله فوجوده وعدمه نقيضان فعدم المعلول الذي هو نقيض المعلول محفوظ في رتبة العلّة ، وكذا عدم العلّة الذي هو نقيض العلّة محفوظ في رتبة المعلول فإذا طلعت الشمس فالنهار موجود فعدمه الذي هو نقيض وجود النهار متأخّر عن وجوده تأخّر المعلول عن علّته ، إذ وجوده علّة لعدمه فهما مجتمعان في رتبة العلّة ، وهي طلوع الشمس ، ولا إشكال فيه لاختلافهما في الرتبة كما ان وجود العلّة وعدمها مجتمعان في رتبة المعلول ، وهو وجود النهار.

فكذا فيما نحن فيه حرفا بحرف ، إذ الحكم الظاهري معلول الشك في الحكم الواقعي وحين الشك في الحكم الواقعي عدم الحكم الظاهري محفوظ في رتبة العلة ، وهي الشك في الحكم الواقعي ، فوجوده وعدمه مجتمعان مع الشك في الحكم

١٦١

اللوح المحفوظي والواقعي ولا إشكال في اجتماعهما لاختلافهما في الرتبة ، إذ وجود الحكم الظاهري علّة لعدمه وهو معلول والمعلول يتأخّر عن علّته ذاتا وهذا الجمع منسوب إلى الشيخ الأنصاري والسيّد المحقّق الاصفهاني قدس‌سرهما.

في جواب المصنّف عنه

اعلم ان الحكم الظاهري وان لم يكن في جميع مراتب الحكم الواقعي سواء كان معلوما للمكلّف أم كان مشكوكا مجهولا له بل يكون في بعض مراتبه وهو كونه مشكوكا فيه ومجهولا فليس هو في مرتبته لتأخّره عنه بمرتبتين ولكن الحكم الواقعي محفوظ في مرتبة الحكم الظاهري لأنّه لا يتغيّر ولا يضمحل بالشك فيه وبقيام الامارة ، أو الأصل على خلافه.

وعليه : فإذا تحقّق الحكم الظاهري بقيام الامارة ، كخبر العدل مثلا ، أو بقيام الأصل العملي على خلاف الحكم الواقعي فيلزم حينئذ اجتماع الضدّين من إيجاب وتحريم ، أو ندب وكراهة ، أو اباحة وتحريم وهكذا ، فتأمّل في المقام فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق.

وتأمّل فيما ذكرنا من التحقيق في الجمع بين الحكم الواقعي وبين الحكم الظاهري ، إذ جمع الأولين صحيح والجمع الثالث فاسد ، امّا الجمع الأوّل فهو لبيان عدم الحكم الظاهري في مؤدى الامارة ، أو الأصل كي يجتمعان في موضوع واحد حال كونهما مثلين أو ضدين كما لا يخفى ، بل تكون طريقا محضا إلى الواقع ، والثاني قد سبق تفصيله.

الكلام في وجه فساد الجمع الثالث : ان اختلاف الرتبة لا يرفع التضاد بين الحكمين ، ولهذا يستحيل أن يحكم المولى عزّ اسمه ، بوجوب شيء ، ثم يرخص في تركه إذا علم المكلّف بوجوبه مع ان الترخيص متأخّر عن الوجوب بمرتبتين لأنّ

١٦٢

الترخيص متأخّر عن العلم بالوجوب على الفرض والعلم بالوجوب متأخّر عن الوجوب من باب تأخّر العلم عن المعلوم ، والسرّ فيه ان المضادّة انّما هي في فعلية الحكمين في زمان واحد سواء كانا من حيث الجعل في مرتبة كجعل إيجاب الفعلي والحرمة الفعلية للشيء الواحد أم كانا في مرتبتين كجعل الوجوب للشيء ثم جعل ترخيص في تركه ، هذا أي خذ ذا أو الأمر كذا أو اعلم هذا.

وفي ضوء هذا : فانقدح ان الجمع الأوّل متين وراجح والثانيين متوسّطان والرابع فاسد ، كما ذكر وجهه آنفا.

هذا ، ولكن التحقيق في دفع الاشكال بأن يقال أن الأحكام الشرعية لا مضادة بينها ، إذ الحكم الشرعي ليس إلّا الاعتبار أي اعتبار شيء في ذمّة المكلّف من الفعل ، أو الترك كاعتبار الدين في ذمّة المديون شرعا وعرفا.

ومن الواضح عدم التنافي بين الامور الاعتبارية والفرضية ، وكذا لا تنافي بين ابرازها أي ابراز الأحكام بالألفاظ بأن يقول المولى افعل كذا ، أو لا تفعل كذا ، وهو ظاهر لا غبار عليه.

نعم يكون التنافي بين الأحكام الشرعية في موردين : المبدأ والمنتهى ، والمراد بالمبدإ علّة جعل الحكم من المصلحة والمفسدة كما عليه الامامية والمعتزلة.

والمراد من المنتهى مقام الامتثال ، امّا التنافي من حيث المبدأ فلأنّه يلزم من اجتماع الحكمين كالوجوب والحرمة مثلا ـ اجتماع المصلحة والمفسدة في المتعلّق بلا كسر وانكسار وهذا من قبيل اجتماع الضدّين ؛ وكذا الحال في اجتماع الترخيص مع الوجوب ، أو الحرمة فإنّه يلزم من وجود المصلحة الملزمة المستفادة من وجوبه عدم وجودها المستفاد من الترخيص في الترك في شيء واحد ، أو وجود المفسدة الملزمة المستفادة من حرمته عدم وجودها فيه المستفاد من الترخيص في الفعل ، وهذا من قبيل اجتماع النقيضين.

١٦٣

وامّا التنافي من حيث المنتهى فلعدم تمكّن المكلّف من امتثال كلا الحكمين معا فيقع التنافي في حكم العقل بلزوم الامتثال من جهة وجوب دفع الضرر ووجوب تحصيل مؤمن من العقاب ، إذ يلزم ان يحكم العقل بالفعل والاتيان امتثالا للوجوب ، وبالترك امتثالا للحرمة ، وكذا يلزم أن يحكم بالفعل امتثالا للوجوب وان لا يحكم بالفعل لأجل الاباحة في صورة الدوران بين الوجوب والاباحة ويلزم أن يحكم بالترك امتثالا للحرمة وان لا يحكم به للاباحة مثلا.

إذا عرفت ذلك فقد انقدح لك عدم التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري أصلا لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى ، إذ التضاد العرضي بين الأحكام يختص بما إذا كان الحكمان فعليين واقعيين ، أو فعليين ظاهريين ، امّا إذا كان أحدهما فعليّا واقعيّا والآخر فعليّا ظاهريّا فلا مضادة بينهما حينئذ لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى.

امّا من ناحية المبدأ فلأنّ المصلحة في الحكم الظاهري انّما تكون في نفس جعل الحكم الظاهري لا في متعلّقه كما تكون المصلحة في متعلّق الحكم الواقعي.

وعليه : فلا يلزم من مخالفتهما اجتماع المصلحة والمفسدة ، أو وجود المصلحة وعدمها ، أو وجود المفسدة وعدمها في شيء واحد ، إذ الأحكام الواقعية ناشئة من المصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، والأحكام الظاهرية ليست بناشئة عن المصالح والمفاسد في متعلّقاتها بل هي ناشئة عن المصالح في أنفسها ففي موارد الاحتياط كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص جعل وجوب الاحتياط لمصلحة في نفس الاحتياط وهي عبارة عن التحفّظ على مصلحة الواقع على تقدير وجودها والتحذّر عن الوقوع في المفسدة الواقعية أحيانا.

وفي موارد الترخيص كما في الشبهة الحكمية بعد الفحص ، أو في الشبهة الموضوعية مطلقا جعل الترخيص لما في نفسه من المصلحة وهي عبارة عن

١٦٤

التسهيل على المكلّفين وامّا عدم التنافي بينهما من حيث المنتهى فلأنّ حكم العقل بلزوم الامتثال انّما هو بعد وصول الحكم إلى المكلّف من غير فرق في ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري ، والحال ان وصول كلا الحكمين إلى المكلّف في عرض واحد محال لكون الحكم الظاهري دائما في طول الحكم الواقعي ، فمع وصول الحكم الواقعي إليه ينتفي الحكم الظاهري بانتفاء موضوعه.

فالنتيجة : يحكم العقل بلزوم امتثال الحكم الواقعي مع الوصول فقط ، ومع عدم وصوله إليه لا يحكم إلّا بلزوم امتثال الحكم الظاهري فلا تنافي بين الحكمين الواقعي والظاهري في مقام الامتثال أبدا.

فالمتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام ؛ ان الحكم الظاهري في موارد الاصول غير المحرزة وان كان متحقّقا ، إلّا أنّه لا مضادّة بينه وبين الحكم الواقعي أصلا لا بالذات بلحاظ أنفسهما ولا بالعرض بلحاظ المبدأ والمنتهى.

وامّا في موارد الامارات والاصول المحرزة فليس المجعول حكما تكليفيّا كي يلزم اجتماع الضدّين في مورد المخالفة للواقع وعلى تقدير الالتزام بأن المجعول فيها أيضا حكم تكليفي ، فالجواب عن محذور اجتماع الضدّين هو ما ذكرناه في الاصول غير المحرزة ، هذا تمام الكلام في التعبّد بالامارات والظن.

الأصل في مشكوك الاعتبار

قوله : ثالثها ان الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا ...

ولا يخفى انّه يمكن عقلا وشرعا أن يكون كل امارة حجّة معتبرة من قبل العقل ، أو الشرع.

غاية الأمر : ان حجّية بعض الظنون معلوم لنا ، وذلك كالظن الحاصل من ظواهر الكتاب وخبر العدل مثلا ، وان عدم حجية بعضها معلوم لنا أيضا نحو الظن

١٦٥

الحاصل من القياس والاستحسان العقلي مثلا ، وان بعضها مشكوك من حيث الحجية وعدمها لنا ، وذلك كالظن الحاصل من الاجماع المنقول ومن الشهرة الفتوائية مثلا ، وتترتّب آثار الحجية من التنجّز للواقعيات عند الاصابة ومن التعذير عند المخالفة ، ومن صحّة المؤاخذة والذم عقلا على مخالفتها واستحقاق المثوبة والمدح عقلا على موافقتها ومن الانقياد على موافقتها والتجري على مخالفتها على الامارة التي تكون معلومة الحجية ، وكما لا تترتّب آثار الحجية المذكورة على الامارة التي ليست بحجّة أصلا.

امّا مقتضى الأصل والقاعدة في الامارة التي تكون حجيتها مشكوكة لنا فالأصل يقتضي عدم حجيّتها ، إذ في ظرف الشك في الحجية وعدم الحجية فالأصل عدم الحجية ، إذ الحجية مسبوقة بالعدم فالأصل بقاء عدمها ما لم يحصل العلم بتبدّله وانقلابه بالوجود ومقتضى الأصل عدم ترتّب آثار الحجية على الامارة التي قد شك في حجيتها لأنّ الآثار أحكام عقلية وموضوعها مركّب من الامارة والعلم ، فالعلم بالحجية جزء الموضوع ، إذ يقال الامارة المعلومة الحجية منجزة للواقع ومعذرة وواجبة الاتباع ومحرّمة الخلاف.

ومن الواضح ان المركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه فالعلم بحجيّتها منتفي في صورة الشك بها فإذا انتفى الموضوع انتفى الحكم قهرا.

هذا مضافا إلى ان الامارة المشكوكة الاعتبار ممّا يحرم العمل به شرعا وعقلا ، امّا شرعا فلقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) بل لعموم الآيات الناهية عن اتباع الظن وهي كثيرة في الكتاب المجيد خرج منها الظن الذي علم اعتباره بالخصوص نحو الظن الخاص والظن المطلق بناء على الحكومة ويبقى تحت العموم ما شك في اعتباره وما علم عدم اعتباره نحو الظن الحاصل من

__________________

١ ـ سورة الإسراء ، آية ٣٦.

١٦٦

القياس مثلا.

وامّا عقلا فلقبح التعبّد والتديّن بما لا يعلم اعتباره لا من طريق العقل ولا من طريق الشرع ، نعم لا بأس بالعمل على وفقه والمشي على طبقه احتياطا برجاء اعتباره ثبوتا ما لم يعارضه احتياط آخر كما إذا قام الظن على وجوب شيء لا نحتمل حرمته فالعمل على طبق هذا الظن احتياطا وبقصد الرجاء من أرقى مراتب العبودية لكن من غير استناد العمل إليه ، أي الى الظن ، فإنّه قبيح عقلا. وامّا العمل على طبقه احتياطا فإنّه حسن عقلا.

وبعد اللتيا والتي قال المصنّف قدس‌سره : ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، إذ لا يصحّ اتصاف الامارة بعنوان الحجية إلّا إذا أحرز التعبّد بها إثباتا وإلّا إذا أحرز جعل الظن طريقا متبعا ضرورة أنّه بدون الاحراز لا تصحّ المؤاخذة على مخالفة مؤدى الامارة بمجرّد اصابتها للواقع ولا يكون عذرا لدى مخالفتها للواقع مع عدم الاصابة ولا يكون مخالفته تجريا ولا يكون موافقته بما هي موافقة انقيادا مع قطع النظر عن قصد الرجاء. وامّا الفرق بين الاطاعة والعصيان والانقياد والتجرّي فقد سبق في مبحث القطع.

الامتثال العلمي الاجمالي

قوله : وامّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام وصحّة نسبته إليه ...

اعلم أن المصنّف قدس‌سره جعل مجرى أصالة عدم الحجية الامارة التي لم يحرز التعبّد بها إثباتا ، والشيخ الأنصاري قدس‌سره قد جعل مجرى الأصل الامارة التي احرز عدم التعبّد بها إثباتا كالقياس والشهرة الفتوائية مثلا ، فالأصل والقاعدة يقتضيان حرمة العمل بها واستدلّ لها بالأدلّة الأربعة عقلا وكتابا وسنّة وإجماعا ، وهي مذكورة في الفرائد.

١٦٧

قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره : «ان الأثر المهم لحجية الامارة هو الالتزام القلبي بمدلولها واستناد مفادها إلى الله تعالى».

مثلا : إذا قامت الامارة على وجوب صلاة الجمعة ، فيصحّ أن نلتزم قلبا بوجوبها وان نستند وجوبها إلى الله تعالى.

وعليه : فإذا كانت امارة مشكوكة الحجية ، والحال انّه ليس الدليل بموجود على حجيتها فكيف يجوز لنا أن نلتزم قلبا بمدلولها وان نستند مفادها إلى الشارع المقدّس وإلى الله تعالى ، وما هذا إلّا افتراء على الله تعالى ، قال في الكتاب الكريم : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) وغيره من الآيات الأخر الدالة على حرمة العمل على طبق الظن.

فالافتراء المحرّم على الله تعالى انّما يتحقّق باستناد مفاد الامارة التي قد احرز عدم التعبّد بها إثباتا ولا يتحقّق باستناد مفاد الامارة التي لم يحرز التعبّد بها إثباتا لأن عدم الاحراز لا يدلّ لا مطابقة ولا تضمنا على عدم الحجية لأنّ عدم الاحراز عام من عدم الحجية والعام لا يدلّ على خصوص الخاص ، كما إذا قيل في الدار حيوان ، وهو لا يدل على كون الانسان فيها بل يحتمل أن يكون الفرس موجودا فيها.

ولكن قد استشكل عليه المصنّف قدس‌سره بأنّ لازم الشيء قد يكون أعمّ منه ، وذلك كالحساس بالإضافة الى الإنسان ، وقد يكون مساويا معه نحو الضاحك بالقوّة للإنسان ، وقد يكون أخصّ منه نحو الضاحك بالفعل للإنسان.

وعليه : فاستدلال الشيخ الأنصاري قدس‌سره على عدم الملزوم ، وهو عبارة عن عدم حجيّة الامارة المشكوكة الحجية من طريق عدم اللازم ، وهو عبارة في هذا المقام عن عدم صحّة الالتزام قلبا بمؤدّى الامارة المشكوكة الحجية وعدم صحّة

__________________

١ ـ سورة يونس : ٥٩.

١٦٨

نسبته إلى الله تعالى ـ انّما يصحّ في اللازم الأعمّ ، أو المساوي دون اللازم الأخصّ إذ انتفاء الأعمّ يدلّ على انتفاء الأخصّ لاستحالة تحقّق الأخصّ بدون تحقّق الأعم ، كاستحالة تحقّق الإنسان بلا تحقّق الحيوان ، وكاستحالة تحقّق الأربعة بلا تحقّق الزوجية ، وكذا انتفاء اللازم المساوي يدل على انتفاء الملزوم المساوي ، لاستحالة تحقّق أحد المتساويين بلا تحقّق المساوي الآخر كاستحالة تحقّق الإنسان في الخارج بلا تحقّق الضاحك بالقوّة فيه مثلا.

وامّا إذا كان اللّازم أخص من الملزوم فانتفائه لا يدلّ على انتفاء الملزوم لعدم استحالة تحقّق العام في الخارج بلا تحقّق الخاص فيه ، مثلا : إذا قلنا في الدار ليس الضاحك بالفعل بموجود فنفي هذا لا يدلّ على نفي الإنسان فيها ، إذ يحتمل أن يكون الإنسان موجودا فيها ولكن ليس بضاحك بالفعل.

وفي ضوء هذا : فالالتزام بمؤدّى الامارة قلبا ونسبته إلى تعالى يكون لازم أخص للحجية أي لحجية الامارة.

وعلى طبق القاعدة : لا بدّ أن يكون الافتراق من جانب الأعمّ مطلقا ، ففي الظن الانسدادي على الحكومة كان الظن المطلق حجّة بحكم العقل من دون الالتزام بالمظنون قلبا ومن دون نسبته إليه تعالى شأنه فالاستدلال على عدم اعتبار مشكوك الحجية بحرمة التزام القلبي وبحرمة الاسناد إليه تعالى غير تام.

فالنتيجة : ان صحّة الالتزام قلبا بمؤدّى الامارة وصحّة استناده إليه تعالى ليستا من آثار الحجية كي يقال من جانب الشيخ الأنصاري قدس‌سره ان الالتزام بمؤدى الامارة المشكوكة الحجية قلبا والاستناد أي استناد مؤدى الامارة المذكورة إلى الله تعالى افتراء على الله تعالى ، وهو محرّم عقلا ونقلا ضرورة ان حجيّة الظن المطلق على تقرير الحكومة في حال انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعية في عصر الغيبة لا توجب صحّتهما أي صحّة الالتزام القلبي بمؤدّى الامارة وبالمظنون

١٦٩

وصحّة استناده إليه تعالى لأنّ الظن في حال الانسداد على تقرير الحكومة يكون واجب الاتباع ولا تكون حجيته حال الانسداد بمعنى كون المظنون حكم الله تعالى واقعا ، فدليل الانسداد ساكت عن هذه الناحية والعقل لا يحكم بأزيد من ذلك فعلم انّهما ليسا من آثار الحجية وإلّا لكانا موجودين في الظن على تقرير الحكومة.

وعليه : فلو فرض أن مشكوك الحجية يجب الالتزام قلبا بمدلوله وبمؤدّاه ، ولصح استناده إليه تعالى ولكن لا تترتّب آثار الحجية عليه من كون الواقع منجّزا على المكلّف بسببها ومن استحقاق الثواب والعقاب ومن كون الامارة عذرا للمكلّف في مقام الاحتجاج بالإضافة إلى المولى جلّ جلاله ، ومن كونها سبب الانقياد والتجرّي فهذا لا يثمر وجوب الالتزام قلبا بمدلولها وصحّة استناده إليه تعالى في حجيتها ما لم تترتّب عليها آثار المذكورة وإذا كان بعض الامارة حجّة تترتّب عليه الآثار المذكورة ولكن لا يترتّب عليه وجوب الالتزام المذكور وصحّة الاستناد إليه تعالى فلا يضرّ عدم ترتبهما عليه بحجيّته وذلك كالظن الانسدادي على تقرير الحكومة.

فقول الشيخ الأنصاري قدس‌سره : ان عدم صحّة الالتزام وعدم صحّة الاستناد إليه تعالى يدلّان على الافتراء والتشريع المحرم مردود ، إذ عدمهما لا يدلّ على عدم حجية الامارة كما ان وجودهما وترتّبهما عليها لا يدلّان على حجيّتها فالملاك في الحجية هو ترتّب آثار العقلية عليها ، كما ان معيار عدم الحجية عدم ترتّبها عليها وهي لا تترتّب إلّا على الحجّة المعلومة.

فبيان عدم صحّة الالتزام مع الشك في التعبّد بالامارة وبيان عدم جواز الاستناد إليه تعالى غير مرتبطين بالمقام ، إذ ليسا من اللوازم المساوية للحجية ومن اللوازم الأعمّ منها بل يكونا من اللوازم الأخص من الحجية كما قد سبق هذا ، وانتفاء اللازم الأخصّ لا يدلّ على انتفاء الملزوم الأعمّ فالاستدلال على عدم حجيّة الامارة المشكوكة من حيث الحجية بحرمة الالتزام والاستناد أجنبي عن محل البحث

١٧٠

للوجه الذي ذكر آنفا.

فلا يكون الاستدلال بعدم صحّتهما على عدم الحجية بمهمّ لنا ، إذ لا يدلّ عدم صحّتهما على عدمهما كما في الظن الانسدادي على الحكومة ولكن أتعب بهذا الاستدلال شيخنا العلّامة الأنصاري أعلى الله مقامه ، بما أطنب من النقص والابرام والاشكال والجواب فراجع استدلال الشيخ المذكور في الرسائل مع تعليقتنا على استدلال الشيخ قدس‌سره بالأدلّة الأربعة.

قوله : تأمّل ...

وهو إشارة إلى ان صحّة الالتزام قلبا وصحّة الاستناد إليه تعالى وان لم يكونا من لوازم حجية الامارة الظنّية لجواز انفكاك الحجّة عنهما ، كما في الظن الانسدادي على الحكومة ولكن لا يكاد يجوز تحقّقهما في غير الحجّة.

وفي طبيعة الحال : ليس كل حجّة ممّا صح الالتزام قلبا بكون مؤداه حكم الله تعالى ، ولكن كلّما صحّ الالتزام قلبا بكون مؤداه حكم الله تعالى وصحّ نسبته إليه تعالى كان حجّة قطعا.

وعليه : فلو فرض صحّة الالتزام والاستناد في مورد مع الشك في التعبّد بالامارة الظنّية لكشف ذلك كشفا آنيّا عن حجيّتها قطعا ، فقول المصنّف قدس‌سره فلو فرض صحّتهما شرعا مع الشك في التعبّد بالظن لما ينفع في الحجية شيئا ممّا لا وجه له ، كما لا يخفى.

قوله : وقد انقدح بما ذكرنا ان الصواب فيما هو المهم في الباب ...

وقد ظهر لك ان المهم في حجية الامارات الظنّية هو ترتّب الآثار الأربعة عليها ، وهي عبارة عن التنجيز والتعذير والانقياد والتجرّي سواء ترتّب عليها صحّة الالتزام قلبا بمدلولها وصحّة الاستناد بمؤداها إليه تعالى أم لم يترتّبا عليها.

فالصواب فيما لم يحرز التعبّد به شرعا عدم دلالة انتفاء جواز الالتزام

١٧١

والاستناد على انتفاء حجية الامارة ، والشيخ الأنصاري قدس‌سره اختار دلالة عدم صحّتهما على انتفائها ، ولهذا أتعب تجشّم الاستدلال عليه بالأدلّة الأربعة ، كما في الفرائد.

والحال ان البحث عن جواز الالتزام قلبا والاستناد وعدم جوازهما بحث فقهي لا اصولي ، فالمناسب للبحث الاصولي هو البحث عن حجيّة الامارات وعدم حجّيتها لا الجواز وعدم الجواز فالأرجح في المقام هو مختار المصنّف قدس‌سره.

قوله : إذا عرفت ذلك فما خرج موضوعا عن تحت هذا ...

لما كان موضوع اصالة عدم الحجيّة هو الامارة المشكوكة الحجيّة فيكون الخارج عن تحت هذا الأصل الامارة التي قد علم بالدليل القطعي حجيّتها فخروجها عن موضوعها كخروج الجهال من تحت العلماء الذين كانوا موضوعات لوجوب الاكرام في قول المولى لعبده أكرم العلماء وليس خروجها عن موضوعها كخروج العلماء الفسّاق عن تحت العلماء.

فالمظنون على ثلاثة أنواع معلوم الاعتبار نحو الظن الحاصل من الظواهر مثلا معلوم عدم الاعتبار ، نحو الظن الحاصل من القياس والاستحسان والوجوه والآراء مشكوك الاعتبار نحو الظن الحاصل من الاجماع المنقول والشهرة الفتوائية.

ومن الواضح : ان الظن المعلوم الاعتبار يغاير الظن المشكوك الاعتبار موضوعا ، إذ يقال الظن المعلوم الاعتبار واجب الاتباع والظن المشكوك الاعتبار ليس بواجب الاتباع بل لا يجوز اتباعه لأصالة عدم حجيّته ، كما لا يخفى.

فالظنون التي قد خرجت عن تحت هذا الأصل خروجا موضوعيّا تذكر في طي فصول.

١٧٢

حجيّة الظهور

قوله : فصل لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع ...

الفصل الأوّل في بيان حجيّة ظهور الألفاظ ومن جملة الظنون التي خرجت عن تحت أصالة عدم حجية الظن الذي حصل من ظواهر الألفاظ.

ولهذا قال المصنّف قدس‌سره : لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع المقدّس في تعيين مراده واستكشاف مرامه من كلامه المبارك ، على نحو الموجبة الجزئية لا على نحو الموجبة الكلية ، كما سيأتي ان شاء الله.

واستدلّ المصنّف قدس‌سره على لزوم اتباع ظاهر كلامه بوجهين :

الأوّل : استقرار سيرة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات في الأقارير والدعاوى والشهادات.

الثاني : هو القطع بعدم ردع الشارع المقدّس عن هذه السيرة المستمرة ، فإذا استفدنا من ظاهر كلام الشارع نحو : أحل الله البيع وحرّم الربوا حلية جميع مصاديق البيع وحرمة جميع مصاديق الربوا فهو حجّة لنا.

وهذه السيرة ممضاة من قبل الشارع المقدّس قطعا ، إذ ليس له طريقة خاصّة في افهام مقاصده من كلامه المبارك.

ولكن ذهب بعض المتأخّرين إلى التفصيل بين ما كان موجبا للظن الفعلي وغيره ، فالظاهر الذي يوجب الظن الفعلي بالحكم الشرعي فهو حجّة ، والظاهر الذي لا يوجب الظن الفعلي به فهو ليس بحجّة.

والمراد من الظنّ الفعلي هو الظن الشخصي في قبال الظن النوعي كما ان الظن الخاص في قبال الظن المطلق الذي ثبتت حجيّته بدليل الانسداد فالظن الخاص عبارة عن الظن الذي ثبتت حجيّته بغير دليل الانسداد من سيرة العقلاء ، أو من الآيات القرآنية ، أو الاجماع كما سيأتي في بحث حجيّة الأخبار والظنون الخاصّة

١٧٣

ان شاء الله تعالى.

وذهب بعض إلى التفصيل الآخر بين ما حصل الظن الفعلي على خلافه أي خلاف ظاهر الكلام وبين ما إذا لم يحصل الظن الفعلي على خلافه ، فالأوّل ليس بحجّة. والثاني حجّة.

وقال المحقّق القمي قدس‌سره بالتفصيل الثالث في المقام بين من قصد افهامه من الكلام بالخطاب وبين من لم يقصد افهامه منه بالخطاب ، فيكون الظهور حجّة للأوّل وهو ليس بحجّة للثاني.

وذهب الاخباريون قدس‌سرهم إلى التفصيل الرابع بين ظاهر الكتاب المجيد ، وبين ظاهر غيره فلا يكون الأوّل بحجّة ، ويكون الثاني حجّة.

فأجاب المصنّف قدس‌سره عن هذه التفصيلات بقوله : والظاهر ان سيرتهم على اتباع الظواهر من غير تقييد بإفادتها للظن فعلا هذا إشارة إلى ردّ التفصيل الأوّل.

ومن غير تقييد بعدم الظن الفعلي على خلاف الظواهر قطعا ، هذا إشارة إلى ردّ التفصيل الثاني ضرورة انّه لا مجال عند العقلاء للاعتذار عن مخالفة الظواهر بعدم إفادتها للظن بالوفاق ، ولا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها بسبب وجود الظن بالخلاف ، وهذا الاعتذار منهم غير مسموع فهذا يدلّ على عدم تقيّد حجيّتها بهذين القيدين أي الظن بالوفاق وعدم الظن بالخلاف.

كما ان الظاهر من الدليل عدم اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه بالخطاب ، وهذا إشارة إلى ردّ تفصيل الثالث للمحقّق القمّي قدس‌سره ضرورة انّه لا يسمع اعتذار من لا يقصد افهامه إذا خالف الحكم الذي تضمّنه ظاهر الكلام أي كلام المولى سواء كان عامّا أم كان خاصّا.

والمراد من التكليف العام ان هذا الحكم لا يختص بجماعة ولا بالفرد ، وذلك نحو وجوب الصلاة والحجّ والزكاة ، فإذا خالف العبد ظاهر صلّ وحجّ وزكّ دالّا على

١٧٤

وجوبها واعتذر باني لست بمقصود بالافهام فلا يسمع ولا يقبل هذا الاعتذار منه ، والمراد من التكليف الخاص هو الحكم الذي كان مخصوصا بالجماعة ، أو بالفرد كما إذا قسّم المولى وظائف عبيده ثم قال ليشتر أحدكم اللحم من السوق فإذا خالفوا ولم يشتر أحدهم اللحم ولكن اعتذر كل واحد واحد بعدم القصد بالافهام فلا يسمع هذا الاعتذار من كل واحد منهم ويصحّ الاحتجاج بظاهر الكلام إذا لم يعمل العبد به مع كون العبد غير مقصود بالافهام فعدم سماع الاعتذار منه وصحّة احتجاج المولى على العبد يدلّان على حجية الظواهر مطلقا ، وتدلّ عليهما صحّة الشهادة بالاقرار من كل من سمعه ولو قصد المقر عدم افهام الشاهد فضلا عمّا إذا لم يكن المقر بصدد افهام شاهد أصلا.

مثلا : إذا سمع زيد بكرا يقر لعمرو بقوله له : عليّ عشرة دراهم ولكن لم يكن زيد مقصودا بالافهام فيجوز لزيد أن يشهد بإقرار هذا المقر للمقر له وهو عمرو في هذا المثال ، بل يجوز له الشهادة حتى في مورد إذا علم زيد الشاهد ان شخص المقر قد قصد عدم افهامه بإقراره فالمشهود عليه إذا ادّعى ان الشاهد لم يكن مقصودا بالافهام فلا يكون ظاهر كلامي واقراري حجّة له حتى تقبل شهادته بمدلوله فلا يسمع هذه الدعوى منه. ولا يخفى ان زيدا يكون شاهدا ، وبكرا يكون مشهودا عليه ، وعمرو يكون مشهودا له ، وعشرة الدراهم تكون مشهودا بها.

حجيّة ظاهر الكتاب

قوله : ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين وأحاديث سيّد المرسلين والأئمّة الطاهرين «صلوات الله وسلامه عليهم» ...

هذا إشارة إلى ردّ تفصيل بعض الاخباريين بين ظاهر القرآن الكريم وبين ظاهر أحاديث الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاديث خلفائه عليهم‌السلام ، فالأوّل : ليس

١٧٥

بحجّة. والثانيان : حجّتان فيكون لهذا البعض دعويان أحدهما نفي والآخر اثباتي ولكن يستفاد من كلام بعض الاخباريين تارة ان للقرآن الكريم ظواهر واخرى انّه ليس له ظواهر أصلا ، ولكن ظواهره ليست بحجّة لغير الراسخين في العلم ولغير من خوطب به ، فلهذا استدلّ على مدّعاه بوجوه خمسة ، ثلاثة منها ترتبط بمنع الصغرى ، واثنتان منها ترتبطان بمنع الكبرى.

الأوّل : دعوى اختصاص فهم القرآن بالأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام ، إذ لا يعرف القرآن إلّا من خوطب به ، ولهذا ورد في الروايات منع أبي حنيفة وقتادة عن الافتاء على طبق القرآن الكريم ، والمراد من أبي حنيفة أحد الأئمّة الأربعة ، وهو صاحب الرأي والقياس والاستحسان والفتاوى المعروفة في الفقه ، واسمه النعمان بن المنذر.

الثاني : لاشتمال الكتاب المبين على المضامين العالية الشامخة والمطالب الغامضة المعجزة الباقية إلى يوم القيامة والرموزات والكنايات مثل فواتح السور مثلا.

وعليه : فلا تصل إليها أفكار غير النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغير خلفائه المعصومين عليهم‌السلام ، لأنّهم راسخون في العلم وغيرهم غير الراسخين فيه أي في العلم. فهذا الوجه الثاني مع الوجه الأوّل في النتيجة والمآل متّحدان ، إذ الوجه الأوّل يدلّ على اختصاص فهم ظاهر القرآن الكريم بالراسخين في العلم وبمن خوطب به. فكذا الوجه الثاني ، حرفا بحرف.

غاية الأمر اختلفا في العلّة ، إذ علّة الاختصاص في الأوّل يحتمل أن تكون العلّة المذكورة في الوجه الثاني ويحتمل أن تكون علّة الاختصاص غيرها لا تصل أفهامنا إلى دركها وإدراكها.

ثمّ أيّد بعض المحدّثين الوجه الثاني بأنّه لا يصل الى فهم كلمات الأوائل إلّا فهم الأوحدي من الأفاضل ، مثلا كلمات الشهيدين والفاضلين والأنصاري والمحقّق

١٧٦

الخراساني قدس‌سرهم في كتبهم يشكل فهمها ودركها إلّا لأوحدي من الأفاضل ، أي الفاضل الذي له سرعة الذهن وجودة الفهم ، ولأجل هذا الأمر صنفت الشروح المتعددة والتعاليق المبسوطة على مصنفاتهم ومؤلفاتهم كما لا يخفى.

وعلى هذا : فما ظنّك بكلامه تعالى فإنّه مع صغر حجمه مشتمل على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شيء ، وعلى فواتح السور التي هي كنايات عن أشياء لا يعرفها إلّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصياؤه المعصومون عليهم‌السلام ، على نحو لا يصل إليه فكر البشر إلّا الراسخون في العلم ، وهم الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام.

الثالث : لدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر.

بيانه : ان الله تعالى منع من اتباع المتشابه بقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ)(١) ؛ والمتشابه ما كان ذا احتمالين قبالا للمحكم ، وهو النص الذي لا يحتمل الخلاف فيشمل المتشابه الظواهر ، ولا أقلّ من احتمال شمول المتشابه للظواهر ، باعتبار ان المتشابه غير ظاهر المراد ، ومجرّد احتمال شموله لها يكفي في الحكم بعدم حجية الظواهر لأنّ الحجية تحتاج إلى الامضاء ، ومع احتمال المنع لا يثبت الامضاء.

الرابع : ان القرآن وان كان له ظهور في حدّ ذاته ولم يكن القرآن متشابها ذاتا فرضا ولكن العلم الاجمالي بوجود القرائن المنفصلة الدالّة على خلاف الظاهر من مخصّصات ومقيّدات وقرائن المجاز الموجودة في الروايات يمنع عن العمل بظواهره فظواهره مجملات حكما وان كانت ظواهر حقيقة.

الخامس : انّه دلّت عدّة من الروايات على وقوع التحريف في القرآن الكريم فيحتمل وجود القرينة على إرادة خلاف الظاهر وهذا الاحتمال مانع عن انعقاد الظهور وانّه دلّت عدّة من الأخبار على النهي عن تفسير القرآن بالرأي ، ومن جملتها

__________________

١ ـ سورة آل عمران ، آية ٧.

١٧٧

قول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» وهذا مشهور ، والروايات في هذا الباب كثيرة.

والتفسير بالرأي يشمل لحمل الألفاظ في القرآن الكريم على ظواهرها ولحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى ، إذ حمل الكلام على ظاهره تفسير بالرأي هذا صغرى ؛ والتفسير بالرأي منهيّ عنه هذا كبرى ، فحمل الكلام على ظاهره منهي عنه هذه نتيجة ، ولا يخفى ان هذا القياس الذي رتبناه في هذا المقام يكون على هيئة الشكل الاول ، وهو بديهي الانتاج ، وصورة القياس ان حمل الكلام على ظاهره تفسير بالرأي ، والتفسير بالراي منهي عنه ، فحمل الكلام على ظاهره منهي عنه.

قوله : ولا يخفى ان النزاع يختلف صغرويا وكبرويا ...

فإذا لاحظنا الأدلّة التي اقيمت من قبل الاخباريين على عدم حجية ظاهر الكتاب فالأوّل والثاني والرابع منها تدلّ على منع الصغرى وعلى عدم الظهور للقرآن الكريم.

والثالث والخامس منها يدلّان على منع الكبرى وعلى عدم جواز العمل بظواهر القرآن الكريم ، فالأدلّة الخمسة المذكورة مختلفة من حيث الدلالة ، إذ أكثرها يدلّ على عدم تحقّق الظهور لكتاب المبين ؛ وقليلها يدلّ على عدم جواز العمل بظواهره فلا جرم يكون الاخباريون فرقتين ، إذ من تمسّك بالأوّل والثاني والرابع قال بعدم الظهور للقرآن الكريم ، ومن استدلّ بالثالث والخامس ذهب إلى عدم جواز العمل بظواهره وان كان له ظواهر فالمنع عن ظواهره من حيث العمل يحتمل أن يكون ظاهره من المتشابه على نحو القطع والبت ، أو على نحو الاحتمال الذي يعتنى به العقلاء ، ويحتمل أن يكون لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي وإلّا فلا وجه آخر للمنع عن العمل بظواهره لأنّ الظاهر من الكلام إذا

١٧٨

لم يكن من جملة المتشابهات ومن جملة التفسير بالرأي كان حجّة عند العقلاء بما هم عقلاء واستقرّت عليها سيرتهم والشارع المقدّس قد أمضى هذه السيرة المستمرّة.

توضيح النزاع صغرويّا وكبرويا : امّا الأوّل فالمراد منه ان الاصوليين قائلون بتحقّق الظواهر للقرآن الكريم وبحجيّتها. والاخباريين منكرون له ، أي لتحقق الظواهر للقرآن الكريم.

وامّا الثاني فالمراد منه ان الاصوليين ذهبوا إلى حجية ظواهره والاخباريين أنكروها.

في جواب المصنّف قدس‌سره عنها

وقال كلّ هذه الدعاوى المذكورة فاسدة جدّا.

امّا الاولى : فإنّما المراد من الاخبار التي تدلّ على اختصاص فهم القرآن بأهله وبمن خوطب به اختصاص فهم القرآن بتمامه مع جميع متشابهاته ومحكماته ومع ظواهره وبواطنه ولكن ليس المراد من الأخبار الكذائية اختصاص معرفة القرآن بأهله بحيث لا يفهم غيره منه شيئا ضرورة ان في القرآن قصصا وحكايات وهي لا تختص من حيث الفهم بأهله ، وبمن خوطب به.

هذا مضافا إلى كون الصريح موجودا فيه بحيث يفهم عموم الناس ويستفاد منه عموم المكلّفين ، وهذا الصريح كثير فيه ، كما لا يخفى.

ولكن ردع مولانا الصادق عليه‌السلام أبا حنيفة وقتادة عن الفتوى بالقرآن الكريم ، انّما هو لأجل استقلالهما في الفتوى بالرجوع إلى القرآن المبين ، من دون مراجعة إلى أهله وإلى من خوطب به وإلى الراسخين في العلم وإلى العالمين بتأويله ومن دون الفحص عمّا ينافيه من المخصّص والمقيّد والقرينة مثلا.

١٧٩

وعليه : يكون الافتاء بظاهره خلافا للواقع ، إذ يحتمل احتمالا قويّا أن يخصّص العام القرآني ولكن المخصّص موجود في روايات أهل البيت عليهم‌السلام وان يقيّد المطلق القرآني والمقيد في الأخبار وان يستعمل لفظه في المعنى المجازي والقرينة الصارفة عليه في أقوال الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

وفي ضوء هذا : فإذا أفتى بعمومه ، أو بإطلاقه ، أو بحقيقته فقد أفتى خلاف الواقع قطعا ولأجل هذا ردع أبو حنيفة وقتادة عن الفتوى بظاهر القرآن لا من جهة عدم كون ظواهره حجّة في حقّ العباد.

وقد اجيب عنه ثانيا بأن اختصاص فهم القرآن بأهله وبمن خوطب به ينافي كونه معجزة ترشد الخلق إلى الحق فلو لم يكن له ظهور يعرفه أهل اللسان لاختل كونه إعجازا.

ومن المعلوم ان العرب كانوا يفهمون ظواهره ، ويعترفون بالعجز عن الاتيان بالمثل ، فمنهم من آمن به واعترف بكونه معجزا ، ومنهم من قال بأنّه سحر عظيم.

هذا ، مضافا إلى انّه قد ورد الأمر عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام بالرجوع إلى الكتاب المبين عند تعارض الخبرين ، بل مطلقا ولو كان القرآن من قبيل الرموز لم يكن معنى محصل للارجاع إليه.

فدعوى كون القرآن من قبيل الرموز التي لا يفهم منها شيء في غاية السقوط ومضافا إلى انّه قد ورد الاستدلال بظاهر القرآن للموضوعات الشتّى ، والأحكام المتعدّدة ، مثلا ولو لم يكن القرآن قابلا للفهم لما كان معنى للاستدلال به ، كما لا يخفى.

وامّا الثانية : فلأنّ كلامنا في ظواهره التي يعرفها أهل اللسان لا في بواطنه التي لا يعرفها إلّا من خوطب به ؛ واشتماله على مضامين عالية لا ينافي ظهوره فإنّه مع اشتماله على معان غامضة دقيقة يعرف أهل اللسان ظواهره ، وهذا واضح لا سيما

١٨٠