البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

للأحكام التكليفية ، وعليه فقد جعل الشارع المقدّس عنوان الحجية للامارات من دون أن تكون الحجية مستتبعة للحكم التكليفي فلا يلزم حينئذ اجتماع الحكمين أصلا ولا طلب الضدّين أبدا ، كما لا يخفى.

وثانيها : ان المجعول مستقلّا نفس الأحكام التكليفية وبتبعها جعلت الأحكام الوضعية ، مثلا جعل الشارع المقدّس اولا وبالذات وجوب العمل على طبق مؤدّى الامارة الظنّية وجعل بالتبع وثانيا عنوان الحجية لها.

وثالثها : ان المجعول أوّلا ومستقلّا هو كل واحد من الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية معا وفي عرض واحد ، مثلا أنشأ الشارع المقدّس وجوب العمل والحجية للامارة معا من دون أن يكون أحدهما متبوعا والآخر تابعا ، وكذا سائر الموارد.

إذا علم ما ذكر : فقد ظهر لك دفع المحاذير الثلاثة ، على مسلك الأوّل.

وامّا المحذور الأوّل والثاني فواضح دفعهما. وامّا المحذور الثالث فلما ذكر آنفا.

ولكن أجاب المصنّف قدس‌سره عنها على المسلكين الثاني والثالث لمّا فرغ عن الجواب على المسلك الأول أخذ في الجواب عن الاشكالات على المسلكين الثاني والثالث ، وقال : يلزم اجتماع الحكمين في صورة الاصابة ، وطلب الضدّين في صورة الخطأ إلّا انّهما ليسا بمثلين ولا ضدّين.

توضيح الجواب الثاني ان الأحكام التكليفية الظاهرية المجعولة على طبق مؤديات الطرق والامارات أحكام طريقية أي مقدمية للوصول الى الواقعيات ناشئة عن مصلحة في نفسها موجبة لتنجّز التكليف الواقعي إذا أصابته وهي موجبة لصحة الاعتذار عن فوت الواقع إذا أخطأته من دون أن تكون عن مصلحة ، أو مفسدة في متعلقاتها من الأفعال التي تصدر عن آحاد المكلفين فالأحكام الواقعية الأوّلية

١٤١

أحكام حقيقية نفسية ناشئة عن مصلحة في متعلقاتها من الأفعال ، كالواجبات الشرعية ، أو عن مفسدة فيها من الأفعال كالمحرّمات الشرعية.

وعليه : فلا يلزم حينئذ اجتماع المثلين في فعل واحد إذا أصابت الواقع ، أو اجتماع الضدّين من إيجاب وتحريم ومن إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين إذا أخطأت الواقع ، إذ فرض كون أحد الحكمين طريقيّا ليس بناشئ عن مصلحة ، أو مفسدة في الفعل الذي يصدر من المكلف موجبة لإرادته ، أو كراهته والحكم الآخر نفسيّا ناشئ عن مصلحة ، أو مفسدة في الفعل موجبة لإرادته ، أو كراهته.

وبعبارة اخرى : المنافاة ثابتة بين الحكمين في حال كونهما مثلين ، أو ضدّين اذا نشأ كلاهما عن إرادة ، أو كراهة في متعلق الامارة وفي مؤداها ؛ وامّا إذا انشئ الحكم الواقعي عن مصلحة في متعلّقه فكان الارادة عن المولى على وفقه ، أو كان كراهته على طبقه وكان الحكم الآخر طريقيّا وكانت المصلحة في جعل الطريق.

ولهذا أراد المولى جعل الحكم الطريقي من دون إرادة متعلّق الامارة الظنّية ومن دون مصلحة فيه ، فليست المنافاة حينئذ ، كما لا يخفى.

وفي ضوء هذا : فليس اجتماع المصلحتين في موضوع واحد وكذا ليس اجتماع المصلحة والمفسدة فيه كي يلزم اجتماع الارادتين ، أو يلزم اجتماع الارادة والكراهة في الشيء الواحد.

ومن المعلوم ان كون المصلحة في الجعل موجب للجعل فقط غير موجب للإرادة ، أو الكراهة في متعلّق الامارة ، وبالنسبة لا يحصل من جهة الامارة إلّا الحكم الانشائي الطريقي الذي ليس له شيء إلّا مصلحة الجعل والإنشاء ، وليس الإرادة ثابتا في متعلّقه ، إذ ليس فيه مصلحة كي يتعلّق به الإرادة من المولى ولا مفسدة حتى يتعلّق به كراهة المولى جلّ وعلا ، فالحكمان الطريقي والواقعي متفاوتان من حيث

١٤٢

السنخ ومن حيث الخصوصيات.

مثلا : الحكم الواقعي الذي كان مجعولا في اللوح المحفوظ تابع لمتعلّقه بمعنى ان وجوب صلاة الجمعة مثلا لأجل مصلحة نفسها وان حرمة الخمر مثلا لأجل مفسدة نفسه وليست المصلحة في انشاء الوجوب للصلاة الجمعة كما انّه ليست المفسدة في انشاء الحرمة للخمر ، فالوجوب والحرمة حكمان واقعيان لموضوعهما ، وهو الصلاة المكتوبة ، والخمر المسكر ، لأنّ الله تعالى عالم في وجود المصلحة في الواجبات ، وفي وجود المفسدة في المحرّمات ، ولأجل هذا ، أوجب الواجبات على العباد وحرّم المحرّمات عليها.

فإن قيل : الفرق الذي ذكرتم بين الحكم الطريقي وبين الحكم الواقعي بتعلق الارادة بمتعلّق الوجوب الواقعي وبتعلّق الكراهة بمتعلّق الحرمة الواقعية دون متعلّق الوجوب الظاهري الذي هو مفاد الامارة ، ودون متعلّق الحرمة الظاهرية التي هي مؤدّى الامارة غير تام في المبدأ الأعلى جلّ وعلا ، إذ لا إرادة ولا كراهة فيه بل يكون فيه العلم بالمصلحة وبالمفسدة فإنّه جلّ وعلى ليس محلا للحوادث والعوارض كالمرض والحزن والارادة والكراهة ونحوها لأنّها من لوازم الجسم وهو منزّه عنه كما قرّر في محلّه ، وهو علم الكلام والفلسفة العليا.

قلنا ان الارادة والكراهة في المبدأ الأعلى بمعنى علمه جلّ وعلى بالمصلحة والمفسدة ، كما سيأتي هذا عن قريب ان شاء الله تعالى.

والعلم عين ذاته ، فالمبدأ الأعلى عالم بأنّ وجوب صلاة الجمعة ذو مصلحة ملزمة بحيث يجب على العباد تداركها وبأن حرمة الخمر ذات مفسدة ملزمة بحيث يجب الاجتناب عنها.

فأوحى الله تعالى الى نبي من الأنبياء عليه‌السلام ، أو ألهم إلى وليّ من الأولياء عليه‌السلام ، فينقدح في نفسهما الشريفة ، بسبب المصلحة الموجودة والمفسدة المتحقّقة الارادة

١٤٣

والكراهة الموجبتان للانشاء بعثا وتحريكا ، أو زجرا ومنعا ، فالأوّل : في الواجبات والمستحبّات. والثاني : في المحرّمات والمكروهات.

بخلاف الحكم الطريقي الذي ليست المصلحة ، أو المفسدة في متعلّقه بل انّما كانت المصلحة في نفس انشاء الأمر بالحكم الطريقي في حال كونه طريقيّا ، والحكم الآخر واقعي حقيقي ناشئ عن مصلحة ، أو مفسدة في متعلّقه الموجبتان لإرادته وكراهته ولانشائه بعثا ، أو زجرا في بعض المبادئ العالية أي في نفس النبي أو في نفس الولي عليهما‌السلام ، وان لم يكن في المبدأ الأعلى إلّا العلم بالمصلحة ، أو المفسدة كما سبق هذا.

فهذا الفرق تام بالإضافة إلى من انقدح الارادة والكراهة في نفسه بعد الوحي بمصلحة الشيء ، أو بمفسدته ، أو بعد الالهام إلى الولي عليه‌السلام بكل واحد منهما والوحي للأنبياء عليهم‌السلام والالهام للأولياء عليهم‌السلام والوحي عبارة عن تبليغ الأحكام ، أو الوقائع والحوادث ، أو غيرها بتوسّط الملك من الملائكة ، وذلك كجبرئيل عليه‌السلام ، والالهام عبارة عن القاء الخير في قلب الغير لغة. والمراد منه هنا القاء الأحكام ونحوها في قلب الولي عليه‌السلام.

وعليه : فلا يلزم اجتماع إرادة وكراهة في الشيء الواحد أيضا كما لا يلزم اجتماعهما فيه في الجواب الأوّل ، إذ ليس مؤدّى الامارة متعلّق إرادة المولى في صورة الاصابة ، ولا كراهته في صورة الخطأ بل انّما يلزم انشاء حكم واقعي حقيقي بعثا إذا كان وجوبيّا ، أو زجرا إذا كان تحريميا ، ولكن انشاء حكم آخر طريقي فقط.

والحال لا مضادة بين الإنشاءين أصلا فيما اختلفا وليس الإنشاءان من قبيل اجتماع المثلين فيما اتفقا.

وفي طبيعة الحال : فالوجوبان الحقيقيان مثلان كالوجوبين الصوريين : والوجوب والحرمة الحقيقيان ضدّان كالوجوب والحرمة الصوريين.

١٤٤

امّا الوجوب الحقيقي والوجوب الصوري فلا تماثل بينهما أصلا لتفاوتهما سنخا وخصوصية ؛ كما ان الوجوب الحقيقي الواقعي والحرمة الصورية لا تضادّ بينهما.

وحينئذ نقول : الاشكال المذكور انّما يتوجّه لو كان لازم التعبّد بالامارة جعل حكم حقيقي واقعي ، ولكنّه ممنوع بل المجعول بالامارة حكم صوري وهو لا يماثل الحكم الحقيقي ولا يضادّه فلا يلزم اجتماع حكمين متماثلين فيما اتفقا ولا يلزم اجتماع حكمين متضادين فيما اختلفا.

والحال انّه لا إرادة ولا كراهة ولا مصلحة ولا مفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين لأنّ الحكم الصوري ليس بناشئ عن إرادة ، أو كراهة ، أو مصلحة أو مفسدة ، حتى يلزم المحذور المذكور.

مثلا : إذا قام الخبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة ولكن كانت في الواقع واجبة فلا يلزم حينئذ اجتماع الحكمين المتماثلين في موضوع واحد ، وهو صلاة الجمعة ، والوجه كما ذكر.

وإذا قام على حرمتها عصر الغيبة ولكن كانت واقعا واجبة ، فلا يلزم حينئذ اجتماع الحكمين المتضادّين في محل فارد ، وموضوع واحد للوجه الذي ذكر آنفا.

وفي طبيعة الحال : فقد انقدح لك انّه ليس الحكمان المتماثلان ولا الحكمان المتضادّان فيما اتفقا وفيما اختلفا بموجودين أصلا بناء على الجواب الأوّل وبناء على مسلك الطريقية في حجيّة الامارات غير العلمية وان كان الحكمان موجودين على مسلك الثاني والثالث ولكن ليسا متماثلين في صورة الاصابة ولا متضادّين في صورة الخطأ ، كما عرفت هذا ، وهذا واضح لا سترة فيه ، فلا حاجة إلى زيادة التوضيح ، ولا يخفى ان مصلحة جعل نفس انشاء حكم الطريقي تسهيل الأمر على آحاد المكلّفين.

١٤٥

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى ان الحكم الواقعي كما يكون عن مصلحة نفسية في الفعل الصادر من المكلف موجبة لإرادته ، أو عن مفسدة نفسية في الفعل موجبة لكراهته ، فكذا الحكم الظاهري الطريقي المقدّمي يكون عن مصلحة غيرية في الفعل ، وهي الوصول إلى الأحكام الواقعية ، ولا ريب في ان هذه المصلحة موجبة لإرادته ، أو عن مفسدة غيرية في الترك ، وهي عدم الوصول الى المحرّمات الواقعية موجبة لكراهته فيجتمع حينئذ في الفعل الإرادة والكراهة معا في صورة الخطأ ، ويجتمع فيه الارادتان النفسية والغيرية في صورة الاصابة ، وهذا مستلزم للتناقض ، إذ معنى كونه مرادا نفسيّا انّه ليس بمراد غيري ومعنى كونه مرادا غيريا انّه ليس بمراد نفسي فيلزم حين كونه مرادا نفسيّا عدم كونه مرادا نفسيّا ويلزم حين كونه مرادا غيريّا أي مقدّميا عدم كونه مرادا غيريّا ، وهذا تناقض ، والتناقض محال فهذا محال ، إذ مستلزم المحال محال ، كما قرّر هذا بالبرهان العقلي في محلّه ، أو إشارة إلى ان هذا الوجه المذكور لا يدفع لزوم تفويت مصلحة الواقع ، والالقاء في مفسدته إذا أدّت الامارة إلى عدم وجوب ما هو واجب واقعا ، أو إلى عدم حرمة ما هو حرام واقعا.

هذا على طريق اللف والنشر المرتّب ، فالأوّل مربوط بالأوّل ، وهو تفويت المصلحة ، والثاني مربوط بالثاني وهو القاء في مفسدة الواقع.

ولهذا اختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره في حجيّة الامارات المصلحة السلوكية ، وهي برزخ بين الطريقية وبين السببية.

توضيح : حجيّة الامارات الظنّية من باب الطريقية والكاشفية أي من جهة كون الظنّ الحاصل من الامارات المعتبرة طريقا إلى الواقع وكاشفا عنه وهو لا يخلو من احتمال الخلاف ولهذا يستلزم هذا المبنى تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة وهما قبيحان والقبيح لا يصدر من المولى الحكيم ، ومن باب السببيّة والموضوعية

١٤٦

بمعنى ان دليل الحجيّة يدلّ على وجوب اتباع الامارة والوجوب تابع لمصالح في متعلّقه ، وعلى حرمة مخالفتها ، والحرمة تابعة لمفاسد في متعلقها.

فإذن لا بد ان تكون في اتباع الامارة مصلحة تقتضي وجوب اتباعها سواء أصابت الواقع أم أخطأته ، وهذا يستلزم التصويب الباطل لأنّه إذا كان في اتباعها مصلحة فيجعل الحكم في مؤداها والواقع تابع لمؤداها ، وهذا معنى التصويب الباطل باجماع الامامية (رض).

ولأجل هذين المحذورين اختار الشيخ المذكور قدس‌سره المصلحة السلوكية وعلى فرض الاصابة ، بمعنى ان العمل على طبق الامارة ذو مصلحة من دون أن تكون طريقا إلى الواقع ومن دون أن يكون مؤداها ذا مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع على فرض الفوت ، وعلى فرض الاصابة ، أو ذا مفسدة على فرض الخطأ حتى يحدث حكم في مؤداها.

فالقول بالطريقيّة يستلزم تفويت المصلحة ، أو الالقاء في المفسدة ، والقول بالسببية يستلزم التصويب الباطل ، ولهذا عدل عنهما واختار البرزخ بينهما ، وهو المصلحة السلوكية ، كما سيأتي تفصيل هذا المطلب إن شاء الله تعالى في بحث حجية الأخبار ، وكذا الفرق بينها ، أي بين المصلحة السلوكية وبين السببية ، وكذا الفرق بين السببية والطريقية سيأتي إن شاء الله تعالى.

قوله : نعم يشكل الأمر في بعض الاصول العملية ...

نعم يبقى إشكال اجتماع الحكمين المتنافيين في موضوع واحد بالنسبة إلى بعض الاصول العملية كاصالة الاباحة الشرعية واصالة الطهارة واستصحاب الطهارة واستصحاب الحلية لأنّها ظاهرة في الحكم بالاباحة والطهارة والحلية سواء كان الحكم بها من جهة المصلحة في الاذن في الاقدام والاقتحام بسبب جعل الاباحة الظاهرية والطهارة الظاهرية والحلية الظاهرية أم كان الحكم بها من جهة المصلحة

١٤٧

في المتعلّق فهو ينافي الحرمة الواقعية.

مثلا : إذا أجرينا أصالة الاباحة في مشكوك الاباحة والحرمة ، كشرب التتن مثلا ، فنحكم بحليّته وإباحته ظاهرا فلو كان في الواقع حراما فهي تنافي الحرمة الواقعية ، وإذا استصحبنا الطهارة في مشكوك الطهارة والنجاسة ونحكم بطهارته ظاهرا ، فلو كان نجسا في الواقع فهي منافية له ، وكذا استصحبنا الحلية في مشكوك الحلية والحرمة فنحكم بحليته ظاهرا ، فلو كان في الواقع حراما فهي تنافي حرمته واقعا وتضادّها ، كما لا يخفى.

قوله : وان كان الاذن فيه لأجل مصلحة فيه لا لأجل عدم مصلحة ، أو مفسدة ...

اعلم ان الاذن من قبل الشارع المقدّس قد يكون لأجل مصلحة في نفس الاباحة كالمباحات ، وهي عبارة عن استفادة العباد منها حتى الممات ، وقد يكون لأجل انّه ليس في الفعل مصلحة ملزمة بحيث يجب تداركها ، أو مصلحة محبوبة بحيث ينبغي تداركها.

فالاولى في الواجبات ، والثانية في المستحبّات ، أو ليس فيه مفسدة ملزمة بحيث يجب الاجتناب عنها ولا مفسدة مكروهة بحيث ينبغي الاجتناب عنها.

فالاولى في المحرّمات ، والثانية في المكروهات ، وعليه فالحلية تنافي الحرمة الواقعية ، إذ هي تابعة لمفسدة ملزمة ، كما عليه العدلية ، والحلية تابعة لعدم المفسدة والمفسدة وعدمها متنافيان فإذا كان المتبوعان متنافيين فقد كان التابعان ، وهما الحرمة والحلية ، متنافيين أيضا. وبتقرير ، أوضح وهو إذا كان الملزومان متنافيين فاللازمان متنافيان.

والظاهر وجه اختصاص الاشكال ببعض الاصول العملية الذي قد ذكر آنفا ان مثل قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ وأصالة الصحّة وأشباه المذكورات من الاصول

١٤٨

العملية ناظرة إلى الواقع.

وعليه : يمكن القول فيها بجعل أحكام ظاهرية طريقية أي مقدّمية للوصول إلى الاحكام الواقعية كالامارات غير العلمية فيكون حالها كحال الامارات من حيث جريان الجواب الثاني الذي قد ذكر آنفا فيها أيضا حرفا بحرف على حذو النعل بالنعل.

امّا بخلاف مثل قاعدة الحل وأصالة البراءة ونحوهما ممّا لا نظر له إلى الواقع بل يجعل الحكم الظاهري في مواردهما تعبّدا فقط من دون النظر إلى الواقع أصلا فيختص الاشكال به أي بمثل الاصول العملية التي كانت ناظرة إلى الواقع ، دون ما ليس له نظر إلى الواقع كالاستصحاب وقاعدة الحلّ والبراءة.

قوله : فلا محيص في مثله إلّا عن الالتزام بعدم انقداح الارادة ، أو الكراهة.

ولا بدّ هنا من بيان مراتب الأحكام لأجل توضيح المقصد ، وهي أربعة :

الاولى : مرتبة الاقتضاء وهي عبارة عن اشتمال أغلب الأحكام الشرعية على المصلحة بل على المصالح وعلى المفسدة بل على المفاسد.

الثانية : مرتبة الانشاء ومرحلة الجعل لأنّ الشارع المقدّس عالم بهما فإذا كان عالما فقد أنشأها وجعلها لموضوعاتها على طبق المصالح الواقعية وعلى وفق المفاسد النفس الامرية ، وهذا واضح لا غبار عليه.

الثالثة : مرتبة الفعلية ، وهي عبارة عن مرحلة وصولها إلى حدّ البعث والتحريك والزجر والمنع فالأوّل في الواجبات. والثاني في المحرّمات ، على طريق اللف والنشر المرتب والمصنّف قدس‌سره قسمها إلى قسمين :

أحدهما : فعلية تعليقية ، بحيث لو علم المكلّف بها لكانت فعلية وإلّا فلا.

وثانيهما : فعلية حتمية وهي عبارة عن وصول الفعلية التعليقية إلى حدّ الفعلية الحتمية وانتقالها إليها ، وهذا الانتقال انّما تحصل بعد حصول القيد ، وهو العلم بها ،

١٤٩

نظير قول المولى لعبده : أكرم زيدا إن جاءك فاكرامه وصل إلى مرحلة الفعلية ولكن علّق على مجيئه وقبله يكون الاكرام واجبا فعليا تعليقيّا ، وبعده أي بعد المجيء يكون الاكرام واجبا فعليّا حتميّا ، وكذا ما نحن فيه حرفا بحرف.

الرابعة : مرتبة التنجّز وهي تتحقّق بعد تحقّق مراتب الفوق ، وهي عبارة عن وصولها إلى مرتبة المثوبة والعقوبة على إتيانها على وفق الإنشاء والجعل ، وعلى مخالفتها.

فإذا علم هذا التمهيد فيجاب عن الإشكال ثالثا بأن الأحكام الواقعية وصلت إلى مرتبة الفعلية التعليقية لأنّ من تمسّك بأصالة الاباحة وبأصالة الحلية وبأصالة الطهارة مثلا في مواردها فهو لا يعلم الأحكام الواقعية ، إذ الاصول العملية مختصّة بالجاهل الشاك المتحيّر.

وعليه : فقد يكون الأحكام الواقعية انشائية محضا ولم تصل إلى مرتبة الفعلية أصلا وان علم المكلّف بها ؛ وقد تكون إنشائية برزخا بحيث لو علم المكلف بها لصارت فعلية وإلّا فتبقى على إنشائيتها ففعليتها معلّقة على العلم بها ، وقد تكون فعلية محضا بحيث يترتّب الثواب والعقاب عليها وكونها فعلية كذلك يتحقّق بالعلم بها ، كما لا يخفى.

فالمنافاة ثابتة بين الأحكام الظاهرية ؛ وبين الأحكام الواقعية الفعلية محضا في صورة خطأ الامارة عن الواقع لا بينها وبين الأحكام الواقعية الإنشائية محضا ؛ والأحكام الواقعية برزخا بحيث لو علم المكلّف بها لصارت فعلية ولتنجّزت على المكلف ، إذ لا تكون مع الأحكام الواقعية الفعلية التعليقية إرادة لو كانت الزامية بالفعل ، ولا كراهة إذا كانت إلزامية بالترك في جميع المبادئ العالية كما في المبدأ الأعلى جلّ جلاله ، أي لا ينقدح الإرادة ولا الكراهة في نفس النبوي ولا في نفس العلوي ، صلوات الله وسلامه عليهما وعلى آلهما ، كما لا ينقدحان في ذات الباري

١٥٠

عزّ اسمه.

فلا يلزم حينئذ شيء من تلك المحاذير السابقة من اجتماع المثلين في صورة الاصابة ، ومن طلب الضدّين في صورة الخطأ ومن تفويت المصلحة فيما أدّت الامارة إلى عدم وجوب ما هو واجب واقعا ؛ ومن الالقاء في المفسدة فيما أدّت إلى عدم حرمة ما هو حرام واقعا ، إذ لا مصلحة ولا مفسدة فيها ، إذ لا إرادة ولا كراهة فيها ، إذ لا بعث ولا زجر فيها فلا ثواب ولا عقاب فيها فهي خالية عن هذه اللوازم والآثار.

وفي ضوء هذا : يرد الاشكال في هذا المقام. بيانه : ان الالتزام بعدم تحقّق الارادة والكراهة في المبادئ العالية يوجب الالتزام بعدم فعلية الحكم الواقعي إذ تحقّق الإرادة والكراهة في نفس الآمر والناهي يستلزم فعلية الحكم والقانون ، وعدم تحقّقهما يستلزم عدم فعلية الحكم وعدم اجراء القانون ، وعلى هذا لا تكون الاحكام الواقعية فعلية بل تبقى على انشائيتها ، كما نشاهد هذا في القانون البشري ، فينحصر الحكم بالظاهري منه ، فلا حاجة إلى الجمع المذكور ، وهو مؤدّى الامارة ، أو الأصل العملي.

فيجاب عن هذا الإشكال بأن الفعلية على نحوين :

الأوّل : هو الفعلية المنجزة الثابتة بعلم ، أو علمي معتبر ، والمراد من الأوّل واضح ، والمراد من الثاني هو الدليل الذي ثبتت حجيّته بالعلم وذلك كالأخبار والاصول العملية لا القياس والشهرة الفتوائية والاجماع.

الثاني : هو الفعلية المعلّقة وهي عبارة عن الأحكام التي لو علم المكلّف بها لتنجّز عليه كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجّز على آحاد المكلّف بسبب القطع بها والحال كون الحكم الواقعي إذا وصل إلى حدّ الفعلية وإلى مرتبة الاجراء يستلزم البعث ، أو الزجر في نفس النبوية ، أو في نفس المولوية فيما إذا لم ينقدح في نفسهما

١٥١

الاذن في الاقدام بالفعل لأجل مصلحة في هذا الاذن.

فالنتيجة : ان الأحكام الفعلية التعليقية يستلزم البعث ، أو الزجر إذا لم ينقدح في نفسهما الاذن في اقدام الجاهل الشاك المتحيّر بالفعل بسبب المصلحة في الاذن ، وهي عبارة عن تسهيل الأمر على العباد.

وامّا إذا انقدح الاذن في الاقدام في نفسهما فلا يستلزم البعث ولا الزجر ولا الإرادة ولا الكراهة فلا يكون التنافي بموجود حينئذ بين هذه الأحكام الواقعية الفعلية التعليقية وبين الأحكام الظاهرية التي أدّت إليها الامارة من الامارات ، أو الأصل من الاصول العملية.

فتحصّل ممّا ذكره المصنّف قدس‌سره : أن طريق الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية انّما يكون بإحدى الطرق الثلاثة :

الأوّل : انّه لا حكم ظاهري في مؤدى الامارات وليس بمجعول على طبق الامارات بل جعلها الشارع المقدّس حجّة فقط ، فيترتّب عليها لوازم الحجيّة من المنجّزية والمعذرية ووجوب الموافقة وحرمة المخالفة.

الحاصل : ليس الحكم الظاهري بموجود عند قيامها على وجوب الشيء ، أو على حرمته حتى يتنافى الحكم الواقعي ويلزم المحاذير المتقدّمة ونحتاج إلى الجمع والوفق بينهما ، كما سبق هذا مفصّلا.

الثاني : ان المجعول بالامارة حكم صوري طريقي أي مقدّمي للوصول إلى الأحكام الواقعية فليس فيها إرادة ولا كراهة ، إذ لا مصلحة في متعلقاتها ولا مفسدة فيها فلا يلزم المحاذير السابقة أيضا ، كما قد تقرّر مفصّلا.

الثالث : ان الأحكام الواقعية لم تصر فعلية منجزة حتمية في موارد الامارات والاصول العملية لأنّ المكلّف جاهل بالأحكام الواقعية وشاك متحيّر فيها وهو غير عالم بها حتى وصلت إلى مرتبة الحتمية ، فلا يلزم المحاذير المذكورة في طي كلام

١٥٢

ابن قبة قدس‌سره.

قوله : فانقدح بما ذكرنا انّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم ...

فانقدح عن الجواب الثالث انّه لا يلزم الالتزام بكون الأحكام الواقعية إنشائية محضا في موارد قيام الامارات غير العلمية وفي موارد جريان الاصول العملية على خلافها ولا يلزم الالتزام بكونها فعلية منجزة حتمية كي يشكل تارة على الالتزام الأوّل بعدم لزوم الاتيان حينئذ بالأحكام التي قامت الامارات على حرمتها ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الانشائية المحضة ما لم تكن تلك الأحكام والقوانين بالغة مرتبة الفعلية ومرحلة الاجراء ، إذ لم يتعلّق بها الارادة ولا الكراهة ولا البعث والتحريك ولا الزجر والمنع حتى يجب امتثالها.

والحال ان لزوم الاتيان بالحكم الظاهري الذي قامت به الامارة واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان.

فعلم عدم الالتزام بالأحكام الواقعية الانشائية المحضة ، وكذا علم ضمنا عدم الالتزام بالأحكام الواقعية المنجزة الحتمية في موارد قيام الامارات على طبقها ، أو على خلافها كي يلزم اجتماع المثلين في صورة الاصابة ، أو طلب الضدّين في صورة الخطأ ، أو تقويت المصلحة على العباد إذا أدّت الامارة إلى عدم وجوب ما هو واجب واقعا ، أو الالقاء في المفسدة إذا أدّت إلى عدم حرمة ما هو حرام واقعا وفي اللوح المحفوظ ، هذا على مبنى الشيخ الانصاري قدس‌سره من بقاء الاحكام الواقعية في موارد قيام الامارات والاصول على انشائيتها ، ولم تصل الى مرتبة الفعلية.

وعلى أي حال : فردّ المصنّف قدس‌سره بهذا الكلام قول الشيخ الأنصاري قدس‌سره في الرسائل حيث قال : ان طريق الجمع بين الحكم الواقعي ، وبين الحكم الظاهري في مورد الامارات والاصول العملية سواء كانت من قبيل اصالة الاباحة وأصالة الطهارة أم كانت من قبيل الاستصحاب وأصالة البراءة ونحوها منحصر بكون الأحكام

١٥٣

الواقعية انشائية محضة ولم تتجاوز منها فإذا قامت الامارة ، وتلك كخبر العدل ، أو الثقة على إباحة شرب التتن مثلا ولكن كان حكمه في الواقع حرمة فطريق الجمع بين الاباحة الظاهرية والحرمة الواقعية ان الحرمة ثابتة له في اللوح المحفوظ ومقام الإنشاء ، والاباحة ثابتة له على نحو الفعلية التنجيزية بمقتضى الامارة لأجل المصلحة التي تقتضي جعل الحكم الظاهري.

فالشيخ الأنصاري قدس‌سره يكون معتقدا على ان الحكم الواقعي لم يصل إلى مرحلة الفعلية في موارد الامارات والاصول العملية بل يبقى على مرحلة الانشاء والتقنين فلا يجب على المكلف إتيان الأحكام الإنشائية ولا يلزم عليه امتثالها ما لم تصر فعلية ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر بل يجب عليه أن يأتي مؤدّى الامارات والاصول العملية مطلقا ، أي سواء اصابت الواقع أم لم تصبه.

وعليه : فلا منافاة بين الأحكام الواقعية الإنشائية المحضة وبين الأحكام الظاهرية الفعلية ، إذ لا يلزم حينئذ اجتماع الارادة والكراهة والمصلحة والمفسدة في شيء واحد ، إذ لا إرادة ولا كراهة في الأحكام الإنشائية المحضة ، هذا طريق الجمع بينهما عند الشيخ قدس‌سره.

وامّا عند المصنّف قدس‌سره فهذا الطريق مردود ، كما سبق هذا ، والوجه في ردّه : ان الأحكام الالهية إذا كانت في مرحلة الانشاء والتقنين لا يجب موافقته ومتابعته ، مثلا : إذا اطلع الرعايا على أحكام وسلسلة القوانين التي قد وصلت إلى مرحلة التصويب عند أهالي مجلس الشورى فهل يجب عليهم المشي على طبقها والعمل على وفقها. يقال في الجواب : لا يجب عليهم العمل على طبقها ما لم تصل الى مرحلة الفعلية.

وفي ضوء هذا : يرد الاشكال على الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، أما بيانه فإذا قام في هذا المقام خبر العدل على وجوب صلاة الجمعة في يومها ظاهرا وفرضنا كون حكمها الواقعي وجوبا فيرد على الشيخ الأنصاري قدس‌سره إشكالا ، وهو ان حكم

١٥٤

الانشائي لم يجب متابعته ، والحال ان خبر العدل يدلّ على وجوبها فأي شيء ألزم المكلّف بالاتيان.

والحال ان المكلّف لا يعلم حكمها الواقعي وإلّا فلا يذهب إلى عقب خبر العدل وهو الآن يدل على وجوبها ، فعلى مبنى الشيخ الأنصاري قدس‌سره لا يجب مراعاته أي مراعات الخبر على هذا الفرض وهو كما ترى.

في بيان الدفع عن الاشكال

قوله : لا يقال لا مجال لهذا الأشكال لو قيل بأنّها كانت قبل اداء الامارة ...

قال الدافع للإشكال الذي أورده المصنف قدس‌سره على الشيخ الأنصاري قدس‌سره وهو القائل ببقاء الاحكام الواقعية على انشائيتها : ان الأحكام الواقعية إنما تكون انشائية محضة إذا لم تقم الامارة عليها ، واما اذا قامت الامارة عليها فتصل الى مرتبة الفعلية ، فالأحكام الواقعية وان كانت قبل قيام الامارة بها إنشائية محضة كما قال به الشيخ الأنصاري قدس‌سره ولكنّها بعد قيام الامارة بها تصير فعلية وتصل إلى مرحلة الاجراء فيجب العمل بها فلا إشكال في البين.

فيجاب من قبل المصنّف قدس‌سره عن هذا الدفع بأن الامارة المعتبرة لا يحرز بها لا حقيقة ولا تعبّدا إلّا ما هو الثابت في الواقع لأنّها طريقة إلى الواقع وكاشفة عنه ، والمفروض ان الثابت في الواقع هو الانشائي المحض ، والحال ان الشيء لا يتغيّر عمّا هو عليه ، إذ غاية ما تقتضيه حجيّة الامارات ثبوت مؤدى الامارة على ما هو عليه.

وعليه : فإذا كان مؤدى الامارة حكما إنشائيا يصير قيام الامارة على الحكم موجبا لثبوت حكم الانشائي ، فكيف يكون الحكم الانشائي حكما فعليّا بقيام الامارة فلا يكون دليل حجيّة الامارة موجبا لفعليّته بل يبقى الحكم الانشائي على

١٥٥

انشائيته بعد قيام الامارة عليه كما كان انشائيّا قبل قيامها عليه ، فيدور الاشكال المذكور دورا سريعا.

نعم لو فرض قيام دليل على ان كل حكم انشائي قامت الامارة على ثبوته لكان فعليا ولكان قيام الامارة عليه من متمّمات فعلية الحكم حقيقة ان كان الدليل المذكور علما أو تعبّدا إن كان هذا الدليل علميا ، نحو خبر العدل ، أو الثقة ، ولكن أين هذا الدليل كي يعتمد عليه في ذلك.

قوله : لا حكم إنشائي أدّت إليه الامارة ...

أي يثبت تعبّدا بقيام الامارة نفس الحكم الانشائي الذي هو مؤدّى الامارة غير العلمية ولا يثبت بقيامها حكم الإنشائي بوصف كونه ممّا قامت الامارة عليه كي يكون قيام الامارة مثبتا لفعليّته ، ولا ريب في أن هذا المطلب ثابت لو فرض قيام دليل آخر على ان كل حكم إنشائي قامت عليه الامارة لكان فعليّا ، إذ الامارة تكون علما تنزيليّا وهو موجب لفعلية الأحكام كالعلم الوجداني ، كأن يقال الحكم الإنشائي ما قام به العلم.

ومن الواضح انّه بعد العلم به يصير فعليّا منجّزا فلا يثبت بسبب قيام الامارة المعتبرة على حكم الإنشائي لا حقيقة ولا تعبّدا إلّا حكم الإنشائي تعبّدا لا حكم إنشائي أدّت إليه الامارة كي يصير فعليا ، فلا يترتّب أثر الفعلية من الثواب والعقاب ووجوب الإتيان وحرمة العصيان على الحكم الإنشائي الذي أدّت إليه الامارة ما دام لم يحرز الموضوع وجدانا ، أو تعبّدا بجميع أجزاءه وقيوده ، ومن جملة قيوده جملة أدّت إليه الامارة ، وهذا القيد دخيل في صيرورة الحكم الإنشائي فعليّا ولا يحرز بقيام الامارة لا حقيقة ولا تعبّدا.

امّا حقيقة وجدانا فواضح ، إذ اصابة الامارة غير معلومة لنا فلا يحصل العلم لنا بأن مؤدّى الامارة هو حكم الإنشائي.

١٥٦

وامّا تعبّدا فلأن قصارى ما هو مقتضى حجيّة الامارة كون مؤدّاها هو الواقع من أجل كونها طريقا إلى الواقع وكاشفا عنه تعبّدا وليس مقتضى حجيّتها كون مؤداها ممّا أدّت إليه الامارة التي هي علم تنزيلي كي يصير فعليّا بقيامها عليه.

فإن قيل : أي مانع العقلي ، أو الشرعي موجود عن احراز قيد الموضوع ، وهو عبارة عن جملة أدّت إليه الامارة بسبب قيام الامارة عليه ، والموضوع عبارة عن الحكم الإنشائي.

قلنا : المانع العقلي عن احرازه به ان هذا القيد متأخّر عن قيام الامارة ، لأنّ الامارة ما دام لم تقم عليه لما صدق ان الحكم الإنشائي ما أدّت عليه الامارة فلو كان القيد متقدّما على قيام الامارة على الحكم من جهة كون هذا العنوان جزء الموضوع والموضوع مقدّم طبعا على حكمه ، للزم الدور المحال.

امّا بيان الدور فلأنّ قيام الامارة على الحكم يتوقّف على الحكم من باب توقّف الحاكي على المحكي عنه ، والحكم يتوقّف على قيام الامارة من باب توقّف الحكم على موضوعه وعلى جميع أجزاء الموضوع وقيام الامارة من أجزاء الموضوع ، على الفرض. فالدور محال فأخذ هذا القيد في الحكم الانشائي محال ، إذ استحالة اللازم يستلزم استحالة الملزوم ، كما لا يخفى.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى ان قيام الامارة على الحكم الظاهري لو اقتضى ثبوت الحكم الواقعي بوصف كونه ممّا قامت عليه الامارة لا ينفع هذا الاقتضاء في تحقّق فعلية الحكم ما دام لم يقم دليل آخر على ان كل حكم الإنشائي قامت عليه الامارة يصير فعليّا تعبّدا والمفروض عدم قيام هذا الدليل ، إذ الحكم الإنشائي إنشائي إذا لم يبلغ مرتبة الإبلاغ والإعلام لنوع المكلّفين.

فلا يجب الاتيان به وان أدّت إليه سبعون امارة معتبرة وقام عليه سبعون

١٥٧

طريقا معتبرا.

فالنتيجة : قد ظهر لك كون الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري المستند إلى الشيخ الأعظم قدس‌سره صوابا ، كما لا يخفى.

قوله : اللهمّ إلّا أن يقال ان الدليل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ...

اللهمّ إلّا أن يقال ان أدلّة اعتبار الامارة غير العلمية وان لم يقتض فعلية الأحكام الإنشائية بالدلالة اللفظية المطابقية ولا التضمّنية ولا الالتزامية.

امّا الأوّلان فظاهران ، إذ معنى المطابقي لحجية الامارة تنزيل مؤداها منزلة الواقع تعبّدا ، وليس معناها المطابقي جعل الحكم الإنشائي حكما فعليّا.

ومن هنا يظهر عدم دلالة حجيّتها بالتضمّن على جعل الحكم الإنشائي فعليّا ، وامّا دلالة الالتزامية فهي مفقودة في المقام لاشتراطها باللزوم العقلي ، كما في بين العمى والبصر ، أو العرفي كما بين الجود وحاتم ، إذ لا ملازمة عقلا ولا عرفا بين تنزيل مؤدى منزلة الواقع تعبّدا ؛ وبين صيرورة الحكم الانشائي المحض حكما فعليّا بقيام الامارة عليه.

هذا ولكن يدلّ دليل حجيتها على هذا التصرّف والصيرورة أي صيرورة الحكم الإنشائي حكما فعليّا بدلالة الاقتضاء صونا له ، أي لدليل حجية الامارة ، عن اللغوية ، إذ الحكم الإنشائي المحض لا يجب اتيانه فيكون تنزيل المؤدى منزلة الواقع لغوا وبلا فائدة بعد ما عرفت من أن الأحكام الانشائية المحضة تكون غير واجبة الاتيان.

ولكن ، أورد على التمسّك بدلالة الاقتضاء صونا لدليل حجيّتها عن اللغوية بأن في تنزيل المؤدى منزلة الواقع الذي هو حكم إنشائي محضا فائدة ، إذ موافقة الإنشائي المحض توجب استحقاق المثوبة والمدح وان لم توجب مخالفته استحقاق العقوبة ، هذا معيار الفرق بينه وبين الحكم الفعلي المحض مثلا ، إذا صوّب

١٥٨

القانون في المجلس فإتيانه موجب لاستحقاق الفاعل مدحا وان لم يصل إلى مرتبة الإبلاغ والإجراء للنوع نعم مخالفته لا يوجب استحقاق الذم واللوم ، كما لا يخفى.

ولأجل هذا تمسّك المصنّف قدس‌سره بكلمة الجلالة ، وهي كلمة اللهمّ ، كي لا يرى الخصم ببركة كلمة المباركة ضعف هذا القول والمقالة.

قوله : واخرى بأنّه كيف يكون التوفيق بذلك مع احتمال احكام ...

فاستشكل ثانيا على الشيخ الأنصاري قدس‌سره بأنا نحتمل في موارد الامارات المعتبرة والاصول العملية كون الأحكام الواقعية فعلية.

ومع هذا الاحتمال لا يدفع احتمال تحقّق المنافاة بين الحكم الواقعي وبين الحكم الظاهري الذي أدّت إليه الامارة في صورة الخطأ ولا يدفع احتمال تحقّق اجتماع المثلين في صورة الاصابة.

والحال : ان احتمال اجتماع المتنافيين في الشيء الواحد يكون كالقطع بالاجتماع أي اجتماع المتنافيين والضدّين في الاستحالة والمحالية ، نعم ليس العلم بحصول التنافي والتضادّ بينهما.

والحال : انّه لا بدّ في رفع التنافي بين الشيئين من رفع احتماله ، هذا ، مضافا إلى أنّه يلزم حينئذ عدم جواز الرجوع إلى الامارات والطرق والاصول مع احتمال كون الأحكام الواقعية فعلية ، إذ احتمال فعليتها مانع من القطع بالحكم الظاهري الذي أدّت عليه الامارة لأنّ القطع به مساوق لاحتمال اجتماع المتضادّين في موضوع واحد لكن احتمال اجتماعهما ممتنع لأجل القطع بعدم جواز اجتماعهما فيه. والقطع يقطع احتمال جواز الاجتماع.

فالنتيجة : انّه لا يصحّ التوفيق بين الحكمين الواقعي والظاهري بالتزام كون الحكم الواقعي الذي يكون مورد الطرق إنشائيّا غير فعلي ، والحكم الظاهري فعليا.

أجاب المصنّف قدس‌سره بما أجاب به أوّلا.

١٥٩

وخلاصته : ان فعلية الحكم الواقعي بالمعنى المتقدّم أي فعليّته التعليقية بحيث لو علم المكلّف به لصار فعليّا تامّا منجّزا لا تنافي الحكم الظاهري فلا يكون احتمالها منافيا للقطع بالحكم الظاهري الذي هو مؤدّى الامارة المعتبرة والطريق المعتبر ، وقد سبق هذا مفصّلا.

قوله : كما لا يصحّ التوفيق بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة ...

هذا إشارة إلى وجه آخر لتصحيح الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، وحاصله : انّه لا تنافي بين الأحكام المذكورة من جهة اختلافها في الرتبة.

توضيح ذلك : ان موضوع الأحكام الواقعية هو نفس الذات فإنّ الحرمة الواقعية مثلا موضوعها ذات شرب الخمر من حيث كونه شرب خمر ، وامّا الأحكام الظاهرية فموضوعها هو الذات المشكوكة في الواقعي منها. فإنّ الحلية الظاهرية المجعولة بقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» موضوعها ذات قد شك في حرمتها واقعا وحيث ان الشك في الحرمة الواقعية متأخّر عنها بمرتبة ، من باب تأخّر الشك عن المشكوك فيه ومن جهة تأخّر الحكم عن موضوعه لأنّ الحكم الواقعي موضوع للشك فيقال الحكم الواقعي قد شك فيه.

فالنتيجة : ان الذات المقيّدة بالشك المذكور لا بدّ أن تكون متأخّرة عن الحرمة الواقعية بمرتبتين لأنّ المقيد بوصف تقيّده يكون متأخّرا عن قيده بمرتبة فإذا كان قيده متأخّرا عن الحكم الواقعي بمرتبة كان نفس المقيّد متأخّرا عنه أي عن الحكم الواقعي ، فحكم ذلك المقيّد لا بدّ أن يكون متأخّرا عن الحكم الواقعي بثلاث مراتب ، ومع هذا الاختلاف في الرتبة لا مانع من الاجتماع.

توضيح : مثلا إذا كان شرب التتن حراما واقعا وفي اللوح المحفوظ فالحرمة مترتّبة على شربه وكان موضوعا للحرمة سواء كان المكلّف عالما بها أم كان جاهلا بها.

١٦٠