البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

آنفا ولا حاجة إلى الإعادة. هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجّزه بالعلم الإجمالي.

الامتثال العلمي الاجمالي

وامّا سقوطه به بأن يوافقه إجمالا فلا إشكال فيه في التوصليات.

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان كون العلم الاجمالي مقتضيا لتنجّز التكليف الواقعي ، شرع في بيان كفاية الامتثال الاجمالي مع تمكّن المكلّف من الامتثال التفصيلي وقال : هل يكفي العلم الاجمالي بالامتثال بأن يحتاط في أطراف العلم الاجمالي أم لا؟

مثلا ؛ إذا علم أحد بأنّه مديون بدرهم امّا لزيد وامّا لعمرو ولكن أعطى درهما لزيد ودرهما لعمرو ، فقد حصل له العلم بالفراغ ، وكذا إذا علم إجمالا بوجوب أحد الأمرين امّا الظهر وامّا الجمعة في يومها ، هذا في الشبهة الحكمية ، أو علم اجمالا بوجوب الصلاة إلى إحدى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة ، هذا في الشبهة الموضوعية. فهل يكفي العلم الاجمالي بالامتثال بإتيان كل من الظهر والجمعة ، أو باتيان الصلاة إلى كل من الجهات الأربع مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال امّا من طريق الفحص والتتبع وامّا من طريق السؤال عن الموضوع وبعد معرفة الواجب بعينه سواء كان في الشبهة الحكمية ، كما في الظهر والجمعة ، أم كان الواجب في الشبهة الموضوعية ، كما في اشتباه القبلة ، يؤتى به بخصوصه أم لا يكفي الامتثال الاجمالي إلّا عند تعذّر العلم التفصيلي بالامتثال.

قال المصنّف قدس‌سره امّا فيما لا يحتاج سقوط التكليف إلى قصد الاطاعة والقربة ففي غاية الوضوح كالتوصليات ، لأنّ الغرض منها إيجاد المأمور به كيفما اتفق والغرض وجوده وتحقّقه في الخارج في صورة الاحتياط ، كما في اداء الدين ، ويلحق بالتوصليات الوضعيات كالطهارة والنجاسة فلو غسل المتنجس بماءين

١٢١

طاهرين يعلم إجمالا بكون أحدهما ماء مطلقا والآخر مضافا فقد طهر بلا اشكال.

وكذا العقود والايقاعات فإذا احتاط المكلّف بإتيان انشاءات متعدّدة يعلم إجمالا بصحّة أحدها وهو يكفي في تحقّق المنشأ لا محالة وان لم يعلم السبب المؤثر بخصوصه ، ولا بأس فيه.

وامّا في العبادات فهو في غاية الوضوح أيضا لكن في العبادات التي لا تحتاج إلى التكرار كما إذا تردّد الواجب العبادي بين الأقلّ والأكثر وذلك كتردّد الصلاة بين واجد السورة وفاقدها والمكلف احتاط بإتيان الأكثر وصلّى مع السورة الكاملة بعد الحمد في الاوليين من الرباعية والثلاثية وفي الصبح ، إذ لا حاجة إلى التكرار الذي ينافي مع قصد القربة ويكفي اتيان الأكثر قطعا إذ ، أوجد في ضمنه ، أي ضمن الأكثر ، تمام أجزاء المأمور به وجميع شرائط الاطاعة والامتثال مع قصد القربة والطاعة وقصد الوجه والتميز على القول باعتبارهما في كيفية الاطاعة وفي حصول الغرض من المأمور به ولا تعتبر هذه الامور في نفس المأمور به لاستلزامه الدور الصريح ، كما مرّ مرارا ، فلا حاجة إلى الإعادة.

فإن قيل : لم يتحقّق قصد الجزئية في الجزء المشكوك ، والحال انّه يحتمل أن يكون جزء للمأمور به واقعا.

وعليه : فقد فات قصد جزئيته قلنا قصد الجزئية أي قصد جزئية الجزء وقصد إتيانه جزء مشروط بحال علم المكلّف بكون الشيء جزء للمأمور به ، ولا يعتبر مطلقا حتى حال الجهل بكونه جزء له والمكلّف في المقام لا يعلم بجزئية السورة على الفرض فلا يعتبر قصد الجزئية في مقام الامتثال في صورة الجهل بجزئيتها ، كما لا يخفى.

وامّا فيما احتاج إلى التكرار ، فيقال :

هذا كلّه فيما إذا لم يكن الاحتياط مستلزما للتكرار ، وامّا إذا كان مستلزما له

١٢٢

كما في دوران الأمر بين القصر والتمام لمن سافر الى أربعة فراسخ قصد البيتوتة في رأس أربعة فراسخ وفي الغد رجع وكما في الصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة فربّما يستشكل في جواز الاحتياط فيه ، أي في مورد التكرار ، بوجوه ثلاثة :

الأوّل : من جهة الاخلال بالوجه.

والثاني : من جهة الاخلال بالتميز.

والثالث : من جهة كونه لعبا وعبثا بأمر المولى جلّ شأنه.

توضيح الامور الثلاثة المذكورة ان الواجب على المكلف امّا القصر فقط وامّا التمام فقط ، والصلاة إلى جهة القبلة فقط ، فهو ، أي التكرار ، ممنوع شرعا من عدم قصد الوجه في كل واحد من القصر والتمام ، وفي كل واحد من الصلاة إلى كل واحد من الجهات الأربع. وهو لا يتميّز بين الواجب وبين غير الواجب واللعب الذي يتحقّق بأمر المولى لأجل التكرار ، لا يصدق عليه ـ أي على التكرار ـ الامتثال لأنّ التكرار مستلزم للاتيان بما ليس بمأمور به والاتيان به لعب بأمره لأن الغرض من الأمر إتيان المأمور به فقط.

في جواب المصنّف قدس‌سره عنه

أجاب عن الاشكال المذكور ، بانك خبير بأن المكلّف في مقام فعل كل واحد من أطراف الشبهة الوجوبية انّما يفعله عن إرادة متعلّقة بفعل الواجب فكل واحد من الأطراف يصدر من المكلّف عن تلك الإرادة المتعلّقة بفعل الواجب المعلوم إجمالا غاية الأمر ان تلك الإرادة تؤثر في كل واحد من الأطراف بتوسّط احتمال انطباق مراد المولى عليه فالإرادة المؤثّرة في كل واحد من الأطراف لمّا كانت متعلّقة بالواجب المعلوم بالاجمال فيمكن للمكلف أخذ عنوان الوجوب فيه وصفا ، أو غاية بالمعنى المراد من نيّة الوجه فلا قصور حينئذ في نيّة الوجه الغائي بأن ينوي

١٢٣

المصلّي أصلي صلاة الظهر لوجوبها قربة إلى الله تعالى ، أو ينوي اصلّي صلاة الجمعة لوجوبها قربة إلى الله تعالى ؛ والتوصيفي بأن ينوي هكذا : اصلّي صلاة القصر الواجبة قربة إلى الله تعالى ، أو ينوي هكذا : اصلّي صلاة التمام الواجبة قربة إلى الله تعالى ، ولكن يبقى إشكال قصد التميز على طريق الاحتياط لكنه غير قادح في حصول الغرض وسقوط الأمر من جهة نفي اعتباره بالإطلاق المقامي ومقدّمات الحكمة.

توضيح : في طي قصد الوجه وقصد التميز

وهو ان الأوّل عبارة عن إتيان العمل بقصد وجوبه الغائي ، أو التوصيفي ، أو بقصد استحبابه الغائي ، أو التوصيفي ؛ وان الثاني عبارة عن تشخيص المأمور به عن غير المأمور به وعن تشخيص الأجزاء الواجبة عن أجزاء المستحبة للمأمور به.

ولكن اعتباره في حصول الغرض وسقوط الأمر في غاية الضعف أيضا كما ان اعتبار قصد الوجه في حصول الغرض وسقوط الأمر في غاية الوهن لعدم عين منهما ولا أثر منهما في الأخبار ، كما تقدّم هذا في مباحث الأمر.

هذا ، مضافا إلى ان قصد التميز بالمعنى المذكور ، ممّا يغفل عنه غالبا أي غالب المكلّفين وأكثرهم وفي مثله لا بدّ من تنبيه المولى للمكلّفين على اعتباره في الفرض وإلّا أي وان لم يتنبهوا على اعتباره فيه لأخل المولى بالغرض والاخلال به قبيح عند العقلاء وهو لا يصدر من المولى الحكيم كما نبّهنا عليه سابقا أي في مباحث الواجب التعبّدي والواجب التوصلي.

فنكشف من عدم الاخلال بالغرض كشفا إنيّا عدم اعتبار قصد التميز في حصول الغرض وسقوط الأمر والكشف الآني عبارة عن كشف وجود العلّة عن وجود المعلول ، أو هو عبارة عن كشف عدمها من عدمه.

١٢٤

ويقابله الكشف اللمي وهو عبارة عن كشف وجود المعلول عن وجود علّته أو هو عبارة عن كشف عدمه عن عدمها ، والمقام من قبيل الأوّل ، ومثالهما واضح الأوّل مثل كشف طلوع الشمس عن وجود النهار ، أو مثل كشف عدم طلوعها عن عدمه ، والثاني بالعكس ، أي مثل كشف وجود النهار عن طلوعها ، أو مثل كشف عدمه عن عدم طلوعها ، وهذا واضح.

قوله : وامّا كون التكرار لعبا وعبثا ...

فأجاب المصنّف قدس‌سره عنه بجوابين :

الأوّل : كون التكرار لعبا ممنوع ، إذ قد يكون هناك داع يدعو المكلّف إلى الامتثال بالتكرار ويمنع هذا الداعي المكلّف عن تحصيل العلم التفصيلي بالواجب حتى يمكن موافقته بالتفصيلية كما لو توقف العلم به تفصيلا على السؤال والفحص الموجبين للمشقّة والحرج بنحو يكون التكرار أسهل منهما فلا يكون التكرار حينئذ عبثا ولعبا عند العقلاء ، وذلك نحو تكرار الصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة فالأسهلية داعية إلى التكرار ، وهي مجوّزة له عندهم ، كما لا يخفى.

والثاني : لو سلم كونه لعبا وعبثا فهل يتعلّقان بأمر المولى جلّ شأنه ، أو يتعلّقان بإطاعة أمره ، أو يتعلّقان بكيفيّة إطاعة أمره عزّ اسمه.

وعليه : فإذا احتاط المكلّف وكرّر العمل والاتيان بالواجب ، نحو تكرار صلاة الظهر مثلا وإتيانها قصرا تارة وتماما اخرى فهو يعدّ مطيعا لأمر المولى عند العقلاء ، وعند العقل السليم ، وعند الوجدان الكامل.

غاية الأمر : يفعل العبث واللعب في كيفية إطاعة المولى وهذا لا يضرّ بأمر المولى وبإطاعته ، إذ يمتثل حينئذ أمر المولى فيطاع ولكن فعل فعلا عبثا وأمرا لعبا في كيفية الاطاعة ، إذ للمولى أمر واحد وهو يقتضي امتثالا واحدا والإتيان بالمأمور به مرّة واحدة ، كما لا يخفى.

١٢٥

فالنتيجة : ان اللعب يضرّ إذا كان بأمر المولى كما إذا أمر المولى باحضار الماء البارد لرفع عطشه والعبد يحضر الماء الحار حرّا شديدا ، هذا لعب بأمره ، أو العبد يحضره مثلا عنده في هذا الفرض بعد ساعات مثلا هذا لعب بإطاعة المولى فهذا يضرّ أيضا.

وامّا إذا امتثل أمره بعد حصول الداعي في نفس العبد إلى اطاعة المولى ولكن أحضر الماء البارد والماء الحار معا عنده فهذا لعب في كيفية الاطاعة ، وهذا لا يضرّ أصلا في الامتثال وسقوط الأمر وحصول الغرض والاطاعة ، وهذا واضح.

قوله : هذا كلّه في قبال ما إذا تمكّن المكلّف من القطع تفصيلا ...

ولا يخفى ان ما ذكر من كفاية الامتثال العلمي الاجمالي انّما يكون في فرض التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي.

قوله : وامّا إذا لم يتمكّن إلّا من الظن به كذلك فلا إشكال في تقديمه على الامتثال الظنّي ...

ولا يخفى ان الظن امّا معتبر وامّا غير معتبر ، فالأوّل : امّا معتبر بالخصوص ، وذلك كالظنّ الحاصل من الخبر الواحد المعتبر مثلا ، وامّا معتبر بدليل الانسداد. فالأوّل هو الظن الخاص ، والثاني هو الظن المطلق.

وعليه : فإذا قدر المكلّف على الامتثال العلمي الاجمالي ، وعلى الامتثال الظني التفصيلي ، فإذا قام الدليل على حجية الظن في صورة عدم التمكّن من العلم ، فمن الواضح تقديم الامتثال العلمي الاجمالي على الامتثال الظنّي بل لا يكفي حينئذ الامتثال الظنّي التفصيلي.

مثلا : إذا اشتبه القبلة على المكلّف فهو امّا يتمكّن من تعيين جهة القبلة بالسؤال والفحص وامّا لا يتمكّن منه لكونه وحده في البرية مثلا ، اختار المصنّف قدس‌سره في الصورة الاولى جواز الاحتياط وتكرار المأمور به في جهات الأربع.

١٢٦

وامّا في الصورة الثانية : فإذا قام الدليل على حجيّة الظن مقيّدا بعدم التمكّن من العلم التفصيلي والاجمالي فيقدّم الامتثال العلمي الاجمالي على الامتثال الظنّي التفصيلي ضرورة.

وامّا إذا قام الدليل على حجيّة الظنّ حال كونها غير مقيّدة بعدم التمكّن من العلم فالمكلّف مخيّر حينئذ بين الامتثال الظنّي التفصيلي وبين الامتثال العلمي الاجمالي.

وامّا إذا كان دليل حجية الظن دليل الانسداد كما سيأتي إن شاء الله تعالى فلا شك حينئذ في كفاية الامتثال العلمي الاجمالي إذا كان من جملة مقدّمات دليل الانسداد عدم وجوب الاحتياط بل جوازه ، إذ في نظر العقل هو خير من الامتثال الظنّي التفصيلي لاحتمال الخلاف فيه فلا يحفظ الواقع فيه حفظا كاملا ، امّا بخلاف الاحتياط والامتثال العلمي الاجمالي فإنّه يحفظ فيه حفظا تامّا وحفظ الواقع بما هو عليه ملاك حسن الاحتياط عقلا ، كما لا يخفى وان لم يكن الامتثال العلمي الاجمالي متعيّنا بل يكتفي بالامتثال الظنّي التفصيلي من جهة تمامية مقدّمات دليل الانسداد وهي دالّة على حجيّة مطلق الظنّ امّا حكومة وامّا كشفا.

وامّا إذا كان من جملة مقدّمات دليل الانسداد بطلان الاحتياط لأجل كونه مخلّا بالنظام ، أو لأجل كونه حرجيا ، أو لأجل كون أصل الاحتياط لعبا وعبثا بأمر المولى عزّ اسمه ، فإذا أثبتنا بطلان الاحتياط بوجوه مذكورة آنفا ، فلا يكفي الامتثال العلمي الاجمالي أصلا.

وعلى بطلانه فيظهر لك بطلان عبادات تاركي الاجتهاد والتقليد ، وان احتاط فيها احتياطا كاملا تامّا ، إذ سقوط ، أوامر المولى وحصول الغرض منها وامتثالها إمّا يكون بالامتثال العلمي التفصيلي وامّا يكون بالامتثال الظنّي التفصيلي عن اجتهاد ، أو عن تقليد ، والفرض ان هذا المكلّف لا يعلم علما تفصيليّا بالامتثال وحصول

١٢٧

الفرض ، وليس بمجتهد ولا مقلّد بل يكون محتاطا في عباداته ومعاملاته وعقوده وإيقاعاته ، كما لا يخفى.

هذا بعض الكلام في القطع وهو عبارة عن تأثير العلم الاجمالي في التكليف بنحو العلّة التامّة كالعلم التفصيلي ، أو بنحو الاقتضاء والمختار عند المصنّف قدس‌سره هو الثاني.

وامّا في بحث البراءة والاشتغال فينبغي أن يبحث عن وجود المانع العقلي ، أو المانع الشرعي عن تأثيره ولأجل هذا قال هذا بعض الكلام في القطع ممّا يناسب المقام وهو البحث عن تنجيزه وعدم تنجيزه له بأحد الوجهين للحكم ، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال إن شاء الله تعالى.

وبعبارة اخرى هل يجري الأصل في أطراف العلم الاجمالي أم لا؟

حجيّة الظن

قوله : فيقع المقال فيما هو المهم من عقد هذا المقصد ...

لما فرغ المصنّف قدس‌سره عن مبحث القطع شرع في مبحث الظن الذي هو المهم في عقد المقصد السادس ، فقال : يقع المقال في بيان ما قيل باعتباره من الامارات غير العلمية ، أو صح أن يقال : ان الظن والامارات حجّتان.

فالأوّل : إشارة إلى حجيّة الظنون الخاصّة ، وتلك كالظن الحاصل من أخبار الآحاد ومن ظواهر الكلام مثلا.

والثاني : إشارة إلى حجّية الظن المطلق الثابتة بدليل الانسداد.

وقبل الخوض في بيان اعتبار الامارات الظنّية ينبغي تقديم امور ؛ مقدّمة لأصل المطلب لدخالتها في البصيرة حين الشروع في المقصد :

أحدها : انّه لا ريب في ان الامارات غير العلمية لا تكون كاشفة عن الواقع

١٢٨

كشفا تامّا كالقطع فلا تكون في نظر العقل حينئذ كالقطع ، إذ لا تكون كاشفيتها تامّة عن الواقع وحجيّتها ذاتية ومن لوازم ذاتها ولا تكون علّة تامّة ولا مقتضية للحجيّة بحيث لا تكون محتاجة إلى الجعل بل تكون في نظر العقل منفكة عن الحجية فحجيتها دائما محتاجة إلى جعل المولى ، أو إلى ملاحظة مقدّمات دليل الانسداد تكشف عن حجية الامارات الظنّية شرعا ، أو يحكم العقل بحجيتها بعد تماميتها على تقدير دلالة مقدّمات الانسداد بنحو الحكومة.

فالظنّ في نفسه لا يكون علّة تامّة للتنجّز ولا مقتضيا له كما انّه لا يكون دليلا لإثبات التكليف ولا لسقوطه.

فالنتيجة : تجري مع حصول الظن بثبوت التكليف الإلزامي البراءة عنه إذ ليست الحجية بلازمة لذاته كلزوم الزوجية لذات الأربعة مثلا ، كما تجري مع الظن بسقوط التكليف قاعدة الاشتغال ، والوجه كما ذكر من عدم كون الظن بنفسه علّة تامّة لتنجز التكليف ولا مقتضيا له.

ولكن نسب المصنّف قدس‌سره إلى المحقّق آقا جمال الدين الخوانساري قدس‌سره القول بكفاية الظن في سقوط التكليف.

قال المصنّف قدس‌سره : لعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل الأخروي ، مثلا : إذا حصل لنا الظن بقراءة صلاة العشاء مثلا فلا تجب علينا قراءتها ثانيا وان احتملنا عدم قراءتها فإذن نحتمل العقاب الأخروي والضرر العقبائي لأجل عدم اتيانها.

ومن المعلوم ان المحقّق المذكور قائل بعدم وجوب دفع الضرر الأخروي وهو يقول بكفاية الظن بفراغ الذمّة فانقدح ممّا ذكر امور ثلاثة :

الأوّل : قد انقدح إمكان جعل الحجيّة للظن.

الثاني : قد ظهر ان قضية قولنا الظن الخبري حجّة مثل قضية قولنا : الإنسان موجود في الخارج وليست مثل قضية قولنا : العشرة زوج والتسعة فرد ، إذ ليست

١٢٩

الحجية بلازمة لذات الظن بما هو ظن لأنّ الإنسان ممكن الوجود ، وكل ممكن الوجود لا يقتضي ذاته الوجود ولا العدم فيحتاج ترجيح الوجود على العدم إلى مؤثّر خارجي ، وكذا قولنا : الظن الخبري حجّة يحتاج كونه حجّة الى جاعل ومعتبر وهو مؤثر خارجي.

الثالث : قد بدء ان الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني بحكم العقل السليم بدفع الضرر المحتمل الأخروي ولا يكفي الظن بالفراغ ، إذ تجري معه قاعدة الاشتغال والاحتياط ، إذ لا يسقط معه التكليف المعلوم الثابت في الذّمة فلا تجري مع الظن بالفراغ البراءة العقلية والشرعية.

قوله : فتأمّل ...

وهو إشارة إلى ان الخلاف بين الأعلام رضي الله عنهم ، في دفع الضرر المحتمل الدنيوي لا في الضرر المحتمل الأخروي فإنّه لم يخالف أحد في دفع الضرر المحتمل الأخروي مع تنجّز التكليف الفعلي على المكلّف.

ألا ترى انه ليس في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي وفي الشبهة الحكمية قبل الفحص عن الدليل إلّا احتمال الضرر ، ومع ذلك ، أوجبوا الاحتياط في الأوّل وذلك كإتيان الصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة ؛ والفحص في الثاني وما هذا إلّا لوجوب دفع الضرر المحتمل الأخروي.

هذا ، مضافا إلى ان الالتزام بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل الأخروي يستلزم الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي أيضا كما يستلزم الاكتفاء بالامتثال الظنّي وهذا ضروري البطلان ، كما لا يخفى.

فتحصّل ان الظن ليس بحجّة في نفسه بلا فرق بين مقام الثبوت ومقام السقوط وان حجيّته منحصرة بالجعل التشريعي.

١٣٠

امكان التعبد بالامارات

قوله : ثانيها في بيان إمكان التعبّد بالامارة غير العلمية ...

وليعلم ان الإمكان العام يقابله الامكان الخاص وان الامكان الذاتي يقابله الامتناع الذاتي وان الامكان الوقوعي يقابله الامتناع الوقوعي.

وعليه : فيكون المراد من امكان التعبّد بالامارة هو الامكان الوقوعي وهو فرع امكان الذاتي ، فلا يلزم من التعبّد بها محال ذاتي ، وهو كاجتماع الضدّين وكاجتماع النقيضين وكارتفاع النقيضين وككون الجزء أعظم من الكل وكالشريك البارى موجود ، هذه أمثلة لمحال ذاتي.

ولا يخفى ان مركز البحث هنا ان التعبّد بالامارات غير العلمية هل وقع شرعا أم لا بعد أن كان التعبّد بها ممكنا ذاتا ذهب المشهور إلى وقوع التعبّد بها شرعا ، وقال ابن قبّة (بكسر القاف وفتح الباء الموحدة المخففة) ، والمراد منه هو محمد بن عبد الرحمن بن قبة ، باستحالة التعبّد بالامارة غير العلمية ولكن المراد من الاستحالة ؛ الاستحالة الوقوعية في قبال الامكان الوقوعي لا الاستحالة الذاتية في قبال الإمكان الذاتي لوضوح ان التعبّد بالظن ليس ممّا يحكم العقل باستحالته بمجرّد لحاظه وتصوره كاجتماع الضدّين مثلا.

واحتج ابن قبة قدس‌سره لمدعاه باستلزام التعبّد بها تحليل الحرام وتحريم الحلال أو تفويت المصلحة ، أو الالقاء في المفسدة كما سيأتي تفصيل هذا. وكلّ واحد منها بالنسبة إلى المولى الحكيم محال ، لأنّه قبيح ، والقبيح محال في حقّه جلّ وعلى.

امّا بيان قبح الأولين فلأنّ الأوّل : منهما يستلزم الالقاء في المفسدة. والثاني : يستلزم تفويت مصلحة الحلال ، وهذا واضح.

وامّا قبح الثانيين فواضح لا يحتاج إلى البيان.

وامّا توضيح استلزام وقوع التعبّد بها للامور الأربعة المذكورة آنفا فيقال : إذا

١٣١

قام خبر العدل مثلا بوجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة ولكن وجبت صلاة الظهر واقعا فيه. فهذا الخبر يوجب تفويت مصلحة صلاة الظهر ، وإذا قام على وجوبها ـ أي على وجوب صلاة الجمعة ـ فيه عصر الغيبة ولكن كانت في الواقع حراما كما هو مفاد بعض أخبار الباب ، فلا ريب ان في هذا الخبر يوجب الالقاء في المفسدة ؛ وكذا إذا قام على حلية العصير العنبي مثلا وكان في الواقع حراما فرضا فهذا يستلزم تحليل الحرام.

وإذا قام على حرمة العصير الزبيبي مثلا وكان في الواقع حلالا فهذا مستلزم لتحريم الحلال.

وعليه فقد انقدح ان المراد من امكان التعبّد هو الامكان الوقوعي في قبال الاستحالة الوقوعية ، بمعنى هل يلزم من وقوع التعبّد بالظن محال مطلقا كاجتماع الضدّين ، أو المثلين ، أو بالنسبة الى الحكيم كتحليل الحرام وتحريم الحرام.

قوله : وليس الإمكان بهذا المعنى بل مطلقا أصلا متبعا عند العقلاء ...

اختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره إمكان التعبّد بالظن بدعوى ان بناء العقلاء بما هم عقلاء على الحكم بالامكان ما لم تثبت الاستحالة واستشكل عليه المصنّف قدس‌سره بوجوه ثلاثة :

أحدها : أنّه لم يثبت بناء العقلاء على ترتيب آثار الامكان عند الشك فيه.

ثانيها : أنّه على تقدير تسليم ذلك البناء نمنع حجية بنائهم شرعا لعدم قيام دليل قطعي عليها والظن بها لو كان موجودا على الفرض فهو لا يفيد ، إذ البحث فعلا في إمكان العمل بالظن فلا يصحّ إثبات إمكان العمل بالظنّ بنفس الظن ، إذ يلزم المصادرة حينئذ ، وهو عبارة عن جعل عين المدعى دليلا عليه.

ثالثها : انّه على تقدير تسليم ذلك أيضا فلا فائدة في هذا البحث أصلا ، إذ مع قيام الدليل على وقوع التعبّد بها لا حاجة إلى البحث عن الإمكان لأنّ الوقوع

١٣٢

أخصّ من الامكان فثبوت الوقوع كاف في تحقّق الإمكان أيضا ، إذ المحال ليس بواقع ضرورة ومع عدم قيام الدليل على الوقوع لا فائدة في البحث عن الإمكان هذا إذ البحث أصولي لا بدّ فيه من ترتّب ثمرة عملية عليه وليس البحث بحثا فلسفيّا يبحث فيه عن محض الامكان والاستحالة بلا لحاظ ترتّب ثمرة عملية في الفقه الشريف عليه.

في أدلّة المصنّف قدس‌سره

قوله : لكن دليل وقوع التعبّد بها من طرق إثبات إمكانه ...

لمّا أبطل المصنّف قدس‌سره مذهب الشيخ الأنصاري قدس‌سره بالوجوه المذكورة شرع في أدلّة إمكان التعبّد بها على وفق مذهبه ، وقال : أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه خارجا حيث يستكشف بسبب الوقوع عدم ترتّب محال وهو عبارة عن تال باطل عند الجميع كي يمتنع التعبّد بها عند المولى الحكيم جلّ ذكره ، وعند عباده ، وذلك كاجتماع الضدّين والنقيضين وهو محال عقلا عند الخالق المتعال ، وعند المخلوق ، أو التعبّد بها محال على الحكيم تعالى ذكره ، وذلك نحو تفويت المصلحة على العباد ، أو إلقائهم في المفسدة وهو محال على المولى الحكيم ، لأنّه قبيح والقبيح لا يصدر منه جلّ وعلى.

وهو ، أي التعبد بالامارات ، ليس بمحال علينا ، إذ نقطع بأن الشارع المقدّس جعل الخبر الواحد حجّة ، والظاهر من الكلام حجّة ، وقول المفتي حجّة ، والبيّنة حجّة ، وعليه فلا حاجة إلى اثبات إمكان التعبّد بها عقلا كما ان بدون وقوع التعبّد بها شرعا لا فائدة لنا في إثبات الإمكان كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل.

قوله : وقد انقدح بذلك في دعوى شيخنا العلّامة أعلى الله تعالى مقامه ...

فان قيل : قال الشيخ الرئيس بو علي رضى الله عنه : كلّما قرع سمعك من الغرائب

١٣٣

وعجائب الدوران فذره في بقعة الإمكان ما لم يذرك عنه واضح البرهان. وهو يدلّ على صحّة قول الشيخ الأنصاري قدس‌سره من الحكم بالإمكان عند الشك فيه والامتناع عنه لأنّ الشيخ بو علي رضى الله عنه أخبر عن سيرة العقلاء وهي بناءهم على الامكان في صورة الشك والترديد ، ولهذا أمر الشيخ الرئيس رضى الله عنه بوضع الشيء العجيب المقروع في السمع والسامعة في بقعة الامكان أي دائرة الامكان.

فأجاب المصنّف قدس‌سره :

قال في دفعه : ان الامكان في كلام الشيخ المذكور ، بمعنى الاحتمال أي كلّما قرع سمعك من عجائب الدوران فاحتمل وقوعه في الخارج على طبق ما قرع سمعك ما لم يمنعك عنه واضح البرهان ، وليس معنى قوله : كلّما قرع سمعك من الغرائب والعجائب فاحكم بأنّه أمر ممكن مع الشك في الامكان والامتناع واقعا.

فالنتيجة : ان قول الشيخ الرئيس رضى الله عنه أجنبي عن مدعى الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، ولا يخفى عليك ان الاحتمال يقابل للقطع والايقان كما ان الوهم يقابل الظن.

وامّا الفرق بين القطع واليقين ؛ فان الأوّل عبارة عن الاعتقاد الجازم سواء كان مطابقا للواقع أم كان مخالفا له ؛ فيشمل اليقين والجهل المركب ، وان الثاني عبارة عن الاعتقاد الجازم أي عن الاعتقاد القلبي الذي وصل إلى حدّ الجزم بحيث لا يقبل التشكيك أصلا وكان مطابقا للواقع ، ولهذا يعتبر هذا اليقين في أصول الدين.

وفي ضوء هذا : فقد ظهر لك ان ذكر الايقان بعد القطع في كلام المصنّف قدس‌سره من قبيل ذكر الخاص بعد العام كما هو متعارف عند الفصحاء والبلغاء ، فالاحتمال والامكان الاحتمالي مقابلان للقطع واليقين.

امّا بخلاف الإمكان الذاتي والإمكان الوقوعي الذي هو أخصّ مطلقا من الامكان الذاتي فانّهما مقابلان للوجوب الذاتي والامتناع الذاتي ، الأوّل : كواجب الوجود : وهو الله وحده. الثاني : كشريك الباري عزّ اسمه.

١٣٤

ومن الواضح : الذي لا يتطرّق فيه الريب أن لا موطن للامكان الاحتمالي إلّا الوجدان السليم ، فهذا مرجع فيه بلا اقامة برهان وبينة وبلا تجشّم الاستدلال ، كما لا يخفى. وينبغي توضيح أمرين هنا :

الأوّل : هو الفرق بين البيّنة والبرهان.

الثاني : هو الفرق بين الوجدان والعقل.

امّا الفرق بين الأوّلين : فلأنّ البيّنة قد تفيد القطع واليقين وغالبا تفيد الظن كشهادة العدلين مثلا ، والبرهان سواء كان لميّا أم كان آنيّا يفيد القطع واليقين دائما.

وعليه انقدح ان ذكر البرهان بعد البينة من قبيل ذكر الخاص بعد العام أيضا.

وامّا الفرق بين العقل والوجدان فإنّ الأوّل يدرك الكليّات فقط ، ولقد قيل في تعريفه العقل جوهر مجرّد لا يتعلّق بالبدن بنحو تعلّق تدبّر وتصرّف مدرك للكليّات.

وان الثاني عبارة عن إحدى قوى الباطنية وهي خمسة : الواهمة ، والمتخيلة ، والحافظة ، والمتصرّفة ، والحس المشترك.

الأولى : تدرك المعاني الجزئية وهي للحيوان كلّا ، ولهذا تفر الغنم من الذئب والفأرة من القطة.

الثانية : المعاني الجزئية.

والرابعة : تتركّب الصورة مع الصورة الاخرى ، وقد تتركّب المعاني مع المعاني الأخر ، وقد تتركّب الصور مع المعاني وهي فعالة دائما ، ولا تسكن طرفة عين أبدا. وتحوّل هذه القوى مدركاتها إلى الحافظة وهي تحوّل مدركاتها الى الحس المشترك للحفظ والضبط.

فالنتيجة : كلّ شيء يدرك بإحدى القوى الباطنية يقال له وجداني ، والجمع وجدانيات ، والوجداني يدرك بالوجدان بلا تكلّف إقامة البرهان ، إذ كل من راجع وجدانه يجده كالجوع والشبع والعطش والريان والفرح والحزن والعلم والجهل وو»

١٣٥

ومن جملة الوجدانيات احتمال الشيء ، امّا عند الواهمة ان كان معنى جزئيا ، وامّا عند المتخيّلة إن كان صورة جزئية.

الحاصل : إذا كان الاحتمال وجدانيّا فلا حاجة إلى اقامة البرهان ويرتفع النزاع من البين.

محاذير التعبد بالامارات

قوله : وكيف كان فما قيل ، أو يمكن أن يقال في بيان ...

امّا ما قيل فهو عبارة عمّا حكى عن ابن قبّة قدس‌سره من انّه يلزم من جواز التعبّد بالامارات غير العلمية وبالظن من المحال الذي يكون المراد منه اللوازم المذكورة في كلامه الا التصويب ، إذ هو من الباطل الذي ليس بمحال عنده.

والمراد من جملة يمكن أن يقال الامور التي أضافها المصنّف قدس‌سره على اللوازم الثلاثة المذكورة في كلام ابن قبة قدس‌سره وستأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.

قال ابن قبة قدس‌سره ولا يخفى انّه يلزم من التعبّد بالظن أحد الامور التالية على سبيل منع الخلو ، إذ الامارات الظنّية لا تخلو من أحد الوجهين ؛ امّا تكون مطابقة للواقع وامّا تكون مخالفة للواقع ، ففي الأوّل يلزم اجتماع المثلين من ايجابين ، أو تحريمين ، أو استحبابين ، أو كراهتين ، أو إباحتين.

الأوّل : وجوب ظاهري وهو ناش من الامارة.

الثاني : وجوب واقعي مجعول في اللوح المحفوظ ، مثلا : إذا قامت الامارة على وجوب صلاة الجمعة في يومها عصر الغيبة ، وكانت في الواقع واجبة يلزم المحذور الأوّل : وهو اجتماع الوجوبين ، وإذا قامت على حرمتها في يومها عصر الغيبة ، وكانت في الواقع محرّمة يلزم حينئذ المحذور الثاني ، وهو اجتماع التحريمين.

١٣٦

وإذا قامت على إباحة شرب التتن وكان في الواقع مباحا يلزم المحذور.

الخامس : وهو اجتماع الاباحتين الظاهرية وهي مؤدّى الامارة والواقعية ، وإذا قامت على استحباب الاقامة مثلا وكان واقعا مستحبّا يلزم المحذور الثالث ، وهو اجتماع الاستحبابين ، وإذا قامت على كراهة القران بين السورتين وكان في الواقع مكروها يلزم المحذور الرابع ، وهو اجتماع الكراهتين ، واللوازم الخمسة محال عقلا لأنّها من قبيل اجتماع المثلين ، وهو كاجتماع الضدّين في الاستحالة ، كما برهن هذا في الفلسفة العليا ، هذا كلّه إذا طابقت الواقع.

اما توضيح استحالة اجتماع المثلين فيقال : انه يلزم من اجتماعهما كون الاثنين واحدا في حال كونهما اثنين ، ولا ريب في استحالته عقلا ، وهذا معنى قول الاعاظم قدس‌سرهم : ان اجتماع المثلين كاجتماع الضدين في الاستحالة ، والتفصيل موكول في محله.

وامّا إذا خالفته فيلزم اجتماع الضدّين من إيجاب وتحريم ومن إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين فيما أخطأ ، أو التصويب الباطل بأن لا يكون هناك غير مؤديات الامارات أحكام في الواقع.

توضيح : هو ان الامارة إذا قامت على وجوب صلاة الجمعة وكانت واقعا حراما يلزم اجتماع الضدّين واجتماع الإرادة والكراهة من المولى في شيء واحد ويلزم اجتماع مصلحة الوجوب الظاهري ومفسدة الحرمة الواقعية بلا غلبة المصلحة على المفسدة ، وبلا غلبة المفسدة على المصلحة ، وهذا محال ، فالمصلحة والمفسدة ملزمتين في الشيء الواحد لا بدّ لهما من الكسر والانكسار في نظر المولى جلّ وعلا لأنّ المصلحة تقتضي الوجوب ، والمفسدة تقتضي الحرمة في الشيء الواحد فيلزم حينئذ اجتماع الوجوب والحرمة فيه ، وهو محال ، فلا بدّ أن تكون المصلحة الملزمة راجحة في نظر المولى على المفسدة الملزمة كي يكون واجبا

١٣٧

فقط ، أو المفسدة الملزمة راجحة على المصلحة الملزمة حتى يكون حراما فقط.

ولا يخفى ان المصلحة امّا ملزمة مكلفا على الفعل بحيث يجب استيفاءها فيكون الفعل حينئذ واجبا ، وامّا غير ملزمة له عليه بحيث لا يجب استيفاءها فيكون حينئذ مستحبّا راجحا فعله على تركه ؛ وان المفسدة امّا ملزمة مكلفا على الترك بحيث يجب الاجتناب عنها فيكون الشيء حينئذ حراما وامّا غير ملزمة له عليه بحيث لا يجب الاجتناب عنها فيكون حينئذ مكروها فاجتماع الضدّين لازم فيما أخطأ إذا كان في الواقع احكاما واقعية يشترك فيها العالم والجاهل ، وامّا إذا لم يكن في الواقع أحكاما غير مؤديات الامارات فيلزم حينئذ التصويب الذي أجمع العلماء على بطلانه. هذا هو المحذور الأوّل.

وامّا المحذور الثاني : فلأنّه يلزم من التعبّد بالامارات غير العلمية طلب الضدّين فيما إذا أخطأ الظن وأدّى إلى وجوب ضد الواجب مثلا إذا قام الخبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة وكان الواجب في الواقع صلاة الظهر ، أو قامت الامارة على وجوب التمام وكان الواجب في الواقع قصرا فيلزم حينئذ طلب الضدّين من المولى من شخص واحد في زمان فارد وفي آن واحد ، وهو محال عقلا بالضرورة ، إذ معنى جعل المولى حجية للامارة أمره بالعمل على طبقها وتصديق المخبر العادل بخبره.

وامّا المحذور الثالث : فلأنّه يلزم من التعبّد بها تفويت المصلحة على العباد فيما أدّى الظن إلى عدم وجوب ما هو واجب واقعا.

كما إذا قامت الامارة كخبر العدل ، أو الثقة على استحباب صلاة الجمعة مثلا ولكن كانت في الواقع واجبة ذات مصلحة ملزمة فإذا تعبّدنا الشارع المقدّس بالعمل على طبق الخبر المذكور ، فيلزم حينئذ تفويت المولى مصلحة الواجب على العباد ، وهو قبيح عنه جلّ وعلا.

١٣٨

وإذا قامت الامارة على عدم حرمة شرب التتن مثلا ، ولكن كان في الواقع حراما فلو تعبّدنا الشارع المقدّس بالعمل على وفق الامارة للزم الالقاء في مفسدة الحرام الواقعي ، وهو قبيح أيضا لا يصدر منه عزّ اسمه ، فيلزم حينئذ كون الشيء الواجب محكوما بالاستحباب ، أو الاباحة ، وهو كما ترى ، أو يلزم كون الشيء الحرام محكوما بالكراهة ، أو الاباحة ، وهو كما ترى أيضا.

في جواب المصنّف عنها

والجواب : ان ما ادّعى لزومه امّا غير لازم ، أو غير باطل ...

أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذه الاشكالات والمحاذير بوجوه :

أحدها : ان التعبّد بالامارة ليس معناه جعل الحكم على طبق الامارة كي يستكشف من جعله إرادة ، أو كراهة ومصلحة ، أو مفسدة فيلزم المحاذير المتقدّمة المذكورة بل معنى التعبّد جعل الحجيّة لها ، إذ الحجية لما كانت من الاعتبارات فهي قابلة للجعل نظير الملكية والزوجية والحرية وأمثالها جاز للشارع المقدّس جعل الحجيّة إنشاء فيترتّب على الحجيّة المجعولة ما يترتّب على الحجية الذاتية غير المجعولة ، وتلك كحجية القطع ، من الآثار العقلية كالمنجزية في صورة الاصابة والعذرية في صورة الخطأ وكون موافقتها انقيادا وكون مخالفتها تجرّيا فكما تترتّب هذه الآثار على الحجيّة الذاتية تترتّب أيضا على الحجيّة الجعلية وليس معنى التعبّد بالامارات إلّا ذلك المطلب فلا يلزم منه أحد المحاذير المذكورة كما لا يخفى ، سوى المحذور الأخير من تفويت المصلحة ، أو الالقاء في المفسدة ، لكنّه مندفع ، إذ ليس كل واحد منهما بمحال ولا باطل ، إذ يجوز التعبّد بها إذا كان فيه مصلحة غالبة على مصلحة الواقع التي قد تفوت على المكلّف ، أو على مفسدته التي قد يلقى المكلّف فيها ، ويشهد بذلك المطلب جميع أدلّة نفي العسر والحرج والضرر ، إذ كل واحد من

١٣٩

أدلّتها لا يخلو من تفويت لمصلحة العنوان الأوّلي ، أو من القاء مفسدته.

فالنتيجة : ان المحذور الأوّل والثاني من اجتماع المثلين ومن طلب الضدّين ليسا بواردين في المقام بناء على مسلك الطريقية في حجية الامارات غير العلمية.

وامّا المحذور الثالث : فإنّه وان يلزم في هذا المقام لكنّه ليس بباطل ولا محال بناء على الوجه المذكور آنفا ، هذا مضافا إلى ان خطأ الامارات عن الواقع نادر جدّا.

والفرق بين الانقياد والتجري ان الأوّل يتحقّق بفعل الشيء بقصد الوجوب ، أو الاستحباب ، أو الاباحة ولكن في الواقع كان حراما ، أو كان مكروها ، أو بترك الشيء بعنوان الحرمة ، أو الكراهة وكان في الواقع مباحا ، أو مستحبّا ، أو واجبا ، وان الثاني يتحقّق بترك مقطوع الوجوب ، أو بفعل مقطوع الحرمة ولكن كان القطع في الواقع جهلا مركّبا مخالفا للواقع وكان الشيء المقطوع به واقعا مباحا ، أو مكروها مثلا ، فلهذا قال المصنّف قدس‌سره وكون موافقتها انقيادا وكون مخالفتها تجرّيا ، إذ الشارع المقدّس ما جعل الحكم الظاهري على طبق مؤدّى الامارة بل جعلها حجّة من جهة كونها طريقة إلى الواقع وكاشفة عنه فليس الحكمان الظاهري والواقعي بموجودين حتى يلزم أحد المحذورين من اجتماع المثلين ، أو طلب الضدّين.

الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية

قوله : نعم لو قيل باستتباع جعل الحجيّة للأحكام التكليفية ، أو بأنّه لا معنى ...

ولا يخفى ان الأقوال في الأحكام الوضعية التي تكون حجيّة الامارات من جملتها ثلاثة :

أوّلها : ان المجعول مستقلّا نفس الأحكام الوضعية من دون استتباع جعلها

١٤٠