البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

صدر البحث من انّه لا تناله يد الجعل لا إثباتا ولا نفيا فلا يتصرّف فيه الشارع المقدّس كي يوسع دائرته ، أو يضيق دائرته بل يبقى على حاله عقلا والعقل لا يرى تفاوتا فيه من حيث القاطع والمورد والسبب أصلا.

وفي ضوء هذا : فالقطع الطريقي لا يتفاوت بحسب الآثار عقلا. وامّا القطع الموضوعي فأمره سعة وضيقا بيد المولى الحكيم تعالى شأنه.

قوله : وان نسب إلى بعض الأخباريين انّه لا اعتبار بما إذا كان ...

ولا ريب في تحقيق الشبهتين بالإضافة إلى القطع الطريقي العقلي الموضوعي :

الاولى : نسب إلى بعض الاخباريين ، وهو محمد الأمين الاسترآبادي والسيّد الجزائري والفقيه البحراني صاحب الحدائق قدس‌سرهم ان القطع الحاصل من المقدّمات العقلية ليس بمعتبر في الأحكام الشرعية لأن المدرك فيها ينحصر في السماع والاستماع عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، فالقطع الحاصل من الكتاب ، أو السنّة ، أو الاستماع عن المعصومين عليهم‌السلام حجّة ، ولكنّ المصنّف قدس‌سره نقل قول الأمين الاسترابادي رحمه‌الله في أسطر وقال : هذه النسبة إليهم كاذبة كما تشهد بهذا الكذب كلماتهم والمراجعة إليها ، إذ كلماتهم مربوطة بمقام منع الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع أي إذا حكم العقل بحسن الشيء لم يحكم الشرع بوجوبه وإذا حكم بقبحه لم يحكم بحرمته وليست بمربوطة بالتفصيل في القطع كما ينادي بمنع الملازمة بين حكمهما ما حكى عن السيّد الصدر رحمه‌الله في باب الملازمة ، فراجع كلامه.

قوله : وامّا في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقلية فلأنّها لا تفيد ...

أو ترتبط كلماتهم بأن المقدّمات العقلية الظنية لا تفيد إلّا الظن والعمل به منهي عنه كما هو صريح كلام الشيخ الأعظم الأمين الاسترآبادي رحمه‌الله حيث قال في

١٠١

جملة ما استدلّ الاسترآبادي قدس‌سره به في كتاب (فوائده المدنية) على انحصار مدرك الحكم الذي ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين عليهما‌السلام ، وقال الرابع ان كل مسلك وطريق غير طريق التمسّك بكلام الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام معتبر من باب إفادته الظن ونحن أثبتنا بالأدلّة الواضحة حرمة العمل على طبق الظن.

ولا يخفى ان هذا الكلام ظاهر بل صريح بأن عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقلية من جهة عدم إفادتها القطع بالأحكام الشرعية ومن جهة إفادتها الظن بها.

والحال انّه لا اعتماد على الظن المتعلّق بنفس أحكام المولى تعالى ذكره ، أو المتعلّق بنفيها أي بنفي الأحكام الشرعية.

نعم لو أفادت القطع بها لكان هذا القطع حجّة بلا شبهة تعتريه ، فعلم ان كلام الاسترآبادي رحمه‌الله مربوط بالظن لا بالقطع الحاصل من المقدّمات العقلية.

فالنتيجة : فقد نهى المحدّثون العظام رحمه‌الله عن اتباع الظن الحاصل من المقدّمات العقلية. وقال الأمين قدس‌سره في جملة الدقيقة الشريفة ما هذا لفظه :

وإذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشريفة وهي عبارة عن عدم اعتبار المقدّمات العقلية في الأحكام الشرعية لأنّها لا تفيد إلّا الظن بها.

والحال ان الأصل الأولي حرمة العمل بالظن إلّا ما خرج بالدليل القطعي ، وذلك كالظن الحاصل بالأحكام من ظواهر الكتاب العزيز ، ومن ظواهر الأخبار الشريفة فليس الدليل القطعي بموجود على اعتبار الظن الحاصل بالأحكام من المقدّمات العقلية والقياسات الظنّية والحدسيات الوجدانية.

نعم ، إذا حصل الظن بالأحكام الشرعية من قول المعصوم عليه‌السلام فهو معتبر بلا خلاف بل بلا شبهة.

فخلاصة الكلام : انّه ليس في كلام المحدّثين المذكورين (رض) ، رسم ولا أثر

١٠٢

عن عدم حجية القطع بل صريح كلامهم في الفرق بين الظن الحاصل بالأحكام الشرعية من المقدّمات العقلية ، وبين الظن الحاصل بها من قول المعصوم عليه‌السلام ، فالأوّل ليس بحجّة. والثاني حجّة لأنّ الوقوع في الخطأ أكثر في الأوّل من الوقوع فيه في الثاني.

ولا ريب في ان العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعا وعقلا ، ألا ترى ان الامامية (كثّر الله تعالى أمثالهم في أقطار العالم) استدلّوا على وجوب عصمة الإمام عليه‌السلام بأنّه لو لا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ وذلك الأمر محال لأنّه قبيح عقلا على المولى الحكيم.

ثم قال الأمين الاسترابادي رحمه‌الله : ان تمسّكنا بكلام الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام فقد عصمنا من الخطأ والزلل. وإن تمسّكنا بغيره من المقدّمات العقلية والقياسات الظنية فلم نعصم ولم نحفظ منه.

ولا ريب في انّك إذا تأمّلت في هذا الدليل الذي أقام الأمين رحمه‌الله على العصمة فقد ظهر لك عدم جواز الاعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه تعالى شأنه العزيز ، للوقوع في الخطأ والاشتباه.

انتهى موضع الحاجة من كلام المحدّث الأمين الاسترابادي رحمه‌الله.

وامّا الشيخ الأنصاري قدس‌سره فقد نقل في الرسائل كلام الأمين أطول من نقل المصنّف قدس‌سره في الكفاية. وقال في فهرست فصول الفوائد المدنية أيضا :

الأمر الأوّل في إبطال جواز التمسّك بالاستنباطات الظنّية والقياسات الظنّية في نفس أحكامه تعالى شأنه ؛ وفي وجوب التوقّف عند فقد القطع بحكم الله تعالى شأنه ، أو عند فقد القطع بحكم ورد عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

والحال أنت ترى رؤية واضحة كرؤية الشمس في رابعة النهار ان كلام الأمين رحمه‌الله ونقضه مربوطان بالعقلي غير المفيد للقطع ، إذ همّه من كلامه هذا إثبات

١٠٣

عدم جواز اتباع غير النقل عن الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام في الأحكام التي ليس القطع بموجود فيها.

وامّا في مورد النقل عنهم عليهم‌السلام فيكفي الظن بالاحكام الشرعية ، كما لا يخفى.

فإن قيل : لم قال المصنّف قدس‌سره في السابق : تأمّلت وفي هذا المقام ترى في ضمن حكايته كلام المحدّث الأمين رحمه‌الله؟

قلنا : التأمّل مربوط بدليل العصمة ولا يخفى ان التعدي من دليل إلى دليل آخر يحتاج إلى التأمّل والتدقيق.

والتعدي عبارة عن الوقوع في الخطأ إذا لم يكن الإمام عليه‌السلام معصوما وذا عصمة ، فكذا الدليل على الأحكام إذا لم يكن مفيدا للقطع بها فيوقع اتباعه في الخطأ.

والرؤية مربوط بصراحة كلامه وهي عبارة عن ابطال التمسّك بالقياسات الظنّية ؛ وعن عدم جواز التمسّك والاعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه تعالى شأنه ، وعدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقلية لأنّها لا تفيد إلّا الظن بالأحكام الإلهية ففي السابق يناسب التعبير بالتأمّل. وفي هذا المقام يناسب التعبير بالرؤية.

وعلى أيّ حال ليس مرادهم عدم حجيّة القطع إذا حصل من غير الكتاب الكريم ، ومن غير السنّة الشريفة ، لأنّ القطع مطلقا أي سواء حصل من الأسباب المتعارفة أم حصل من الأسباب غير المتعارفة من الحدس والرمل والجفر والرؤيا حجّة ولازم الاتباع.

وصحّة المؤاخذة على مخالفة مطلق القطع عند اصابته الواقع وصحّة العذرية إذا خالفه عقلا مترتّبان عليه وهذا ممّا لا يخفى على عاقل فضلا عن فاضل محقّق مدقّق ، إذ حجّيته ذاتية لن تنالها يد الجعل لا إثباتا للزوم تحصيل الحاصل ولا نفيا للزوم التناقض ، كما لا يخفى. وعليه فلا بدّ فيما يوهم خلاف ذلك في الشريعة المقدّسة.

١٠٤

فإن قلت : لعلّ نظر المحدّثين المذكورين (رض) ، من عدم حجية القطع الحاصل من المقدّمات العقلية إلى ما يستفاد من الأخبار المأثورة عن أئمتنا عليهم‌السلام ، وتلك مثل قولهم حرام عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا (١) ، وقولهم عليهم‌السلام : من دان الله بغير سماع من صادق فهو كذا وكذا (٢) إلى غيرهما من الأخبار التي تدلّ على ان الواجب علينا هو امتثال أحكام الله تعالى بلّغها انبيائه ثمّ حججه وأوليائه عليهم‌السلام فكل حكم من أحكام الله تعالى لم يكن الإمام المعصوم عليه‌السلام واسطة في تبليغه لم يجب علينا امتثاله بل يكون هذا من قبيل اسكتوا عمّا سكت الله تعالى عنه ، إذ معنى سكوته عنه عدم أمره تعالى ، أولياءه بتبليغه إلى العباد.

قلنا : لا بدّ فيما يوهم خلاف ذلك من التوجيه على سبيل منع الخلو أي التوجيه للأخبار التي تدلّ على جواز مخالفة علم التفصيلي في مقام العمل ، وهو امّا عبارة عن منع حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي العقلي لأجل منع بعض مقدّماته الموجبة للعلم التفصيلي بالحكم المذكور ، وامّا من جهة فقدان بعض شروط العلم التفصيلي على نحو الاجمال ؛ وامّا من جهة وجود المانع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي على الاجمال أي لا يعلم فقد الشرط المعيّن بخصوصه ولا الوجود المانع الخاص المعين.

مثلا : إذا كان لزيد درهم عند الودعي ولعمرو درهمان عنده فسرق أحد الدراهم فقد ورد النص انّه يعطي لعمرو وهو صاحب الدرهمين درهم ونصف الدرهم. ولزيد وهو صاحب الدرهم نصف الدرهم.

ولكن الحكم بتنصيف الدرهم بينهما مخالف للعلم الاجمالي بأن هذا الدرهم لأحدهما فالتنصيف موجب لإعطاء نصفه لغير مالكه ثم إذا انتقل النصفان إلى بكر

__________________

١ ـ الوسائل ١٨ الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ١٣ ص ٢٦.

٢ ـ المصدر نفسه ١٨ : الباب ٧ من أبواب صفات القاضي ح ٣٧ ص ٥١.

١٠٥

بهبة ونحوها فاشترى بمجموعها جارية فيعلم تفصيلا بعدم دخولها في ملكه لكون بعض ثمنها ملك غير الواهب.

فالحكم بجواز وطيها مخالف للعلم التفصيلي بعدم دخول تمامها في ملك المتهب ، ولكن يقال في دفع هذا الإشكال : ان الحكم المذكور في النصّ موافق للقاعدة لأنّ الامتزاج موجب للشركة القهرية فيكون كل واحد منهما شريكا في كل جزء جزء من الدراهم الثلاثة فما سرق يكون لهما لا لأحدهما فقط ، ولهذا حكم الإمام عليه‌السلام بالتنصيف لدرهم واحد من الدرهمين بينهما.

ولأجل احتمال الشركة القهرية لا يحصل العلم التفصيلي للمتهب بعدم دخول تمام الجارية في ملكه ولكن يحتمل احتمالا قويّا أن لا تحصل الشركة القهرية في المقام لأنّ الامتزاج الموجب لها عبارة عن الامتزاج الذي يكون موجبا لوحدة المالين في نظر العرف فصار المالان الممتزجان مالا واحدا في نظر أهل العرف سواء كانا متّحدين في الجنس كما إذا امتزج الحليب بالحليب أم كانا مختلفين فيه كما إذا امتزاج الماء والحليب مثلا ، ولكن المقام ليس من هذا القبيل ، وهو ظاهر.

وكذا الكلام في سائر الأمثلة التي قد ذكرها الشيخ الأنصاري قدس‌سره في الرسائل ، فراجع هناك.

أو ان الشارع المقدّس قد حكم بالتصرّف في مال الغير بغير اذنه إذ له الولاية على الأنفس والأموال بل هو المالك الحقيقي وقد حكم بجواز التصرّف في بعض الموارد مع العلم التفصيلي والقطع الطريقي بكون المال مال الغير كما في حق المارة في الثمرات والفواكه ، فذكر الفواكه بعد الثمرات من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، لأن الفواكه عبارة عن الثمرات التي تكون ذات رائحة وذلك كالتفاح مثلا والثمرات أعم منها ، فكذا في المقام حرفا بحرف. وكذا سائر الموارد يتوهّم فيه جواز مخالفة العلم التفصيلي والقطع الطريقي.

١٠٦

قوله : فتدبّر جيّدا ...

وهو إشارة إلى ان العلم الاجمالي بكون هذا النصف إمّا مال زيد وامّا مال عمرو كان مقرونا بالشك دائما والحال ان الشك موضوع للأحكام الظاهرية كانت مرتبة الحكم الظاهري مع العلم الاجمالي محفوظة فجاز حينئذ جعل الحكم الظاهري في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي ، مثلا إذا علم إجمالا بحرمة اناء مردّد بين إناءين فكل واحد منهما حينئذ مشكوك الحرمة فيمكن أن يكون كل واحد منهما موضوعا لقاعدة الحل أعني قوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم انّه حرام بعينه فتدعه.

فإن قيل : ان الحل المجعول لكل واحد من الإناءين يناقض الحرمة المعلومة اجمالا.

قلنا : هذه المناقضة ثابتة بين كل حكم ظاهري مجعول في حق الشاك بالواقع وبين الواقع المشكوك فلا تختص بما نحن فيه ، مثلا : إذا قام خبر العدل ، أو الثقة بوجوب صلاة الجمعة وكانت في الواقع محرّمة مثلا ، وكذا إذا قام بحلية شرب التتن مثلا وكان في الواقع حراما فما تدفع به هذه المناقضة في الشبهات البدوية التي لا علم فيها أصلا وفي الشبهة غير المحصورة التي لا يجب الاحتياط فيها اجماعا تدفع به المناقضة فيما نحن فيه ، وهو الشبهة المحصورة ، كما لا يخفى.

في منجزية العلم الاجمالي

قوله : الأمر السابع انّه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي ...

قد عرفت في طي الأمر الخامس ان القطع التفصيلي موجب لتنجّز التكليف الفعلي ، إذ لا أثر للقطع التفصيلي بالتكليف الإنشائي ولصحّة العقوبة على مخالفته

١٠٧

وغيرهما من الآثار واللوازم فهل العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في هذه الآثار واللوازم في نظر العقل أم لا؟

وبتقرير آخر ؛ وهو ان القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علّة تامّة لتنجّزه بحيث لا يكاد تناله يد الجعل إثباتا ولا نفيا.

فهل القطع الاجمالي كذلك فيه إشكال ، ووجهه هل العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة القطعية ولحرمة المخالفة القطعية كالعلم التفصيلي أم لا يقتضي هذين : أمّا وجه الاقتضاء فلكونه علما بلا فرق بين علم وعلم في نظر العقل.

وامّا وجه عدم الاقتضاء فلأنّ الجهل بالواقع محفوظ مع العلم الإجمالي لأجل عدم انكشاف الواقع به تمام الانكشاف.

وعليه : فالكلام في القطع الإجمالي في مقامات ثلاثة :

الأوّل : في ان له اقتضاء الحجية ، أو ليس له هذا الاقتضاء فيكون حاله كحال الظنّ في حال الانفتاح لا يكون حجّة إلّا بجعل جاعل.

الثاني : بناء على الاقتضاء فهل هو بنحو العلية التامّة بحيث يكون موجبا لحكم العقل باستحقاق العقاب على تقدير المخالفة ، وعدم استحقاقه على تقدير الموافقة حكما تنجيزيا غير موقوف لتردّد المعلوم بين شيئين في الشبهة المحصورة أو لتردّد المعلوم بين أشياء كما في الشبهة غير المحصورة على شيء من وجود شرط ، أو فقد مانع ؛ أو انّه بنحو صرف الاقتضاء فيكون موقوفا على عدم المانع عقلا ، أو شرعا كما انّه موقوف على وجود الشرط ، فهو على هذا التقدير كالنار مثلا إذ هو مقتضى للاحراق مع وجود شرطه ، وهو لصوق الجسم بالنار : ومع فقد المانع عنه ، وهو رطوبته.

الثالث : بناء على العلية التامّة فهل هو علّة لحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية ، أو يكفي فيه الموافقة الاحتمالية.

١٠٨

وهذه المقامات الثلاث كلّها قد صارت محل اشكال ومجال تأمّل بين الأعلام قدس‌سرهم.

امّا المقام الأوّل : فهو محل خلاف بين الأعلام قدس‌سرهم في الشبهة الوجوبية ذهب المحقّق القمّي والمحقّق الخوانساري قدس‌سرهما إلى عدم اقتضاء العلم الاجمالي فيها فعلية الحكم الكلي ما لم يعلم به تفصيلا.

وامّا المقام الثاني : فالمختار عند المصنّف قدس‌سره عدم كونه علّة تامّة لتنجّز التكليف والحكم ، إذ العلم الإجمالي لما كان مقرونا بالشك دائما وكان الشك موضوعا للأحكام الظاهرية ؛ فقد كانت مرتبة الحكم الظاهري مع العلم الإجمالي محفوظة فيجوز حينئذ جعل الحكم الظاهري في كل واحد من أطرافه ، وهو الذي يوجب لجواز مخالفته.

مثلا : إذا علم إجمالا بحرمة إناء مردّد بين إناءين فكل واحد من الإناءين مشكوك الحرمة فيكون كلّ واحد منهما موضوعا لقاعدة الحل ، إذ قال المعصوم عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم انه حرام بعينه فتدعه».

وكذا إذا علم إجمالا بنجاسة اناء مردّد بين إناءين فكل واحد من الإناءين مشكوك النجاسة فيكون كل واحد منهما موضوعا لقاعدة الطهارة لأنّ المعصوم عليه‌السلام قال : كلّ شيء نظيف حتى تعلم انّه قذر ، كما في الوسائل.

فإن قيل : إن الحل والطهارة المجعولين يناقضان الحرمة والنجاسة المعلومتين إجمالا.

قلنا : ان دفع هذه المناقضة والعويصة بين الأحكام الظاهرية في مورد الاصول والامارات وبين الأحكام الواقعية منحصر بعدم فعلية الأحكام الواقعية ضرورة تضاد الأحكام الواقعية الفعلية والأحكام الظاهرية الفعلية على خلافها.

مثلا : إذا كان حكم صلاة الجمعة في الواقع وجوبا ولكن قامت الامارة على

١٠٩

حرمتها ظاهرا فالمناقضة صريحة بينهما ؛ وكذا إذا كان حكم الواقعي لشرب التتن حرمة ولكن اصالة البراءة ثبتت إباحته ظاهرا فالمناقضة والتضاد ظاهران بينهما أيضا.

وحينئذ فمع القطع الإجمالي بالحكم الفعلي يمتنع الترخيص الشرعي على خلافه.

وحينئذ فيكون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية ، وهو لا يتحقّق إلّا بالاجتناب عن جميع أطرافه إذا كان المشتبه نجسا ، أو حراما ، إلّا إذا ارتفعت فعلية الحكم الواقعي لعروض عسر وحرج ونحوهما ممّا يوجب ارتفاع فعلية الحكم كاختلال النظام فيجوز حينئذ الترخيص في مخالفته شرعا وعقلا احتمالا ، بل قطعا لارتفاع فعلية الحكم بالعسر والحرج من الأطراف ، فلهذا رخّص الشارع المقدّس في الارتكاب في الموارد العديدة ، لعدم الابتلاء بتمام الأطراف كما ان عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة كان من جهة عدم فعلية التكليف ، أو للعجز ، أو نحوهما ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في محلّه.

وامّا إذا لم ترتفع فعلية الحكم لعسر وحرج ، أو الاختلال بالنظام فالمناقضة بين الحكم الظاهري الذي يتحقّق من الترخيص الشرعي ، وبين الحكم الواقعي المقطوع به كما في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي سواء كانت محصورة أم كانت غير محصورة ظاهرة جدّا إذا كان الحكم الظاهري مخالفا للحكم الواقعي ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين الحكم الظاهري والواقعي في الشبهة المحصورة وفي الشبهة غير المحصورة ، وفي الشبهة البدوية ، فلا فرق بينها من هذه الناحية ، إذ اختلاف العناوين لا يوجب رفع المناقضة بينهما. نعم يكون الفرق بين الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي وبين الشبهة البدوية من ناحية كون الحكم الواقعي مقطوعا به في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، وكونه محتملا في الشبهة البدوية ،

١١٠

فأصل المناقضة ثابت ولكن تيقّنها واحتمالها لا يرفعان أصلها إذا كانا متخالفين ، كما لا يخفى.

ولكن طريق حل هذه العويصة فيها على نهج واحد ، كما قد أشرنا إلى طريق حل العويصة والإشكال في طي الأمر الرابع ، وسيأتي تفصيل طريق الحل لهذه العويصة في بحث الظن في مورد الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، إن شاء الله تعالى شأنه العزيز.

فما به التفصّي عن المحذور والعويصة في الشبهة غير المحصورة والشبهة البدوية وهو الذي يتفصّى به عن العويصة والمحذور في القطع بالحكم الواقعي والتكليف الواقعي في الأطراف الشبهة المحصورة أيضا ، كما لا يخفى.

قوله : لا يقال ان التكليف فيهما لا يكون بفعلي ...

فنظم العبارة لا بد أن يكون كذلك ، كما لا يخفى.

امّا بيان الاشكال فهو ان المتوهّم زعم بأن الحكم الواقعي ليس بفعلي في الشبهة البدوية وفي الشبهة غير المحصورة ولكنّه فعلي في الشبهة المحصورة التي يعبّر عنها بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي أيضا.

وعلى هذا الفرق بين الشبهات يكون الفرق في المناقضة وعدمها بينها ، إذ لا تلزم من جعل الحكم الظاهري الفعلي فيهما ، أي في الشبهة البدوية وفي الشبهة غير البدوية ، لأنّه يجوز الجمع بين الحكم الظاهري الفعلي وبين الحكم الواقعي الإنشائي ولو كانا متخالفين.

وتلزم من جعل الحكم الظاهري الفعلي في الشبهة المحصورة ، إذ لا يجوز الجمع بينه وبين الحكم الواقعي الفعلي أصلا ، إذ يلزم منه اجتماع الحكمين الفعليين في موضوع واحد ، وهو محال.

فإذن لم لا يكون الحكم فعليّا في الشبهة غير المحصورة وفي الشبهة البدوية؟

١١١

قلنا : لأجل العسر والحرج الحاصلين بالاجتناب عن جميع الأطراف ارتفع فعلية الحكم في الشبهة غير المحصورة ، أو لأجل اختلال النظام ، ارتفعت فيها كما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.

وامّا في الشبهة البدوية فلجريان البراءة العقلية والبراءة الشرعية فيها ، كما في مورد فقدان النص.

في جواب المصنّف عنه

وأجاب المصنّف قدس‌سره عنه جوابا نقضيّا وهو كيف المقال في أطراف الشبهة غير المحصورة إذا كنت أيّها المستشكل قاطعا بالتكليف الفعلي من جميع الجهات فيها وكيف مقالكم في أطراف الشبهة البدوية إذا كنت أيّها المتوهّم محتملا للتكليف الفعلي من جميع الجهات فما هو جوابكم في هاتين الشبهتين فهو جوابي في الشبهة المحصورة حرفا بحرف ، أي إذا كنت دافعا لاجتماع المتناقضين فيهما بمحامل وتوجيهات فندفع بهما اجتماع المتناقضين في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، هذا أي خذ ذا.

قوله : أو بدون ذلك ...

أي بدون احتمال تكليف الواقعي في الشبهة البدوية كما إذا كان المكلّف غافلا عن إمكان وجود التكليف الواقعي فيها.

أو إذا كان جاهلا جهلا مركّبا فالمكلّف في الشبهة البدوية امّا يكون ملتفتا إلى إمكان جعل الحكم الواقعي والتكليف الواقعي فيها وامّا يكون غافلا عنه ، وإمّا يكون عالما بعدم الحكم الواقعي فيها ولكن كان علمه جهلا مركّبا أي كان مخالفا للواقع ، ففي كلّ واحد من الوجوه والاحتمالات لا يغير الواقع عن واقعيته سواء كان المكلّف ملتفتا إلى إمكان الحكم الواقعي في الشبهات البدوية أم كان غافلا عنه أم

١١٢

كان عالما بعدمه ولكن كان علمه جهلا مركّبا ، فإذا كان في الواقع في مورد الشبهة البدوية حكم واقعي فلو رخص على الاقتحام في خلافه للزم التناقض واجتماع المتناقضين في موضوع واحد إذا كان الحكم الظاهري الفعلي والواقعي متخالفين فما الحيلة لكم فيها فهو الحيلة لنا فيما نحن فيه حرفا بحرف.

في الفرق بين العلم التفصيلي والاجمالي

قوله : نعم كان العلم الاجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء لا في العليّة التامّة ...

ولا ريب في ان العلم التفصيلي علّة تامّة لتنجّز التكليف كما ان البلوغ والعقل والقدرة والحياة علّة تامّة لأصل التكليف.

امّا العلم الإجمالي فهو مقتض لتنجّزه.

فالعلم التفصيلي وحده يكفي فيه ولا يحتاج فيه إلى وجود الشرط ولا إلى فقد المانع.

مثلا : إذا علم المكلّف تفصيلا بوجوب صلاة الجمعة في يومها في عصر الغيبة فهو كسماع وجوبها عن الإمام المعصوم عليه‌السلام ، فيترتّب عليه أثره من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة والمنجزية بمعنى ترتّب الثواب على فعلها والعقاب على تركها والمعذرية على تقدير الخطأ عن الواقع.

وامّا العلم الإجمالي بالتكليف فهو مقتض لتنجزه بشرط ان يكون المانع عن تأثيره مفقودا سواء كان المانع عن تنجّزه عقليّا كما في الشبهة غير المحصورة التي تكون أطرافها كثيرة ، إذ الاجتناب عن جميعها موجب للعسر الشديد المخلّ بنظام معاش بني آدم ، أم كان المانع عنه شرعيّا. وذلك كما فيما إذن الشارع المقدّس في الاقتحام في أطراف الشبهة سواء كانت محصورة أم كانت غير محصورة.

١١٣

فإن قيل : لأي دليل أذن في ارتكاب الأطراف؟

قلنا : روى عنه عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

والحال ان كل واحد واحد من الأطراف يحتمل كونه حلالا ، أو حراما فهو لك حلال إلّا أن تعرف الحرام منه أي من الشيء بعينه.

فالنتيجة : ان كل واحد من الأطراف حلال لك ، إذ لا يعرف كون كل واحد واحد حراما ، فالعلم الإجمالي مقتض لتنجّز التكليف ما دام لم ينضم إليه عدم المانع العقلي ، أو الشرعي ، امّا إذا انضم إليه فهو علّة تامّة لتنجّزه كالعلم التفصيلي بلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، مثلا : إذا اشتبه الغنم الموطوء في قطيعة الغنم فكل واحد منها يحتمل أن يكون موطوء وان يكون غير موطوء ، والموطوء محرّم اللحم ، وغير الموطوء محلّل اللحم ، فكل واحد منها امّا حلال وإمّا حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه. هذا مثال لغير المحصورة.

وكذا إذا اشتبه إناء الطاهر والنجس فكل واحد منهما امّا حلال وامّا حرام ، والطاهر حلال شربه ، والنجس حرام شربه ، فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه. هذا مثال للمحصورة.

وفي ضوء هذا : فانقدح لك ان العلم الاجمالي بالتكليف كالجهل بالتكليف إذا كان المانع العقلي ، أو الشرعي عن تنجّزه موجودا في عدم الأثر والنتيجة ، وان العلّة التامّة تجتمع مع وجود المانع نحو اجتماع طلوع الشمس مع وجود الغيم إذ طلوعها علّة لضياء العالم سواء وجد الغيم أم لم يوجد ، ولكن وجود الغيم في الهواء مانع عن ضياء العالم ، والمقتضي لا يجتمع مع وجود المانع نحو عدم اجتماع النار مع الرطوبة ، إذ هي مقتضية للإحراق أي إحراق الجسم ولكن وجود الرطوبة فيه مانع عن تأثير المقتضي وهو النار ، في المقتضى بالفتح ، وهو احراقها جسما من الأجسام.

١١٤

وان العقل ، أو الشرع أجاز مخالفة العلم الاجمالي للحكم والمصالح.

فالنتيجة : ان العلم الاجمالي ليس كالعلم التفصيلي في كونه علّة تامّة لتنجّز التكليف بل العلم الاجمالي مقتض لتنجّز التكليف فإذا انضم إليه عدم المانع فالمقتضي ، وهو العلم الاجمالي ، يؤثر في المقتضى بالفتح ، وهو تنجّز التكليف به.

قوله : وبالجملة قضية صحّة المؤاخذة على مخالفته ...

فإذا لاحظنا صحّة المؤاخذة عقلا على مخالفة التكليف الواقعي مع القطع بالتكليف المذكور بين أطراف الشبهة المحصورة ؛ وإذا لاحظنا عدم صحّة المؤاخذة على مخالفة التكليف الواقعي بين أطراف الشبهة غير المحصورة وإذا لاحظنا اذن الشارع المقدّس في الاقتحام في أطراف الشبهة البدوية فيحصل لنا من هذه الملاحظات الثلاث ، كون العلم الإجمالي مقتضيا لتنجّز التكليف الواقعي وليس بعلّة تامّة له ، إذ نكشف من صحّة المؤاخذة على مخالفة التكليف الواقعي ، ونكشف من الاذن الشرعي في الاقتحام في أطراف غير المحصورة كونه مقتضيا للتنجّز ، كما هو واضح لمن أمعن النظر في الفرق بين المقتضى والعلّة التامّة.

قوله : وامّا احتمال انّه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة ...

هذا لبيان المقام الثالث من المقامات الثلاثة التي اشير إليها سابقا ، احتمل بعض الاصوليين ان العلم الاجمالي بالتكليف الواقعي بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية يكون مقتضيا لتنجّز التكليف في نظر العقل.

وامّا بالنسبة إلى عدم جواز المخالفة القطعية فهو علّة تامّة لتنجّز التكليف الواقعي ، وهذا التفصيل مختار الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

وعليه : فالعلم الاجمالي قابل للإذن في الأطراف امّا فعلا وامّا تركا بلحاظ الموافقة القطعية وامّا بالنسبة إلى المخالفة القطعية فهو ليس بقابل للاذن في الأطراف.

١١٥

وفي ضوء هذا: فيكفي فيه الموافقة الاحتمالية ولا يجب فيه الموافقة القطعية ، ولو قلنا بكونه علّة تامّة لتنجّز التكليف ، هذا إذا كان المشتبه حراما كما إذا اشتبه اناء الخمر باناء الخلّ فالعلم الاجمالي قابل للاذن في احدهما وليس بقابل للاذن في كليهما ، هذا في الشبهة المحصورة. وكذا إذا كان الموطوء مشتبها في قطعية الغنم فالعلم الاجمالي قابل للإذن بالإضافة إلى الموافقة القطعية ، وليس بقابل للاذن بالإضافة إلى المخالفة القطعية ، هذا في الشبهة غير المحصورة.

قال المصنّف قدس‌سره : هذا الاحتمال ضعيف جدّا ، إذ اذن الشارع المقدّس في أحد الأطراف يستلزم عدم وجوب الموافقة القطعية فلا فرق بين الاذن في أحد الأطراف ، وبين الاذن في جميع الأطراف في استلزام كليهما عدم وجوب الموافقة القطعية إلّا ان في الأوّل احتمال التناقض في حقّ المولى ؛ وان في الثاني قطع التناقض والمناقضة في حقّه لأنّ الأوّل يستلزم الاحتمال بالمخالفة ، والثاني يستلزم القطع بالمخالفة فكما يستحيل القطع بثبوت المتناقضين كذا يستحيل احتمال ثبوتهما. ومن المعلوم انّ المتكلّم العاقل لا يتكلّم بالتناقض أصلا فضلا عن المولى الحكيم.

وعلى طبيعة الحال فلا معنى للتفصيل في العلم الاجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية والموافقة الاحتمالية كي يقال انّه مقتض بالنسبة إلى الأوّل ؛ وعلّة تامّة بالإضافة إلى الثاني.

فالنتيجة : انّه لا يجب الموافقة القطعية ولا يجوز المخالفة القطعية بل يكفي فيه الموافقة الاحتمالية فلا يجب الاجتناب عن جميع الأطراف ولا يجوز الارتكاب لجميعها بل يجتنب عن بعض ويرتكب بعضها بل يقال ان العلم الاجمالي امّا مقتض بالنسبة إلى كليهما معا وامّا علّة تامّة بالإضافة إليهما ، اختار المصنّف قدس‌سره كونه مقتضيا بالنسبة إلى كليهما أي يجتمع مع الاذن على خلاف العلم الاجمالي أي لم

١١٦

يجب الشارع المقدّس الموافقة القطعية في الشبهة المحصورة ولم يجب الموافقة الاحتمالية في الشبهة غير المحصورة.

وعليه : فلو قلنا بكونه مقتضيا للتنجّز فيجوز الترخيص في عدم وجوب الموافقة القطعية التي تتحقّق بالاجتناب عن جميع أطراف العلم الاجمالي ، أو بالارتكاب لجميعها.

أمّا لو قلنا بكونه علّة تامّة لتنجّز التكليف الواقعي كالعلم التفصيلي فلا يجوز الترخيص في عدمها أصلا للزوم المناقضة بين الحكم الواقعي المعلوم إجمالا والترخيص على خلافه ، لأجل جريان الأصل من الاصول ، من اصالة الطهارة واصالة الحلّ.

فإذا تساوى المناقضة القطعية والمناقضة الاحتمالية في الاستحالة ، فلا يكون عدم القطع بالمناقضة في صورة الاذن من قبل الشارع المقدّس بارتكاب بعض الأطراف أصلا كما لا يجوز الاذن في ارتكاب جميع الأطراف بالاجماع ، بل لو صحّ مع المناقضة الاحتمالية الاذن في المخالفة الاحتمالية التي تتحقّق بارتكاب بعض الأطراف لصحّ الاذن في المخالفة القطعية التي تتحقّق بارتكاب جميع الأطراف أيضا لوحدة مناط الاذن في كليهما وهو عبارة عن عدم التضاد والمناقضة بين الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال وبين الحكم الظاهري الذي هو مقتضى الأصل من الاصول الجاري في المقام.

لأنّ الاذن في ارتكاب بعض الأطراف يكشف عن عدم المناقضة بين الحكم الواقعي وبين الحكم الظاهري وإلّا لما اذن الشارع المقدّس في ارتكاب بعضها ، وهذا المناط بعينه موجود في ترخيص جميع الأطراف بلا تفاوت أصلا.

ولم يقل أحد من المجتهدين والاصوليين قدس‌سرهم بجواز ارتكاب جميع أطراف العلم الاجمالي فكذا لا يجوز الاذن بارتكاب بعض الأطراف للزوم المخالفة

١١٧

الاحتمالية والمناقضة الاحتمالية.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى الفرق بين الاذن في ارتكاب بعض الأطراف وبين الاذن في ارتكاب جميع الأطراف ، إذ يحتمل ان يجعل الشارع المقدّس الباقي بدلا عن الحرام الواقعي المعلوم إجمالا ، كما قال به المحقّق القمّي قدس‌سره ، لكن بشرط أن يكون الباقي مساويا للحرام الواقعي في المقدار والقدر ، أو يكون أكثر مقدارا منه ولا يكون أنقص منه بحسب المقدار كما إذا كان الحرام واحدا كان الباقي واحدا كما في الشبهة المحصورة وتلك كالاناءين المشتبهين ، كما مرّا.

أو كان الحرام اثنين كان الباقي اثنين وهكذا ، أو كان الباقي أكثر مقدارا من الحرام كما في الشبهة غير المحصورة ، فالواقع لو ترك لكان مع البدل في صورة الاذن والترخيص في بعض الأطراف.

امّا بخلاف الاذن والترخيص في جميع الأطراف فان ترك الواقع يكون بلا بدل ، وعليه فالأوّل جائز ، والثاني ممنوع جدّا.

قوله : ولا يخفى ان المناسب للمقام هو البحث عن ذلك ...

مثلا إذا علمت إجمالا ان الصلاة الواجبة في يوم الجمعة امّا صلاة الجمعة وامّا صلاة الظهر فلا يجوز لك ترك كلتيهما لكون العلم الاجمالي علّة تامّة بالإضافة إلى الحرمة المخالفة القطعية ، ولا يجب عليك اتيانهما معا لكون العلم الإجمالي بالاضافة الى الموافقة القطعية مقتضيا للتنجّز إذا لم يكن المانع العقلي ، أو الشرعي بموجود ، بل لك الخيار في اختيار أيّتهما شئت ، نعم يكون الاحتياط حسنا عقلا وهو يتحقّق باتيانهما معا.

وبعد هذه المقدّمة الوجيزة ، فيقال : ان المناسب هو البحث عن كل ما يكون من لوازم القطع وأحكامه في مبحث القطع ؛ والمناسب هو البحث عن كل ما يكون

١١٨

من أحكام الشك ولوازمه في مبحث البراءة إذا كان الشك في التكليف وفي مبحث الاشتغال إذا كان الشك في المكلف به بعد الفراغ عن ثبوت أصل التكليف.

وعليه : فالمناسب هنا هو البحث عن كون العلم الاجمالي بالتكليف الواقعي والحكم الواقعي مقتضيا لتنجّزه ، أو علّة تامّة له كالعلم التفصيلي ، فإذا قلنا بكونه علّة تامّة للتنجّز بالنسبة إلى كل واحد من وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية فلا يبقى حينئذ مجال للبحث عن العلم الإجمالي في مبحث البراءة والاشتغال من حيث الموافقة القطعية لعدم امكان التعبّد من قبل الشارع المقدّس بشيء من الاصول العملية مع كون العلم الاجمالي علّة تامّة للتنجّز لكونه حينئذ كالعلم التفصيلي بالتكليف الواقعي.

وامّا إذا قلنا بكونه مقتضيا له مطلقا أي بالنسبة إلى كلّ واحد من وجوب الموافقة القطعية ، وحرمة المخالفة القطعية فيبحث عنه في مبحث الاشتغال من وجود المانع العقلي ، أو الشرعي ، وهو العسر والحرج بالاجتناب عن جميع الأطراف ، كما لا يخفى.

ومن عدمه عقلا ، أو شرعا ، خلافا للشيخ الأنصاري قدس‌سره حيث جعل البحث عن اقتضاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية من مباحث البراءة والاشتغال التي يبحث فيها عن الشك في أصل التكليف ، أو المكلّف به ، وخصّ البحث عن عليّة العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية بكونه من مباحث العلم والقطع للعلم بعليته بالإضافة إليها وحاصل إيراد المصنّف قدس‌سره عليه أي على الشيخ الأعظم قدس‌سره ان مباحث العلم عبارة عن المباحث التي يكون الموضوع فيها العلم ، وهذا مسلّم في المقام ، لأن الموضوع هو العلم الاجمالي.

ومن المعلوم ان المقامات الثلاثة التي هي عبارة عن مقام الموافقة القطعية ، وعن مقام المخالفة القطعية ، وعن مقام الموافقة الاحتمالية ، انّما يبحث فيها عن العلم

١١٩

الموجود فيها ، وهو العلم الاجمالي ، فالعلم الاجمالي اما مقتض بالنسبة إليها وامّا علّة تامّة بالإضافة إلى جميعها فلا وجه للتفكيك بين الموافقة القطعية وبين المخالفة القطعية بالإضافة الى العلم الاجمالي.

وقيل : انه مقتض بالاضافة الى الاولى وعلّة تامّة بالنسبة إلى الثانية ، كما قال به الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

فالنتيجة : ان العلم الاجمالي موجود في جميع المقامات المذكورة ، وعليه لا وجه للفرق بين البحث عن اقتضاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، والبحث عن عليته لحرمة المخالفة القطعية كي يقال ان الأوّل من مباحث الشك ، والثاني من مباحث العلم والقطع كما فعله الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، بل كلاهما من مباحث العلم والقطع فلا فرق بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية أصلا ، إذ العلم الاجمالي يكون مقتضيا بالنسبة الى كليهما ، امّا بخلاف العلم التفصيلي فإنّه علّة تامّة بالإضافة إلى الموافقة القطعية والمخالفة القطعية أي هو مقتض للتنجّز ، وهذا علّة تامّة له. وهذا مختار المصنّف قدس‌سره.

قوله : كما ان المناسب في باب البراءة والاشتغال ...

والشيخ الأنصاري قدس‌سره بحث في قاعدة الاشتغال عن علية العلم الاجمالي لكل من حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وهما معا من مباحث العلم كما عرفت آنفا وما هو من مباحث الشك هو خصوص البحث عن ثبوت الترخيص الشرعي ، أو العقلي في أحد الأطراف ، أو جميعها ولكن بعد البناء على كون العلم الاجمالي مقتضيا لوجوب الموافقة القطعية ولحرمة المخالفة القطعية معا وليس بعلّة تامّة بالإضافة إلى حرمة المخالفة القطعية ومقتضيا بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، كما قال بهذا الأمر شيخنا العلامة الانصاري قدس‌سره.

وهذا إشكال الثاني على الشيخ الأنصاري قدس‌سره امّا الاشكال الأوّل فقد سبق هذا

١٢٠