البداية في توضيح الكفاية - ج ١

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ نهضت
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-0-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٤٤٨

في شيء واحد ـ كما سيأتي بحثه في مبحث النواهي ان شاء الله تعالى ، فيمكن التوصل الى الواجب بالمقدمة المحرمة فيجوز اتيان الصلاة بالوضوء المحرم للتزاحم بين وجوب الوضوء وبين حرمة التصرف في مال الغير بدون اذنه ، فيرجع حينئذ الى اقوى الملاكين كما هو القاعدة في بابه.

ولا ريب ان ملاك الوضوء اقوى من ملاك حرمة الغصب ، لانه برفع اليد عن وجوب الوضوء يترك الواجب الاهم وهو الصلاة مع الطهارة المائية ، ولا يرفع اليد عن وجوبه. وبرفع اليد عن حرمة التصرف في مال الغير بدون اذنه وهو التصرف في مقدار مائه تسقط حرمة الغصب ويبقى الوضوء على وجوبه ، ولذا يمكن التوضؤ به الى فعل الصلاة.

فبالنتيجة : ليس هذا الوضوء حراما وباطلا ، فهو كالوضوء بالماء المباح بلا فرق بينهما.

واما على القول بامتناع الاجتماع ـ اي اجتماع الوجوب والحرمة في الشيء الواحد ذي الجهة الواحدة ـ فهو حرام محض وان قلنا بوجوب المقدمة ، اذ الحرمة مانعة عن تعلق الوجوب الغيري بالوضوء المحرم ، ولذا لا يمكن التوصل ولا يتمشى من المكلف قصد القربة بالمحرم ، بل هو بعيد عن ساحة قدسه جلّ وعلا ، اذ المحرم مبغوض لدى المولى الحكيم ، وكل مبغوض لا يكون مقرّبا للعباد اليه ـ اي الى ساحة قدسه ـ فهذا لا يكون مقرّبا.

٤٢١

تأسيس الاصل

قوله : في تأسيس الاصل في المسألة اعلم انه لا اصل في محل البحث في المسألة ... الخ والنكتة ، في انه لا اصل في محل البحث الذي هو مسألة مقدمة الواجب المطلق لا اصل البراءة ولا الاستصحاب ، هي ان الغرض المهمّ المبحوث عنه بيان الملازمة العقلية بين وجوب الشيء شرعا ووجوب مقدمته كذلك.

ذهب اكثر الاصوليين الى ثبوت الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة شرعا ووجوب مقدماته شرعا ، مثلا : اذا اوجب الشارع المقدس الصلاة على المكلف فالعقل يحكم بوجوب مقدماته كذلك من الطهارة والاستقبال وامثالهما ، اذ العقل يرى الملازمة بين وجوب الواجب وبين وجوب مقدماته وملازمه فالاكثر يثبت اللزوم بين الوجوبين في الازل ، وليست للملازمة حالة سابقة متيقنة وحالة لاحقة مشكوكة حتى تستصحب عند الشك في بقائها ، بل لها حالة واحدة متيقنة من الازل.

وذهب بعض الاصوليين الى عدم الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة وبين وجوب مقدمته في الازل ، فليست للملازمة ـ اي لعدم الملازمة ـ حالتان السابقة المتيقنة واللاحقة المشكوكة ، بل له حالة سابقة فقط ، فلا تتم اركان الاستصحاب لا من طرف الوجود ـ اي وجود الملازمة العقلية ـ لان القائل بها يثبتها من الازل ، ولا من جانب عدم الملازمة المذكورة ، لان القائل بعدمها ينفيها من الازل.

فاذن لا محل للاستصحاب لا وجودا ولا عدما اي استصحاب بقاء الملازمة عند الشك في بقائها ، واستصحاب عدم الملازمة عند الشك في بقائه حتى اذا عجزنا عن اقامة الدليل الاجتهادي على ثبوتها وعلى عدمها فقد اعتمدنا عليه وأخذنا به وعملنا به ، وكذا لا مورد لاصل البراءة بكلا قسميها العقلية والشرعية ، اما الاولى فلانها

٤٢٢

واردة لنفى المؤاخذة والعقاب لقبح العقاب بلا بيان ، لكن لا عقاب على ترك المقدمة.

وان قلنا بالملازمة العقلية بين الوجوبين وان قلنا بوجوب المقدمة شرعا فالعقاب انما هو على ترك الواجب النفسي فقط ، فلا موضوع للبراءة العقلية عند الشك في الملازمة وعدمها.

واما الشرعية فلاجل انها وردت في الشريعة المقدسة مورد الامتنان ، فيختص موردها في محل اذا كانت فيه كلفة ومشقة على المكلف ليكون في رفع الكلفة بالبراءة الشرعية امتنان.

والحال ان المفروض انه لا كلفة في الملازمات العقلية التي يثبت بها وجوب المقدمة شرعا من حيث انه لا عقاب على تركها فلا اثر للبراءة الشرعية في هذا المقام ايضا.

نعم لو كان الغرض المهم نفس وجوب المقدمة لكان له حالة سابقة ، لان وجوبها يكون مسبوقا بالعدم ، ويحدث بحدوث وجوب ذي المقدمة ، مثلا : ان الشارع المقدّس لم يوجب الصلاة على زيد في زمن صباه فلم تجب مقدماتها ، فاذا أوجبها عليه وشككنا في وجوب مقدماتها حين وجوب الصلاة فالاصل عدم وجوبها ، لكون الشك في التكليف ، وهو مجري البراءة الشرعية ، ولكن هذا البحث خارج عن البحث الاصولي لكونه مسألة فرعية فقهية.

قوله : وتوهم عدم جريانه لكون وجوبها ... الخ والتوضيح يحتاج الى بيان اقسام اللازم وهي ثلاثة :

الاول : لازم الماهية وهو لا ينفك عن الماهية مع قطع النظر عن وجودها الذهني وعن وجودها الخارجي ، حيث ان ذاك اللازم ثابت لها سواء وجدت في الذهن أم وجدت في الخارج ، مثل الزوجية للاربعة والفردية للثلاثة مثلا ، وهو غير مسبوق بالعدم وغير مجعول لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة وهو الوجود النفسي الذي هو وجود الشيء في نفسه ، ويقال له الوجود المحمولي ، مثل قولنا (كان زيد) اي وجد زيد ، فلا يصح ان يقال انه اذا وجدت الاربعة فالزوج

٤٢٣

موجود ، ولا يحتاج الزوج الى الجعل البسيط ـ اي جعل الوجود له بعد وجود الاربعة ـ ولا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة الذي هو وجود الشيء لا في نفسه ، وذلك نحو (زيد قائم) اي (كان زيد قائما) فوجود القيام ليس لاجل وجود نفس زيد بل لاجل قيامه في الخارج.

فلا يصح ان يقال ايضا اذا وجدت الاربعة جعلت الزوجية لها ، لانها قائمة بذاتها ومنتزعة عن نفسها وقائمة بشيئيتها ولا تقبل الجعل لا بسيطا ولا تأليفيا.

فلازم الماهية هو امر انتزاعي اعتباري ، منشأ انتزاعه واعتباره نفس الماهية مع قطع النظر عن وجودها هنا أو خارجا كالزوجية للاربعة ، فالمجعول في الحقيقة هو منشأ الاعتبار دون الامر الاعتباري وان نسب اليه الجعل بالعرض ، ولذا تكون الاربعة منقسمة بمتساويين ولا حاجة الى تشكيل الصغرى والكبرى ونقول انها زوج وكل زوج منقسم بمتساويين.

والثاني : لازم الوجود الخارجي كالاحراق للنار ، فان النار اذا تحققت في الخارج تكون محرقة لا ما اذا تصورناها في الذهن وإلّا لحرقت امعائي وقلبي وكبدي عند تصوري ايّاها ، فاذا وجدت النار في الخارج كان الإحراق لازما لها.

والثالث : لازم الوجود الذهني كالكلية للانسان ، فانا اذا تصورنا الانسان بانه حيوان ناطق فهو قابل الانطباق على كثيرين متفقين بالحقايق في جواب (ما هو) فالانسان كلي في عالم الذهن فقط وجزئي في عالم الخارج ، اذ ليس الموجود فيه الا افراده.

اذا تمهدت هذه فقد علم ان وجوب المقدمة يكون من قبيل لوازم الماهية ، يعني وجوب المقدمة يكون لازم ماهية وجوب ذي المقدمة ، فهو مجعول بجعل الوجوب لذي المقدمة وليس مجعولا بجعل على حدة.

فاذا كان وجوب ذي المقدمة مفروضا ثابتا مثل وجوب الصلاة والحج فلا معنى لاصالة عدم وجوب

المقدمة لانه عند وجوب ذي المقدمة لا بد من وجوب المقدمة للملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة وبين وجوب المقدمة على القول بها.

٤٢٤

فاللابديّة العقلية حاكمة على الاصل والاستصحاب ، اي على اصالة عدم وجوبها وعلى استصحاب عدم وجوبها بل لا مورد للأصل والاستصحاب في المقام بعد فرض وجوب ذي المقدمة وبعد اللابدية العقلية بين وجوب ذيها وبين وجوب المقدمة.

هذا اذ لا ريب في لابدية فعل المقدمة في نظر العقل فرارا عن معصية الوجوب النفسي هذا اولا.

وثانيا : لا يترتب على استصحاب عدم وجوب المقدمة جواز ترك المقدمة عقلا والأمن من العقاب عليه ، كما ذكر وجهه وهو اللابدية العقلية من فعل المقدمة اذا وجب ذو المقدمة.

وثالثا : ان البحث عن وجوب المقدمة او عدم وجوبها لا يناسب في المقام لانه فقهي لا اصولي وهذا يناسب في علم الفقه الشريف.

ورابعا : ان وجوب المقدمة الذي هو لازم ماهية وجوب ذيها غير مجعول شرعا وليس اثرا مجعولا يترتب عليه ، اي لا يكون وجوب المقدمة موضوعا للحكم الشرعي.

والحال انه يشترط في جريان الاصل والاستصحاب ان يكون المستصحب إما حكما شرعيا مجعولا كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة ، او موضوعا يترتب عليه حكم شرعي كاستصحاب الخمرية المترتبة عليها الحرمة.

اما وجوب المقدمة فليس حكما شرعيا مجعولا ، اذ هو لازم ماهية وجوب ذي المقدمة ، وكل لازم الماهية ليس بقابل للجعل لا بسيطا ولا تأليفيا كما ذكر.

وليس موضوعا للحكم الشرعي المجعول لانه لا يحمل عليه وجوب وواجب ، اذ يلزم الاتحاد بين المحمول عليه والمحمول في الحمل الشائع الصناعي مفهوما ومصداقا ولا غير الوجوب عليه لانه يلزم حينئذ حمل احد المتباينين على المباين الآخر من حيث المفهوم والمصداق.

فبالنتيجة : لا يجري الاستصحاب في هذا المقام لفقدان شرط جريانه وهو

٤٢٥

كون مجراه حكما شرعيا او موضوعا ذا اثر شرعي.

فظهر مما ذكر ان اصالة عدم وجوب المقدمة عبارة اخرى لاستصحاب عدم وجوبها كما لا يخفى على اهل الفن.

فتلخّص مما ذكر ان لوازم الوجود الذهني كالعناوين الكلية العارضة في عالم الذهن على الماهيات الثابتة في عالم السرمد ، وان لوازم الوجود الخارجي الملزوم كالحرارة العارضة في عالم الخارج على النار وكالبرودة العارضة على الثلج وكالرطوبة على الماء مسبوقة بالعدم وتوجد بوجود الملزوم ذهنا او خارجا ، بخلاف لوازم الماهية فانها ثابتة مع عدم الملزومات ومع وجودها بل مع امتناعها.

وان اللزوم في لوازم الماهية يكون بمعنى التبعية حيث ان جعل الماهية في عالم السرمد يكفي في انتزاع اللوازم عن الماهيات وفي اعتبارها فلا حاجة الى الجعل على حدة.

فالجعل الواحد ينسب الى الماهية اولا وبالذات ، والى لوازمها ثانيا وبالعرض ، ولذا لا وجود ولا جعل لها غير وجود الماهية وغير جعل الماهية الملزومة.

واما اللزوم في لوازم الوجود الذهني والوجود الخارجي فيكون بمعنى الاقتضاء وقابل للجعل التأليفي ، وهو اتصاف الشيء بوصف ، كاتصاف (زيد) بوصف القيام بعد وجوده كما ان الجعل البسيط ايجاد الشيء في الخارج.

قوله : مدفوع بانه وان كان غير مجعول ... الخ واجاب المصنف عن هذا بان وجوب المقدمة على القول بالملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب مقدماته عقلا وان كان من لوازم ماهية وجوب ذي المقدمة ولازم الماهية غير مجعول لا بالجعل البسيط ، الذي هو اعطاء الوجود لشيء ولذا يعبر عنه بمفاد (كان) التامة.

ولا بالجعل التأليفي والتركيبي الذي هو جعل الشيء متصفا بصفة مثل جعل الثوب أحمر ، ولذا يعبّر عنه بمفاد (كان) الناقصة.

وثبت في محله ان الجعل لا يتعلق بلوازم ماهية الشيء وإلّا يلزم ان يكون لازم الشيء غير لازمه وهو خلف الفرض ، ولكن لا ريب ان لازم ماهية الشيء

٤٢٦

مجعول بتبع الشيء الملزوم. وهذا المقدار من الجعل يكفي في جريان الاستصحاب.

وبعبارة اخرى : ان وجوب المقدمة ، وان لم يكن مجعولا للشارع المقدس بالاصالة ومستقلا وعلى حدة ، ولكنه مجعول له بتبع جعل الوجوب لذي المقدمة. ومجعولية التبعية كافية في اجراء استصحاب عدم وجوب المقدمة حين الشك في وجوبها.

قوله : ولزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشك لا محالة لاصالة عدم وجوب ... الخ هذا يكون لدفع التوهم وهو انه يلزم التفكيك بين الملزوم واللازم من حيث الوجوب لو أجري استصحاب عدم وجوب المقدمة اذ وجوب ذي المقدمة ـ كوجوب الحج ـ ثابت بالفرض ، ومقدمية ركوب الدابة او ركوب السيارة او ركوب الطيارة مسلّمة.

والحال ان الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة وبين وجوب مقدماته وملازماته ثابتة بالفرض ، فاستصحاب عدم وجوبها حينئذ مستلزم للتفكيك بين وجوب الملزوم وبين وجوب اللازم وهو فاسد.

فاشار المصنف الى دفعه وقال ان لزوم التفكيك بين الوجوبين ولزوم رفع الملازمة بينهما من اجل اجراء استصحاب عدم وجوب المقدمة لا ينافيان الملازمة بين الوجوبين واقعا وثبوتا.

فبالاستصحاب المذكور ترتفع الملازمة الظاهرية بين الحكمين الفعليين ، اي لا تبقى مع الاستصحاب ملازمة بين وجوب ذي المقدمة فعلا وبين وجوب مقدمته كذلك ، ولا ترتفع به الملازمة الواقعية بين الحكمين الواقعيين ، يعني اذا كان ذو المقدمة واجبا واقعا كان وجوبه ملازما لوجوب المقدمة واقعا.

ولكن في الظاهر ، بحكم الاستصحاب ، يحكم بعدم وجوبها ظاهرا فالاستصحاب لا ينافي الملازمة بين الوجوبين ثبوتا ، فالمقدمة لم تكن واجبة ظاهرا بحكم الاصل والاستصحاب للشك في الملازمة اثباتا.

فالمقام يكون نظير استصحاب حياة زيد واستصحاب عدم نبات لحيته ، والحال انه يكون من لازم حياته نبات لحيته ، لا سيما اذا كانت غيبته مدة طويلة.

٤٢٧

ولكننا نستصحب بقاء حياة زيد عند الشك في حياته ومماته ونستصحب عدم نبات لحيته في صورة الشك في نباتها وعدمه ، فهنا يلزم التفكيك بين الملزوم وهو حياة زيد وبين اللازم وهو نبات لحيته ظاهرا بحكم الاستصحابين المذكورين.

والحال ان هذا التفكيك لا يقدح في هذا المورد ، فكذا فيما نحن فيه ، نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة سواء كانت واقعية أم كانت ظاهرية.

وبتقرير آخر وهو ان الدعوى هي الملازمة بين وجوب ذي المقدمة وبين وجوب مقدماته ثبوتا وإثباتا فلا يجوز التمسك بالاصل والاستصحاب المذكور كما لا يخفى. والحال ان الملازمة بين الوجوبين واقعية ثبوتية لا ظاهرية إثباتية.

في الملازمة العقلية :

قوله : اذا عرفت ما ذكرنا فقد تصدى غير واحد من الافاضل لاقامة البرهان ... الخ فقد استدل على الملازمة العقلية بين وجوب الشيء شرعا وبين وجوب مقدمته كذلك بادلة ثلاثة لا تخلو من الخلل والإشكال كما سيأتي ، ولذا كان الاولى احالة ذلك الى الوجدان حيث انه اقوى شاهد على ان الانسان اذا اراد اتيان شيء واذا طلبه فلا بد له ان يريد جميع مقدماته وملازماته التي يتوقف عليها وجود الواجب في الخارج اذا التفت الانسان الى المقدمات الوجودية للواجب ، بل قد يأمر بها مثل امر نفس الواجب امرا نفسيا غيريا ، كما اذا قال المولى لعبده (ادخل السوق واشتر اللحم او الخبز) فالمولى كما يأمر باشتراء اللحم امرا مولويا نفسيا ، يأمر بدخول السوق امرا مولويا غيريا مع الالتفات الى مقدمية دخول السوق لاشتراء اللحم او الخبز مثلا.

فارادة الشيء ملازمة لارادة مقدماته بحكم الوجدان. واما اذا اراد الانسان شيئا وله مقدمات ولكن لم يلتفت اليها فبحكم الوجدان تتعلق ارادة المولى بها إجمالا ، فلا تفكيك بين ارادة ذي المقدمة وبين ارادة مقدماته ، إما تفصيلا اذا التفت اليها ، وإما اجمالا اذا لم يلتفت الى المقدمات.

٤٢٨

ويؤيد الوجدان وجود الاوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات. اما الاولى فنحو قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ، ونحو قوله عليه‌السلام : «اغسل ثوبك من ابوال ما لا يؤكل لحمه» ونحوه. واما الثانية كالمثال السابق فوجودها يكون اقوى شاهد على ان وجوب الشيء ملازم مع وجوب مقدماته.

بيان ذلك ان الامر الغيري لا يتعلق بشيء إلّا ان يكون فيه مناط الامر الغيري ، وهو عنوان مقدمية المأمور به بالامر الغيري المقدمي ، فكل شيء يؤمر به امرا غيريا لا محالة ان يكون لاجل عنوان مقدميته. ومن هنا علم ان كل شيء يكون مقدمة يكون مأمورا بالأمر الغيري لوجود ملاكه فيه. فنعلم من وجود الاوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات ان كل مقدمة ـ سواء كانت مثل الوضوء والغسل ودخول السوق أم كانت غيرها ـ واجب بالوجوب الغيري المقدمي الترشحي لوجود المناط فيه وهو عنوان مقدمية كل مقدمة ، فلا يختص الوجوب الغيري بمقدمة دون مقدمة.

وبتقرير اوضح : وهو انه لا بد من ان يكون لهذه الاوامر الغيرية التي وردت في الشرعيات والعرفيات ملاك لان أوامر المولى تابعة للملاكات والمصالح الواقعية ، فالملاك لا يخلو اما يكون ملاك الواجب النفسي واما يكون عنوان المقدمية ، فعلى الاول يلزم ان تكون تلك الاوامر أوامر نفسية وهو خلاف الفرض ، اذ الفرض كونها غيرية. فاذن يتعيّن الثاني وهو كون ملاك الامر عنوان المقدمية ولا ريب ان هذا متحقق في كل مقدمة.

هذا ، مضافا الى انه لا خصوصية للموارد التي وردت فيها الاوامر الغيرية فحينئذ يتعدّى منها الى غيرها فيتعيّن القول بوجوب مطلق المقدمة.

غاية الامر ان المولى اذا التفت الى ما يتوقف عليه مطلوبه حين الامر فقد ترشحت من ارادته ذا المقدمة ارادة اخرى الى المقدمة ، فيأمر بها امرا مولويا على حدة مستقلا كالامر بدخول السوق بعد ارادته اشتراء اللحم منه ، واذا لم يلتفت الى ما يتوقف عليه المطلوب لم يأمر امرا مولويا غيريا مستقلا ولكن يأمر به مولويا

٤٢٩

اجمالا تبعا.

فالتفصيل الآتي بين السبب وغيره وبين الشرط الشرعي وغيره باطل ، وسيأتي ان شاء الله تعالى عن قريب انه لا تفاوت في باب الملازمة العقلية بين مقدمة وأخرى بل التفاوت يكون فيما بين وجوب ذي المقدمة وبين وجوب جميع المقدمة.

فتلخّص مما ذكر : ان الاقوى عند المصنف قدس‌سره وجوب جميع المقدمة. وانه احتجّ عليه بوجهين :

الاول : ان الوجدان حاكم بالملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدماته وملازماته.

والثاني : ان وجود الاوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات يدل على وجوب المقدمات كلها.

الاستدلال على وجوب المقدمة :

قوله : ولا بأس بذكر الاستدلال الذي هو كالاصل لغيره ... الخ والاصل ثبوت الملازمة العقلية بين وجوب الشيء ووجوب مقدماته والفرع هو الاستدلال بالوجوه الآتية وبالوجهين السابقين. فمتى لم تثبت الملازمة العقلية بين الوجوبين لم ينفع الاستدلال على وجوب المقدمة ، فلذا من انكرها فهو في راحة عن الاستدلال على وجوبها. ولكن الاصل والفرع يكونان في الأشياء الواقعية الخارجية ، والملازمة والوجوب امران اعتباريان ، اذ الاول باعتبار العقل والثاني باعتبار الشرع.

فلذا قال المصنف كالاصل اي مثل الاصل ، تنزيلا وتشبيها ، لان كل فرع يبتني على الاصل ، وجودا وعدما ، فكذا الاستدلال متفرع على الملازمة العقلية وجودا وعدما.

٤٣٠

استدلال ابي الحسن البصري :

وكيف كان فقد استدل ابو الحسن البصرى على وجوب المقدمة شرعا بانه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها ، وحينئذ فان بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق ، وإلّا خرج الواجب المطلق عن وجوبه.

وبعبارة اخرى : ان المولى اذا اوجب شيئا فلا بد له من ايجاب جميع مقدمات ذلك الشيء ، وان لم يوجب تلك المقدمات جاز تركها. وجواز الترك يستلزم احد محذورين :

اما ان يبقى وجوب ذي المقدمة بحاله ، وهو محال ، لانه تكليف بما لا يطاق.

واما ان لا يبقى وجوبه بحاله بل يصير مشروطا بحصول مقدمته ، فيلزم عندئذ انقلاب الواجب المطلق الى الواجب المشروط ، وهو خلاف الفرض.

البرهان على وجوب المقدمة :

قوله : وفيه بعد اصلاحه بارادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية الاولى لا الاباحة الشرعية ... الخ ولا ريب ان القضية الشرطية المتصلة دائما تثبت الملازمة وجودا وعدما بين المقدم والتالي على تقدير حصول الشرط في الخارج ، وعلى فرض عدم حصول فيه نحو قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) والخطاب متوجه الى النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالملازمة واضحة بين المقدم الذي هو شرك على فرض حصوله منه وبين التالي الذي هو حبط العمل ، وجودا يعني لو فرض الشرك منك ليحبطنّ عملك ، وعدما يعني لم يكن منك شرك قطعا فلم يكن حبط عملك يقينا.

فالمستدلّ لمّا رتّب دليله من قضيتين شرطيتين أولاهما انه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها. فالملازمة بين المقدم والتالي ثابتة اذا اريد من التالي ، يعني قوله : لجاز تركها انه لم يكن منع شرعي عن تركها ، اي يجوز ترك المقدمة شرعا على فرض عدم وجوبها شرعا ، لا ان يراد من التالي الاباحة الشرعية ، لان رفع الوجوب

٤٣١

المولوي الغيري عن المقدمة لا يستلزم خصوص الاباحة الشرعية ، بل يتردد بين الاحكام الاربعة الباقية بناء على عدم خلو الواقعة عن حكم شرعي ، سواء كان تكليفيا أم كان وضعيا.

وحينئذ لا ملازمة بين المقدم والتالي. فاذا جاز تركها شرعا ، على فرض عدم وجوبها شرعا ، رجع الى حكم العقل ، وهو لزوم الإتيان بها بعد ثبوت وجوب ذيها وجوبا مولويا نفسيا ، وليس المراد من التالي في القضية الاولى انه يباح تركها شرعا ، وإلّا كانت الملازمة بين المقدم والتالي واضحة البطلان كما مر آنفا. هذا اصلاح الاول في الاولى.

واما اصلاح الثاني : ان يراد الترك عما اضيف اليه الظرف الذي هو عبارة عن كلمة (حينئذ) مضاف الى امر مقدر ناب عنه التنوين وعوض عنه ، ولا يراد منه جواز الترك ، فيصير التقدير (حينئذ تركها) ولا يكون التقدير (حينئذ جاز تركها) وان كان بحسب ظاهر العبارة (حينئذ جاز تركها) ولكن الاخذ بهذا الظاهر يوجب كذب الشرطية الثانية ، لان بقاء الواجب على وجوبه ـ على تقدير جواز ترك المقدمة ـ لا يوجب التكليف بما لا يطاق ، بل يلزم على تقدير الترك للمقدمة رأسا لانه للمكلف ان يفعل المقدمة ويتمكّن من الإتيان بذي المقدمة ، فلا بد ان يراد من المضاف اليه الظرف ترك المقدمة بما هو ترك كي تصدق القضية الشرطية الثانية ، وكي يترتب التالي على المقدم.

قوله : ما لا يخفى هذا مبتدأ مؤخر لقوله وفيه لان كل شيء يجوز تركه شرعا لا يجب تركه شرعا ، كالمباحات نحو المشي في السوق والنوم ونحوهما وحينئذ جاز ترك المقدمة شرعا ، فلو تركها لا يلزم احد المحذورين إما خلاف الفرض ، ان لم يبق وجوب ذي المقدمة بحاله ، وإما تكليف بغير المقدور ، وتكليف بما لا يطاق ان بقي وجوب ذي المقدمة بحاله ، اي لا يلزم صدق احدى الشرطيتين ، لان هذه المقدمة ـ وان لم تكن واجبة شرعا ـ يحكم العقل بوجوبها ارشادا من حيث إن تركها يوجب ترك ذي المقدمة الذي يكون واجبا فعليا على الفرض ، بل يكون

٤٣٢

واجبا منجّزا ، وحينئذ لو ترك المكلف المقدمة لكانت معصية وسقط التكليف بذي المقدمة بالعصيان ، والحال انه قد اشتهر ان التكليف يسقط بالمعصية كما يسقط بالطاعة ، لان المكلف متمكن من الاطاعة ومن الإتيان بالواجب للإتيان بمقدمته. ولكن لما ترك المقدمة بالاختيار ، فقد ترك ذا المقدمة بسوء اختياره.

فالمكلف مستحق للذم في الدنيا وللعقاب في العقبى ، اذ العقل يحكم بلزوم اتيان المقدمة من باب الارشاد الى ان تركها عصيان لأن تركها علّة لترك الواجب الفعلي المستتبع للعقاب ، فالمعلول حرام ، فلا بد ان تكون العلّة محرمة.

فقول المستدل (ان المقدمة لو لم تجب شرعا لجاز تركها) مسلّم مقبول. واما قوله : (فلو تركها لزم اما الخلف واما التكليف بما لا يطاق) فهو غير مسلّم ، اذ بمجرد ترك المقدمة يسقط امر ذي المقدمة عصيانا ، لان المقدمة مقدورة للمكلف ، والحال ان العقل حاكم ارشادا الى دفع العصيان والعقاب بوجوب المقدمة ، فاذن لا محالة يتحقق العصيان الذي يسقط به امر ذي المقدمة.

قوله : نعم لو كان المراد من الجواز جواز الترك شرعا وعقلا ... الخ نعم لو كان المراد من جواز الترك من التالي في القضية الاولى جواز ترك المقدمة شرعا وعقلا للزم حينئذ تكليف بما لا يطاق ان بقي وجوب ذي المقدمة بحاله ، لعدم قدرة المكلف على اتيانه في حال ترك مقدمته ، او انقلاب الواجب المطلق واجبا مشروطا بحصول مقدمته.

ولكن الجملة الاولى تصير كاذبة ، لعدم الملازمة بين المقدم الذي هو عدم وجوب المقدمة شرعا ، وبين التالي الذي هو جواز ترك المقدمة شرعا وعقلا ، بل تكون الملازمة بين عدم وجوب المقدمة شرعا وبين جواز تركها شرعا فقط.

والحال ان القضية الشرطية المتصلة دائما انما تكون لاثبات الملازمة وجودا بين المقدم والتالي على فرض تحقّق الشرط في الخارج ، وعدما بينهما على تقدير عدم تحقق الشرط فيه. خلاصة الكلام : يرد على المستدل احد إشكالين :

الاول : منع القضية الاولى وهي قضية لو لم تجب لجاز تركها ان كان المراد

٤٣٣

من جواز الترك في التالي جواز الترك شرعا وعقلا معا.

والثاني : ان ترتب التالي ، الذي هو لزوم الخلف او لزوم التكليف بما لا يطاق على المقدم في القضية الثانية ، ممنوع. اذ لا يلزم من جواز ترك المقدمة شرعا احد المحذورين المذكورين ، اي لا يكون المقدم علة للتالي لان المقدمة مقدورة للمكلف فيمكن ان يفعلها فيتمكن من اطاعة ذي المقدمة ويمكن ان يتركها فيترك الواجب وذا المقدمة بسوء الاختيار عصيانا ، فلا يلزم المحذور حينئذ أصلا لسقوط التكليف بذى المقدمة بالعصيان ، فلا يكون التكليف الفعلي بذى المقدمة موجودا.

والحال ان المقدمة مباحة شرعا وواجبة عقلا بالوجوب الارشادي. فاذا ترك المقدمة المباحة مما يوجب ترك ذي المقدمة الواجب الفعلي على الفرض استحق اللوم في الدنيا ، والعقاب في العقبى. ولكن يسقط امر ذي المقدمة للعصيان بترك ذي المقدمة ، فلا تكليف في البين كي يلزم احد المحذورين المذكورين. هذا اذا ترك المقدمة ، واما اذا فعلها فلا إشكال أصلا.

وبعبارة اخرى : انه اذا جاز ترك المقدمة شرعا فهذا لا يستلزم جواز تركها شرعا وعقلا ، لإمكان ان لا تكون المقدمة محكومة بحكم شرعا ، كما في المهم اذا أمر المولى بالاهم ، مثل ما اذا أمر بالازالة فان المهم كالصلاة لا حكم له أصلا ، إلّا انه لا يجوز اتصاف المهم بحكم يخالف حكم الاهم. فكذا في المتلازمين ، فان الامر باحدهما لا يستلزم الامر بالآخر.

فكذا ما نحن فيه. فذو المقدمة والمقدمة وان كانا متلازمين في الوجود كالصلاة الصحيحة والوضوء ولكن الامر بالصلاة لا يستلزم الامر بالوضوء كالمتلازمين ، كالنظر الى الاجنبية والمعاشرة معها فان الاول منهيّ عنه وحرام والثاني يكون غير منهي عنه.

فالاختلاف من حيث الحكم ثابت في المتلازمين ولو بحسب الاتفاق كما في النظر والمعاشرة ، فكذا الامر باحدهما لا يستلزم الامر بالآخر ، مثل ما اذا أمر المولى بالحركة ، فهذا لا يستلزم الامر بالانتقال الذي هو لازم الحركة. ولكن اذا أمر

٤٣٤

المولى بشيء له مقدمة كالصعود على السطح فالعقل يحكم ارشادا بوجوب نصب السلم للتوصل الى الصعود الواجب فرارا عن العصيان واللوم والعقاب فالوجوب العقلي لكل مقدمة واجب مسلّم لا ريب فيه ، وهذا واضح.

التفصيل بين السبب وغيره :

قوله : واما التفصيل بين السبب وغيره فقد استدل على وجوب السبب ... الخ فقد استدل المفصّل بين السبب وغيره بان التكليف لا يتعلق إلّا بالامر المقدور ، والمسبّب من حيث هو غير مقدور. فالمقدور هو السبب ، فلا بد من ان يرجع الامر بالمسبب ظاهرا مثل (ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) و (مثل تزوج وتطهر) ونحوها الى اسبابها ، اي (ان ظاهرت فأجر العقد) اي عقد العتق ، وعقد التزويج.

فالمقدمة السببية واجبة بالوجوب المولوي الغيري ، اذ التكليف لا يجوز ان يتعلق بالمسبب بنفسه ، لانه لا يكون من افعال المكلف وحركاته او سكناته ، بل هو من آثار أفعال المكلف ومن نتائجها المترتبة عليها قهرا كترتب العتق على اجراء عقده مثلا. واما غيرها ، من المقدمة الشرطية ومن المقدمة العادية ، فليس واجبا بالوجوب المولوي الغيري. اذ المشروط كالصلاة ـ اي فعلها ـ مقدور. فاذن لا داعي ولا موجب لارجاع الامر الى الشرط كالوضوء ، هذا مثال المشروط الشرعي والشرط الشرعي.

واما مثال المقدمة العادية العرفية وذي المقدمة العرفية كنصب السلم بالاضافة بالكون على السطح ، وهو مقدور للمكلف ، فلا موجب لارجاع الامر الذي يتعلق بالكون على السطح الى نصب السلم ، فطبيعة الامر ليس غيرها واجبا مولويا غيريا كما لا يخفى.

قوله : ولا يخفى ما فيه ... الخ قال المصنف قدس‌سره ان هذا الاستدلال ليس دليلا على التفصيل بين السبب وغيره ، بل هو دليل على ان الامر النفسي المولوي انما يكون متعلقا بالسبب دون المسبب ، اذ الاول مقدور والثاني غير مقدور. فبين الدليل

٤٣٥

والمدعى ، وهو وجوب مقدمة السببية وجوبا غيريا ، بون بعيد. هذا اولا.

وثانيا : على فرض تسليمه من حيث الدلالة على مدعى المفصل ان هذا الاستدلال فاسد لانه نسلم ان يكون متعلق التكليف مقدورا سواء كان مقدورا بلا واسطة كالامر بالافعال المباشرية كالصلاة والصوم والجهاد ونحوها أم كان مقدورا مع الواسطة كالامر بالافعال التسبيبية.

ومن الواضح ان المقدور بالواسطة مقدور ، ولذا يصح امر المولى بالإحراق والإغراق والإعدام لان هذه الأمور مقدورة بواسطة القاء الحطب او الخشب او الثوب في النار ، والقاء شخص في ماء البحر ، والقاء السم في فم الشخص ، والحال ان بناء العقلاء على اعتبار مطلق القدرة ، سواء كانت القدرة على فعل المأمور به بلا واسطة أم كانت مع الواسطة ، والشارع المقدس تبعهم في هذا البناء والسيرة المستمرة المتصلة. فالتكليف بالمسبب جائز لانه مقدور بواسطة السبب ، فلا حاجة الى ارجاع الامر المتعلق بالمسبب ظاهرا الى السبب ، كما لا يخفى.

التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره :

قوله : واما التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره ... الخ واستدل المفصل بين الشرط الشرعي وغيره من الشرط العقلي والشرط العادي بانه لو لم يكن الوجوب الغيري الشرعي للوضوء لم يكن شرطا ، لان المفروض ان الوضوء ليس بشرط عقلي وعادي. فمنشأ شرطية الوضوء هو وجوب غيري يتعلق به ، فعلم ان الشرط الشرعي واجب بالوجوب المولوي الغيري دون غيره.

توضيح : وهو ان الشرط على اقسام :

الاول : الشرط الشرعي كالطهارات الثلاث والستر ونحوهما للصلاة.

الثاني : الشرط العقلي كالسير الجوّي او البرّي للحج.

الثالث : الشرط العادي كنصب السلم مثلا للكون على السطح.

فالاول واجب دون الثاني والثالث ، لان منشأ شرطية الاول هو الوجوب

٤٣٦

الغيري ، كما سبق ، وهو يحتاج الى الوجوب الغيري. ومنشأ شرطية الثاني هو العقل لا الوجوب الغيري ، كما ان منشأ شرطية الثالث هو العادة البشرية ، فلا يحتاجان الى الوجوب الغيري. ولذا فهما ليسا واجبين بالوجوب المقدمي الترشحي.

جواب المصنف على الإشكال :

قوله : وفيه ، مضافا الى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي الى العقلي ، انه لا يكاد ... الخ فاجاب المصنف قدس‌سره عن هذا الاستدلال بوجهين :

الاول : ان الشرط الشرعي يرجع الى الشرط العقلي ، اذ للشرط ، سواء كان شرعيا كالوضوء أم كان عقليا كالسير للحج للشخص النائي عن مكة المكرمة زاد الله تعالى شرفها ، معنى واحد ومفهوم فارد ، وهو انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه وان لم يلزم من وجود الشرط وجود المشروط.

غاية الامر ان شرطية بعض الأشياء مجهولة عند العقل ولا يمكن ان يدركها ، ولذا يبين الشارع المقدس شرطية بعض الأشياء ، كشرائط الصلاة من الوضوء والستر والاستقبال ونحوها مثلا ، ولكن بعد بيان الشرطية يرجع الشرط الشرعي الى الشرط العقلي ، اذ بانعدام الشرط ينعدم المشروط كالشرط العقلي.

فالمدرك للشرطية اذا كان شارعا يسمى بالشرعي ، واذا كان عقلا يسمى بالعقلي. ولكن كل الشرط من حيث المفهوم واحد ، فاذا كان الشرط واجبا شرعا كان واجبا على الاطلاق. فلا وجه للتفكيك بين الشرط الشرعي وبين الشرط العقلي ، ونقول ان الاول واجب شرعا دون الثاني.

والثاني : ان استدلال المفصل مستلزم للدور. بيانه : ان الامر الغيري لا يتعلق إلّا بالمقدمة ، فيتوقف الامر الغيري على كون الشيء مقدمة وعلى كونه دخيلا في وجود ذي المقدمة فلو توقفت المقدمية والشرطية على الامر الغيري للزم الدور. فقول المستدل انه لو لا الوجوب الغيري لما كان مقدمة مع ضميمة ان الشيء لو لم يكن مقدمة لما أمر به مستلزم للدور بالوجدان والشرطية وان كانت مجعولة شرعا

٤٣٧

بالجعل التبعي.

ولكن منشأ جعلها وعلة جعلها ليس امرا غيريا ، بل امر نفسي وهو ما يتعلق بالصلاة مع الطهارة فيكون موجبا لشرطية الطهارة للصلاة. فالامر النفسي لا يتوقف على شرطية الوضوء للصلاة. فبالنتيجة : الشرطية تتوقف على الامر النفسي ، ولكن الامر النفسي لا يتوقف على الشرطية والمقدمية ، وعليه فلا دور في البين.

قوله : فافهم وهو اشارة الى ان الدور باق على حاله على هذا البيان ، لانه لا يتعلق الامر النفسي بالصلاة مع الوضوء متى لم يكن الوضوء دخيلا لها ، ومتى لم تكن الطهارة شرطا للصلاة ، بل يتعلق الامر النفسي بالصلاة بلا طهارة. والحال ان الغرض توقف شرطية الوضوء للصلاة على الامر النفسي ، فالشرطية تتوقف على الامر النفسي ، والامر النفسي يتوقف على الشرطية ، فيبقى الدور في الامر النفسي على حاله ، وسيأتي الجواب عن هذا الدور ، ان شاء الله تعالى في بحث جعل الاحكام الوضعية امرا غيريا أم كان نفسيا ، غاية الامر ان الدور يكون تارة مع الامر الغيري واخرى مع الامر النفسي ، والشرطية علة والامر الغيري معلول.

في مقدمة المستحب :

قوله : تتمة : ولكن الامر النفسي علة والشرطية معلول اي لا ريب ولا اشكال في ان مقدمة المستحب كالسفر الى البلاد لتحصيل العلم والتفقه في الدين تكون كمقدمة الواجب ، فتكون مستحبة اذا قلنا بالملازمة العقلية بين ارادة الشيء ومقدماته. غاية الامر انه في مقدمة الواجب يترشح الوجوب الغيري ، وفي مقدمة المستحب يترشح الاستحباب الغيري.

وبالجملة : بناء على استقلال العقل بالملازمة بين ارادة الشيء وارادة ما يتوقف عليه ذلك الشيء ، كما اذا اراد المولى من عبده كونه على السطح ، فالعقل قاض بالملازمة بين ارادته وارادة نصب السلم ، فلا فرق بين ارادة الشيء ايجابا وعلى نحو الوجوب ، وارادته استحبابا وعلى نحو الاستحباب والندب ، ففي كليهما

٤٣٨

تتعلق ارادة المولى بالمقدمة.

غاية الامر انه ان كانت ارادة المولى لذي المقدمة ايجابية فايجابية كما في الصلاة والوضوء ، وان كانت استحبابية فاستحبابية كما في تحصيل العلم والتفقه والهجرة الى النجف الأشرف ، لوحدة المناط وهو توقف ذيها عليها وعنوان المقدمية في كل من مقدمتى الواجب والمستحب والمندوب. وهذا المناط يقتضي الوجوب في مقدمة الواجب المطلق والاستحباب في مقدمة المستحب ، اذ لا فرق في نظر العقل بين كون ارادة ذي المقدمة وجوبيا كالصلاة الواجبة ، وبين كونه استحبابيا كالزواج مثلا.

مقدمة الحرام والمكروه :

قوله : واما مقدمة الحرام والمكروه فمقدمتهما ليست بحرام ولا مكروه ، لانها ليست علة لتركهما ، اذ المكلف قادر ـ مع فعل مقدمتهما ـ على ترك الحرام وعلى ترك المكروه ، مثلا : شرب الخمر حرام وتركه مطلوب. وكذا يكون مطلوبا مقدمات ترك شرب الخمر أيضا ولكن مع الذهاب الى بيت الخمر واخذ ظرفه وشرائه فالمكلف قادر على تركه بحيث إن شاء شرب ، وان شاء لم يشرب ، فهو مختار حينئذ على شربه وعلى ترك شربه ، فترك الذهاب اليه وترك شرائه ليسا مقدمة لتركه كي يكون الذهاب اليه حراما على القول بالملازمة العقلية بين ارادة الشيء وارادة ما يتوقف عليه ذلك الشيء.

فترك الذهاب الى بيت الخمر ليس علة لترك شربه ، كما ان الذهاب اليه ليس علة لشربه. فترك الذهاب اليه والذهاب اليه متساويان بالاضافة الى شربه والى ترك شربه.

خلاصة الكلام : ان مقدمات الحرام والمكروه من حيث الفعل والوجود ليست علة لفعل الحرام والمكروه في الخارج حتى تكون حراما ومكروها ، على القول بالملازمة العقلية بين حرمة الشيء وكراهة الشيء وبين حرمة مقدماته وكراهة

٤٣٩

مقدماته ، كما ان المقدمات ـ اي مقدمات الحرام والمكروه ـ من حيث الترك ليست علة وسببا لترك الحرام والمكروه ، لانه يمكن ان يريد المكلف فعل الحرام كشرب الخمر مثلا ، وفعل المكروه كأكل الشحمة مثلا. ولكن يحصلان له بفعل الغير بلا اتيانه مقدمتهما ، فيكون الحرام والمكروه تابعين لارادة المكلف فعلا وتركا ، بلا دخل فعل مقدمتهما في فعلهما ، وبلا دخل ترك مقدمتهما في تركهما ، فلا يترشح من طلب تركهما طلب ترك مقدمتهما.

نعم بعض المقدمات يكون شرطا لفعل الحرام او شرطا لترك الحرام. فالاول : مثل وجود الثمن لاشتراء الخمر. والثاني : مثل عدم وجود الثمن لدى المكلف وبعضها الآخر يكون مقتضيا لفعل الحرام او مقتضيا لترك الحرام.

فالاول : مثل حرية المكلف في فعل الحرام كما في القارة الاوربية والامريكية.

والثاني : مثل عدم اجازة القانون الاساسي الاسلامي لفعل الحرام كما في ايران والباكستان الاسلاميتين وغيرهما من الممالك الاسلامية. وبعضها الآخر معدّ لفعل الحرام كوجود الخمر ، او لترك الحرام مثل عدم وجود الخمر ، وكل واحد من الشرط والمقتضي والمعد ليس بحرام ، لان المكلف ـ مع وجود احدها ـ قادر على فعل الحرام وعلى تركه بحيث ان شاء فعله وان شاء تركه.

فمقدمات الحرام والمكروه ليست بحرام ولا مكروه. فاذا حرم إحراق المسلم لم يحرم حفر الحفيرة ولا جمع الحطب ولا جمع الخشب ولا تأجيج النار لامكان ان يتحقق جميع هذه المقدمات ، ولكن لا يتحقق الإحراق في الخارج اذ قدرة المكلف على الإحراق وعلى تركه محفوظة.

نعم يحرم من بين جميع المقدمات خصوص الالقاء في النار لانه هو المقدمة الاخيرة التي لا يتمكن المكلف معها من ترك الإحراق المحرّم في الخارج. فيترشح من طلب ترك إحراق المسلم طلب ترك القائه في النار فيحرم خصوص هذه المقدمة من بين جميع مقدمات الحرام.

وكذا الامر في جانب المكروه ، مثل : طلاق الزوجة لانه مكروه في الشريعة

٤٤٠