البداية في توضيح الكفاية - ج ١

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ نهضت
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-0-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٤٤٨

بطلان ترجيح اطلاق الهيئة على اطلاق المادة :

فالتقييد ، وان لم يكن مجازا كما سيأتى في المطلق والمقيد ، بل يكون التقييد بدالّين ومدلولين ، لان لفظ المطلق يدل على الاطلاق ـ ولفظ القيد يدل على القيد مع ان كليهما مستعملان في معناهما الحقيقي ـ لكنهما خلاف الاصل ، فقلة خلاف الاصل واصالة الاطلاق واصالة عدم التقييد اولى من كثرة خلاف الاصل. فبهذين الدليلين يقدم تقييد المادة على تقييد الهيئة ويرجح اطلاق الهيئة على اطلاق المادة ، فيعلم حال صغرى الدليل وحال كبرى الدليل ، لان دليله الثاني يتألف من الصغرى ، وهي ان تقييد الهيئة مبطل إطلاق المادة ورافع إيّاه دون العكس اي تقييد المادة لا يضرّ باطلاق الهيئة فحال هذه الصغرى قد ظهر مما سبق ، ومن الكبرى ، وهي استلزام احد التقييدين لتقييد الآخر.

فصورة القياس وهي ان تقييد الهيئة مستلزم لتقييد المادة ، وكل مستلزم لتقييد نفسه ولغيره فهو ضعيف لان التقييد خلاف الاصل ، فتقييد الهيئة ضعيف ، والحال انه لا فرق في الواقع بين ان يقيد اطلاق المطلق بمقيد خاص لفظي كما اذا أرجعنا القيد الى الهيئة ، وبين ان يعمل المقيد الخاص عملا يشترك مع التقييد الخاص في الاثر والنتيجة وبطلان الاطلاق اذ كل منهما على خلاف اصالة الاطلاق ، فلا يقال انه فرق في الاثر بين تقييد المطلق بمقيد خاص كتقييد الهيئة ، وبين عدم تقييده بمقيد خاص مثل استلزام تقييد الهيئة لتقييد المادة لاشتراكهما في رفع محل بيان الاطلاق وفي بطلان محل الحاجة من الاطلاق كما مرّ.

قال وما ذكرنا من الوجهين موافق لما افاده بعض مقرري بحثه الشريف وبناء على تماميتهما لا تصل النوبة الى الأصول العملية ، كما لا يخفى على اولي النهى.

جواب المصنف على دليل الشيخ أولا :

قوله : وانت خبير بما فيهما أما في الاول فلان مفاد اطلاق الهيئة وان كان ... الخ نعم سلّمنا ان اطلاق الهيئة شمولي وان اطلاق المادة بدلي ، ولكن ليس المناط في

٣٤١

ترجيح احد الاطلاقين على الاطلاق الآخر كون احدهما شموليا والآخر بدليا ، بل المناط في تقديم الاستناد الى الوضع وعدم الوضع.

فاذا كان الاطلاق الشمولي مستندا الى الوضع ، كما في الصيغ التي وضعت للعموم والشمول مثل الجمع المخلّى باللام ، والجمع المضاف الى المعرّف باللام ، والمفرد المعرف باللام على قول بعض ، وكالالفاظ التي وضعت للعموم كلفظ الكل والأجمع وأخوات الأجمع مثل (اكتع وابتع وابصع).

والاطلاق البدلي مستند الى مقدمات الحكمة كالاطلاقات المنعقدة لأسماء الاجناس مثل لفظ (بيع) و (الربا) في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) قدّم الاطلاق الشمولي الوضعي على الاطلاق البدلي الحكمي ، لكن لا بملاك كونه شموليا بل بملاك كونه وضعيا.

واذا انعكس الامر بان كان الاطلاق الشمولي مستندا الى مقدمات الحكمة كما في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) والاطلاق البدلي مستندا الى الوضع كما في لفظ (من) الموصولة و (ما) الموصولة ، قدّم حينئذ الإطلاق البدلي الوضعي على الإطلاق الشمولي الحكمي.

وعلى هذا ففي المقام ، حيث ان كلا من اطلاق الهيئة واطلاق المادة مستند الى مقدمات الحكمة لا ترجيح لاحدهما على الآخر. وان كان إطلاق الهيئة شموليا وإطلاق المادة بدليا ، فالوضع يكون سببا اقوى في الظهور من مقدمات الحكمة ، اذ هي من اثر عدم البيان ، والحال ان الوضع بيان.

فالاطلاق الشمولي ، بملاحظة كونه مسببا عن الوضع ، مقدم على الإطلاق البدلي الذي هو مسبب عن مقدمات الحكمة ، ولكن مقتضى مقدمات الحكمة مختلف ، اذ قد يكون العموم الشمولي كما في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) الوارد في مقام الامتنان على العباد ، وقد يكون العموم البدلى كما اذا قال المولى لعبده (ان ظاهرت فاعتق رقبة) الدال على وجوب عتق رقبة من الرقاب سواء كانت مؤمنة أم كانت كافرة اذا كان المولى في مقام بيان تمام غرضه ، وقد يكون التعيين كما في

٣٤٢

صيغة الامر الواردة في مقام البيان ، والدالة بوسيلة مقدمات الحكمة على تعيين الوجوب النفسي العيني التعييني لا الوجوب الغيري الكفائي التخييري ، فلا بقال انه اذا كان اطلاق كل من الهيئة والمادة ناشئا عن مقدمات الحكمة بناء على قول الشيخ الانصاري قدس‌سره لزم ان تكون نتيجة المقدمات على طبق واحد بان يكون الاطلاقان شموليين او بدليين ، لا ان يكون في احدهما شموليا في الآخر بدليا.

فانه يقال : بانه لا منافاة بين كون ثمرة مقدمات الحكمة مختلفة في الموارد على حسب اقتضائها من قبيل الامتنان كما في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) او من تعلق الطلب بصرف الطبيعة ، اي بصرف ايجاد الطبيعة في ضمن فرد من افرادها ، كما ان المستفاد من (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) تحليل جميع افراد البيع ، الا ما خرج بالدليل كالبيع الربوى والبيع الغرري وتحريم جميع مصاديق الربا الا ما خرج بالنص مثل الربا بين الوالد وولده مثلا ، ففي المقام تكون ثمرتها مختلفة ، اذ نتيجتها تكون في اطلاق الهيئة شموليا ، وفي اطلاق المادة بدليا ولا محذور في هذا الاختلاف.

جواب المصنف عن دليل الشيخ ثانيا :

قوله : واما في الثاني فلان التقييد ... الخ لما فرغ المصنف قدس‌سره عن جواب الوجه الاول ، شرع في الجواب عن الوجه الثاني ، وهو عدم استلزام تقييد الهيئة لارتكاب خلاف الاصلين ، بل اللازم ارتكاب خلاف اصل واحد من دون لزوم ارتكاب خلاف الاصل في ناحية المادة ، لان تقييد الاطلاق خلاف اصالة الاطلاق اذ لا يلزم من تقييد الهيئة بقيد الا وجود المانع عن جريان مقدمات الحكمة في ناحية اطلاق المادة.

فمعنى كون التقييد خلاف الاصل انه خلاف الظهور المنعقد للمطلق بوسيلة مقدمات الحكمة ، وفي المقام مع تقييد الهيئة يعني بانتفاء بعض مقدمات الحكمة في المادة كانتفاء ما يوجب التعيين ، لا ينعقد اطلاق المادة بوسيلة وبركة مقدمات الحكمة حتى يكون العمل المشارك مع التقييد في الاثر مثل التقييد في كون كل

٣٤٣

واحد منهما خلاف الاصل.

فبالنتيجة : العمل بتقييد الهيئة الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة وانتفاء بعض مقدماتها في المادة لا يكون على خلاف الاصل ، اذ مع تقييد الهيئة لا يكون هناك اطلاق كى يكون بطلان العمل بالاطلاق في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الاصل.

والحال انه لا معنى لكون التقييد خلاف الاصل الا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة ، ومع انتفاء بعض مقدمات الحكمة لا يكاد ينعقد للمادة ظهورها ، كان ذاك العمل المشارك مع التقييد في الاثر وبطلان العمل باطلاق المطلق في المادة مشاركا مع ذاك العمل في خلاف الاصل.

ولا بد هنا من بيان مقدمات الحكمة وهي ثلاثة :

الاولى : ان يكون المتكلم في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال.

الثانية : ان لا يكون القدر المتيقن في البين.

الثالثة : ان لا تكون القرينة في مقام التخاطب.

فاذا أرجعنا القيد الى الهيئة في نحو (حجّوا ان استطعتم) وهو يصلح للقرينة لعدم انعقاد ظهور المادة في الاطلاق ، فرفع اليد عن اطلاق المادة يكون لوجود مانع عن ظهور المادة في الاطلاق. والحال انه قد قرّر في محلّه انه لا تجري مع وجود ما يصلح للقرينية على التقييد.

وعليه فلا اطلاق للمادة حينئذ كى يكون تقييد الهيئة مبطلا لاطلاق المادة.

فبالنتيجة : لا يدور الامر بين خلافين للاصل اذا قيدنا الهيئة ، وبين خلاف اصل واحد في صورة تقييد المادة كما قال به الشيخ الانصاري قدس‌سره ، لان القيد مانع عن انعقاد الظهور في الهيئة وفي المادة مثل (حجّوا ان استطعتم) هذا اذا كان القيد متصلا.

نعم اذا كان القيد منفصلا. فينعقد الاطلاق في الهيئة وللمادة حينئذ ، ويدور الامر بين خلافين للاصل ان قيدنا الهيئة ، وبين خلاف واحد للاصل المذكور فيكون

٣٤٤

لتوهّم الشيخ قدس‌سره مجال ، فلا بد ان يقال حينئذ ان تقييد الهيئة مرجوح لاستلزامه خلافين للاصل ، وتقييد المادة راجح ، اذ فيه خلاف واحد له. فاذا كان القيد والشرط منفصلين انعقد الاطلاق للمطلق ولو ببركة مقدمات الحكمة اذا تمت مقدماتها.

قوله : فتأمل وهو اشارة الى انه لا فرق بين القيد المتصل وبين القيد المنفصل لانه اذا كان القيد منفصلا فانعقاد الظهور في كلّ من الهيئة والمادة ، وان كان مقبولا ، لكن هذا الظهور ليس بحجّة للعلم الاجمالي بتقييد احد الاطلاقين إما تقييد الهيئة وإما تقييد المادة صونا لكلام مولى الحكيم عن الهذرية واللغوية.

ومع هذا العلم الاجمالي لا تجري اصالة الاطلاق ، لا في طرف الهيئة ولا في طرف المادة لاجل التعارض ، فلا بد حينئذ من تقييد احدهما. فلا يصح هذا التوجيه الذي ذكر آنفا ، فللعلم الاجمالي بتقييد احدهما يسقط الاطلاقان ، اذ منشأهما مقدمات الحكمة ، فلا ترجيح لاحدهما على الآخر.

وفي ضوء هذا يظهر ان النسبة بين تقييد الهيئة وبين تقييد المادة عموم من وجه ، اذ من الممكن ان يكون الشرط قيدا للهيئة دون المادة ، كما إذا فرضنا القيام قيدا لوجوب الصلاة لا لنفسها ، فحينئذ جاز اتيان الصلاة جالسا بعد تحقق القيام حال تكبيرة الإحرام ، بل لا مانع عقلا من تصريح المولى بذلك بقوله (اذا قمت حال تكبيرة الإحرام فصلّ جالسا) ، وقد يكون قيدا للمادة دون الهيئة مثل استقبال القبلة والطهارة والستر فانها قيد لنفس الصلاة دون وجوبها.

وقد يكون قيدا لهما معا كالوقت ، فان الوقت ـ مثل زوال الشمس وغروبها للعشاءين وطلوع الفجر للصبح ـ من جهة كونه شرطا لصحة الصلاة فهو قيد لنفسها. ومن ناحية ان هذه الاوقات الشرعية ما لم تتحقق لا يكون وجوب الصلاة فعليا منجزا ، فالوقت قيد لوجوبها وهذا واضح لا غبار عليه.

النفسي والغيري :

قوله : ومنها تقسيمه الى النفسي والغيري وحيث كان طلب شيء وايجابه ... الخ

٣٤٥

وينقسم الواجب ايضا الى واجب نفسي والى واجب غيري ، وقد فسر الواجب النفسي في كلام غير واحد من الاصوليين بما امر لنفسه ، والواجب الغيري بما امر به لاجل غيره.

وعليه يلزم ان يكون جميع الواجبات الشرعية الا المعرفة ـ اي وجوب المعرفة بالله تعالى ـ من الواجبات الغيرية ، اذ المطلوب النفسي لا يوجد في الاوامر ـ اي في موضوعاتها ـ فانها مطلوبات لاجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها. مثلا : الصلاة مطلوبة بالطلب الشديد اذا كانت واجبة او بالطلب الخفيف اذا كانت مندوبة لكونها ناهية عن الفحشاء والمنكر ولكونها قربانا ومعراجا وعمودا. والصوم مطلوب لكونه جنّة من النار. والزكاة مطلوبة لكونها سببا لتطهير المال ونموّه لا سيما على مذهب العدلية والمعتزلة القائلين بان الاحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية والمفاسد النفس الامرية.

فبالنتيجة تكون موضوعات الاحكام ذات مصالح ومنافع ، فلذا تكون مطلوبة ، فيكون تعريف الواجب النفسي غير منعكس ، اي جامع الافراد ، اذ الواجبات النفسية مما وجبت لما فيها من الخواص والفوائد والآثار.

ولازم هذا ان يكون تعريف الواجب الغيري غير مطرد ، اي غير مانع الاغيار ، لدخول الواجبات النفسية في تعريفه ، ولذا ينبغي في تحديد الواجب النفسي ان يقال انه وجب وأمر به لا لاجل التوصل الى واجب آخر.

وان الواجب الغيري ما أمر به لاجل التوصل به الى واجب آخر ، فيتم العكس والطرد في تعريف كل واحد منهما فلا يختل تعريف الغيري طردا ولا تعريف النفسي عكسا. وفي ضوء هذا ظهر ان الواجب النفسي على نحوين :

الاول : ان يكون مطلوبا بنفسه ، كوجوب المعرفة ، اذ لا تترتب عليه فائدة وغاية ، بل تكون بنفسها غاية ومطلوبة. فالمعرفة ما أمر بها لا لاجل الفائدة التى تترتب عليها.

والثاني : ان يكون مطلوبا لاجل الخواص التي تترتب عليه ، كاكثر العبادات

٣٤٦

والتوصليات ، وقيد الاكثر هنا لاخراج المعرفة بالله الواحد الاحد جلّ جلاله.

وقد ظهر ان الواجب الغيري قسم واحد ولكن الفرق بين الواجب الغيري والقسم الاول من الواجب النفسي واضح لا يحتاج الى البيان لانه عيان. واما الفرق بين الواجب الغيري والقسم الثاني من الواجب النفسي ففي غاية الخفاء ، ولذا عدل عن تعريف المشهور واختار التعريف الثاني.

قوله : فان قلت نعم وان كان وجودها محبوبا لزوما إلّا انه حيث كانت من ... الخ ومن المعلوم ان المصنف اجاب عن اشكال وارد في تعريف الواجب النفسي ، عدا المعرفة ، بجوابين :

الاول : ان الغايات المترتبة على الواجبات النفسية ، اي اكثرها ، تكون واجبة عقلا ثبوتا لا شرعا واثباتا ، ولذا قيل ان الواجبات السمعية ألطاف في الواجبات العقلية ، واما الغايات المترتبة على الواجبات الغيرية فهي واجبة شرعا واثباتا ، كما انها واجبة عقلا وثبوتا ، اذ هي اطاعة للمولى وشكر له.

فاعترض المعترض على هذا الجواب بان الغايات المترتبة على اكثر الواجبات خارجة عن اختيار المكلف فلا تتعلق القدرة بها ، وعليه فلا يعقل وجوبها عقلا وثبوتا.

واجاب المصنف قدس‌سره بانها ـ وان كانت ، في حد انفسها وبلا واسطة ، خارجة عن تحت القدرة ـ إلّا ان الغايات مع واسطة اسبابها مقدورة لدخول اسبابها تحت القدرة. ومن الطبيعي ، ان القدرة على السبب قدرة على المسبب. وان لم يكن المقدور مع الواسطة مقدورا لم يصح وقوع مثل التطهير الذي هو مسبب عن الوضوء ، والتزويج والطلاق المسبّبين عن العقد وغيرها مورد الحكم من الاحكام التكليفية الشرعية. وعلى هذا يتمّ الجواب الاول وظهر الفرق بين القسم الثاني من الواجب النفسي وبين الواجب الغيري ، لانه لو لم تكن غايات الواجب النفسي واجبة عقلا لما دعا المولى شيء آخر الى ايجاب الواجبات النفسية.

والثاني : ان الاثر المترتب على الواجب النفسي ، وان كان لازما عقلا كغايات

٣٤٧

الواجب الغيري ، إلّا ان ذا الاثر كالصلاة والصوم ونحوهما ، لمّا كان معنونا بعنوان حسن كامل العيار بحيث يستقل العقل بمدح فاعله وبذم تاركه ، صار متعلقا للايجاب والتكليف بما هو كذلك ، ولا ينافيه كونه مقدمة لاستيفاء امر مطلوب واقعا عقلا.

اما بخلاف الواجب الغيري لتمحّض وجوبه في أنّ وجوبه لاجل الواجب النفسي ، فظهر الفرق بينهما من حيث الملاك ، اذ ملاك الواجب النفسي ما كان وجوبه لاجل حسنه في حد ذاته سواء كان مع ذلك مقدمة لواجب آخر كجلّ العباديات والتوصليات من الواجبات الشرعية أم لم يكن مقدمة لواجب آخر كالمعرفة ، اي وجوبها. وملاك الواجب الغيري ما كان وجوبه لاجل حسن غيره سواء كان في نفسه وذاته ايضا حسنا كالوضوء والغسل والتيمم أم لم يكن كذلك كقطع الطريق مقدمة للحج.

فبالنتيجة إن الحسن الذاتي للواجب النفسي دخيل في وجوبه ، والحسن الذاتي لبعض الواجب الغيري ليس دخيلا في وجوبه الغيري. ولعل هذا مراد من فسرهما بما امر به لنفسه ، وما امر به لاجل غيره.

فالمتحصل مما ذكرنا انه لا يتوجه الاعتراض والإشكال بان جلّ الواجبات النفسية ، لو لا الكل ، يلزم ان يكون من الواجبات الغيرية ، فان جلّها مطلوبات الشارع المقدس لاجل الغايات الخارجة عن حقيقة الواجبات.

قوله : فتأمل وهو اشارة الى انه لا حسن ذاتي في بعض الواجبات النفسية ، كدفن المسلم ، فان وجوبه ليس لحسنه في نفسه مع قطع النظر عن المصالح المترتبة عليه مثل احترامه وحفظه عن اكل السباع وحفظ رائحته عن الانتشار.

وبالجملة فتفسير الواجب النفسي بما امر به لاجل حسنه الذاتي غير وجيه كما لا يخفى على أولي النّهى.

قوله : ثم انه لا اشكال فيما اذا علم احد القسمين واما اذا شك في واجب انه ... الخ فاذا علم من الدليل سواء كان الدليل نفس دليل الامر أم كان خارجيا ـ في مقام الاثبات ـ أن الواجب نفسي كالصلاة اليومية ، او ان هذا الواجب غيري كالطهارات

٣٤٨

الثلاث ، فهو حسن ، لانه علم من نحو أقيموا الصلاة ان الصلاة واجب نفسي وكذا علم من نحو قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(١) ان الوضوء واجب غيري لمكان تقييد وجوبه بالقيام الى الصلاة. هذا مضافا الى الاجماع ، بل الضرورة على كون وجوبه غيريا. كما ان المستفاد من نحو أقيموا الصلاة كون وجوب الصلاة نفسيا لمكان الاطلاق.

واما اذا لم يعلم ان الواجب نفسي أم غيري ، فالتحقيق ان الهيئة التي يتبادر منها الطلب الحتمي ، والحال انه مشترك بين ما كان لنفسه او لغيره موضوعة لمعنى يشمل الواجب النفسي والواجب الغيري وهو البعث والتحريك نحو الفعل. الا إن اطلاقها يقتضي كونه نفسيا لا غيريا ، كما تقدم الكلام في ذلك في المبحث السادس من بحوث صيغة الامر بعد بحث الواجب التعبدي والواجب التوصلي ، فراجع هناك حتى ينكشف الحال.

ولكن الشيخ الانصاري قدس‌سره ، حيث تكلّم في المقام من ناحية الشك في كون الواجب نفسيا او غيريا مبسوطا ومشروحا ، فلذا اعاد المصنف قدس‌سره البحث فيه ثانيا ، وإلّا فقد مضى وقال انّ الواجب لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم عزّ اسمه اذا كان في مقام البيان ، اذ الواجب الغيري كثير المئونة ، والواجب النفسي خفيف المئونة ، اذ هو يحتاج الى تقييد الوجوب بوجوب غيره ، مثل اذا وجبت الصلاة فتوضأ ، بخلاف الواجب النفسي ، وهذا واضح.

قوله : واما ما قيل من انه لا وجه للاستناد ... الخ فاستشكل المستشكل انه لا يمكن التمسك باطلاق الهيئة اذ يكون وضعها كوضع الحروف ، فالموضوع له فيها جزئي ، فكذا يكون الموضوع له هيئة الامر جزئيا ، والجزئي لا يكون مطلقا حتى يقيد ، بقيد فيكون الاطلاق منتفيا في الهيئة ، فلا محل له ، اي للتمسك باطلاق الهيئة.

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٦.

٣٤٩

نعم ان كان الموضوع له الهيئة مفهوم الطلب لا مصداق الطلب ولا فرد الطلب ، ففي هذا الفرض يمكن تقييد الهيئة وتضييق دائرته ، لان مفهوم الطلب كلّي وكل كلّيّ قابل للتقييد ، فهذا قابل للتقييد فلا بد ان لا يكون الموضوع له الهيئة مفهوم الطلب لوجهين :

الاول : ان معنى الهيئة يكون معنى حرفيا ، والمعنى الحرفي جزئي ، والجزئي غير قابل للتقييد ، فلا بد ان يكون الموضوع له مصداق الطلب لا مفهوم الطلب ، اذ هو كلي.

والثاني : انه لو كان معنى الهيئة مفهوم الطلب للزم ان يكون المأمور به بواسطة انشاء مفهومه ، مطلوبا واقعيا.

والحال ان كونه مطلوبا واقعيا يدور مدار ارادة المولى في الواقع. فان اراده كان مطلوبا وان المولى لم ينشئ مفهوم المأمور به. وان لم يرده المولى فلا يكون المأمور به حينئذ مطلوبا واقعيا ، وان انشاء مفهومه كما في الاوامر الامتحانية.

فالمطلوبية تدور مدار الارادة ، اي ارادة فرد من مفهوم الطلب ، ولا تدور مدار انشاء مفهوم الطلب. وعليه فاذا وضعت الهيئة لفرد الطلب ولمصداقه صحّ ان يقال ان الهيئة اذا تعلقت بشيء كان هذا الشيء مطلوبا واقعيا.

هذا صحيح. واما اذا وضعت الهيئة لمفهوم الطلب والارادة فلا بد ان يكون مفهوم الارادة الذي كان متعلق الهيئة بمجرد انشاء مفهوم الارادة مطلوبا واقعيا.

والحال ان الشيء لا يكون مرادا ومحبوبا بمحض انشاء مفهوم الطلب والارادة. وبعبارة اخرى : فلو وضعت الهيئة لمفهوم الارادة فلا بد ان يكون الشيء مطلوبا ومحبوبا بمجرد تعلّق افعل ـ اي صيغة الأمر ـ بهذا الشيء ، واللازم منتف فالملزوم مثله.

والحال انه لا يكون الشيء مطلوبا ومحبوبا إلّا اذا تعلقت الارادة التي تكون في قلب المولى ، وإلّا فلا يوجد الطلب الذي يكون فردا من افراد مفهوم الطلب والارادة ، فلازم المقدّمتين المذكورتين الواضحتين ان هيئة (افعل) انما وضعت

٣٥٠

لمصداق الارادة ولفرد من الطلب لا لمفهوم الارادة والطلب. و (الفرد) جزئي خارجي وهو غير قابل للتقييد ، اذ ليس له توسعة كي يتضيق بواسطة التقييد فلا يكون للهيئة اطلاق حتى يتمسّك به عند الشك في نفسية الواجب وفي غيريته لرفع الشك.

فالمتحصّل ممّا ذكرنا انه يتوقف كون الشيء مطلوبا على ارادته التي تكون في قلب المولى ، والارادة تتعلق بالمصداق وبالفرد من الطلب لا بمفهوم الطلب والارادة ، وانه لا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب ، فان الفعل والشيء يصيران مرادين بواسطة تعلق واقع الارادة وحقيقة الطلب والارادة لا بواسطة مفهومها ، وإلّا لكان كل شيء مرادا ومطلوبا يشهد الوجدان السليم بذلك فيتّصف الفعل بالمطلوبية بواسطة تعلق الطلب الخارجي به.

جواب المصنف :

قوله : ففيه ان مفاد الهيئة كما مرت الإشارة اليه ليس الافراد ... الخ.

اما الوجه الاول : وهو ان معنى الهيئة من المعاني الحرفية النسبية والمعنى الحرفي جزئي غير قابل للتقييد اذ ليس بمطلق ، والحال ان التقييد فرع الاطلاق والمطلق ، فقد مرّ سابقا مرّتين ان الموضوع له حروف مثل الموضوع له اسماء الاجناس كلفظ (رجل وانسان). وكالمشتقات ك (ضارب ومضروب وشريف) مثلا ، كلي بلا تفاوت بينهما من هذه الناحية ، وانما التفاوت بينهما في كيفية الاستعمال ، حيث ان الاسماء تستعمل استقلاليا والحروف تستعمل آليا ، ولملاحظة حال الغير وإلّا فلا تفاوت بينهما في الموضوع له ، والمستعمل فيه لانهما كلّيان في الاسماء والحروف ، وهذا المطلب مثبت قبلا بالبراهين والشواهد فالوجه الاول هذا لا يدل على ان مدلول الهيئة ليس بقابل للتقييد كما لا يخفى.

توضيح لا يخلو من فائدة : وهو انه كيف يكون معنى الهيئة من معاني الحروف النسبية لانه عبارة عن طلب المبدإ ، وايجاده عن الفاعل المخاطب ، وهو يحتاج الى الهيئة الخاصة واللفظ الخاص ، مثلا : طلب الضرب الذي هو مدلول الهيئة

٣٥١

يحتاج الى صيغة (اضرب) ، وطلب الاكرام عن الفاعل المخاطب يفتقر الى هيئة (اكرم) ، وهكذا نحوهما كالاشارة والتكلم والخطاب والغيبة. فان الاول (الاشارة) : يحتاج الى لفظ هذا وهذه ونحوهما من الفاظ الإشارة. والثاني (التكلم) : يفتقر الى لفظ (انا) و (نحن). والثالث (الخطاب) : الى لفظ (انت) و (انت) ونحوهما والرابع (الغيبة) : مفتقر الى لفظ (هو) و (هي) وامثالهما.

كما ان لفظ (من) و (الى) و (في) و (على) و ... تحتاج الى ضم كلمة اخرى اليها كلفظ (البصرة) و (الكوفة) و (الدار) و (السطح) وغيرها. فكل المعاني النسبية معاني الحروف في الاحتياج الى لفظ آخر وكلمة اخرى ، فلذا تكون الهيئة ومعناها من المعاني الحرفية النسبية.

واما الوجه الثاني : وهو ان متعلق صيغة الامر مطلوب المولى ، والمطلوبية تتوقف على الارادة الواقعية وهي تتعلق بالفرد من الطلب وبمصداقه ، ولا تتوقف المطلوبية على انشاء مفهوم الارادة ، فلا محالة ان تكون الهيئة موضوعة للإرادة الواقعية والطلب الواقعي للمبدإ ، فحينئذ يكون معنى الهيئة جزئيا وهو لا يتوسع حتى تتضيق دائرته بالتقييد ، والحال ان التقييد فرع الاطلاق ، فاذا كان التقييد ممكنا فهو لمكان الاطلاق ، اذ التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل الملكة والعدم ، اي عدم الملكة ، وهذا خلاصة الوجه الثاني.

واما رده : اي الجواب عنه ، فهو ان الطلب والارادة على قسمين :

الاول : حقيقي. والثاني : انشائي. والنسبة بينهما عموم من وجه. اذ قد يكون الطلب الحقيقي في قلب المولى ولكن لم ينشأ ، إما لفقد المقتضي له ، وإما لوجود المانع عنه ، وقد يكون الطلب الانشائي موجودا ولكن ليس للمولى الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية في قلبه وذهنه ، بل ربما يكون متعلق الامر مبغوضا عنده ، لكن أمره امتحانا ، كالامر بذبح اسماعيل النبي عليه‌السلام. وقد يكون كلاهما موجودين ، كالاوامر الجدّية.

وقد ذكر سابقا ان الهيئة قد وضعت للطلب الانشائي لا للطلب الحقيقي الذي

٣٥٢

هو طلب بالحمل الشائع الصناعي ، الذي ملاكه الاتحاد مصداقا والتغاير مفهوما ، وهو صفة من الصفات النفسانية وسببه أمور واقعية مثل تصوّرها وتصوّر فوائدها ، والتصديق بمنافعها.

ومن الواضح ان الأمور الواقعية ليست قابلة للانشاء والايجاد ، لان الموجود بالانشاء أمور اعتبارية وأمور انتزاعية ، مثل الزوجية والملكية والعتق وما شاكلها.

نعم قد تكون الارادة الحقيقة للمولى باعثة الى انشاء ارادة الشيء المراد وانشاء طلبه. فالطلب الانشائي الذي يكون موضوع له للهيئة غير الطلب الحقيقي الذي هو قائم بنفس المولى.

نعم يكون الشيء الواحد متعلقا للارادة الحقيقة لكونه محبوبا عند المولى مثل (صلاة) و (صيام) ونحوهما ، ومتعلقا للطلب الانشائي والارادة الانشائية بقوله (صلّ) و (صم) ، فما ذكر في طيّ الإشكال ان متعلق الصيغة يكون مطلوبا مسلّم ، لكنه مطلوب بطلب إنشائي ، وكونه مطلوبا بالطلب الحقيقي لا دخل له بمفاد الصيغة بل هو دائر مدار الواقع.

فاذا كان في قلب المولى ارادته كالصلاة ونحوها كان مرادا ومطلوبا ، واذا لم تكن له ارادته بل كان الانشاء لدواع أخر مثل التهديد والامتحان ، فلا يكون متعلق الصيغة مطلوبا واقعيا.

وبالجملة : فمعنى الهيئة مفهوم الطلب الذي هو قابل للانشاء وقابل للتقييد والارادة الحقيقة التي لا تقبل التقييد ليست معنى هيئة (افعل).

فتلخّص مما ذكرنا ان مدلول الهيئة الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي الذي في قلب المولى ، والطلب الانشائي كلّي ، وكلّ كلّي قابل للتقييد ، فهذا قابل للتقييد ، فيصح التمسك باطلاقها اذا لم تقيد بقيد.

ولعل المستشكل توهّم ان الهيئة وضعت للطلب الحقيقي الذي هو فرد وجزئي باعتبار وجوده في قلب المولى فلا بد ان يقول بعدم امكان التمسك باطلاقها ، وهو فاسد لانك خبير ان هيئة صيغة افعل قد وضعت لانشاء مفهوم الطلب

٣٥٣

الذي لا دخل له بالطلب الواقعي الحقيقي.

نعم يكون الطلب الحقيقي الواقعي غالبا باعثا وداعيا الى انشاء مفهوم الطلب الانشائي ولاجل هذا فاذا أنشأ المولى طلب الفعل ولم تكن قرينة على الامتحان والاختبار والتهديد والتعجيز ونحوها ، فإن الطلب الانشائي يكشف عن الطلب الواقعي الحقيقي بالنسبة الى متعلق الصيغة للغلبة وعدم ذكر القرينة في الكلام.

ولا يخفى ان حمل الطلب على الطلب الحقيقي بالحمل الشائع الصناعي يكون من باب حمل الكلي على افراده ومصاديقه مثل (زيد انسان).

قوله : ولعمري هذا واضح انه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق قال المصنف قدس‌سره اني اقسم بروحى ان هذا القول يكون من باب اشتباه المفهوم بالمصداق ، فان الطلب الحقيقي مصداق لمفهوم الطلب نحو زيد الذي يكون مصداق الانسان.

كما وقع هذا الاشتباه لكثير من الاصوليين في المواضع العديدة ، فعدم قابلية الطلب الحقيقي للتقييد لا يوجب عدم قابلية مفهوم الطلب له الذي هو مفاد الهيئة وان سمّي في الاصطلاح مفاد الهيئة بالطلب ، وذلك لكمال المباينة بين الطلبين ، اذ الاول مصداق خارجي ووصف نفساني. والثاني مفهوم كلي قابل للتقييد. فلا يكون استلزام بينهما لا ثبوتا ولا نفيا ، اذ قابلية مفهوم الطلب للتقييد لا تستلزم قابلية مصداق الطلب له ، اي للتقييد.

قوله : كما مر هاهنا بعض الكلام وقد مرّ عند الردّ على دعوى الشيخ الانصاري قدس‌سره من امتناع رجوع القيد الى الهيئة بدعوى كون مفادها فردا من الطلب الحقيقي ، والفرد مما لا يقبل التقييد ، فراجع هناك.

قوله : وقد تقدم في مسألة اتحاد الطلب والارادة ... الخ قد تقدم هناك ان الطلب والارادة موضوعان لمعنى واحد ، غير ان جرم المعنى على صنفين : احدهما : حقيقي ثابت في النفس ، والآخر انشائي يحصل بالصيغة. لكن لفظ الطلب اظهر في الثاني ، ولفظ الارادة اظهر في الاول ، مع كون كل من لفظي الطلب والارادة حقيقة في كلا الصنفين.

٣٥٤

لمّا فرغ المصنف قدس‌سره عن التمسك بالاصل اللفظي وهو اصالة الاطلاق ، شرع في مورد التمسك بالاصل العملي فقال : ان هذا التمسك باصالة الاطلاق فيما اذا كان هناك اطلاق بان تمّت مقدمات الحكمة ، واما فيما اذا لم يكن هناك اطلاق بان اختلّت احدى مقدمات الحكمة ، كما اذا لم يكن المولى في مقام البيان ، او كان القدر المتيقن موجودا في مقام التخاطب ، او كانت القرينة على التعيين موجودة ، فلا بد من الرجوع الى الاصل العملي عند الشك في كون الواجب نفسيا او غيريا.

توضيح : وهو انه اذا علم المكلف بوجوب نصب السلّم ولكن شك في كونه واجبا لاجل الصعود على السطح او كونه واجبا لنفسه ، وتارة : يعلم بعدم وجوب الصعود ، واخرى يعلم بوجوبه ، وثالثة يشك في وجوبه اي وجوب الصعود على السطح.

ففي الاولى ، وهي ان يعلم بعدم وجوب الصعود ، يرجع الى اصالة البراءة عن وجوب نصب السلم للعلم بعدم وجوبه على فرض كون وجوبه غيريا ، اذ يعلم عدم وجوب ذي المقدمة الذي هو وجوب الصعود على السطح فعلا ، او جاء الامر بالوضوء من جانب المولى ، ولكن لا نعلم ان الوضوء واجب نفسي او واجب غيري يتوقف وجوبه على وجوب الصلاة ، ولكن لم يدخل وقت الصلاة بعد ، او اصل الصلاة ليس واجبا لى المكلف بسبب الحيض او النفاس ، فلا محالة يحصل الشك في وجوب الوضوء ، أهو نفسي أم غيري ، شكا بدويا. فمقتضى حكم العقل براءة من وجوبه ، مضافا الى اصالة عدم وجوب نفسيته ، فمع احتمال المذكور يكون التكليف بالوضوء مشكوكا.

وفي الثانية ، انه يعلم بوجوب الصعود فعلا ، يجب على المكلف نصب السلم بلا شبهة. مثلا : اذا ثبت وجوب الغير ـ اي ذي المقدمة اذ هو غير المقدمة ـ الذي يكون المشكوك من مقدماته بالضرورة او بالاجماع او بالدليل الاجتهادي كالآية القرآنية او كالرواية ، فلا شك ان هذا المشكوك واجب فعلا ، لانه ان كان وجوبه غيريا فيجب الإتيان به ، اذ وجوب الغير وذي المقدمة فعلي ، فلا محالة يكون

٣٥٥

الوضوء واجبا فعلا إما نفسيا وإما غيريا وان كنا لا نعلم مفصلا ، لانه بعد العلم بوجوب الوضوء إما نفسيا وإما غيريا فالعقل يحرك المكلف على فعله.

وفي الثالثة ، وهي ان يشك في وجوب الصعود ، تجري البراءة عن وجوب نصب السلم كالصورة الاولى ، اذ الشك في وجوب ذي المقدمة يوجب الشك في وجوب المقدمة ، والحال اننا احتملنا أن وجوب نصب السلم يكون غيري ، هذا مضافا الى اصالة عدم وجوب نفسيته كما لا يخفى.

استحقاق الثواب على بعض المقدمات :

قوله : تذنيبان : الاول : لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الامر النفسي وموافقته ... الخ وفي التذنيب الاول مسألتان :

الاولى : انه لا ريب في استحقاق الثواب على فعل الواجب النفسي وفي استحقاق العقاب على تركه وعصيانه. اذ في فعله يحصل القرب من المولى ، وفي تركه يحصل البعد عن المولى. والحال ان الملاك في الثواب والعقاب بحكم العقل يكون في القرب والبعد.

والثانية : انه لا اشكال في عدم استحقاق الثواب على فعل الواجب الغيري بما هو غيري لا بما هو شروع في امتثال الواجب النفسي ، كما انه لا اشكال في عدم استحقاق العقاب على تركه بما هو واجب غيري لا بما هو علّة لترك الواجب النفسي اذ ملاك الثواب والعقاب يكون في القرب والبعد ويكونان من لوازمهما وآثارهما.

فالواجب النفسي يكون سببا للقرب ، اي فعل الواجب النفسي كفعل الصلاة مثلا ، يكون سببا للقرب من المولى ، اذ هو محصّل لغرضه ومطلوبه وتركه علّة للبعد عنه اذ هو مفوّت لغرضه. واما فعل الواجب الغيري فليس سببا للقرب به ، اذ هو ليس بمحصّل لغرضه ومطلوبه اذ مطلوبه من تشريعه فعل ذي المقدمة لا فعل المقدمة بما هي ، كما ان تركه لا يكون علّة للبعد عنه اذ هو مقصود تبعي طفيلى لا المقصود الاصلي ، فليس تركه بما هو غيري مفوّتا لغرض المولى كي يكون تركه

٣٥٦

سببا للبعد عنه وهو ظاهر كما لا يخفى.

لكن استدل المصنف قدس‌سره على هذا المطلب بعد ما استشكل فيه بضرورة العقل ، اي بضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق الا لعقاب واحد او لثواب واحد فيما لو خالف المكلف الواجب ، وترك كل مقدماته ولم يأت بواحدة منها على كثرتها مثل ترك الصلاة وترك جميع مقدماتها من الطهارة والستر والاستقبال و ... فهو يستحق عقابا واحدا.

او فيما وافقه وأتى بالواجب مع جميع مقدماته الكثيرة نحو فعل الصلاة مع فعل تمام مقدماتها فهو يستحق ثوابا واحدا.

نعم لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة للواجب عند ترك المقدمة لأن ترك المقدمة يؤدي الى بطلان الواجب ، فكأنه قد ترك الواجب ، فالعقاب على تركه عند تركها ولا يكون العقاب على ترك الواجب الغيري.

لمّا نفى المصنف قدس‌سره فيما سبق استحقاق العقاب على مخالفة الواجب الغيري بحيث يكون العقاب لاجل مخالفته لا لمخالفة الواجب النفسي استدرك ودفع التوهم الناشى من السابق بقوله : «نعم لا بأس بان مخالفة الواجب الغيري وان لم تكن علة لاستحقاق العقوبة لكن استحقاقها على مخالفة الواجب النفسي فاستحقاق العقوبة على الواجب النفسي يكون من زمان مخالفة الامر الغيري». مثلا : اذا دخل وقت الصلاة وترك المكلف الوضوء بقصد ترك الصلاة فهو يستحق العقاب من حين ترك الوضوء اذ يكون بقصد ترك الواجب النفسي وهو الصلاة ، فالعقوبة على عصيان الامر النفسي لا على عصيان الامر الغيري ، غاية الامر من حين عصيان الواجب الغيري.

كما انه لا اشكال بزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى المكلف بالمقدمات بما هي مقدمات للواجب ، اي أتى بها بقصد التوصل الى الواجب وبقصد القربة الى المولى وتكون زيادة الثواب لأن الواجب يصير حينئذ من افضل الاعمال ، والافضل يليق بزيادة الثواب لانه يصير أشقّ الاعمال ، وكل أشقّ الاعمال افضلها ، فهذا

٣٥٧

افضلها ، وكل افضل الاعمال ذو ثواب عظيم ، فهذا ذو ثواب عظيم فالثواب يكون على موافقة الامر النفسي الذي هو أشقّ وافضل لا على اطاعة الامر الغيري بما هو غيري مقدمي.

فتلخّص مما ذكرنا انه لا ثواب على اطاعة الامر الغيري بما هو غيري ، كما انه لا عقاب على عصيانه بما هو غيري. نعم تكون اطاعته بقصد التوصل الى ذي المقدمة وبقصد مقدميته للواجب النفسي موجبا لزيادة الثواب في الواجب النفسي من حيث كونه أحمز واشقّ كما ورد في الخبر (افضل الاعمال احمزها) لبداهة ان موافقة الامر الغيري بما هو غيري لا بما هو شروع بواسطة الفعل الغيري في امتثال الامر النفسي لا يوجب قربا بالمولى لعدم استيفائه بغرض المولى ، ولا يوجب عصيانه بما هو غيري لا بما هو سبب لترك الواجب بعدا عن المولى ، والحال ان المثوبة والعقوبة انما تكونان من توابع القرب والبعد بالمولى وعن المولى.

فان قيل : انه اذا لم يكن الثواب على موافقة الامر الغيري ولا عقاب على عصيانه فكيف ورد في لسان الاخبار ثواب عظيم على فعل بعض المقدمات وعلى اتيان الواجب الغيري كما ورد في الاخبار ان في زيارة مولانا الحسين عليه‌السلام من انه لكل قدم ثواب عتق من اولاد اسماعيل النبي عليه‌السلام كما في رواية ابى سعيد القاضي (١) وكما ورد في الاخبار في زيارة امير المؤمنين علي عليه‌السلام : «من زار امير المؤمنين عليه‌السلام ماشيا كتب الله له بكل خطوة ثواب حجة وعمرة فاذا رجع ماشيا كتب الله له بكل خطوة ثواب عمرتين وحجتين» كما في رواية الحسن بن اسماعيل الصيمري عن ابي عبد الله الصادق عليه‌السلام (٢) وغيرهما من الروايات.

قلنا : ان الروايات الظاهرة في ترتب الثواب على المقدمة اما محمولة على التفضل لا على الاستحقاق ، او على توزيع ثواب ذي المقدمة على المقدمة ، لان المقدمات مهما كثرت ازداد ثواب ذي المقدمة لصيرورته حينئذ من افضل الاعمال

__________________

(١) الوسائل ، كتاب الحج ، باب ٢٤ من ابواب المزار ، ص ٢٩٦ ، ط جديدة.

(٢) الوسائل ، كتاب الحج ، باب ٤١ من ابواب المزار ، ص ٣٤٣ ، ط جديدة.

٣٥٨

حيث صار اشقها واحمزها و (افضل الاعمال احمزها) كما في الخبر.

اشكال الأمر الغيري ودفعه :

قوله : اشكال ودفع اما الاول فهو انه اذا كان الامر الغيري بما هو لا اطاعة له ... الخ وفي هذا المقام اشكالان :

الاول : ان الواجب الغيري ، على ما تقدم آنفا ، مما لا يترتب على موافقته ثواب ولا على عصيانه عقاب ، بخلاف الواجب النفسي اذ ليس في امتثاله ، بما هو غيري لا بما هو شروع في امتثال الامر النفسي اي بقصد التوصل بامتثاله الى امتثاله ، قرب. وليس في عصيانه ، بما هو غيري لا بقصد ترك امتثال الغيري قصد ترك امتثال النفسي ، بعد عن المولى.

وعلى هذا يشكل الامر في الطهارات الثلاث لانها عبادات اجماعا ، والعبادات مما يترتب عليها الثواب ، فان الاخبار في ترتب الثواب عليها قريبة بالتواتر ، والحال ان اوامرها غيرية. ومنها : خبر احمد بن اسحاق عن ابي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «الطهر على الطهر عشر حسنات». ومنها : خبر سماعة بن مهران عن ابي الحسن موسى عليه‌السلام قال : «من توضأ للمغرب كان وضوؤه كفارة لما مضى من ذنوبه في ليلته ما خلا الكبائر» (١) وهكذا في الغسل والتيمم.

ففي اتيان الوضوء قرب بالمولى ، والحال انه لا سبيل الى دفع الإشكال بما مرّ سابقا من احتمال التفضل او من احتمال التوزيع ، اذ لسان اخبار الباب يأبى عن ذلك لانها صريحة على ترتب الثواب على فعل الوضوء وكذا على فعل الغسل والتيمم.

والثاني : ان امر الواجب الغيري امر توصلي وليس الغرض منه الا التوصل بامتثاله الى امتثال الامر النفسي كسائر الواجبات التوصلية. والحال انه يحصل غرض المولى منها بمجرد الإتيان بالواجب التوصلي سواء أتي بقصد القربة او بلا

__________________

(١) الوسائل ، الباب الثامن من ابواب الوضوء ، ص ٢٦٤.

٣٥٩

قصد القربة ، وان كان قصد القربة شرط الثواب ، وشرط الكمال فيه لا شرط الصحة كما لو ركب المستطيع الدابة المغصوبة وسار الى مكة المكرمة وأدّى الحج فقد أجزأ وكفى ، وان عصى في الغصب ، فكذا فيها. والحال انه لا يكتفى بها ان أتيت بلا قصد القربة.

وعليه فكيف يعتبر في الطهارات الثلاث قصد القربة اجماعا مع انها واجبات غيرية ، وكل الواجبات الغيرية واجبات توصلية ، وهذه واجبات توصلية وكل الواجبات التوصلية لا يشترط فيها قصد القربة. فالطهارات الثلاث لا يشترط فيها قصد القربة. هذا خلاصة الإشكالين الواردين في هذا المقام.

فاجاب المصنف قدس‌سره عن الإشكالين بان كون الشيء عبادة على نحوين : تارة تكون عبادية الشيء بملاحظة تعلق الامر النفسي التعبدي به مثل الواجبات العبادية كالصلاة والصوم والجهاد ونحوها.

واخرى : تكون بملاحظة مصلحة ذاتيّة ورجحان ذاتيّ ، وذلك كالطهارات الثلاث. فالشيء يكون عبادة بلحاظ الرجحان الذاتي الثابت في هذا الشيء وان لم يكن له أمر فعلا ، مثل الصلاة في الدار المغصوبة جهلا او نسيانا ، فهي عبادة لرجحانها ، وان لم يكن لها امر فعلي في هذا الحال. او مثل الصلاة في حالة التزاحم مع الواجب الاهم كالازالة ، فاذا فعلها المكلف في هذه الحالة فهي عبادة موجبة للقرب للرجحان الذاتي الثابت فيها ، وان لم يكن لها أمر بالفعل لاجل المزاحمة مع الواجب الاهم. بل الواجبات الشرعية باسرها تكون عبادات لاجل مصلحتها الذاتية ورجحانها الذاتي.

اذا علم هذا فإنّ الطهارات الثلاث ، من الوضوء والغسل والتيمم ، عبادة لا بملاحظة الامر الغيري بل بلحاظ رجحان ذاتيها ومصلحتها الذاتية ، ويكون اشتراط قصد القربة فيها لاجل مصلحتها ورجحانها ، كما ان حصول الثواب والقرب بها لاجل الرجحان النفسي الثابت فيها.

فهذه الافعال والطهارات الثلاث ، مع هذا الوصف العالي ، تكون مقدمة لعبادة

٣٦٠