البداية في توضيح الكفاية - ج ١

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ نهضت
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-0-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٤٤٨

الشيء ، ويكون مقارنا له. فلو لم نلاحظها لما حصل للمولى الرغبة في التكليف. ولما صحّ عنده الوضع. فاذا كانت الاضافة شرطا وسببا للوجه والعنوان فلا فرق في نظر العقل بين ان تكون الاضافة بين الشيئين المقارنين في الوجود ، وبين شيء وبين شيء متقدّم ، وبين شيء وبين شيء متأخّر.

مثلا : الخروج من البلد الى فرسخين ، فاذا لاحظه العقل بلا اضافة الى شيء كان مباحا لا راجحا ولا مرجوحا ، واذا لاحظه بالاضافة الى شيء سابق مثل دعوة المؤمن واجابته الى الطعام ، او الى شيء مقارن مثل تشييع جنازة او الى شيء لا حق مثل مجيء زيد من السفر ، فالخروج معنون بعنوان الاستقبال ، فيكون ذا اضافة خاصة وحسنا راجحا ، بل ربما يكون واجبا اذا نذر تشييع جنازة المؤمن الخاص مثلا. فالشيء المعنون بعناوين مختلفة يختلف حسنه وقبحه وصلاحه وفساده.

فالمتحصل مما ذكرنا ان الشرط في التكليف هو الصورة الذهنية والوجود العلمي المتقدّم والمتأخّر بل المقارن ، وهي مقارنة مع المشروط زمانا. فالصلاة التي تلحظ بالاضافة الى البلوغ والعقل والقدرة والحياة تكون مأمورا بها وواجبة ، فلحاظها مقارن مع المعلول الذي هو الوجوب.

وكذا في الوضع ، لان عقد الفضولي الملحوظ معه اجازة المالك يؤثر في الملكية ، فلحاظ الاجازة مقارن مع العقد المذكور دائما ، وفي المأمور به هو الوجه والعنوان وهما مقارنان مع ذي الوجه والمعنون ، فالصلاة التي تلحظ مع الوضوء والاستقبال والستر تكون ذات وجه ، فلحاظها مقارن مع المشروط الذي هو عبارة عن الصلاة المأمور بها ، وان كان منشأهما مقدّما في المتأخّر ومؤخرا في المتقدّم فكل الشرائط تكون مقارنة مع المشروط زمانا وان كانت متقدّمة عليه رتبة.

هذه خلاصة ما بسطناه من المقال والكلام في دفع الإشكال المشهور في الشرط المتأخّر في بعض فوائدنا وهو التعليقة على (فرائد الاصول) ولم يسبقني احد من الاصوليين فيما اعلم فافهم وهو تدقيقي لكونه مسبوقا باغتنم واغتنم هذا الجواب وكأنه افتخار منه قدس‌سره.

٣٠١

قوله : ولا يخفى انها بجميع اقسامها داخلة في محل ... الخ فالمقدمة بجميع اقسامها من المتقدم والمقارن والمتأخر داخلة في محلّ النزاع. فمن قال بوجوب المقدمة قال به هنا ، ومن قال بعدم الوجوب قال به هنا أيضا. وبناء على الملازمة العقلية بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته يتصف الشرط اللاحق بالوجوب كالسابق والمقارن ، لانه لا يكاد تحصل الموافقة لامر المولى إلّا باتيان الشرط ، سواء كان سابقا ومتقدّما أم كان مقارنا ومؤخّرا. فلو لا اغتسال المستحاضة في الليل ، على القول باشتراط صوم اليوم بغسل الليل ، لما صح صوم اليوم. لانه اذا فات الشرط فات المشروط. فاذا قلنا : ان غسل الليل يكون لصوم اليوم الآتي فهو من الشرط المتقدم كما سبق هذا.

الواجب المطلق والمشروط :

قوله : الامر الثالث في تقسيمات الواجب ... الخ من جملة تقسيمات الواجب ، تقسيمه الى الواجب المطلق ، والى الواجب المشروط. وقد ذكر لكلّ منهما تعاريف وحدود تختلف بحسب ما اخذ فيها من القيود. مثل ما عن (عميد الدين) من ان الواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه على امر زائد على الأمور المعتبرة في التكليف من البلوغ والعقل والحياة والقدرة ، كالصلاة التي لا يتوقف وجوبها على شيء آخر غير شرائط التكليف كما ذكرت.

ومن ان الواجب المشروط ما يتوقف وجوبه على امر زائد على الأمور المعتبرة في التكليف كالحج مثلا ، الذي يتوقف وجوبه على الاستطاعة وهي غير شرائط التكليف.

ومثل ما عن التفتازاني والمحقق الشريف والمحقق القمى قدس‌سرهم من ان الواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده ، كالصلاة التى يتوقف وجودها صحيحة تامة على الوضوء.

والحال انه لا يتوقف وجوبها عليه ، اذ هي واجبة سواء توضأ أم لم يتوضأ.

٣٠٢

والواجب المشروط ما يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده ، كالحج اذ وجوبه يتوقف على الاستطاعة ، كما ان وجوده في الخارج يتوقف عليها.

ومثل ما عن بعضهم من ان الواجب المطلق ما لا يتوقف تعلقه بالمكلف على امر غير حاصل.

ومن ان الواجب المشروط ما يتوقف تعلقه بالمكلف على امر غير حاصل ، فيقال (اذا استطعت يجب عليك الحج) ولا يقال (اذا توضأت تجب عليك الصلاة) فهذه التعريفات ليست مطردة ولا منعكسة اي ليست مانعة الأغيار ولا جامعة الافراد ، لانه ينتقض تعريف كل واحد منهما بالآخر. اذ وجوب الصلاة يتوقف على ما يتوقف عليه وجودها ، وعلى امر زائد على الشرائط العامة ، مثل الوقت لانه ما لم يتحقق الوقت لم يتحقق وجوبها ولا وجودها صحيحا.

والحال ان الصلاة لا تخرج عن كونها واجبا مطلقا سواء تحقق الوقت أم لم يتحقق ، فينطبق تعريف الواجب المشروط بالاضافة الى الوقت على الصلاة ، كما انه ينطبق تعريف الواجب المطلق على الحج بالنسبة الى قطع الطريق.

فالاولى ان يقال ، في هذا المقام ، ان كل مقدمة لا يتوقف عليها وجوب ذيها فالواجب يكون واجبا مطلقا بالاضافة اليها ، كالصلاة بالاضافة الى الوضوء ، وكالحج الى قطع المسافة.

وكل مقدمة يتوقف عليها وجوب ذيها فالواجب مشروط بالنسبة اليها ، وذلك كالصلاة بالاضافة الى الوقت ، وكالحج الى الاستطاعة ، وكالزكاة الى النصاب فالصلاة اليومية واجب مشروط بالاضافة الى الوقت ، ومطلق بالنسبة الى الطهارة. كما ان الحج واجب مشروط بالنسبة الى الاستطاعة ، ومطلق بالاضافة الى قطع الطريق.

اذا علم هذا فقد ظهر ان الاطلاق والاشتراط وصفان اضافيان ، لا وصفان حقيقيان. هذا مضافا الى ان هذه التعريفات لفظية لشرح الاسم ، وليست بالحد التام ولا بالحد الناقص ، ولا بالرسم التام ولا بالرسم الناقص ، حتى يعتبر العكس والطرد فيها. اعلم ان التعريف على قسمين :

٣٠٣

اولهما : لفظي واسمى ـ وهو عبارة عن تبديل لفظ بلفظ اوضح من اللفظ الاول كقولك (ما السعدانة) اذا سألت بما الشارحة فتقول في الجواب (نبت) وكقولك (ما الرّمد؟) (داء). او (ما السناء؟) (دواء). فلا يعتبر فيه العكس ولا الطرد كما لا يعتبر فيه الاطلاع على حقيقة المعرّف ولا امتيازه عما عداه كما رأيت في المثال.

وثانيهما : تعريف حقيقي يعتبر فيه العكس وجامعية الافراد والطرد ومانعية الاغيار والاطلاع على كنه المعرّف اذا كان حدا تاما ، او امتيازه عما عداه اذا كان غيره من الحد الناقص والرسم التام والرسم الناقص ، والتفصيل موكول في علم المنطق والميزان.

قوله : والظاهر انه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط ... الخ اي يطلق كل واحد من لفظي المطلق والمشروط على معنييهما العرفي وليس للاصوليين اصطلاح جديد فيهما.

والمعنى العرفي للفظ المطلق هنا ان الوجوب غير منوط بشيء ، والمعنى العرفي للفظ المشروط ان الوجوب منوط بشيء. كما ان الظاهر ان وصفي الاطلاق والاشتراط وصفان اضافيان لا حقيقيان ، لان الصلاة واجب مطلق بالاضافة الى بعض المقدمات ، ومشروط بالاضافة الى الاخرى ، وكذا الحج. ولو كانا وصفين حقيقيين لم يكد يوجد واجب مطلق في الشريعة المقدسة ، ضرورة اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة على الاقل يشترط وجوب كل الواجبات بالشرائط العامة من البلوغ والعقل والقدرة والحياة.

فالحري ان يقال ان الواجب مع كل شيء يلاحظ معه ان كان وجوبه غير مشروط به ، فهو مطلق بالاضافة اليه كالصلاة بالاضافة الى الطهارة ، وكالحج الى قطع الطريق. وإلّا فمشروط ، كالصلاة بالنسبة الى الوقت ، وكالحج بالاضافة الى الاستطاعة. وان كان المطلق والمشروط بالقياس الى شيء آخر كانا بالعكس ، يعني أن المطلق مشروط والمشروط مطلق كما علم من المثال المذكور.

٣٠٤

تقييد الهيئة أو المادة :

قوله : ثم الظاهر ان الواجب المشروط كما ... الخ فاعلم ان الوجوب على قسمين :

الاول : ان يكون مطلقا ثابتا في كل حال وفي كل تقدير ، مثل (اكرم زيدا) لان وجوب الاكرام ثابت مطلقا.

والثاني : ان يكون مشروطا ثابتا في حال دون حال وفي تقدير دون تقدير مثل قولك (ان جاءك زيد فاكرمه).

فالانشاء ، وإن لم يعقل فيه التقدير والتعليق ، يختلف مع المنشإ ، لانه اما أن يكون موجودا ، واما أن لا يكون موجودا ، ولكن المنشأ يكون مما يعقل فيه التقدير ، وهو وجوب الاكرام الذي يعلق على المجيء ويشترط به ، فاذا ظهر ان الوجوب يكون مشروطا ، فالواجب مطلق ، فاختلف أن الوجوب الذي هو مفاد الهيئة يكون مشروطا بشرط ، او مادة الامر مشروطة بشرط ، ويكون الوجوب مطلقا ، فاذا قيل (ان جاءك زيد يوم الجمعة فاكرمه) فالوجوب مشروط.

قال المصنف قدس‌سره ان وجوب الاكرام الذي هو مدلول الهيئة مشروط بالمجيء في يوم الجمعة ، فاذا جاء فيه يجب اكرامه ، وان لم يجيء فيه فلا يجب اكرامه ، فالوجوب مشروط بشرط ، وقبل حصول الشرط لا يكون الوجوب فعليا اصلا.

وقال العلامة الانصاري قدس‌سره ان الشرط يرجع الى الواجب ، فان قلنا ان القيد والشرط منوطان بالوجوب الذي هو مدلول الهيئة فلا وجوب حقيقة ولا طلب واقعا قبل حصول الشرط كما هو ظاهر الخطاب التعليقي ، ضرورة ان خطاب (ان جاءك زيد فاكرمه) كون الشرط من قيود الهيئة ، وان طلب الإكرام وايجاب الإكرام معلقان على المجيء بحيث يتحقق ايجاب الإكرام ولا يكون وجوبه موجودا قبل المجيء.

وان قلنا : ان القيد والشرط راجعان الى الواجب الذي هو (الاكرام) في المثال ومادة الامر فالوجوب مطلق فعلي ، والواجب هو (الاكرام) مشروط بالمجيء (فان يجئك فاكرامه حاصل) و (ان لم يجئك فلا يكون اكرامه حاصلا).

٣٠٥

فوجوب الاكرام مطلق فعلي والواجب شيء خاص هو (اكرام زيد الجائي في يوم الجمعة) مثل قولنا (يجب اكرام زيد العالم) فالوجوب مطلق والواجب مقيّد وهو (اكرام زيد العالم) لا مطلق الشخص الذي يسمى بزيد سواء كان عالما أم كان جاهلا.

فبالنتيجة : اختار المصنف قدس‌سره رجوع القيد والشرط في الخطاب التعليقي مثل (ان جاءك زيد يوم الجمعة فأكرمه) الى مفاد الهيئة الذي هو الوجوب ، فقبل حصول الشرط وقبل مجيئه لا وجوب اصلا لا منجزا ولا تعليقا.

واختار الشيخ الانصاري قدس‌سره رجوع القيد والشرط الى المادة التي هي متعلق الوجوب ، فالوجوب مطلق فعلي والواجب الذي هو (إكرام) معلق على المجيء ومشروط به.

واستدل الشيخ قدس‌سره على مدّعاه ، وهو رجوع القيد والشرط الى المادة لا الى الهيئة بان مدلول الهيئة الذي هو وجوب معنى حرفيّ اذ كل معنى يحتاج الى الغير ، فهو معنى حرفيّ ، كالوجوب الذي يحتاج الى المتعلق وسيأتى تفصيله. فكانت للشيخ الانصاري قدس‌سره في هذا المقام نقطتان من الدعوى :

الاولى : ان رجوع القيود المأخوذة في لسان الأدلّة الى مفاد الهيئة محال.

والثانية : ان رجوع القيود والشروط يكون الى المادة التي تكون متعلقة للوجوب لبّا وعقلا ، وان كان مقتضى القواعد العربية ، بحسب المتفاهم العرفي وبحسب ظهور الجملة الشرطية عند اهل اللسان وعند اهل العرف ، رجوعها الى الهيئة دون المادة. واستدلّ على مدعاه بوجهين :

الاول : ان مدلول الهيئة ومفادها معنى حرفيّ وكل معنى حرفيّ جزئي حقيقي ، والجزئي الحقيقي غير قابل للتقييد ، لان الشيء الذي يقبل التقييد هو كلّي يصدق على حصص متعددة ، وذلك كالرقبة حيث إنها تصدق على المؤمنة والكافرة ، وعلى الزنجية والرومية ، فيصح تقييدها بالمؤمنة كما يصح تقييدها بالكافرة فليس في الجزئي الحقيقي اطلاق كي يصح تقييده. فمفاد الهيئة هو معنى خاص جزئي

٣٠٦

غير قابل للتقييد.

وقال الشيخ قدس‌سره ان قيد الواجب المشروط على نحوين :

احدهما : ان يكون واجب التحصيل كما اذا قال المولى لعبده (صلّ متطهرا) فالطهارة ، التي تكون قيدا للواجب الذي هو الصلاة ، واجبة التحصيل. فهذا الواجب يسمّى بالواجب المطلق بالاضافة الى القيد الذي هو واجب التحصيل على العبد.

وثانيهما : ان لا يكون واجب التحصيل لعدم قدرة المكلف على تحصيله. والحال ان التكليف فرع القدرة كما في القسم الواجب التحصيل مثل (صلّ بالغا عاقلا) فالواجب يسمّى بالواجب المشروط بالنسبة الى القيد غير واجب التحصيل ، فالطلب فيهما مطلق والمطلوب مقيد. اي الصلاة مع الطهارة مطلوب ، والحج مع الاستطاعة واجب. فمقدمات الواجب المطلق واجبة التحصيل ، ومقدمات الواجب المشروط غير واجبة التحصيل ، كما رأيت في المثالين المتقدمين.

والثاني : انه ليس في الواقع موضع تكون الارادة فيه مشروطة بشيء ، لان شخص العاقل اذا تصور شيئا فلا يخلو : إما ان يكون هذا الشيء المتصور متعلقا لارادته أم لا.

ونحن لا كلام لنا في الثاني (أي عدم تعلق الشيء المتصور لارادته) لانه خارج عن محلّه. واما القسم الاول لا يخلو من وجهين :

احدهما : ان يكون متعلقا لارادته مطلقا وفي جميع الاحوال والحالات.

وثانيهما ان يكون متعلقا لارادته في بعض الحالات ، ويكون المطلوب حينئذ خاصا ومقيدا كما انه في الوجه الاول مطلقا.

فالخصوصية التي تكون في المطلوب اما أن تكون اختيارية كالطهارة في الصلاة ، واما أن تكون غير اختيارية كالبلوغ والعقل والحياة ونحوها وكالاستطاعة للحج وكالنصاب للزكاة ، واما في الاختياري فاما أن يكون القيد والشرط واجب التحصيل ، وأما أن يكون غير واجب التحصيل ، بل يكون وجوده الاتفاقي دخيلا في الحكم وذلك كالنصاب والاستطاعة.

٣٠٧

فاقسام المطلوب لا تخلو عقلا من هذه الوجوه ، وفي كل واحد منها تكون الارادة (محققا) وتكون (مطلقا) بلا قيد وشرط ولكن المراد مطلق تارة ومقيد اخرى باختلاف القيود ، اذ بعضها واجب التحصيل ، وبعضها الآخر غير واجب التحصيل.

فالاول : مثل الطهارة. والثاني : مثل الاستطاعة والنصاب والبلوغ والقدرة ونحوهما. فاذا كان للمولى طلب فالوجوب مطلق والواجب هو المشروط.

فبالنتيجة : تصوير الواجب المشروط ان الوجوب فيه مطلق ، والواجب المقيد بقيد غير واجب التحصيل كما علمت آنفا فلا نعيده.

مذهب الامامية :

قوله : من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ... الخ قالت الامامية والعدلية : ان الاحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد فان الله تعالى لا يأمر ولا ينهى ولا يفعل فعلا الا لغرض وفائدة ، نظرا الى ان الفعل بلا غرض وبلا فائدة عبث ، والعبث قبيح ، والقبيح يستحيل عليه تعالى ولا يصدر منه جلّ ذكره.

وقالت الأشاعرة : ان الاحكام الشرعية ليست تابعة للمصالح والمفاسد ، وجوزوا على الله تعالى ان يفعل فعلا او يأمر بشيء او ينهى عن شيء بغير غرض وفائدة ، فان الفعل لغرض وفائدة من شأن الناقص المستكمل بذلك الغرض والفائدة ، وهو تبارك وتعالى كامل كمالا تاما لا نقص فيه جلّ وعلا اصلا وابدا. فالقيود التي تكون في لسان الأدلة راجعة الى المادة عقلا ولبا ومربوطا بها لا الى الهيئة لما ذكر من الوجهين المذكورين ، فلا فرق في ذلك المطلب ان تكون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد كما هو الاظهر ، أم لم تكن تابعة لهما. وهو ظاهر لا غبار عليه.

فالتقدير لا محالة راجع الى الفعل الذي هو مادة (اكرم) وهو (اكرام) دون الطلب الذي هو وجوب الاكرام على تقدير المجيء في المثال المذكور آنفا ، ففيه احتمالات ثلاثة.

فبالنتيجة : الاحكام اذا كانت تابعة للمصالح والمفاسد تجري الاقسام هنا ،

٣٠٨

لان الشيء المطلوب اما أن يكون ذا مصلحة في جميع الحالات ، كالعدل والاحسان ، واما أن يكون ذا مصلحة في بعض الحالات ، كالصدق والكذب ، لان الاول مطلوب وحسن اذا لم تترتب عليه مضرّة ومفسدة كهلاك المؤمن.

ولان الثاني قبيح اذا لم يترتب عليه اصلاح في البين ، وإلّا فهو حسن ، كما ان الصدق قبيح اذا ترتبت عليه مفسدة. واما اذا لم تكن تابعة للمصالح والمفاسد فلا محالة انها تابعة لغرض الآمر والطالب ، وغرض الآمر يختلف ، لان الشيء قد يكون مقصودا للآمر في جميع الحالات ، وقد يكون مقصودا له في بعض الحالات ، كما لا يخفى. هذا موافق لما افاده بعض الافاضل المقرر لبحثه لكن بادنى تفاوت من اجل تقديم بعض الكلمات وتأخيره واسقاطه.

جواب المصنف أولا :

قوله : ولا يخفى ما فيه ، اما حديث عدم الاطلاق في مفاد الهيئة ... الخ اجاب المصنف قدس‌سره عن الوجه الاول بان حديث عدم الاطلاق في مفاد الهيئة قد سبق تحقيقه في بيان معنى الحرف ، وقلنا ان الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عامّ في الحروف ، والخصوصية ناشئة من قبل الاستعمال ، فهي من شئونه واطواره ، مثل الخصوصية في الاسماء والافعال. كما ان الاستقلال في الاسماء وعدم الاستقلال في الحروف من شئون الاستعمال واطواره ولوازمه ، وإلّا نفس المعنى وجرم الموضوع له كلي فيهما.

فمعنى الحرف قد يكون كليا اذا وقعت عقيب الامر نحو (سر من كربلاء الى النجف) او عقيب النّهي نحو (لا تسر من طهران الى قزوين) ، لانه في الاول : يمتثل أمر المولى اذا ابتدأ السير من اي نقطة من نقاط كربلاء وينتهي الى نقطة من نقاط النجف الأشرف.

وفي الثاني : يمتثل نهي المولى اذا ترك السير من اي نقطة من نقاط طهران ، يعني يترك رأسا من جميع نقاطه. وقد يكون جزئيا في مقام الاستعمال اذا وقعت

٣٠٩

عقيب الكلام الخبري نحو (سرت من البصرة الى الكوفة) لان هذا يصدق اذا ابتدأ السير من نقطة معينة منها وينتهي الى نقطة معينة من الكوفة.

فالخصوصية من قبل الاستعمال كالاسماء ، اذ الخصوصية فيها تكون أيضا من اطوار الاستعمال ، كلفظ الابتداء المصدري الذي وضع للابتداء العام الكلي ، ولكن استعمل في الخاص المعين الجزئي في مقام الاستعمال كابتداء الصلاة والتدريس.

فمعنى الاسم كمعنى الحرف ، قد يكون كليا اذا ذكر بلا متعلق وخصوصية ، وقد يكون جزئيا حقيقيا اذا ذكر مع المتعلق والخصوصية فكما تكون في مقام الاستعمال كذلك دائما ، وانما الفرق بينهما ان الاسماء وضعت لتستعمل وقصد بها المعنى بما هو هو مستقلا والحروف وضعت لتستعمل وقصد بها المعنى بما هو آلة وحالة لمعاني متعلقاتها فلحاظ الآلية في الحروف كلحاظ الاستقلالية في الاسماء في كون كل واحد منهما من مشخصات الاستعمال لا من خصوصيات المعنى ومن طوارئه ولوازمه كما لا يخفى على اولي الدراية والنّهي. ولكن الطلب المستفاد من الهيئة المستعملة فيه نحو (اضرب زيدا) الذي يستعمل في طلب الضرب عن المخاطب كلّي قابل للتقييد بضرب شديد او خفيف او كثير او قليل كما لا يخفى.

جواب المصنف ثانيا :

قوله : مع انه لو سلّم انه فرد ، فانما يمنع عن التقييد لو انشئ أولا غير مقيّد ... الخ اجاب المصنف قدس‌سره عن الوجه الاول ثانيا بانا لو سلمنا ان الهيئة مستعملة في الفرد من الطلب ، فالفرد انما لا يقبل التقييد اذا أنشئ اولا مطلقا ثم اريد تقييده ، فهذا الفرد لا يمكن تقييده عقلا ، لان الفرد لا يكون مطلقا كي يصح تقييده ، واما اذا أنشئ الفرد اولا مقيدا بقيد ، اي على تقدير ك (المجيء) دون تقدير آخر مثل (اذا جاءك زيد يوم الجمعة فاكرمه) فهذا مما لا إشكال في تقييده كما علم من المثال.

قوله : غاية الامر قد دلّ عليه بدالّتين وهو غير انشائه اولا ... الخ غاية الامر انه اذا قيد الفرد من الاول بقيد. فالدال الاول : يدل على الطلب ، اي صيغة الامر تدل على

٣١٠

طلب المبدإ عن الفاعل المخاطب.

والدال الثاني ، وهو القيد ، يدل على التقييد ، نحو (ان جاءك زيد يوم الجمعة فأكرمه) فالصيغة تدل على طلب الاكرام والشرط يدل على وجوب الاكرام بشرط المجيء. ولكن التقييد أولا غير انشاء الفرد اولا ثم تقييده ثانيا. فانه لا يجوز. ولكن تقييده أوّلا جائز.

قوله : فافهم وهو اشارة الى انه لو سلّم ان طلب الفرد اذا انشأ أولا مطلق فلا يقبل التقييد بعدا. فما الحيلة في مثل قولك (اكرم زيدا ان جاءك يوم الجمعة) بحيث أخّر الشرط عن الطلب بالصيغة؟ فان الطلب قد انشئ اولا مطلقا فكيف يعقل تقييده بالشرط بعد هذا؟

قوله : فان قلت على ذلك يلزم تفكيك الانشاء عن المنشأ حيث لا طلب ... الخ

الاعتراض على المصنّف :

اعترض المعترض على المصنّف بانه لو رجع القيد الى الهيئة دون المادة ليلزم انفكاك العلّة عن المعلول والانشاء عن المنشأ ، لانه قبل حصول الشرط وقبل تحقق القيد لا وجوب اصلا على هذا المبنى. فاذا أنشأ المولى وجوب المشروط قبل حصول الشرط في الخارج انفك الانشاء عن المنشإ وانفكت العلّة عن المعلول وهو باطل.

بخلاف ما اذا كان الشرط راجعا الى المادة لانه يتحقق الوجوب بمجرد الانشاء فيحصل المنشأ الذي هو الوجوب بمحض الإنشاء ، فلا تفكيك بينهما.

غاية الامر أن الواجب شيء خاص ومقيد ، فاجاب المصنف عن هذا الإشكال بان علّة كل شيء تلحظ بالاضافة الى معلول نفس العلّة ، مثل السم المهلك للنفس في ساعة والسم الآخر الذي يهلك النفس بعد سنة ، فهما علّة للاهلاك ، ولكن احدهما بعد ساعة من أكله ، والآخر بعد سنة.

والحال انه لا تفكيك بين العلة وبين المعلول ، لانه في الاول يكون علّة الهلاك

٣١١

من حين الهلاك لا من حين الأكل ، وفي الثاني مثل الاول ايضا. نعم انه يكون التفكيك بينهما اذا هلكت النفس بعد ساعتين في الاول. وبعد سنتين في الثاني. فكذا الانشاء علّة للمنشإ بعد حصول الشرط والقيد ، وليس علّة له قبل حصول الشرط ، فلا يلزم التفكيك بين الانشاء وبين المنشإ وبين العلة والمعلول. نعم يلزم التفكيك لو لم يحصل الوجوب بعد حصول الشرط ، وبعد تحقق القيد في الخارج اذ الانشاء يكون علّة للمنشإ حين حصول الشرط.

فالانشاء لأمر على تقدير ، كالاخبار به على تقدير ، بمكان عال من الإمكان. فالاول نحو (ان جاءك زيد فاطعمه) والثاني نحو (ان قدم السلطان في هذا المكان فزيد قائم لتعظيمه) كما يشهد بهذا المطلب الوجدان السليم.

قوله : فتأمل جيدا وهو اشارة الى دقة المطلب المذكور آنفا.

قوله : واما حديث لزوم رجوع الشرط الى المادة لبّا ففيه ... الخ واجاب المصنف قدس‌سره عن الوجه الثاني للشيخ الانصاري قدس‌سره بان الطلب النفساني الذي ينقدح ويظهر في نفس الطالب مطلق دائما ، لا اشتراط فيه ولا قيد له. وان القيد راجع الى الفعل والمادة لبّا. سلّمنا كل ذلك. غير ان الانسان قد يتوجّه الى شيء فيتعلّق به طلبه النفساني لاجل ما فيه من المصلحة ، ولكن ربما يمنعه المانع عن انشاء المطلق الحالي ولو بنحو الواجب المعلق الاستقبالي فيضطر الانسان الى إنشاء طلب مشروط بشرط مترقب الحصول المقارن لزوال المانع ثبوتا.

وهذا ظاهر بناء على تبعية الاحكام للمصالح في نفس الاحكام. لانه ، كما تكون المصلحة في الحكم المطلق بلا قيد ، فكذا تكون في الحكم المشروط.

فالاول : كوجوب الصلاة. لانه مطلق بالاضافة الى الطهارة.

والثاني : كوجوب الزكاة ، لانه مقيد بالنصاب ، وكذا وجوب الحج اذ هو مقيد بالاستطاعة.

واما بناء على تبعية الاحكام للمصالح في المتعلقات التي هي عبارة عن افعال المكلفين ، كالصلاة والصوم والحج والجهاد والامر بالمعروف والنّهي عن

٣١٢

المنكر ، فكذلك ظاهر فان التبعية انما تكون في الاحكام الواقعية ، فان الشيء بعد ما كانت فيه مصلحة تامة ، فلا محالة ، يتبعها الحكم الواقعي.

ولكن الحكم الفعلي قد يتخلف عن المصلحة التامة الكاملة كما في موارد قيام الامارات او الاصول العملية على خلاف الاحكام الواقعية الموجب لسقوطها عن الفعلية ، والحال ان مصالح متعلقاتها محفوظة ، او في بعض الاحكام في اول البعثة. فكم من واجب كانت فيه مصلحة تامة ، وكم من حرام فيه مفسدة تامة. والحال ان الحكم كان مجعولا في الواقع على طبق المصلحة وعلى طبق المفسدة ومع ذلك كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مانع عن انفاذه واظهاره.

ومقام البحث من هذا القبيل. فقد يكون الشيء فيه صلاح كامل ويتبعه الحكم الواقعي ، ولكن يمنع وجود المانع الآمر عن انشاء الطلب المطلق الفعلي ، فحينئذ ينشئ الطلب المشروط الثابت على تقدير شرط متوقع الحصول المقارن لزوال المانع ، خوفا من ان لا يتمكن من الجعل والايجاب المطلق عند زوال المانع فينشئ الطلب من الآن مشروطا بشرط ومقيدا بقيد حتى يصير الحكم فعليا عند حصول الشرط بنفسه بلا حاجة الى خطاب جديد آخر.

بل بعضها الآخر الى يوم قيام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف ، تتوقف فعليته على حضور شمس الهداية ونور الانوار ، فلا ملازمة بين إنشاء الاحكام وبين فعليتها ، بحيث اذا أنشئت صارت فعلية ، كما يظهر هذا المطلب من الاخبار المروية عن الائمة عليهم‌السلام.

قوله : فان قلت فما فائدة الانشاء اذ لم يكن المنشأ به ... الخ فاعترض على المصنف القائل برجوع القيد الى الهيئة في الخطاب التعليقي بانا لو سلّمنا هذا المبنى والطلب التقديري للزم تفكيك الانشاء عن المنشإ ، فالانشاء فعليّ والمنشأ ، وهو وجوب الاكرام استقباليّ حاصل بعد المجيء ، وهذا غير معقول كما مرّ.

فاجاب المصنف عنه بقوله : ان الانشاء حيث تعلق بالطلب التقديري وهو طلب إكرام زيد على نحو الوجوب على تقدير مجيئه. فلا محالة انه لا يحصل

٣١٣

الطلب فعلا قبل حصول الشرط ، وقبل تحقق القيد. بل يكون الانشاء معلقا على حصول الشرط ، وهو مجيئه يوم الجمعة ، فاذا حصل الشرط وتحقق القيد كان الانشاء محقّقا ، وإلّا لزم تخلف الانشاء عن المنشإ وهو باطل بل محال عقلا.

ففائدة الانشاء انه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط بلا حاجة الى خطاب آخر بعد حصوله ، بحيث لولاه لما كان المولى متمكنا من الخطاب فعلا بعد حصول الشرط ، بان كان محذور ثابتا في تأخير الخطاب عمّا قبل حصول الشرط الى ما بعد حصوله. او كان الإشكال في التأخير مطلقا ، وهو عدم المصلحة فيه.

فلو لم يتمكن المولى عن الانشاء في زمان حصول الشرط ، او يكون له مانع عن الانشاء في حين حصوله اكتفى بهذا الوجوب المشروط. مضافا الى فائدة اخرى لهذا الانشاء وهي ان الخطاب المشروط بالاضافة الى الأشخاص الواجدين للشرط فعليّ وواجب فعليّ فخطاب (حجّوا ان استطعتم) خطاب ووجوب فعلي بالاضافة الى المستطيعين ، وهو واجب انشائي شأني بالنسبة الى غير المستطيعين.

فللخطاب المشروط قبل حصول شرطه فائدتان كما ذكر آنفا.

فان قيل انه يلزم استعمال اللفظ في المعنيين في اطلاق واحد ، وهما الوجوب الشأني بالنسبة الى غير الواجد للشرط ، والوجوب الفعلي بالاضافة الى الواجد للشرط كما قلت هذا في صيغة الامر وهي (حجوا) في المثال.

قلنا ان خطاب (حجوا) يدل على انشاء الوجوب ، وعلى الوجوب الانشائي فقط ، ولكن العقل والنقل من الخارج يدلان على فعلية الوجوب بالنسبة الى موضوع الوجوب والواجب وهو شخص المستطيع ، كما ان الخطابات الشرعية ، بالاضافة الى العالمين بها فعلية ، وبالنسبة الى الجاهلين بها شأنية انشائية ، فليس في المقام استعمال اللفظ في معنيين مختلفين كما توهم.

قوله : فافهم وتأمل جيدا وهو تدقيقي لا غير.

٣١٤

دخول مقدمات الواجب المطلق في حريم النزاع :

قوله : ثم الظاهر دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع ... الخ ولا ريب في ان مقدمات الواجب المطلق داخلة في محل النزاع بمعنى أنّ العقل يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب مقدماته شرعا أم لا يحكم بها؟ فيه خلاف بين الاعلام ، ذهب جمع منهم الى ان المولى اذا أوجب الشيء فالعقل يحكم بانه اوجب مقدمته. وذهب الآخر الى عدم الوجوب ، بمعنى ان العقل لا يحكم بان المولى اذا اوجب الشيء قد اوجب مقدمته ، بل الوجوب العقلي يكفي ولا ضرورة الى وجوب شرعي لها.

اما مقدمات الواجب المشروط فهي على قسمين : الاولى : مقدمة وجودية. والثاني مقدمة وجوبية. فالاولى : كقطع المسافة الذي هو مقدمة وجودية للحج. والثانية : كالاستطاعة للحج. فالمشهور قال بان مقدمات الواجب المشروط ، سواء كانت وجودية أم كانت وجوبية ، خارجة عن محل الكلام.

فلذا خصّص بعض العلماء النزاع بمقدمات الواجب المطلق ، فالاظهر ان المقدمات الوجودية للواجب المشروط داخلة في محل الخلاف كمقدمات الواجب المطلق. فاذا قلنا بوجوبها فهي تابعة لوجوب ذي المقدمة. فان كان وجوبه مشروطا فوجوبها مشروط ايضا. وبمجرد كون وجوب ذي المقدمة فعليا ، يصير وجوبها فعليا. فهذه المقدمات على القول بوجوبها واجبة لكن بوجوب مشروط.

واما المقدمات الوجوبية التي يتعلق بها اصل وجوب ذي المقدمة ، مثل الاستطاعة للحج ، والنصاب للزكاة ، والوقت للصلاة ، فعلى مذاق المشهور الذي هو عبارة عن تعلق الشرط بالهيئة وعن تعلق القيد بالوجوب ، فهي خارجة عن محل الكلام. اذ قبل حصولها وتحققها لا يكون الوجوب ثابتا لذي المقدمة حتى يترشح الوجوب منه اليها. اما بعد حصولها وتحققها فلا معنى حينئذ للحكم بوجوب تحصيلها ، اذ وجوب تحصيل الشيء بعد حصوله طلب للحاصل ، وهو قبيح لا يصدر من المولى الحكيم. مضافا الى كونها غير مقدورة للمكلف ، كدخول الوقت والاستطاعة

٣١٥

والنصاب. فالمصنّف قال ، تبعا للمشهور ، لا وجوب اصلا قبل حصول الشرط ، فعلى هذا المبنى ، فهذا النحو من المقدمات ، خارج عن محل الكلام كما ذكر وجهه.

واما بناء على مذهب الشيخ قدس‌سره ، وهو ان الوجوب فعليّ حاليّ والواجب استقباليّ في الواجب المشروط وفي الخطاب التعليقي. نحو : (ان جاءك زيد يوم الجمعة فاكرمه) ، و (ان استطعتم فحجّوا) فمقدمات وجودية للإكرام وللحج واجبة غير أن الاستطاعة داخلة في محل الكلام وواجبة بوجوب مطلق ، ان حصلت الاستطاعة في محلها. وان لم تحصل في ظرفها فهو يكشف عن عدم وجوبها أوّلا فسائر المقدمات محكوم بالوجوب ظاهرا حتى يعلم حال الاستطاعة أهي حاصلة الى الانتهاء أم لا؟ فيكون الواجب المشروط الشيخي كالواجب المعلق الفصولي في دخول مقدمتهما في محل الكلام ، كمقدمات الواجب المطلق ، والوجوب في الواجب المشروط وفي الواجب المعلق فعلي حالي ، والواجب فيهما خاص استقبالي. فاذا كان الوجوب فعليا فلا محالة تكون المقدمات المقدورة ، غير الاستطاعة ، واجبة ظاهرا على مذهب الشيخ ومن تبعه على تقدير حصول الاستطاعة في محلها.

فالمقدمات الوجوبية خارجة عن محل النزاع على القولين ، لانه قد سبق ان المقدمات على نوعين :

الاول : ان تكون واجبة التحصيل كالطهارة.

والثاني : ان تكون غير واجبة التحصيل مثل الاستطاعة فلو حصلت الاستطاعة اتفاقا من حيث التجارة او من حيث الارث مثلا ، فالحج واجب. فهذا النوع من المقدمة خارج عن محل الكلام في مقدمة الواجب بناء على مذهب الشيخ قدس‌سره.

فتحصل مما ذكرنا ان كل واجب ، بالاضافة الى المقدمة المقدورة للمكلف ، واجب مطلق ، كالصلاة بالاضافة الى الطهارة ، وكالحج بالنسبة الى قطع المسافة. وبالاضافة الى المقدمة غير المقدورة واجب مشروط كالصلاة بالاضافة الى الوقت وكالحج بالنسبة الى الاستطاعة. وان النسبة بين المقدمة الوجودية وبين المقدمة الوجوبية من النسب الاربع هي عموم وخصوص مطلق. اذ كل مقدمة وجوبية

٣١٦

مقدمة وجودية ، كالاستطاعة ، اذ كما يتوقف وجوب الحج عليها فكذا يتوقف وجوده في الخارج عليها وليس العكس. لان قطع المسافة مقدمة وجودية للحج ، وليس مقدمة وجوبية له ، لانه واجب على المستطيع سواء قطع المسافة أم لا. وان المقدمات الوجوبية للواجب المشروط خارجة عن محل الكلام عند المصنف قدس‌سره وداخلة فيه عند الشيخ الانصاري قدس‌سره.

وان في الواجب المشروط يكون الوجوب فعليا والواجب استقباليا عند الشيخ قدس‌سره. واما عند المصنف فهما بالعكس ، يعني أن الوجوب استقبال ، اذ لا وجوب قبل حصول الشرط والواجب فعلي لانه قد أنشئ معلقا على الشرط. وان الوجوب الغيري للمقدمة تابع لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط. فاذا كان وجوب ذي المقدمة مطلقا كان وجوبها مطلقا ، كالصلاة والطهارة ، واذا كان ذوها مشروطا كان وجوبها مشروطا ، كالحج والاستطاعة ، لان وجوبها ترشحي وهو لا يزيد عن وجوب ذيها ولا يخالفه فيهما. هذا ثابت في غير المعرفة والتعلّم من المقدمات اي مقدمات اصول الدين.

وجوب المعرفة والتعلّم :

قوله : واما المعرفة فلا يبعد القول بوجوبها حتى في الواجب المشروط ... الخ فالمعرفة والتعلّم ليستا تابعين لذي المقدمة في الاطلاق والاشتراط ، فلا يبعد القول بوجوبهما حتى في الواجب المشروط قبل حصول شرطه وقيده ، لكن لا من باب الملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب مقدمته التي هي مناط الحكم عقلا بوجوب المقدمة ، بل لحكم العقل بوجوب الفحص عن الأحكام الواقعية بعد احتمال التكليف ، لان احتماله ، لو لم يكن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، منجّز للتكاليف الواقعية.

والحال ان اجراء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يتوقف على الفحص وعلى طلب العلم بالواقع. فالعقل يحكم حينئذ بوجوب الفحص عن الواقع وبوجوب

٣١٧

تحصيل العلم بالواقعيات ، أعم من الواجبات المطلقة ومن الواجبات المشروطة.

فاذا حصل العلم بالوجوب او عدم الوجوب او بالحرمة او بعدمها بعد الفحص عن الاحكام الواقعية او عثرت على الأدلة التي تدل على الاحكام الواقعية ، فهو مطلوب ، وإلّا يحكم العقل بالبراءة العقلية من باب قبح العقاب بلا بيان وقبح المؤاخذة بلا برهان ، فوجوب تحصيل العلم والمعرفة على المجتهد انما هو من باب وجوب الفحص بحكم العقل ، ووجوب التعلم على المقلّد يكون عقلا وشرعا. اما عقلا ، فلاحتمال الضرر على ترك التعلم ، ودفع الضرر ، ولو محتملا ، واجب عقلا. واما شرعا فللروايات عن طريق اهل البيت عليهم‌السلام. منها الخبر النبوي المشهور وهو : «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» فلذا احتمل بعض الوجوب النفسي لتحصيل العلم والمعرفة والتعلّم لا من باب الوجوب المقدّمي الترشحي.

قوله : فافهم وهو اشارة الى ان التعلّم يكون واجبا مطلقا فيما لم يعلم المكلف طريق الاحتياط. واما في الموارد التي علم المكلف طريق الاحتياط فيها لم يجب التعلم ويكون المكلف قد ادّى وظيفته من طريق الاحتياط وهو حسن عقلا. وسبيل النجاة وهو واضح.

اطلاق الواجب على الواجب المشروط :

قوله : تذنيب لا يخفى ان اطلاق الواجب على الواجب المشروط ... الخ الكلام في تحقيق حال اطلاق الواجب على الواجب المشروط الذي لا يجب إلّا بعد حصول الشرط من حيث الحقيقة والمجاز.

فالحق في المقام ان اطلاق الواجب على الواجب المشروط نوعان كما ان في جميع المشتقات يكون اطلاقها على ذات النوعين :

الاول : ان يكون الاطلاق بملاحظة حال حصول الشرط. ولا ريب ان هذا الاطلاق يكون على نحو الحقيقة مثل ان يقال (ان الحج واجب بعد حصول الاستطاعة) وبملاحظة حال حصولها.

٣١٨

والثاني : ان لا يكون الاطلاق بملاحظة حال حصول الشرط بل يكون حال النطق مجازا. غاية الامر ان لحاظ حال حصول الشرط يكون مصحّحا لهذا الاطلاق ، وتكون علاقة المجاز وهي علاقة الاول والمشارفة لان الحج يصير واجبا بعد حصول الاستطاعة.

فلا بد ان يكون اطلاق الواجب المشتق على الواجب المشروط قبل حصول شرطه مجازا بعلاقة الأول والمشارفة نحو (من قتل قتيلا فله سلبه) لان القتيل يكون فعيل بمعنى مفعول اي (من قتل مقتولا) والحال انه لا معنى لقتل مقتول ثانيا لكن يطلق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الكافر الحيّ (مقتولا) بعلاقة الاول ، لانه علم انه مقتول بعد ساعة او ساعتين او ساعات. فكذا في المقام ، لانه ـ وان لم يكن الوجوب قبل حصول الشرط ـ ولكن يطلق الواجب عليه مجازا بعلاقة الاول والمشارفة.

واما بناء على مذهب الشيخ في الواجب المشروط القائل بكون الوجوب فعليا حاليا والواجب خاصا استقباليا فلا بدّ من ان يكون اطلاق الواجب عليه قبل حصول الشرط حقيقة ، اذ يكون المعنى الحقيقي موجودا على مبنى الشيخ ومن تبعه.

وحكي القول بالمجاز عن الشيخ البهائي قدس‌سره لتصريحه بان اطلاق الواجب مجاز في المشروط بعلاقة الاول او المشارفة.

فبالنتيجة : اذا اطلق لفظ الواجب المشتق على الواجب المشروط بملاحظة حال حصول الشرط يكون حقيقة عند الكل. وانما الخلاف بين المصنف والشيخ قدس‌سره في اطلاقه عليه قبل حصول الشرط. فالمصنّف يقول بالمجاز اذ لا وجوب قبل الحصول ـ أي حصول الشرط ـ عنده. والشيخ بالحقيقة وهو واضح لا غبار عليه.

فان قيل : اي فرق بين الاول والمشارفة؟ يعني هل الفرق موجود بينهما؟ قلنا : نعم ان الفرق موجود بينهما ، وهو ان علاقة المشارفة تكون بلحاظ المناسبة والمشابهة بين الحالين العارضين على شيء في زمانين نحو اطلاق القتيل على المصلوب للمناسبة بين المصلوب وبين القتيل اللذان يعرضان على شخص ، لكن عنوان المصلوب في الزمن المتقدم ، وعنوان القتيل في الزمن المتأخر فيطلق القتيل على

٣١٩

المصلوب مجازا بعلاقة المشارفة ، لان المصلوب مشرف على القتل وزهوق الروح.

وان علاقة الاول تكون بلحاظ المناسبة بين المسميين نشأ تعددهما واختلافهما من طروء عارض مع قطع النظر عن مناسبة زماني المسميين ، اي مع قطع النظر عن قرب الزمانيين ، بخلاف المشارفة فانه يلحظ فيها قرب زماني المسميين نحو اطلاق الدقيق على الحنطة التي لم تطحن بعد او مثل اطلاق الخمر على العنب في سورة يوسف الصديق عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً)(١) اي عنبا يصير خمرا.

استعمال صيغة الامر حقيقة في الواجب المشروط :

قوله : واما الصيغة مع الشرط فهي حقيقة على كل حال لاستعمالها ... الخ ولا يخفى أن صيغة الامر وضعت للوجوب. فاذا استعملت في الواجب المشروط فهو حقيقة على كلا القولين ايضا. اما على القول المشهور وعلى مختار المصنف قدس‌سره فلان الصيغة قد استعملت في انشاء الوجوب المشروط ، لكن تستفاد مشروطية الوجوب من الدليل الخارج على طريقة الدالّين والمدلولين مثل (ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) لان مجموع جملة الجزاء في هذا المثال وهي جملة (فاعتق رقبة مؤمنة) يدل على المطلوب الخاص ، والحال ان جميع الفاظها قد استعمل في معانيها التي وضعت الالفاظ لها. وكذا الفاظ جملة الشرط وهي جملة (إن ظاهرت) ففي هذا المورد قد استعملت الصيغة في انشاء الطلب والوجوب وكون الوجوب مشروطا يستفاد من الجملة الشرطية.

غاية الامر : ان الدالّين موجودان. احدهما الجملة الاولى ، والآخر الجملة الثانية ، والمدلولان موجودان ، وهما مدلول الاولى ومدلول الثانية ، إذ الاولى تدل على القيد والشرط ، والثانية على الطلب الوجوبي المطلق على مذهب الشيخ قدس‌سره ،

__________________

(١) سورة يوسف : آية ٣٤.

٣٢٠