البداية في توضيح الكفاية - ج ١

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ نهضت
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-0-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٤٤٨

للعبد ، فلزم تخلف ارادته عن مراده ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وتخلّف العلة عن معلولها.

قوله : ان قلت ان الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بارادتهما ... الخ فاذا كان الكفر والعصيان مسبوقين بالارادة ولا يكونان كيد المرتعش التي لا تكون بالاختيار اصلا ، فارادة العبد لهما وان كانت هي المؤثرة فيهما ، إلّا انهما ترجعان بالنهاية الى الشيء الذي هو خارج عن الاختيار لانهما ممكنتان وكل ممكن لا بد ان ينتهي الى واجب الوجود بالذات ، وإلّا يلزم الدور أو التسلسل. فارادة المؤمن الطاعة والايمان ، واردة الكافر الكفر والعصيان لا بد من ان تكون لعلة توجب التفاوت في ارادة المؤمن والكافر ، وإلّا فان كانا في جميع الذاتيات والعوارض وما له دخل في هذه الافعال مثلين فيستحيل ان يختار احدهما الطاعة والايمان والآخر الكفر والعصيان والعلة التي توجب تفاوت ارادة المؤمن والكافر هي الارادة التكوينية لا غير.

غاية الامر : فانتهت هذه الافعال الى الواجب لان ارادته التكوينية عين ذاته المقدسة ومع تعلق ارادة الباري بها لا تصح المؤاخذة على ما لا يكون بالاختيار بل يكون بالنهاية بلا اختيار.

قوله : قلت ان العقاب انما يستتبعه الكفر والعصيان التابعان للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية ... الخ العقاب انما يكون على الكفر والعصيان الناشئين عن ارادة شخص الكافر والعاصي ولكن سبب هذه الارادة وعلتها هو شقاوة ذاتي شخص الكافر والعاصي وخبث سريرتها ، فاذا انتهى سبب الفعل الى الذاتي وهو لا يعلل فلا يكون موقع ل (لم وبم) وانقطع السؤال رأسا بانه لم جعل السعيد سعيدا في بطن أمه؟ فان السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي بنفسه وفي بطن أمه كما في الخبر النبوي : (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه) وانما اوجدهما ، نعم يبقى سؤال آخر وهو انه لم يكون ذات الكافر والعاصي بهذا النحو الذي يكون مقتضيا للكفر والعصيان وذات

٢٠١

المؤمن والمطيع مقتضيا للايمان والاطاعة.

وجواب هذا السؤال : ان مراتب الوجود في الحيوان والانسان ، بل في النباتات والجمادات مختلفة ، وكل موجود محدود بحدود خاصة وهو في حده وجوده افضل من عدمه ، ولو كان بالاضافة الى سائر الوجودات ناقصا وقبيحا ، مثلا : وجود ترابي مع وجود بعض المعدنيات مثل الذهب والفضة يكون متفاوتا تفاوتا فاحشا ، لانه لا تترتب آثار المعدنيات على التراب ، وهذا لا يوجب كونه غير موجود ، ومخلوق وكذا العقرب وسائر الحيوانات وكل واحد منها في حدوده ومراتبه حاو نحوا من الوجود.

وبملاحظة حدود وجودها ، تختلف في الآثار والخواص ووجود كلها خير من عدمها. وكذا بنو آدم يختلفون بحسب الطبائع والملكات النفسانية وبحسب الذاتيات وحدود الوجود اختلافا فاحشا ، فلذا يكون بعضهم سيد المرسلين والآخر اشقى الاوّلين والآخرين كما اشير اليه في الحديث النبوي : «السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه» ولذا قيل ان الانسان جنس لانه يشتمل على انواع مختلفة بحسب السليقة والطبائع والبواطن والسرائر.

ولا يخفى ان هذا المطلب لا يقدح بالتكاليف ولا بصحتها لانا اذا رجعنا الى وجداننا وجدنا انفسنا في الافعال وارادتها قادرين على الفعل والترك ، وكل عاص حين العصيان بالوجدان يرى نفسه قادرا على فعل المعصية وعلى تركها ، وهذا بالاضافة الى الفعل ، بديهي.

واما بالنسبة الى الارادة ففيه مجال للكلام بين الاعلام ، ومن شاء الاختبار ، اي من اراد اختبار هذا المطلب ، فليرجع الى وجدانه في الافعال وفي ارادتها ، فسيرى نفسه فيها مختارا ، اي قادرا على فعلها وتركها مع ما هو عليه من صفاته النفسانية وملكاته النفسانية الفاضلة أو الخبيثة ، وقد طال فيه الكلام بين الاعلام ، وهذا المقدار عندي.

قوله : قلم اينجا رسيد وسر بشكست ... الخ لان وظيفة القلم تحرير مسائل

٢٠٢

الاصول وقواعدها لا تحرير مسائل الكلام والاعتقاد لا سيما القضاء والقدر الذي لا تدركه العقول ولا تسعه الافهام. وكل شيء اذا انحرف عن مسيره يقع في ورطة وفي معرض الحوادث ، ولذا قال المصنف قدس‌سره هنا هذا الكلام المذكور على ما قيل.

قوله : وهم ودفع لعلك تقول اذا كانت الارادة التشريعية منه ... الخ اعترض هنا ثالثا بانه اذا كانت الارادة والطلب متحدين فالارادة التشريعية للباري جلّ وعلا تكون بمعنى العلم بالصلاح في فعل المكلف كما مرّ فيلزم في الخطابات الشرعية التي ينشأ فيها الطلب والارادة ايضا أن ينشأ العلم بالمصلحة ، لان ارادة الباري عزّ اسمه تكون علما بالصلاح في فعل المكلف.

والحال انه من الواضح ان العلم غير قابل للانشاء ، لانه من الصفات الواقعية والانشاء يتعلق بالامور الاعتبارية لا بالامور الواقعية ، لا سيما في علم الباري ، لان علمه عين ذاته ، اذ هو صفة ذاتية لواجب الوجود ، فلا بد ان نقول بمغايرتهما ، فالمنشأ حينئذ هو مفهوم الطلب لا الارادة حتى لا يلزم انشاء العلم بالصلاح.

والمراد من الأمور الاعتبارية نحو الملكية والزوجية والحرية ونحوها التي لا يوجد في الخارج الا منشأ اعتبارها. ان الفرق بين الأمور الاعتبارية وبين الأمور الانتزاعية قد سبق في مبحث المشتق.

قوله : لكنك غفلت عن اتحاد الارادة مع العلم بالصلاح خارجا لا مفهوما ... الخ فاجيب عن هذا الإشكال بان المنشأ في الخطابات الشرعية هو مفهوم الطلب ، لا الطلب الخارجي ، والمتحد مع الارادة التشريعية التي هي العلم بالصلاح هو الطلب بحسب الخارج ، لا بحسب المفهوم.

وكذا الارادة ، كما ان صفات الباري عزّ اسمه متحدة مع ذات الباري في الخارج ، واما بحسب المفاهيم فهي متغايرة مع مفهوم واجب الوجود لذاته. كما ان مفهوم بعضها مغاير لمفهوم بعضها الآخر.

فبالنتيجة ، فان استدلّ المستشكل بهذا القياس ، وهو المنشأ بالصيغة ، اي الامر أو النهي هو الطلب. والطلب هو الارادة بناء على اتحادهما مفهوما ومصداقا وانشاء ،

٢٠٣

فالمنشأ بالصيغة هو الارادة ، ثم نجعل هذه النتيجة صغرى ، ونقول ان المنشأ بالصيغة هو الارادة ، وكل ارادة تشريعية هي العلم بالصلاح في فعل المكلف.

فالمنشأ بالصيغة هو العلم بالصلاح. فهذه النتيجة فاسدة قطعا ، اذ العلم غير قابل للانشاء ، لانه من الأمور الواقعية ، ومن الصفات الحقيقية ، لا من الأمور الاعتبارية ، وذلك لان من شرائط انتاج الشكل الاول بحسب الكيف ايجاب الصغرى ، وبحسب الكم كلية الكبرى وتكرّر الحد الوسط ، وهنا لم يتكرر الحد الوسط في القياس الاول ولا في القياس الثاني ، لان الطلب المحمول في صغرى قياس الاول هو مفهوم الطلب لا مصداقه ، اذ المنشأ بلفظ (بعت هذا الفرس بالف درهم) مثلا ، هو مفهوم لفظ البيع وهو مبادلة الفرس بالف درهم ، لا مصداق المبادلة ، لانه من الأمور الواقعية غير قابل للانشاء.

والطلب (الموضوع) في كبرى قياس الاول هو مصداق الطلب ، لا مفهومه ، لانه يكون متحدا مع الارادة التشريعية ، وبحسب المفهوم هما متغايران ، والارادة (المحمول) في صغرى قياس الثاني ، هو مفهوم الارادة لانه قابل للانشاء ، لا مصداقها.

والارادة (الموضوع) في كبرى قياس الثاني هي مصداقها ، لا مفهومها ، اذ هو متحد مع العلم بالصلاح في فعل المكلف ، فلاجل هذا تكون نتيجة القياس فاسدة.

فاذا كان المنشأ هو مفهوم الطلب في الانشاءات الشرعية لا الطلب الخارجي فلا غرو ولا حرص اصلا في اتحاد الارادة والعلم عينا وخارجا ، بل لا محيص عنه ، اي عن الاتحاد ، عينا وخارجا في جميع صفات الباري جلّ وعلا ، لرجوع صفات الباري الى ذاته المقدسة ، اي لاتحاد صفات الباري مع ذات الباري عينا وخارجا ، وان كانت الصفات تغاير ذات الباري مفهوما.

ويدل على هذا الاتحاد قول سيّد الموحدين امير المؤمنين عليه‌السلام : «وكمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه» اي نفي الصفات الزائدة عن ذاته المقدسة ، «لشهادة كل صفة انها غير الموصوف وشهادة كل موصوف انه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه

٢٠٤

فقد ثنّاه» ، فكمال توحيده والاخلاص له هو ارجاع صفاته الكمالية الى ذات الباري ، والقول بالعينية في الخارج وإلّا فيلزم الاثنينية.

قوله : الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث الاول : ... الخ وقد ذكر لها معاني عديدة قد استعملت فيها ، وقد عدّ منها :

الترجي والتمني : نحو (ألا ايها الليل الطويل ألا انجل بصبح) والشاهد في (انجل) حيث استعملت في تمني انجلاء الليل الطويل ، ولم نجد مثالا للترجي ويمكن ان يكون هذا الشعر مثالا للترجي ايضا لان الشاعر ان فرض استحالة الانجلاء فهو للتمنى ، وان فرض امكانه فللترجي ، لان التمنى يستعمل في الممتنع والترجي في الممكن والممتنع.

والتهديد : نحو قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).

والانذار : نحو قوله تعالى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ).

والاهانة : نحو قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ).

والاحتقار : نحو قوله تعالى : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ).

والتعجيز : نحو قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).

والسخرية : نحو قوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

قوله : الى غير ذلك نحو الارشاد والتكوين والامتنان والتسوية والاباحة.

الارشاد : قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

التكوين : قوله تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

الامتنان : قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي).

التسوية : قوله تعالى : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا). اذ لا يختلف حالهم بالنسبة الى الصبر وعدمه.

الاباحة : قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)

الدعاء : قوله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ).

٢٠٥

قوله : وهذا كما ترى ضرورة ان الصيغة ما استعملت في واحد منها بل لم ... الخ ولا يخفى ان هذه الأمور ليست معاني صيغة الامر لانها وضعت لانشاء الطلب ، ولكن قد يكون الداعي عليه البعث نحو المطلوب الواقعي ، وهو الغالب. وقد يكون الداعي عليه هو الترجي أو التمني أو التهديد أو التعجيز أو السخرية أو الانذار أو الاحتقار أو الامتنان أو الدعاء ، فصيغة الامر وضعت للطلب الانشائي وتستعمل فيه دائما بدواع مختلفة متعددة. ومن الواضح ان اختلاف الدواعي لا يوجب تعددا في مدلول صيغة الامر ، ولا مجازا فيها.

نعم غاية ما يمكن ان يقال في هذا المقام هو ان الصيغة موضوعة لانشاء الطلب ، لكن لا مطلقا حتى تكون جميع المعاني المذكورة حقيقة ، بل فيما اذا كان استعمالها بداعي البعث والتحريك نحو المطلوب ، لا اذا استعملت بداع آخر من الدواعي المذكورة ، فيكون انشاء الطلب بالصيغة لاجل البعث والتحريك للمكلف نحو المطلوب حقيقة ، وانشاؤه بها لاجل التهديد والتعجيز وغيرهما يكون مجازا ، وهذا غير استعمالها في التهديد والتكوين والدعاء وغيرها مستقيما ، بل استعملت في انشاء الطلب بداعي التهديد والدعاء وغيرهما مع الغاء قيد البعث والتحريك.

وعلى طبيعة الحال فان قلنا بوضعها لانشاء الطلب بداعي البعث والتحريك على نحو يكون الداعي المذكور قيدا في الموضوع له ، فاذا استعملت في انشاء الطلب بداعي التهديد والتحقير وبداعي التعجيز والارشاد وغيرها يكون مجازا لانها استعملت حينئذ في غير الموضوع له من باب الوضع للمقيد الخاص والاستعمال في غيره ، والعلاقة هنا هي علاقة المشابهة لان كلها انشاء الطلب ولكن الدواعي مختلفة متعددة كما لا يخفى.

سائر الصيغ الانشائية :

قوله : ايقاظ لا يخفى ان ما ذكرناه في صيغة الامر جار في سائر الصيغ الانشائية ... الخ هذا تمام الكلام في صيغة الامر واما حال سائر الصيغ الانشائية سواء كانت طلبية أم

٢٠٦

كانت غيرها كحالها ، لان معانيها الحقيقية واحدة ولكن الدواعي متعددة ، لانها تستعمل في انشاء مفاهيمها ومداليلها ، مثلا : لفظ (ليت) و (لعل). و (الهمزة) و (هل) استعملت في انشاء التمني ، وفي انشاء الترجي ، وفي انشاء الاستفهام ، ولكن بدواع متعددة ، مثلا : قد يكون الداعي على انشائها نفس مفاهيمها ، كأن يكون المنشئ في الواقع متمنيا ومترجيا ومستفهما ، فلاجل التمني والترجي والجهل في النفس ينشئ المنشئ بها مفاهيمها.

وقد يكون الداعي شيئا آخر مثل التوبيخ للمخاطب نحو قوله تعالى : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا). ومثل التعجب نحو : (أأنت اخي). وقد يكون النداء بلحاظ الاستغاثة تقول : (يا لزيد المظلوم). وقد يكون بداعي الندبة تقول : (وا علياه ، وا حسيناه) ففي كل هذه الموارد تستعمل الفاظ الانشاءات في معانيها الحقيقية ولكن بدواع مختلفة.

فظهر من هنا ان استعمال ادوات الاستفهام والتمني والترجي وغيرها لا يكون مجازا لانها استعملت في كلام الباري عزّ اسمه في انشاء مفاهيمها في القرآن الكريم بدواع متعددة ، وانما المحال في حق الباري جلّ وعلا نفس التمني والترجي والاستفهام التي تكون موجبة للعجز أو الجهل. الاول (اي العجز) : في التمني والترجي. والثاني (اي الجهل) : في الاستفهام.

فانشاء هذه المفاهيم اذا كان بدواع أخر غير التمني والترجي الواقعي لا يضرّ ولا يقدح في حقّ الباري عزّ اسمه ، فالمحال في حقّه تعالى هو التمني الواقعي والترجي الواقعي الموجبان لعجز المتمنّي والمترجّى عن الايصال بالمترجّى والمتمنّى ، والاستفهام الحقيقي المستلزم للجهل ، لا التمني الانشائي الايقاعي ، والترجي الانشائي الايقاعي والاستفهام الانشائي الايقاعي ، ولكن بدواع أخر.

فالتمني ينشأ بلفظ (ليت) بداعي اظهار المحبوبية في المتمنّى نحو (ألا ليت الشباب يعود) ، والترجي بابراز محبوبية المترجي نحو (لعل السلطان يكرمني) ، ومطلوبية الحذر مثل قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). لا من حيث التمني الواقعي

٢٠٧

والترجي الواقعي. والاستفهام ينشأ بادوات الاستفهام بداعي التوبيخ أو الانكار أو التقرير. فتحصّل مما ذكرنا ان ذكر المعانى الكثيرة لادوات الاستفهام ليس بصواب ، كما ذكر في المغني ان لهمزة الاستفهام ثمانية معان ، بل لها معنى واحد ، وهو إنشاء الاستفهام فقط ولكن الدواعي عليه متعددة كما لا يخفى.

تحقيق مدلول الصيغة :

قوله : المبحث الثاني في ان الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما ... الخ اختلف في ان صيغة امر التي هي هيئة (افعل) حقيقة في الوجوب فقط ، أو الندب فقط ، أو فيهما على نحو الاشتراك اللفظي ، أو في القدر المشترك بينهما على نحو الاشتراك المعنوي ، بان يكون موضوعا لرجحان الفعل على الترك مطلقا اي سواء كان مع المنع من الترك أم لا؟ وجوه ، بل اقوال اربعة :

فالاظهر عند المصنف قدس‌سره هو الاول ـ أي حقيقة الوجوب فقط ـ واستدلّ عليه بوجهين : الاول : انه يتبادر منها الوجوب عند استعمالها بلا قرينة حالية أو مقالية والتبادر علامة الحقيقة.

والثاني : بصحة احتجاج المولى بذم عبده في صورة المخالفة ، والذم دليل الوجوب ، فاذا اعتذر العبد عن المخالفة باحتمال ارادة الندب ، مع اعترافه بعدم الدلالة وقرينة الحالية أو المقالية على الندب فلا يسمع منه ، فهذا دليل على ان مطلق صيغة افعل حجّة على الوجوب ، وكونها حجّة عليه لا يكون إلّا على فرض كونها حقيقة في الوجوب بلحاظ عدم القرينة.

ولكن ذكر المصنف قدس‌سره هذا بلفظ ويؤيده ، لان عدم صحة الاعتذار عن المخالفة كما يناسب وضع الصيغة للوجوب ، فكذا يلائم ظهورها فيه وان لم تكن موضوعة للوجوب لغة ، فكان المدعى اخص والدليل هذا اعم والعام لا يدل على خصوص الخاص فلذا جعله مؤيدا لا دليلا على المدعى.

قوله : وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله اليه ... الخ

٢٠٨

كثرة استعمال صيغة الامر في الندب في الكتاب العزيز والسنة الشريفة واستعمال اهل العرف توجب نقلها الى الندب ، أو حملها عليه عند تجردها عن القرينة. فبالنتيجة هي إما منقولة اليه ، واما مجاز مشهور فيه ، فان كانت على نحو الاول اذا وردت في الكلام بلا قرينة فتحمل عليه.

وان كانت على النحو الثاني ، فاذا وردت بلا قرينة فيرجّح الندب على الوجوب ، او يتوقف فلا تحمل على شيء لا على الوجوب ولا على الندب ، على الخلاف في المجاز المشهور.

قلنا : ان كثرة استعمالها في الندب لا توجب نقلها اليه لوجهين : الاول : ان استعمالها في الكتاب والسنة في الوجوب كثير ايضا. والثاني : ان استعمالها في الندب يكون مع القرينة وهو لا يوجب كونها مجازا مشهورا فيه حتى يوجب اجمالها ، او رجحان الندب على الوجوب كما قال به صاحب (المعالم) قدس‌سره. بل المجاز المشهور انما يتحقق اذا كان الاستعمال بلا قرينة حالية أو مقالية أو لفظية.

وهذا نظير الفاظ العموم في الخصوص ، لانها تستعمل كثيرا في الخاص حتى اشتهر وصار مثلا انه ما من عام إلّا وقد خصّ. ومع ذلك فهي لا توجب نقلها اليه ولا ينثلم بها ظهورها فيه ، فلذا تحمل عليه مع فقد المخصّص المتصل والمنفصل. فاذا قال المولى لعبده (اكرم العلماء) ولم يكن المخصص في البين حمل على العموم ووجب إكرام جميع العلماء سواء كانوا عدولا أم كانوا فساقا.

تحقيق الجملة الخبرية :

قوله : المبحث الثالث هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث ... الخ الجملة الخبرية اذا استعملت في مقام الطلب والبعث نحو (يغتسل) و (يتوضأ) و (يعيد) هل هي ظاهرة في الوجوب ، او لا ، لتعدد المجازات فيها وليس الوجوب باقواها بعد تعذر حملها على معناها من الاخبار بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها؟ الظاهر هو الاول. بل تكون اظهر من الصيغة ، اي من صيغة الامر في الوجوب.

٢٠٩

اختلاف الاصوليين في الجملة الخبرية :

اختلف العلماء في ان الجملة الخبرية الفعلية المضارعية اذا استعملت في مقام الطلب والانشاء ، لا في مقام الاخبار عن الواقع والحكاية عنه ، ظاهرة في الوجوب ، أو تعيين الوجوب مثل الاستحباب يحتاج الى القرينة.

فالظاهر انه اذا قامت قرينة حالية او مقالية على ان المتكلم ليس في مقام الاخبار عن الواقع فهي ظاهرة في الوجوب ولو كانت المعانى المجازية كثيرة ، ويدل عليه تبادر الوجوب منها الى الذهن ، هذا مضافا الى ان الطلب الاكيد الذي هو عبارة اخرى عن الوجوب قريب الى المعنى الحقيقي الذي هو اخبار عن وجود الشيء في الخارج ، ويشهد بذلك الوجدان السليم.

فالوجوب قريب الى المعنى الحقيقي من سائر المعاني المجازية من الندب والتهديد والارشاد ونحوها ، فيكون المورد من صغريات الكبرى ، وهي انه اذا تعذرت الحقيقة وتعددت المجازات فاقربها اولى بالارادة. فصونا لكلام المعصوم عليه‌السلام عن الكذب تحمل هذه الجمل على الانشاء لا على الاخبار عن الواقع ولا يخفى ان استعمالها فيه لا يكون في غير الموضوع له ، بل في نفس الموضوع له لكن الدواعي متعددة ، لان الداعي في (يعيد) و (يتوضأ) قد يكون اخبارا عن ثبوت الفعل للفاعل في الخارج في الحال أو الاستقبال ، وقد يكون بعثا وتحريكا ف (يعيد) استعمل في معناه بقصد البعث والتحريك الى الفعل بحيث يعبر المتكلم عن مطلوبه بصورة الواقع ولا يرضى بتركه.

فالداعي يختلف لانه قد يكون اخبارا عن الواقع ، وقد يكون بعثا وتحريكا للمكلف الى الفعل الذي هو مطلوب المتكلم ، فالوجوب الذي يستفاد منه يكون آكد وأقوى من الوجوب الذي يستفاد من صيغة الامر بلحاظ خصوصية التعبير بصورة الواقع.

فتوهم المتوهم هاهنا وهو انه اذا استعملت الجملة الخبرية في معناها بداعي البعث بنحو آكد ، لا بداعي الاعلام والاخبار ، كما هو الحال والمطلب في سائر

٢١٠

الصيغ الانشائية حيث انها تستعمل في معانيها الايقاعية أبدا لكن بدواع مختلفة ، يلزم الكذب في بعض الموارد اذا لم يقع المكلف به في الخارج عصيانا.

نعم اذا استعملت في الانشاء فلا يلزم الكذب ، لانه لا يحتمل الصدق والكذب في الانشاءات. والحال انه لا يمكن الكذب في كلام الله تعالى ، وفي كلام اوليائه اصلا ، لان الله جلّ وعلا واولياءه المعصومين عليهم‌السلام تعالوا عن ذلك علوا كبيرا.

قلنا في جواب التوهم : وهو ان الجملة الخبرية يحتمل فيها الصدق والكذب اذا كان الداعي عليها هو الاخبار بثبوت النسبة او لا ثبوتها ، فالاول في الموجبة والثاني في السالبة ، لا مطلقا ، يعني اذا استعملت في معناها بداعي البعث والتحريك مثل الافعال المذكورة نحو (يعيد) و (يغتسل) و (يتوضأ) لا تحتمل الصدق والكذب اصلا ، مثل الكنايات نحو (زيد كثير الرماد) و (هو جبان الكلب) و (زيد مهزول الفصيل) ونحوها مثل (زيد طويل النجاة) فكلها تستعمل في معانيها لكن على نحو الكناية عن جوده وشجاعته.

فالداعي عليها هو اثبات جود زيد وليس الداعي هو اخبار عن كثرة رماد زيد حتى يلزم الكذب اذا لم يكن رماد وفصيل موجودين ، بل الداعي عليها هو الاخبار عن جوده لكن كنّي عنه وهي ذكر الملزوم وارادة اللازم ، ففي هذه الجمل ذكر الملزوم وهو كثرة الرماد واريد لازمها وهو جوده ، نعم يلزم الكذب اذا لم يكن بجواد اصلا.

فبالنتيجة : اذا كان المقصود من الجملة الخبرية وقوع المحمول في الخارج اولا وقوعه فيه فيحتمل فيها الصدق والكذب ، واذا كان المقصود منها طلب المحمول بوسيلة انشاء الطلب الذي يكشف عن الارادة في قلب المولى فلا تحتملهما ، والمقام هو الثاني لا الاول.

قوله : فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد ابلغ واحسن فانه مقال بمقتضى الحال والطلب ، اي طلب الشيء ، بالجملة الخبرية في التأكيد ابلغ واحسن من طلبه في مقام التأكيد بالصيغة ، اي صيغة الامر وما في معناها لان دلالتها على الطلب تكون

٢١١

من باب الكناية التي هي استعمال اللفظ في معناه الحقيقي بداعي الانتقال الى لازم معناه حيث ان اخبار المخبر بوقوع مطلوبه في الخارج يكون من لازم البعث والارادة الجدّية نحو المطلوب فتكون آكد من الصيغة وما في معناها كاسماء الافعال والامر باللام نحو ليضرب لان الاخبار بوقوعه على نحو الكناية يكون كدعوى الشيء ببينة وبرهان.

بيانه : ان المطلوب قد يقع لانه متعلق الارادة الجدّية ، وكل متعلق الارادة الجدية لا بد ان يقع في الخارج ، فهذا لا بد ان يقع فيه ، وهذه الكناية مراد المصنف قدس‌سره من قوله : فانه مقال بمقتضى الحال وهي ابلغ واحسن من التصريح ، اما وجه الابلغية فلانها كدعوى الشيء ببينة وبرهان كما ذكر ، بخلاف التصريح.

واما وجه الاحسنية فلانها تنتج لمقبولية مقدماتها ، مثلا : اذا قلنا (ان زيدا كثير الرماد) لانه جواد وكل جواد كثير الرماد فزيد كثير الرماد فنسلّم الصغرى والكبرى.

بخلاف التصريح فانه اذا قلنا (ان زيدا جواد) لانه كثير الرماد وكل كثير الرماد جواد فزيد جواد ، فهنا لا نسلّم الكبرى.

وفي ضوء هذا فاذا عصى المكلف فلا يلزم الكذب لان المطلوب فيها طلب المحمول لا وقوعه في الخارج.

الدليل الثاني :

قوله : مع انه اذا أتى بها في مقام البيان فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها ... الخ وتدل على حمل الجملة الخبرية على الوجوب مقدمات الحكمة ، يعني الدليل الثاني عليه هو مقدمات الحكمة. بيانها : ان المتكلم اذا كان في مقام البيان ، لا في مقام الاجمال والاهمال ، ولم يكن القدر المتيقن في مقام التخاطب. ولم ينصب قرينة على الندب. فتحمل على الوجوب لشدة الاخبار بوقوع المطلوب في الخارج ، مع الوجوب في الوقوع في الخارج فالاخبار بوقوع المطلوب في الخارج يلائم استعمالها في الوجوب. وهذه الشدة توجب لظهورها فيه أو لتيقن الوجوب من هذه

٢١٢

الجملة.

فلو لم تكن هذه الشدة موجبة لظهورها في الوجوب فعلى الاقل هي موجبة لتعيّن الوجوب من بين محتملات ما هو بصدده ، اي من بين الاحكام التي يكون المتكلم بصدد بيانها ، فان شدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب موجبة لتعيّن ارادة الوجوب منها ، اذا كان المتكلم بصدد بيان مقصوده مع عدم نصب قرينة من قبل المولى على ارادة غير الوجوب من الندب أو الاباحة منها.

قوله : فافهم وهو اشارة الى ان الندب ، وان كان طلبا يحتاج الى مئونة التقييد بعدم المنع من الترك ، كما ان الوجوب طلب ايضا يحتاج الى مئونة التقييد بالمنع من الترك. فالوجوب والندب من هذه الحيثية سيان متساويان.

فمن استدل على حملها على الوجوب بان الندب يحتاج الى مئونة والقيد وهو غير موجود فيها. والحال ان المتكلم في مقام البيان فهذا يدل على ان المراد منها هو الوجوب لا الندب ، فهذا الاستدلال مخدوش لوجه الذي ذكر ضمنا فافهم آنفا فلا تغفل.

هل الصيغة ظاهرة في الوجوب أم لا؟

قوله : المبحث الرابع انه اذا سلم ان الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب ... الخ انه اذا سلمنا عدم كون صيغة الامر حقيقة في الوجوب وضعا من اجل استضعاف ادلّة الوجوب فهل هي ظاهرة فيه ايضا او لا تكون ظاهرة فيه ظهورا انصرافيا؟ قيل : بظهورها فيه لوجوه :

الاول : لغلبة استعمال الصيغة في الوجوب.

الثاني : لغلبة وجود الواجب.

الثالث : لاكملية الواجب.

والكل كما ترى ، اما الاول والثاني فلعدم الصغرى فيهما ، لان صورة القياس على الوجه الاول تكون على هذا النحو وهو : صيغة الامر كثير الاستعمال في

٢١٣

الوجوب ، وكل كثير الاستعمال في الوجوب موجب لظهورها في الوجوب ، فانا نمنع الصغرى ، لان استعمال صيغة الامر في الندب لو لم يكن كثيرا فليس باقلّ حتما.

وصورة القياس على النحو الثاني على هذا الشكل ، وهو الواجب كثير الوجود ، وكل كثير الوجود موجب لظهورها فيه لانا نمنع الصغرى ايضا لان وجود الندب في الشريعة المقدسة لو لم يكن كثيرا فليس باقلّ قطعا.

واما الثالث فلعدم الكبرى فيه لان شكل القياس على هذا الوجه يكون على هذا النوع ، وهو الواجب اكمل طلبا من الندب ، اذ هو طلب شديد ، والندب طلب ضعيف. وكل اكمل طلبا موجب لظهورها في الواجب ، فالواجب موجب لظهورها فيه.

فانا نمنع الكبرى لان الظهور ناشئ عن شدة انس اللفظ بالمعنى ، بحيث يصير اللفظ وجها للمعنى ، حتى ترى صورة المعنى من اللفظ ، والاكملية لا توجب ذلك لان اكملية الاكمل ثبوتية واقعية ، وظهور اللفظ في المعنى اثباتية لانه تابع للدليل ، وهو اما الوضع ، واما غلبة الاستعمال ، وكثرة استعمال اللفظ في المعنى ولو على النحو المجازي ، ولا تلازم بين الأمر الثبوتي وبين الامر الاثباتي ، فلا تلازم بين اكملية الوجوب واظهرية الصيغة في الوجوب ، وهذا ظاهر.

قوله : نعم فيما كان الأمر بصدد البيان فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل ... الخ ثم ان المصنف قدس‌سره اختار ظهور الصيغة في الوجوب انصرافا لوجه آخر غير الوجوه المتقدمة ، وهو ان مقدمات الحكمة ، كما ستأتي في بحث المطلق والمقيد ، مما تقتضي المنع من الترك ، بخلاف الوجوب فانه لا تحديد فيه ، اذ هو الطلب الاكيد فهو بسيط عند المصنّف ولا تقييد مع كون المطلق في مقام بيان غرضه ، فحيث لم يقيدها بعدم المنع من الترك فانكشف ان مراده منها هو الوجوب.

قوله : فافهم وهو اشارة الى ان هذا المدعى ليس اولى من العكس ، فيقال ان مقدمات الحكمة تقتضي الحمل على الندب لا على الوجوب ، نظرا الى ان الوجوب يحتاج الى مئونة التحديد والتقييد بالمنع من الترك مع كون المولى المطلق في مقام البيان ، فيبنى على عدم كون الطلب للوجوب بل للندب.

٢١٤

تحقيق اطلاق الصيغة :

قوله : المبحث الخامس ان اطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا فيجزي اتيانه مطلقا ولو بدون قصد القربة ... الخ هل اطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب توصليا فيجزي اتيان الواجب سواء كان مع القربة أم كان بدونها ، أم لا يقتضي توصليته كما لا يقتضي تعبديته ، بل لا بد من الرجوع الى الاصول العملية من البراءة أو الاشتغال حسب ما يقتضيه المقام.

وتحقيق المقام يتوقف على بيان امور وتمهيد مقدمات :

احداها : بيان معنى التعبدي ، وبيان معنى التوصلي

فالاول : هو الواجب الذي يكون الغرض من تشريعه ان يتقرب به العبد الى المولى كالواجبات العبادية.

والثاني : هو الواجب الذي أمر به لمجرد مصالح فيه ولم يكن اصل تشريعه لاجل ان يتقرب به العبد الى المولى ، كدفن الميت وتكفينه ، والانفاق على الزوجة ، وصلة الرحم. فالواجب التوصلي ما لا يتوقف حصول الغرض منه وسقوط أمره على الإتيان به على وجه التقرب به الى المولى ، وان توقف الثواب والأجر على الإتيان به كذلك ، بخلاف الواجب التعبدي ، لانه يتوقف حصول الغرض منه وامتثال أمره على الإتيان به على وجه التقرب به الى المولى ، كالصلاة والصيام والزكاة وما شاكلها ، فالغرض من الواجب التوصلي هو حصوله في الخارج باي وجه كان سواء كان مع القربة أم كان بلا قصد القربة.

اعتبار قصد القربة عقلا :

قوله : ثانيتها ان التقرب المعتبر في التعبدي ان كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره كان مما يعتبر في الطاعة عقلا لا مما اخذ في نفس العبادة شرعا ... الخ والمقصود منه اعتبار قصد القربة في الواجبات العبادية عقلا لا شرعا. وبيانه : ان قصد القربة ان كان بمعنى قصد الامتثال. والإتيان بالواجب بداعي أمره فلا يمكن

٢١٥

اخذه في متعلق الامر لا شرطا ولا شطرا.

بيانه : ان قصد امتثال الامر يتوقف على الامر ، وهو يكون بعد الامر ، والامر يكون بعد الصلاة ، فلا يمكن ان يكون قصد امتثال الامر في مرتبة الصلاة بحيث يتعلق أمر المولى بمجموعهما ، فلا يعقل اخذ قصد امتثال الامر في متعلق الامر ، لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه ، ولان اخذه في متعلقه مع فرض كونه ناشئا عن حكمه وامره معناه تقدمه على نفسه وتأخره عن نفسه وهو مستحيل.

فاذن لا يمكن اخذه فيه شرعا بل لا بد ان يكون اعتباره في العبادات عقلا اي بحكم العقل. وبعبارة اخرى : فلا يمكن اخذ قصد امتثال الامر في متعلق الامر لا على نحو الشرطية ولا على نحو الشرطية ، بان يقول المولى لعبده (اقم الصلاة بشرط قصد امتثال امرها) او يقول (اقم الصلاة مع قصد امتثال امرها) ، لان ذلك دور. فان قصد امتثال الامر يتوقف على الامر ، والامر يتوقف على قصد امتثال الامر لكونه في موضوع الامر شرطا أو شطرا.

فالامر يتوقف على موضوعه وعلى جميع قيوده ، وهو من قيوده ، فلا يمكن اخذه في متعلق الامر شرعا ، بل يكون بحكم العقل ، والشارع المقدس اكتفى بذلك. فمتى لم تكن نفس الصلاة مع قصد امتثال الامر متعلقة للامر لا يكاد يمكن اتيانها بقصد امتثال امرها شرعا كما علم آنفا.

علاج اخذ قصد القربة في متعلق الأمر :

قوله : وتوهم امكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر وامكان الإتيان ... الخ فيجاب عن اشكال الدور على فرض قصد القربة بمعنى قصد امتثال الامر والإتيان بالواجب بداعي أمره ، بانه يتوقف الامر والحكم على موضوعه الذي يكون شرطه قصد القربة بالمعنى المذكور في مقام تصور الموضوع في الذهن ، ولا يتوقف على وجوده في الخارج. فحينئذ لا يلزم الدور على تقدير اخذه فيه ، والحال ان المعتبر من القدرة عقلا في صحة أمر المولى انما هو في حال الامتثال ، لا حال أمر المولى ،

٢١٦

فانه يصح عقلا ان يأمر المولى فاقد الماء قبل الزوال بالتوضؤ بعد الزوال اذا كان واجدا للماء ، ومع انه لا يقدر عليه وقت الامر.

فالحكم موقوف على تصور موضوعه ، لا على وجوده الخارجي ، وتصور الصلاة بداعي الامر لا يتوقف على الامر الخارجي. نعم ان كان الحكم موقوفا على الوجود الخارجي للصلاة بداعي أمرها فيلزم الدور ، اذ الوجود الخارجي للصلاة بداعي امرها يتوقف على الامر ، فلو توقف الامر عليه للزم الدور ، كما ان الامر لو توقف على الوجود الخارجي للصلاة للزم طلب الامر الحاصل.

فبالنتيجة : ان قصد القربة بالمعنى المذكور يتوقف على أمر المولى ، والامر لا يتوقف على قصد القربة. لتوقف الامر والحكم على موضوعه وعلى جميع اجزائه وقيوده ، بل يتوقف الامر على تصور الصلاة مع قصد القربة.

والحال ان تصور الصلاة مع قصد القربة لا يتوقف على الامر لانه خفيف المئونة فلا دور ، فالآمر في مقام الامر يتصور الصلاة مع قصد القربة فأمر بها ، والمكلف قادر على اتيانها بداعي امرها فاندفعت غائلة الدور. والحال ان المعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الامر هي القدرة حين الامتثال لا حين الامر. فالصلاة بداعي الامر ، وان كانت قبل الامر بها غير مقدورة للمكلف ، ولكن مقدورة له بعد تعلق الامر بها.

قوله : واضح الفساد ضرورة انه وان كان تصورها كذلك بمكان من الامكان ... الخ فاجاب المصنف عن هذا التوهم بانا سلّمنا ان الامر موقوف على تصور الموضوع لا على وجوده في الخارج ، ولكن الإتيان بالصلاة بداعي امرها غير مقدور للمكلف حتى بعد تعلق الامر بها ، لانه لا امر للصلاة وحدها حتى يؤتى بها بداعي امرها ، اذ المفروض تعلق الامر بالصلاة المقيدة بداعى الامر لا بنفس الصلاة وحدها ، لعدم الامر بها ، حتى يمكن الإتيان بها بداعي أمرها.

والحال ان الامر لا يدعو إلّا الى ما تعلق به لا الى غيره والامر تعلق بشيئين : احدهما : الصلاة المقيدة بداعي الامر. وثانيهما : قيد الصلاة وهو داعي أمرها. لا

٢١٧

يتعلق الامر بالصلاة مجردة عن داعي الامر ولا بداعي الامر مجردا عن الصلاة ، فظهر عدم قدرة المكلف على اتيان الصلاة المقيدة بداعي امرها بقصد داعي امرها لان هذا المأمور به الذي هو الصلاة لا يكون لها أمرا على حدة لنفسها اذ المفروض انه لا يكون الامر المتعدد في المقام الا امرا واحدا الذي تعلق بالصلاة وقصد القربة فالاتيان بالمأمور به في الخارج بداعي امره غير ممكن اذ ليس لنفسه امر ، فاخذ قصد القربة في المأمور به ـ شرطا ولا شطرا ـ لا يمكن اصلا كما لا يخفى.

قوله : ان قلت نعم ولكن نفس الصلاة ايضا صارت مأمورا بها بالامر بها ... الخ فما المانع من ان تكون نفس الصلاة ايضا مأمورا بها ، كما انها مأمور بها مقيدة بقصد القربة. فالامر تعلق صراحة بالصلاة المقيدة بقصد القربة ، وتعلق ضمنا بنفس الصلاة من حيث هي هي لانحلال الامر بالمقيد الى امرين :

احدهما : تعلق بالذات ، التي كانت معروضة للتقييد.

وثانيهما : بالقيد ، وهو داعي الامر. فيمكن للمكلف اتيان الصلاة بداعي امرها الضمني ، فارتفع تعذر اتيان الصلاة بداعي امرها الى الأبد لان الصلاة تكون مأمور بها بالامر بها مقيدة بقصد القربة صراحة ، وهي من حيث هي هي مأمور بها ضمنا.

قوله : قلت كلّا لان ذات المقيد لا تكون مأمورا بها فان الجزء التحليلي ... الخ فاجاب المصنف قدس‌سره عن الإشكال المذكور ان المقيد والقيد في الخارج موجودان بوجود واحد هو الصلاة الخاصة ، فالصلاة التي هي ذات المقيد لا مأمور بها حتى يمكن اتيانها بداعي امرها.

والحال ان الامر لا يدعو المكلف الا الى المأمور به نفسه ، فاذا لم تكن الصلاة بنفسها مأمورا بها فلا يمكن ان يؤتى بها بداعي امر المتعلق بها وبغيرها بعنوان داعي امرها ، اي امر نفسها.

فالصلاة بما هي صلاة ليست بمأمور بها ، فلا يمكن اتيانها بداعي امرها وقصد القربة. ويجاب عنه بتقرير. آخر ، وهو ان الأجزاء تكون على نحوين :

الاول : خارجية. والثاني : عقلية.

٢١٨

اما الاولى فهي تتصف بالوجوب الذي تعلق بالكل لان الكل هو نفس الأجزاء. فالامر الذي تعلق بالكل ينحل على حسب الأجزاء الى أوامر متعددة ضمنية.

غاية الامر ان الامر الذي تعلق بالكل استقلالى ، والاوامر التي تعلقت بالاجزاء ضمنية ، ولا فرق بينهما في افادة وجوب متعلقهما.

واما الثانية : فلا تتصف بالوجوب اصلا لعدم وجودها في الخارج فانه ليس في الخارج شيء الا وجود واحد واجب بالوجوب النفسي ، فلا ريب حينئذ في خروج القيد عن تحت الامر لعدم وجود القيد العقلي الذي هو قصد القربة في الخارج كي يتصف بالوجوب ضمنا ، كما هو شان الأجزاء الخارجية الاعتبارية مثل تكبيرة الإحرام والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليم فانها تتصف بالوجوب الضمني الاصلي ، كما يأتي هذا المطلب في باب المقدمة ان شاء الله تعالى.

قوله : ان قلت نعم لكنه اذا اخذ قصد الامتثال شرطا ، واما اذا اخذ شطرا ... الخ نعم ان عدم الانحلال الى امرين : احدهما : الامر الذي تعلق بالذات المقيد وثانيهما : هو الامر الذي تعلق بالقيد ، هو فيما اذا اخذ في متعلق الامر قصد القربة شرطا للمأمور به ، لان الشرط خارج عن حقيقة المشروط كي ينحلّ الأمر المشروط الى امرين ، احدهما : هو الامر بالمشروط. وثانيهما : هو الامر بالشرط.

واما اذا اخذ قصد الامتثال جزءا للمأمور به فينحل حينئذ الامر الذي تعلق بالكل وهو الصلاة المركبة بحسب الاعتبار من عدة اجزاء ومن جملتها قصد القربة وقصد امتثال أمر المولى الى أوامر عديدة بقدر الأجزاء لانه لا يكون المركب شيئا الا نفس اجزائه في الخارج.

فالامر بالكل يكون امرا باجزائه ، فالذات المقيدة تكون جزءا للمأمور به ، فتكون متعلقا للامر الضمني ، فيتمكن المكلف من الإتيان بها بداعي هذا الامر الضمني نظير سائر الأجزاء ، كالتكبيرة والركوع ونحوهما ، ضرورة صحة الإتيان باجزاء الواجب بداعي وجوبها الضمني.

قوله : قلت مع امتناع اعتباره كذلك فانه يوجب تعلق الوجوب بامر ... الخ اجاب

٢١٩

المصنف قدس‌سره عن هذا الاعتراض.

اولا : بانه يمتنع اعتبار قصد القربة وقصد الامتثال جزءا للمأمور به فانه يوجب تعلق الوجوب بامر غير اختياري والتكليف بغير المقدور.

بيانه : ان قصد امتثال امر المولى ليس شيئا إلّا ارادة الفعل عن اجل أمره بحيث يكون الداعي الى ارادة ذلك الامر ، والارادة لا تكون اختيارية حتى يصح وقوعها في حيز الامر وتعلق الامر بها ، لانه لو كانت اختيارية لتوقفت على الارادة الاخرى ، اذ كل امر اختياري مسبوق بالارادة ليكون اختياريا ، فحينئذ يلزم تسلسل الارادات ، فلا بد من جعل الارادة غير اختيارية ليدفع هذا المحذور.

فاذا جعلت غير اختيارية امتنع التكليف بها عقلا اذ هي غير مقدورة حينئذ فقد ظهر مما ذكرنا انه لا يمكن ان يكون قصد القربة بمعنى قصد امتثال الامر جزءا للمأمور به ، وان يكون دخيلا بعنوان الجزء في متعلق الامر.

وثانيا : انه فرق واضح بين قصد القربة وبين سائر اجزاء المأمور به مثل التكبيرة والركوع والسجود ونحوها.

بيان الفرق : انه يمكن للمكلف اتيان الأجزاء بداعي الامر المركب لان المركب هو نفس الأجزاء والأجزاء هي نفس المركب فلا اثنينية بينهما ، واما قصد القربة بداعي أمر المركب على فرض اخذ قصد القربة في المأمور به مثل ان يقول المولى (اقم الصلاة) مع قصد القربة فهو يستلزم اتيان الشيء بداعي نفسه ، ولازمه يكون توقف الشيء على نفسه ، وهو محال لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه وتأخره عن نفسه وهذا محال قطعا ، ومستلزم المحال محال ايضا ، فلا يمكن ان يكون قصد القربة جزءا للمأمور به نظير سائر اجزائه كما لا يخفى.

توضيحه : ان الامر يتوقف على المأمور به وعلى جميع اجزائه ، وقصد القربة من جملتها على الفرض ، فيصير الامر موقوفا وقصد القربة بمعنى داعي الامر يصير موقوفا عليه ، اما قصد القربة بهذا المعنى فيتوقف على الامر ، إذ هو ناشئ من قبل الامر فيصير قصد القربة موقوفا والامر موقوفا عليه ، والحال ان الشيء من

٢٢٠