البداية في توضيح الكفاية - ج ١

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ١

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ نهضت
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-0-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٤٤٨

نحو الحقيقة اذا لم نلاحظ في مقام استعمال المشخصات الفردية ، ويحتمل ان يكون مجازا اذا لاحظناها فيه.

نهاية المطلب يحتاج الاستعمال على هذا القول في كل واحد من المصاديق الى قرينة مفهمة.

وفي الثالث يشترط ان يكون الوضع لواحد من المعاني ، واستعمل لفظ الامر في غيره مجازا لمناسبة موجودة بين المعنى الحقيقي والمجازي.

منتهى الامر : يحتاج استعمال لفظ الامر في المعنى المجازي الى قرينة صارفة وما ذكر في ترجيح بعضها على بعض عند تعارض هذه الاحوال لو سلّمناها ولم يعارض المرجّح بمثله فلا دليل على الترجيح به.

والتفصيل : انه اذا دار الامر بين الاشتراك والمجاز قال بعض بترجيح الاشتراك عليه لغلبة الاشتراك ، وقال بعضهم الآخر بترجيح المجاز لغلبة المجاز ، وعلى هذا قياس سائر المرجحات التي قد ذكروها في تعارض الاحوال ، ففيه :

اولا : عدم تسليم هذه المرجحات.

وثانيا : انه بعد تسليم تلك المرجحات فهي معارضة بمثلها ، مثل غلبة الاشتراك التي تعارض بغلبة المجاز مثلا.

وثالثا : انه بعد تسليمها وبعد الغض عن معارضتها بمثلها لا دليل على اعتبارها لانها وجوه استحسانية تفيد الظن ، والاصل حرمة العمل به الا ما خرج بالدليل.

نعم اذا انعقد الظهور للفظ الامر في احد الأمور فيحمل عليه وان لم يكن هذا الظهور مستندا الى حاق اللفظ بل الى الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال أو من غلبة الوجود ، فاذا لم ينعقد الظهور لاجل تعارض الوجوه والمرجحات بمثلها فلا بد حينئذ من الرجوع الى الاصل في مقام العمل. والمراد من الاصل هو الاصل العملي من الاستصحاب والبراءة والاشتغال على حسب اختلاف الموارد.

وتفصيل هذا : انه اذا كانت للمورد حالة سابقة فيجري الاستصحاب ، وان لم

١٨١

تكن للمورد حالة سابقة ، فان كان الشك في التكليف فتجري البراءة ، وان كان الشك في المكلّف به مع العلم بالتكليف فيجري الاشتغال.

مثال الاستصحاب : ما اذا امر المولى في الامس أمرا وجوبيا عبده وفي اليوم الحاضر شككنا في بقاء الوجوب وزواله فنستصحب بقاءه ، لتمامية اركان الاستصحاب ، وهي اليقين السابق والشك اللاحق.

مثال اصالة البراءة : فاذا شككنا في امر المولى بعمل أأمر به أم لا؟ أجرينا البراءة.

ومثال اصالة الاشتغال والاحتياط : هو ما اذا علمنا أمر المولى عبده بعمل ، ولكن لا نعلم انه فعل صلاة الجمعة أو فعل صلاة الظهر ، فنجري اصالة الاشتغال ونفعلهما كليهما احتياطا ، فاذا انعقد ظهور للفظ الامر في احد المعاني حمل عليه عملا باصالة الظهور التي استقرّ عليها بناء العقلاء. وان لم يعلم ان لفظ الامر حقيقة في هذا المعنى الظاهر بالخصوص أو حقيقة فيما يعمه ، اي في المعنى العام الذي يشمل المعنى الظاهر وغيره للوجه الذي ذكر سابقا وهو حجيّة اصالة الظهور ببناء العقلاء ، كما لا يبعد ان يكون لفظ الامر ظاهرا في المعنى الاول وهو الطلب الحتمي.

اعتبار العلو في معنى لفظ الامر :

قوله : الجهة الثانية الظاهر اعتبار العلو في معنى الامر ... الخ اعلم ان في معنى كلمة الامر خمسة اقوال :

الاول : اعتبار العلو فليس طلب السافل أو المساوي امرا.

الثاني : اعتبار الاستعلاء فليس طلب الخافض جناحيه أمرا ، وان كان من العالي.

الثالث : اعتبار أحدهما اما العلو واما الاستعلاء على سبيل منع الخلوّ.

الرابع : اعتبار العلو والاستعلاء جميعا.

الخامس : عدم اعتبار شيء منهما ، بل الطلب أمر سواء صدر من العالي أم

١٨٢

صدر من المستعلي أم صدر من المساوي أم صدر من السافل.

اختار المصنف القول الاول ، ولذا قال كما ان الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء في مفهوم الامر ، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان خافضا لجناحيه.

وردّ المصنف القول الثالث بقوله واما احتمال اعتبار العلو أو الاستعلاء فضعيف لما سيأتي.

قوله : وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه ... الخ هذا اشارة الى ردّ استدلال القائل باعتبار الاستعلاء في مفهوم الامر ، واحتجّ هذا القائل بانا نقطع بان العبد اذا قال لسيّده على وجه الاستعلاء (انت مأمور بكذا) أو (أمرتك بكذا) ذمّه العقلاء واستقبحوه ، ولو لا صدق الامر على ما صدر منه لما توجّه عليه الذم واللوم والتوبيخ. فاجاب عنه المصنف ان الذم واللوم انما يكونان على استعلائه لا على أمره حقيقة ، والحال انه في صحة سلب الامر عن طلب السافل ولو كان مستعليا كفاية في رد هذا القول.

فلو أطلق الامر على طلب السافل أو على طلب المساوي كان بنحو من العناية والمجاز ، فالقول الثاني وهو اعتبار الاستعلاء في مفهوم لفظ الامر ، والقول الثالث وهو اعتبار احدهما في مفهومه ضعيفان بل فاسدان لوجهين :

الاول : لعدم التبادر من اطلاق لفظ الامر طلب السافل أو المساوي ولو كانا مستعليين.

والثاني : لصحة سلب لفظ الامر بمعناه المرتكز في الذهن عن الطلبين المذكورين ، والحال انهما من علامات المجاز كما سبق في علامات الحقيقة والمجاز ، فعلم ان اطلاقه عليهما على نحو المجاز.

فان قلت : انه لا بد من العلاقة التي تصحّح التجوز فاي الامر علاقة هنا؟

قلنا : ان العلاقة هي علاقة المشابهة ، لان كل واحد من طلب العالي الواقعي وطلب السافل الواقعي وطلب المساوي الواقعي طلب ، اي طلب الفعل عن المخاطب. ولم يتعرض للقول الرابع والخامس اصلا لان حال الرابع يعلم من حال

١٨٣

الثاني والثالث ويعلم حال الخامس من اختيار القول الاول في معنى لفظ الامر وهو طلب العالي واقعا.

دليل المصنّف على مدّعاه :

قوله : الجهة الثالثة لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب ... الخ واستدلّ المصنف على كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب فقط ، لا في القدر المشترك بينه وبين الندب بتبادر الوجوب منه عند اطلاقه وذلك آية الحقيقة ، ثم ذكر على هذا المطلب مؤيدات ثلاثة :

الاول : قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ،) بتقريب ان الله تعالى حذّر وخوّف مخالف الامر ، والتحذير دليل الوجوب ، اذ لا معنى لندب الحذر أو اباحة الحذر لانه ان كان المقتضي للحذر موجودا فهو واجب ، وان لم يكن المقتضي له موجودا فلا معنى له. ومع التنزل فلا بد ان يكون الحذر حسنا. ومن المعلوم ان حسنه يتوقف على وجود المقتضي له ، والحال ان المقتضي له مخالفة الواجب لا مخالفة المندوب ، فضلا عن مخالفة الاباحة. واذا ثبت المقتضي للحذر ثبت وجوب الحذر عقلا وشرعا لعدم وجود القول بالفصل ، فالآية الشريفة تدل على كون الامر دالا على الوجوب وحقيقة فيه. وفيه ان الآية الشريفة تدل على استعمال لفظ الامر في الوجوب وهو اعم من الحقيقة والمجاز ولذا جعلها المصنف مؤيدا لا دليلا.

والثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا ان اشقّ على امتي لأمرتهم بالسواك» بتقريب ان الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر مرارا بالسواك على الاستحباب ، فلا بد من كون الامر للوجوب بعد صدور الامر بالسواك منه مرات على نحو الاستحباب ، وهذا قرينة على كون الامر في (لامرتهم) للوجوب لا سيما مع لفظ (ان اشقّ) لان الشاق يكون في الوجوب وفي الحرمة ، فلذا جعل هذا مؤيدا ايضا اذ يحتمل ان تكون دلالة لفظ الامر على الوجوب للقرينة وهي كلمة ان أشقّ في الحديث الشريف والمدعى دلالة

١٨٤

لفظ الامر على الوجوب بلا قرينة.

والثالث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبريرة بعد قولها أتأمرني يا رسول الله : «لا بل انما شافع» خلاصة الكلام في قصة بريرة ، هي ان بريرة كانت أمة لعائشة بنت أبي بكر وزوجها كان عبدا ثم اعتقتها عائشة فمتى علمت بريرة بخيارها في نكاحها بعد العتق ارادت مفارقة زوجها ، فاشتكى الزوج الى النبي الاكرم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبريرة (ارجعي الى زوجك فانه ابو ولدك وله عليك منة) فقالت : يا رسول الله أتأمرني بذلك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا بل انما انا شافع» بتقريب ان نفيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للامر دليل على كونه للوجوب ، ولذا قالت بريرة له : أتأمرني يا رسول الله بذلك ، اذ لو لم تكن دلالة الامر على الوجوب مركوزة في الاذهان لم يكن وجه وسبب لسؤالها منه. هذا لكن فيه ان الاستعمال اعم من الحقيقة والمجاز هذا اولا.

وثانيا : ان الوجوب انما يستفاد من لفظ الامر هنا بسبب القرينة ، ولاجل هذا جعله مؤيدا لا دليلا ، فان قلت : اي قرينة تدل على الوجوب وعلى استعمال لفظ (تأمرني) في الوجوب؟ قلنا : ان القرينة هي مقابلة الامر بالشفاعة ، لانها تستعمل في صورة رجحان الأمر والفعل والترك.

قوله : الى غير ذلك اي الى غير ذلك من موارد استعمال مادة الامر في الكتاب والسنة التي يتبادر منها الوجوب نحو قوله تعالى : (أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) اي وجبت عليّ طاعة الله وعبادته ، ونحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انا مأمور بالتبليغ» اي وجب عليّ البلاغ وغيرهما.

الدليل الثاني للمصنّف قدس‌سره :

قوله : وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة امره ... الخ ثم ذكر المصنف قدس‌سره الدليل الثاني بعد التبادر وتقريبه صحة الاحتجاج على العبد وصحة توبيخه على مجرد مخالفة الامر وهو قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) فلو لم يكن الأمر للوجوب لما توجه الذم على إبليس بمجرد مخالفة

١٨٥

الامر ، ولصح منه الاحتجاج مع الباري جلّ وعلا ، ولا بد من بيان امرين :

الاول : ان (لا) فيها زائدة لا معنى لها لان توبيخ ابليس كان على ترك السجود لآدم عليه‌السلام لا على فعل السجود.

والثاني : انها اجنبية عن ما نحن فيه ، لان مورد النزاع هو مادة الامر لا صيغة الامر والحال ان المراد من (امرتك) (اسجدوا لآدم عليه‌السلام) لا مادة (امرتك) فلا يكون هذا دليلا على المدعى ، بل دليلا على كون صيغة الامر للوجوب وهو مطلب آخر.

هذا مضافا الى ان المراد لو كان المواد اي مادة امرتك لدل على استعمالها في الوجوب وهو لا يدل على وضعه للوجوب لانه اعم من الوضع ومن الحقيقة.

قوله : وتقسيمه الى الايجاب والاستحباب ... الخ احتج القائل باشتراك مادة الامر بين الايجاب والاستحباب بالتقسيم لانه يقال ان الامر اما ايجابي واما استحبابي.

تقريب الاستدلال : ان مفهوم المقسم سار في جميع مفهومات الاقسام فيلزم صحة حمل لفظ الامر عليها ، فيقال ان الايجاب امر وان الاستحباب امر.

فاجاب المصنف قدس‌سره عن هذا الاستدلال بان هذا التقسيم يدل على ارادة المعنى الاعم من لفظ الامر بحيث ينطبق عليهما وهو الطلب. واما كون هذه الارادة لا تكون قرينة دالة على وضعه للاعم وعلى كونه حقيقة في القدر الجامع بينهما ، كما هو المدعى في مقام التقسيم كما لا يخفى ، اذ ارادة الاعم اعم من الوضع له.

والثاني : انه لا ريب في جواز استعماله في كل من الوجوب والاستحباب ، فان كان موضوعا للقدر الجامع فقد ثبت المطلوب وان كان موضوعا لاحدهما فيلزم المجاز في الآخر ، وان كان حقيقة في كل واحد منهما بوضع على حدة فيلزم الاشتراك والمجاز والاشتراك ، مخالفان للاصل لان الاصل الحقيقة والاصل عدم الاشتراك.

فنحن نقول بالاشتراك المعنوي دفعا للمجاز والاشتراك ، فاذا دار الامر بين الاشتراك المعنوي والاشتراك اللفظي وبين المجاز فالاول خير من الثانيين كما سبق

١٨٦

في بحث تعارض الاحوال.

فاجاب المصنف قدس‌سره عنه بتبادر الوجوب من لفظ الامر عند تجرده عن القرينة وهو آية الحقيقة هذا اولا.

وثانيا : لا دليل عقليا ولا نقلى يا على اعتبار ترجيح بعض احوال اللفظ على الآخر لانه استحسان ذوقي لا يفيد القطع.

هذا مضافا الى انه يلزم على هذا المبنى مجازان اذا استعمل لفظ الامر في خصوص الوجوب وفي خصوص الندب لانهما غير القدر الجامع بينهما فتفر من المجاز الواحد ولكن تقع في مجازين.

الدليل الثالث :

ان فعل المندوب طاعة ، وكل طاعة فعل المأمور به. وهذا الدليل مؤلف من صغرى وكبرى على هيئة الشكل الاول ، ففعل المندوب فعل المأمور به من حيث كونه محمولا على المندوب في النتيجة ، فلا محالة من ان يكون النادب آمرا والندب امرا لاتحاد المشتق منه والمشتق في مفهوم الحدث.

جواب المصنّف عن الادلّة :

فاجاب المصنف قدس‌سره عنه بانا نمنع الكلية الكبرى لو اريد من المأمور به معناه الحقيقي وهو المأمور به الوجوبي ، لان الطاعة قد تكون في الواجبات وقد تكون في المندوبات ، واما لو اريد منه مطلق المأمور به سواء كان واجبا أم كان مستحبا فهذا لا يفيد المدعى ، لان صدق المأمور به بالمعنى الاعم على فعل المندوب لا يستلزم صدق المأمور به الحقيقي ، اذ صدق العام لا يستلزم صدق الخاص كما هو مدعى هذا القائل.

والحال ان لازم الاشتراك المعنوي صدق القدر المشترك بين الفردين عليهما على وجه الحقيقة كصدق (الانسان) الذي هو القدر المشترك بين (زيد وعمرو)

١٨٧

عليهما على نحو الحقيقة ، فهذا الدليل مصادرة ولا يصغى اليه.

توضيح لا يخلو من فائدة : وهو بيان الفرق بين المصادرة والمكابرة ، ان الاول جعل عين المدعى دليلا لاثباته كما في المقام ، لان القائل بالاشتراك المعنوي يدعي ان المندوب مأمور به حقيقي كالواجب ونحن نقول في قباله انه مأمور به مجازي فعين المدعى قد جعل دليلا.

وان الثاني عبارة عن الدعوى بلا دليل ، فالادلة الثلاثة مردودة عند المصنف قدس‌سره كما لا يخفى على أولي النهى.

قوله : الجهة الرابعة الظاهر ان الطلب الذي يكون هو معنى الامر ليس هو ... الخ

اتحاد الطلب والارادة وتغايرهما :

اعلم ان لفظ الطلب محمول بالاشتراك على الطلب الحقيقي الذي يكون صفة قائمة بنفس الطالب ، وهو الشوق المؤكد الذي يحصل في نفس الطالب عقيب الداعي الى المطلوب ، فهو من الكيف النفساني ، وعلى الطلب الانشائي الذي ينتزع عن مقام ابراز الارادة وعن مقام اظهار القصد الى المقصود بقول نحو (أعط زيدا درهما) أو اشارة الى المخاطب بان يفعل كذا. فللطلب الحقيقي وجود عيني في نفس الطالب ، واما الطلب الانشائي فليس له وجود عيني في النفس ، نحو الاوامر الامتحانية. فاذا قلنا ان لفظ الامر معناه الطلب أريد منه الطلب الانشائي الذي لا يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي ، بل طلبا مقيدا بالانشائي بان يقال هذا الطلب طلب انشائي ، ولا يقال ان هذا الطلب الانشائي طلب ، بخلاف الطلب الحقيقي فانه يقال هذا الطلب طلب نظير الماء المطلق والماء المضاف ، فانه يقال ان الماء المطلق ماء ، والماء المضاف ماء مضاف ، فصار الاول نظير الماء المطلق. والثاني نظير الماء المضاف. فثبت التفكيك بين الطلبين الحقيقي والانشائي الانتزاعي كما في الاوامر الامتحانية فصارت النسبة بينهما عموما من وجه مادة الاجتماع اذا كانا معا.

ومادة الافتراق من جانب الحقيقي ما اذا كان موجودا في النفس ولكن لم

١٨٨

يظهره بالقول ولا بالاشارة لفقد المقتضى .. أو لوجود المانع. ومادة الافتراق من جانب الانشائي في الاوامر الامتحانية ، لانه يصدق فيها كون المولى آمرا ولا يتوقف صدق ذلك على كون المولى طالبا في نفسه فعل المأمور به.

والطلب الانشائي لا يكون بالحمل الشائع طلبا مطلقا بل طلبا انشائيا كما علم سابقا لانه نظير الماء المضاف سواء انشئ هذا الطلب بوسيلة صيغة (افعل) أم انشئ بمادة الطلب نحو (اطلب منك كذا) أم كان بمادة الامر مثل (آمرك بكذا) أم كان بالجملة الخبرية نحو (يغتسل ويتوضأ).

اقسام الطلب :

قوله : ولو أبيت الا عن كونه موضوعا للطلب فلا اقل من كونه منصرفا ... الخ اعلم ان الطلب يكون على انواع ثلاثة :

الاول : أن يلحظ الطلب بحسب المفهوم.

والثاني : أن يلحظ بحسب المصداق.

والثالث : أن يلحظ بحسب الانشاء بقول أو اشارة بالعين الباكية أو كتابة ، فالاقسام غير متلازمة بل يمكن التفكيك بينها ، لانه قد يتصور الطالب الطلب في النفس مع صرف النظر عن انشائه خارجا لفقد المقتضي له ، أو لوجود المانع عنه.

وقد ينشأ الطلب في الخارج ، والحال انه لا يكون للطالب ميل قلبي الى تحقق المطلوب في الخارج كما في الاوامر الامتحانية.

نعم قد يجمع الطلب الانشائي مع الطلب المصداقي اذا كان المطلوب الخارجي مرغوبا ومحبوبا عنده ، فالطلب المفهومي الذهني هو القدر الجامع بين الطلبين الخارجي والانشائي كما ان الانسان المفهومي الذهني يكون القدر المشترك بين مصاديقه.

ولا يخفى عليك ان الميل القلبي يحمل حملا شايعا صناعيا مواطاتيا على الطلب على نحو الاطلاق ، فيقال ان الطلب هو الميل القلبي بخلاف الطلب الانشائي

١٨٩

فانه يحمل عليه مقيدا بالإنشائي فيقال ان الطلب الانشائي هو الميل القلبي.

واعلم ايضا ان الارادة على ثلاثة اقسام كالطلب :

الاول : ارادة المفهومي الذهني.

والثاني : ارادة الحقيقي الخارجي.

والثالث : ارادة الانشائي.

وكذا يحمل حملا شايعا صناعيا على الارادة الحقيقية على نحو الاطلاق بلا قيد ، فيقال ان الارادة ميل قلبي ، بخلاف اخويها فانه يحمل عليهما مع القيد والتقييد ، فيقال ان ارادة المفهومي الذهني ميل قلبي ، وان ارادة الانشائي ميل قلبي ، فصار الاول كالماء المطلق ، والثانيان كالماء المضاف.

اذا علم هذا فلو منعت قولنا وقلت ان لفظ الامر موضوع للطلب الكلي فلا أقلّ من كون لفظه عند الاطلاق ينصرف الى الطلب الانشائي من الطلب ، كما ان لفظ الطلب عند الاطلاق منصرف الى الانشائي من الطلب ، وعلة الانصراف هي كثرة استعماله في الطلب الانشائي عند اهل العرف ، كما ان الامر والمطلب في لفظ الارادة على عكس لفظ الامر ولفظ الطلب ، فان المنصرف عنها عند اطلاقها هو الارادة الحقيقية ، وعلة الانصراف تبادرها منها عند اطلاقها.

ومن اجل الانصراف ظهر الاتحاد بين الطلب والارادة فلو كانا متغايرين مفهوما لكان المناسب بيانه لا الانصراف ، غاية الامر أنهما يختلفان في الانصراف كما عرفت آنفا.

هذا مضافا الى حكم الوجدان باتحادهما مفهوما ، وهو انه بعد العزم والميل الى المراد توجد صفة في النفس تسمى بالارادة. والتصور والعزم والشوق المؤكد من مقدمات الارادة وليس وراءها في النفس شيء آخر وضع لفظ الطلب له ، لكن قد يعبّر عن هذه الصفة النفسانية بالطلب تارة واخرى بالارادة ، كما يعبّر عن تحريك العضلات في الخارج بالارادة الخارجية المصداقية.

١٩٠

التحقيق في كلام صاحب الحاشية :

قوله : واختلافهما في ذلك إلجاء بعض الاصحاب قدس‌سرهم الى الميل الى ما ذهب اليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والارادة خلافا لقاطبة اهل الحق ... الخ الاختلاف لفظ الطلب ولفظ الارادة في الانصراف ذهب بعض اصحابنا الى المغايرة بين الطلب والارادة مفهوما ، وهو المحقق صاحب (هداية المسترشدين) قدس‌سره ، خلافا لاهل الحق قاطبة والمعتزلة ووفاقا للاشاعرة ، واحتجت الأشاعرة على المغايرة بوجوه ولكن العمدة منها وجهان :

الاول : انه توجد الارادة دون الطلب في الاوامر الامتحانية ، لان المولى اراد اختبار عبده أهو مطيع أم عاص؟ او اراد اعتياده امتثال امره فأمره من دون تحقق المطلوب في الخارج.

والثاني : انهم اثبتوا الكلام النفسي ، وتوضيحه : ان في الكلام الخبري صفة قائمة في النفس وراء العلم بالنسبة هي الكلام النفسي الذي يكشف عنه الكلام اللفظي ، وفي الكلام الانشائي صفة قائمة في النفس غير الارادة هي الكلام النفسي فلو تحقق الكلام النفسي الذي هو مدلول الكلام اللفظي فقد تحقق الطلب الذهني المفهومي دون الارادة المصداقية الخارجية عكس الاوامر الامتحانية ، لان الارادة الخارجية اما أن تكون بالكلام اللفظي واما بالاشارة لا بالكلام النفسي ، كما هو واضح.

الطلب والارادة :

قوله : فلا بأس بصرف عنان الكلام الى بيان ما هو الحق في المقام ... الخ شرع المصنف قدس‌سره في بيان الحق في هذا المقام وفي ابطال قول الأشاعرة. قال انه وان حققناه في حاشيتنا على الفرائد إلّا ان حوالة الرجال الى الكتاب والحاشية لا تكون خالية عن المحذور ، اما لعدم وجودها عندهم واما لمشقة الرجوع اليها ، والاعادة لا تكون بلا فائدة ، وافادة المعلم للمتعلم ، فلذا كان المناسب هو تعرض الحق في كفاية الاصول ايضا.

١٩١

فاعلم ان الحق كما عليه اهل الحق ، وفاقا للمعتزلة من العامة وخلافا للاشاعرة ، هو اتحاد الطلب والارادة بمعنى ان لفظ الطلب ولفظ الارادة موضوعان بازاء مفهوم واحد وما بازاء احدهما في الخارج يكون ما بازاء الآخر فيتحدان مفهوما ومصداقا كلفظ (الانسان) ولفظ (البشر) ، كما ان الطلب الذي ينشئ بلفظ الطلب أو بغيره مثل (صلّ) يكون عين الارادة الانشائية من حيث المفهوم والمصداق.

قوله : وبالجملة هما متحدان مفهوما وانشاء وخارجا ... الخ قال المصنف ان الطلب والارادة متحدان من حيث المفهوم ومن حيث الانشاء ومن حيث المصداق. فالطلب المفهومي متحد مع الارادة المفهومية ، والطلب الحقيقي الخارجي متحد مع الارادة الحقيقية ، والطلب الانشائي متحد مع الارادة الانشائية ، ولا يكون الطلب الانشائي قائما بالقول متحدا مع الارادة الحقيقية المفهومية ، فالمغايرة بينهما اظهر من الشمس وابين من الامس.

قوله : فاذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ... الخ استدل المصنف قدس‌سره على اثبات اتحادهما بالبرهان الوجداني ، وهو انه اذا رجعنا الى الوجدان عند طلب شيء ، والامر بذاك الشيء ، لا نجد غير الارادة القائمة بالنفس صفة اخرى قائمة بالنفس هي الطلب غير الارادة. نعم نجد في وجداننا مقدمات الارادة عند خطور الشيء بالبال وعند الميل اليه ، وهي تصور الشيء والعلم به والرغبة فيه والميل اليه وهيجان الرغبة اليه والتصديق العلمي او الظني بفائدته. والجامع بين هذه الأمور عبارة عن جزم المريد بدفع ما يوجب توقف المريد عن طلب الشيء المراد لاجل الارادة أو الفائدة.

قوله : وبالجملة ... الخ لا يكون شيء موجودا في النفس غير الصفات النفسانية التي هي عبارة عن مقدمات الارادة التي ذكرت آنفا ونفس الارادة ، ولا تكون هناك صفة اخرى قائمة بالنفس تكون هي الطلب.

وفي ضوء هذا لا محيص عن القول باتحادهما ، ولا محيص عن ان يكون ذاك الشوق المؤكد الذي يحصل في نفس المريد ، ويوجب لتحريك عضلات المريد نحو

١٩٢

المراد في ارادة فعل المراد بالمباشرة ، اذا اراد ان يفعل المراد المطلوب بنفسه ، او الشوق المؤكد الذي يوجب لامر عبيده بفعل المراد اذا لم يرد المريد فعل المطلوب بنفسه وشخصه ، وهذا الشوق المؤكد يسمى بالطلب والارادة ، كما يعبر عنه في الاصطلاح تارة بالطلب ، واخرى بالارادة ، فالطلب والارادة هما الشوق المؤكد وهو امر وحداني كما لا يخفى.

سائر الصيغ الانشائية :

قوله : وكذا الحال في سائر الصيغ الانشائية والجمل الخبرية فانه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس من الترجى والتمنى والعلم ... الخ لانا اذا رجعنا الى وجداننا لا نجد ـ عند تمني الشيء ، أو عند ترجي الشيء ، أو عند الاستفهام عن الشيء ، أو عند النداء ، أو عند القسم ، وفي صورة التعجب ، وعند العلم ـ غير ارادة المتمني والمترجي وغير ارادة المستفهم به وغير ارادة المنادي وغير ارادة المقسم لاجله وغير ارادة المتعجّب منه وغير ارادة المعلوم ، صفة اخرى قائمة بالنفس تسمى بالطلب غير الارادة ، والحال انه قد دل الكلام اللفظي عليها اي على الصفة الاخرى كما قيل.

ان الكلام لفي الفؤاد وانما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وهذا الشعر منسوب الى الشاعر الاخطل.

قوله : وقد انقدح مما حققناه ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة بالامر مع عدم الارادة كما في صورتي الاختبار والاعتذار من الخلل ... الخ اعلم ان الانشاء على قسمين :

الاول : طلبي كالأمر والنهي والدعاء والنداء والاستفهام والجملة الخبرية ان استعملت في مقام الانشاء لا الاخبار. فاذا رجعنا الى وجداننا لا نجد الطلبين في مادة الامر وصيغة الامر غير ارادة المأمور به بحيث يسمى احدهما طلبا والآخر ارادة ، ولا نجد الطلبين في مادة النهي وصيغة النهي غير كراهة المنهي عنه بحيث يكون احدهما طلبا والآخر كراهة المنهي عنه ، ولا نجد الطلبين في مادة الدعاء

١٩٣

وصيغة الدعاء غير ارادة المدعو به للمدعو له من حيث الوجود نحو (اغفر لي ولوالدي) او من حيث العدم نحو (لا تكلني الى نفسي طرفة عين) بحيث يسمى احدهما طلبا والآخر ارادة ، ولا نجد في النداء لا في مادة النداء ولا في صيغة النداء نحو (أنادي ننادي) مثلا ، ولا في حرف النداء طلبين غير ارادة المنادي ، ولا نجد في الاستفهام الحقيقي غير ارادة طلب الفهم وغير ازالة الجهل ، واما في غيره فلا نجد غير ارادة التقرير اذا كان تقريريا وغير ارادة التوبيخ في التوبيخي وغير ارادة الانكار في الاستفهام الانكاري ، ولا نجد في الجملة الخبرية اذا استعملت في مقام الانشاء نحو (فيتوضأ ويغتسل) غير ارادة المعنى الحدثي في الاستقبال. فبالنتيجة : فلا عين ولا اثر من الكلام النفسي في هذه الأمور كما رأيت.

والثاني : غير الطلبي كالتمني والترجي والقسم والتعجب. اما اذا رجعنا الى الوجدان فلا نجد غير معاني هذه الالفاظ وغير ارادة المتمني والمترجي والمقسم له والمتعجب منه صفة اخرى قائمة في النفس تسمى بالطلب ، فاذا لم يوجد الطلب لم يوجد الكلام النفسي في الذهن لانه متفرّع عليه. وهذا جواب عن الدليل الثاني للاشاعرة.

واما الجواب عن الدليل الاول للاشاعرة ، وهو الاوامر الامتحانية والاوامر الاعتذارية ، وهو فاسد لانه يخلو عن مدعى الأشاعرة لان مدّعاهم هو المغايرة بين الارادة الحقيقية والطلب الحقيقي ، ففي هذه الاوامر لا تكون الارادة الحقيقية موجودة ولا الطلب الحقيقي موجودا. نعم يكون الطلب الانشائي موجودا والارادة الانشائية موجودة. ولا يخفى عليك ان الطلب الانشائي غير الارادة الحقيقية ، كما ان الطلب الانشائي غير الطلب الحقيقي ، لان الاولين قائمان بالقول أو الإشارة أو الكتابة ، والثانيين قائمان بنفس المريد الطالب ، فالاستدلال بها خال عن المدعى ، لانه يدل على المغايرة بين الطلب الانشائي والارادة الحقيقية ، وهو غير قابل للانكار ، فالتمسك بهذا خال عن الفائدة كما لا يخفى. واحتجّت الأشاعرة ايضا بقول الاخطل الشاعر :

١٩٤

ان الكلام لفي الفؤاد وانما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

لانه يستفاد منه ان محل الكلام هو القلب يعني الكلام النفسي فيجاب عنه :

اولا : بانه ليس بحجّة لانه لم ينقل عن المعصوم عليه‌السلام ، والحال انه ليس آية قرآنية.

وثانيا : انه يحمل على اعتقاد الشاعر بثبوت الكلام النفسي اجتهادا أو تقليدا.

وبالجملة : لم يكن استدلال الأشاعرة بالاوامر المذكورة بيّنا ولا مبينا مغايرة الطلب الانشائي مع الارادة الانشائية ، لا باللزوم البيّن بالمعنى الأخص الذي يلزم من نفس تصور الملزوم تصور اللازم ، كما يلزم من تصور العمى تصور البصر ، لان العمى هو عدم البصر لا عدم المطلق. ولذا كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة. ولا باللزوم البيّن بالمعنى الأعم الذي يلزم من تصور الملزوم ومن تصور اللازم الجزم باللزوم ، كما يلزم من تصور الأربعة ومن تصور الزوج الجزم بلزوم الزوجية للاربعة اي لماهية الاربعة.

فأدلة الأشاعرة لاثبات الكلام النفسي ثلاثة : الأول : هو الأوامر الامتحانية ، والثاني : اثبات الكلام النفسي في الكلام الخبري والانشائي ، والثالث : هو شعر الاخطل ، وكلها فاسدة.

كون النزاع لفظيا لا معنويا :

قوله : ثم انه يمكن مما حقّقناه ان يقع الصلح بين الطرفين ولم يكن نزاع في البين بان يكون المراد بحديث الاتحاد والعينية ... الخ فاذا اتحد الطلب الحقيقي والارادة الحقيقية مفهوما ووجودا ، والطلب الانشائي والارادة الانشائية مفهوما ووجودا أيضا ، واذا ثبتت المغايرة بين الطلب الحقيقي والطلب الانشائي ، وبين الارادة الحقيقية والارادة الانشائية ، فيمكن ان يقع الصلح بين اهل الحق والمعتزلة وبين الأشاعرة ، بان يقال ان المراد بالاتحاد هو اتحاد الطلب والارادة الحقيقيين أو الانشائيين ، وان المراد بالمغايرة والاثنينية الانشائي من الطلب الذي ينصرف اليه الطلب عند اطلاقه ،

١٩٥

والحقيقي من الارادة كما هو المراد غالبا من لفظ الارادة حين اطلاقها اي اطلاق الارادة ، فيرجع النزاع لفظيا ، فكلهم قائلون بالاتحاد بين الحقيقيين وبالمغايرة بين الطلب الانشائي وبين الارادة الحقيقية ، وهكذا بينه وبين الحقيقي من الطلب كما لا يخفى. فاذن يقع الصلح في البين ويرتفع النزاع من البين ، وهو خير منه ، اي الصلح خير من الخلاف.

اعلم : ان النزاع على قسمين :

الاول : معنوي وهو ما يكون فيه مورد الاثبات ومورد النفي متحدا.

الثاني : لفظي وهو ما يكون فيه مورد الاثبات ومورد النفي متعددا.

قوله : فافهم وهو اشارة الى امتناع كون النزاع لفظيا. وتوضيحه : انه لا خلاف في انه سبحانه وتعالى متكلم لان الأشاعرة قائلون بالكلام النفسي مع كونه غير العلم والارادة والكراهة ، ومع كونه مدلولا للكلام اللفظي ، وهو معنى قائم بذاته تعالى وهو قديم. وحيث تعذر عليهم تفسيره بالعلم والارادة والكراهة ضرورة انها ليست كلاما اضطروا الى تفسيره في الكلام الخبري بالنسبة الايجابية أو السلبية ، وفي الكلام الانشائي بالطلب في الامر والمنع في النهي.

فالطلب عندهم صفة قائمة بذاته سبحانه وتعالى قديم ، فلا مجال لان يريدوا به الطلب الانشائي لانه ليس من صفات النفس ولا هو قديم فظهرت المغايرة بين الطلب والارادة في الكلام النفسي ، اذ الطلب الحقيقي محقق فيه دون الارادة الحقيقية فالنزاع معنوي في البين ، وردّ قول الأشاعرة يعلم مما سبق فلا نعيده.

قوله : دفع وهم لا يخفى انه ليس غرض الاصحاب والمعتزلة من نفي ... الخ فزعم بعض وتوهم ان جواب الاصحاب قدس‌سرهم من مذهب الأشاعرة هو أن الكلام اما خبري واما انشائي ، ولا تكون في الانشائيات علاوة على الصفات النفسانية من الارادة في الامر ، والكراهة في النهي ، والتمني في (ليت) والترجي في (لعل) والنداء في أداة النداء ، والاستفهام في أدواته ، وغيرها صفة قائمة بالنفس تسمى بالكلام النفسي ، ولا يكون في الاخبار بعد ادراك الموضوع والمحمول ، والعلم بالنسبة صفة اخرى قائمة

١٩٦

بالنفس تسمى بالكلام النفسي ، فتوهم المتوهم من هذا الجواب ان الجمل الانشائية اذا دلّت على هذه الصفات ، والجمل الخبرية اذا دلّت على العلم بثبوت النسبة أو على العلم بلا ثبوتها ، فيثبت حينئذ الكلام النفسي. ولكن هو خلاف التحقيق ، لان الطلب الذي هو مفاد هيئة (افعل) طلب انشائي ولا يكون هذا الطلب صفة نفسانية.

وكذا (ليت ولعل) وأدوات الاستفهام وغيرها موضوعة لانشاء هذه المفاهيم لا لنفس التمني والترجي والاستفهام و ... وكذا الجملة الخبرية وضعت لنفس الثبوت أو لنفس اللاثبوت ، لا للعلم بالثبوت أو باللاثبوت ، فهذه الصفات في الانشائيات خارجة عن مدلولاتها ، وكذا العلم في الاخباريات خارجة عن مدلولاتها.

فيجاب عن هذا التوهم : بان هذه الصفات والعلم خارجة عن مدلولات الكلام الخبري والانشائي ، وليس غرض العلماء انها داخلة في مدلول الكلام مطابقة بل غرضهم انه ليست في الذهن في الجمل غير هذه الصفات المشهورة ، سواء كانت خبرية أم كانت انشائية صفة اخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي كما يقول به الأشاعرة.

فان قيل ان الجمل تدل على اي معنى من المعاني. قلنا : ان الجملة الخبرية تدل على ثبوت النسبة اذا كانت موجبة ، وعلى لا ثبوت النسبة اذا كانت سالبة في نفس الامر ، سواء كان في عالم الذهن فقط أم كان في عالم الخارج ، نحو (الانسان كاتب) اي (الانسان) الذي كان موجودا في الخارج (كاتب) كما انه ضاحك وكذا السالبة نحو : (لا شيء من الانسان بحجر) مثلا.

واما الجمل الانشائية مثل الأمر والنهي والاستفهام ونحوها وضعت لقصد ايجاد معاني هذه الالفاظ بوسيلتها. يعني ان المتكلم في مقام الكلام قد يكون قاصدا الإخبار عن المعاني بالألفاظ ، وقد يكون قاصدا إيجاد المعاني والمفاهيم بالالفاظ ، اي بالالفاظ التي قصد بها الاخبار عن مفاهيمها في الخارج. مثلا يقول : (بعت واشتريت) قد يقصد به الإخبار ، وقد يقصد به الإنشاء. كما ان الإخبار يكون نحوا من الوجود ذا اثر ، وكذا الانشاء نحوا من الوجود الذي يكون منشأ للآثار عند

١٩٧

العقل والشرع. مثلا : متى لم تنشأ علقة الزوجية لا تترتب آثار الزوجية عند الشرع والعرف ، وكذلك (ليت ولعل) والنداء والاستفهام لانه توجد مفاهيمها بهذه الالفاظ.

نعم يكون الداعي غالبا على انشاء الطلب فعلا او تركا وعلى انشاء التمني والترجي والاستفهام والنداء والقسم والتعجب نفس هذه الصفات المشهورة ، يعني اذا وجدت الارادة في الذهن والقلب فانشاء الطلب ، واذا وجد الرجاء الحقيقي يتكلّم بلفظ (لعلّ) نحو (لعلّ السلطان يكرمني) ونحوه واذا جهل بالموضوع أو بالمحمول أو بالنسبة بينهما فقد انشأ الاستفهام.

ولاجل هذا لا يبعد ان يدعى ان هذه الالفاظ تدل بالدلالة الالتزامية على وجود هذه الصفات في الذهن حقيقة ، اما لاجل وضعها لاجل ايقاع هذه الصفات في المورد الذي يكون الداعي فيه ثبوتها أو انصراف اطلاقها عند عدم القرينة على ان الداعي الى الانشاء نفس هذه الصفات لا دواع أخر.

وفي ضوء هذا فقد ظهر ان الجملة الخبرية تدل على ثبوت النسبة ولا ثبوتها في الذهن أو في الخارج ، واما العلم بثبوت او العلم بلا ثبوت فهو من لوازم الاخبار غالبا ، لان المخبر لا يخبر غالبا الا عن علم ولا يكون كل شيء المدلول المطابقي للكلام الخبري ، فان الكلام النفسي في ضمن الكلام الخبري بعنوان كونه مدلولا له.

واما الجملة الانشائية سواء كانت طلبية أم كانت غير طلبية فتدل على انشاء الطلب ، اي انشاء وايجاد مفاهيمها بتلك الالفاظ في الطلبية وعلى انشاء مفاهيم الالفاظ بوسيلتها في غير الطلبى منها. فإن الكلام النفسي حال كونه مدلولا للكلام اللفظي مع كونه غير العلم والارادة والكراهة فهو غير معقول اصلا لان العلم بنسبة المدلول الالتزامي للكلام الخبري ونفس الثبوت لا تكون كلاما لا لفظيا ولا معنويا وليس غيرهما شيئا آخر يلحظ فيه غير الموضوع والمحمول.

واما المدلول المطابقي للانشاء فهو ايجاد المفاهيم بالالفاظ المعينة وقصد ثبوت معانيها في الخارج. واما المدلول الالتزامي للصيغ الانشائية التي تدل على الصفات المذكورة اما باللزوم العقلي نظير دلالة لفظ العمى على البصر بان كانت

١٩٨

الصفة المذكورة في الانشاء مأخوذة قيدا في الموضوع له وهو خارج عنه بان تكون كلمة (لعل) مثلا ، موضوعة لانشاء الترجي المقيد بكونه عن ترجّ نفساني ، وكذا ليت موضوعة لانشاء التمني المقيد بكونه عن تمنّ نفساني ، وكذا حرف النداء وضع لانشاء النداء المقيد بكونه عن نداء نفساني وهكذا الحال في الباقيات.

واما باللزوم العرفي الناشئ من كثرة الاستعمال المؤدية الى انصراف الذهن الى صورة وجود الصفة المذكورة ، فتكون الصفات الحقيقية المذكورة مدلولا عليها بالصيغ المستعملة في انشائها وايقاعها دلالة التزامية عقلية ، اذا لوحظ القيد في الموضوع له ، أو عرفية اطلاقية اذا لم يلحظ فيه ، اي ينصرف ذهن اهل العرف الى الصفات المشهورة المذكورة من اطلاق الصيغ الانشائية وذلك لكثرة الاستعمال عندهم.

قوله : اشكال ودفع ، اما الإشكال فهو انه يلزم بناء على اتحاد الطلب والارادة في ... الخ اما بيان الإشكال الناشى من اتحاد الطلب والارادة مفهوما ومصداقا ، فهو انه يلزم احد الامرين على سبيل منع الخلو في تكاليف الكفار بل مطلق اهل العصيان وان كان مسلما.

فخلوها عن الارادة الجدية حيث إن لم تكن هناك ارادة فلا يكون حينئذ طلب حقيقي ، والحال ان اعتبار الطلب الحقيقي في الطلب الجدي والارادة الجدية من البديهيات لا ينكره احد ، وان كانت هناك ارادة جدية فيلزم تخلف الارادة عن المراد وكلاهما باطل ، بل ممنوع.

اما الاول : فلان الكفار مكلّفون بالاصول والفروع ، والحال ان التكليف ليس بلا ارادة جدية ، ومن الواضحات عقلا ونقلا انه اذا اراد الله شيئا ان يقول له كن فيكون. واما الثاني : فلانه يلزم تخلف المعلول عن العلة التامة ، بخلاف ما اذا قلنا بانهما متغايران فلا يلزم الإشكال حينئذ ، لانا نلتزم بان تكليف الكفار والعصاة يكون مع الطلب فقط ، فلا يكون التكليف بلا طلب ولا تخلف الارادة عن المراد.

واما بناء على الاتحاد فان كانت الارادة في تكليفهم لزم التخلف ، وان لم

١٩٩

تكن الارادة في التكليف لزم خلو التكليف عن الارادة ، وكلاهما فاسد.

واما الدفع فهو ان الارادة على قسمين : الاول : تكويني. والثاني : تشريعي فالتكويني هو العلم بالنظام على النحو الاكمل ، والتشريعي هو العلم بالمصلحة في فعل المكلف فلا يجوز خلوّ التكليف عن التشريعي الذي ليس علة للاشياء ، ويجوز فيه تخلف المراد عن الارادة ، ولا يلزم في التكليف التكويني الذي هو علة للاشياء ، ولا يجوز فيه تخلف المراد عن الارادة فيلزم في التكليف الارادة في التشريعي دون التكويني.

فاذا توافقت الارادتان التكوينية والتشريعية فلا بد من الطاعة والايمان اذ الارادة التكوينية لا تختلف عن المراد ، واذا تخالفتا ، اي اذا تعلقت الارادة التكوينية بالعصيان والطغيان ، وتعلقت الارادة التشريعية بالطاعة والايمان ، فلا محيص عن ان يختار الكفر والعصيان شبهة جبر ، في هذا المقام.

قوله : ان قلت اذا كان الكفر والعصيان والطاعة والايمان بارادته تعالى لا تكاد تختلف عن المراد فلا يصح ان يتعلق بها التكليف ... الخ ويتوهم الإشكال من كلام سابق وهو ان الطاعة والعصيان والايمان والكفر اذا تعلقت بها الارادة التكوينية فالتكليف بالاطاعة والايمان غير ممكن ، كما ان النهي عن الكفر والعصيان لا يمكن ايضا لانها حينئذ خارجة عن الاختيار المعتبر في التكليف عقلا ، اذ بلحاظ تلك الارادة بها واجبة وجودا أو عدما فلا يصح التكليف بها عقلا.

فاللازم باطل فالملزوم مثله. اما بيان الملازمة فواضح لاستحالة تخلف المراد عن الارادة التكوينية ، فبالنتيجة لا يصح تعلق الارادة التشريعية بها لخروجها عن الاختيار.

قلنا : انما تتعلق الارادة التكوينية بوجودها الاختياري لا بوجودها مطلقا ، فتعلق الارادة التكوينية بوجودها الاختياري لا يضر باختياريتها ، لان الفعل الاختياري ما كان مسبوقا بارادة شخص ، وهذه الافعال مسبوقة بالارادة وان لم تكن هذه الافعال اختيارية. والحال ان ارادة الله تعالى قد تعلقت بالفعل الاختياري

٢٠٠