تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

ثم قال لوط : (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) أي : من المبغضين ، أي : كيف توعدونني بالإخراج ، وإني لعملكم الذي تعملون من المبغضين ؛ أكره المقام فيكم ، وأبغض رؤية أعمالكم التي تعملون ، فكيف توعدونني بالإخراج؟!.

ثم دعا فقال : (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) : هذا يحتمل وجوها.

أحدها : رب نجني وأهلي من عذاب ما يعملون وجزائه.

أو أن يكون : رب نجني وأهلي من عمل ما يعملون من الخبائث ؛ كقول إبراهيم : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ).

أو أن يقول : رب نجني وأهلي عن رؤية ما يعملون ومعاقبته.

ثم قال : (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) : قد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) : يحتمل أن يكون أمطر عليهم الحجارة بعد ما قلبهم ظهرا لبطن وبطنا لظهر ؛ كقوله : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً) [هود : ٨٢]. وجائز أن يكون جعل عاليها سافلها بما أمطر عليهم من الحجارة.

وجائز أن يكون جعل القريات ومن فيها عاليها سافلها ، وأمطر على من كان غائبا منهم الحجارة.

قال أبو عوسجة والقتبي (١) : (مِنَ الْقالِينَ) أي : من المبغضين ، يقال : قليت الرجل إذا أبغضته ، ومن ذلك قوله : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى : ٣] ، والغابر : الباقي.

قوله تعالى : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٩١)

وقوله : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) : الأيكة : قال بعضهم : هي شجرة نسبوا إليها.

وقال بعضهم : الأيكة : الغيضة.

(إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) : قال بعض أهل التأويل : وإنما لم يقل هاهنا في شعيب أخوهم ؛ لأن شعيبا لم يكن من نسلهم ـ أعني : من نسل أصحاب الأيكة ـ لذلك لم

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢٠).

٨١

يقل : إذ قال لهم أخوهم شعيب ، وقال في سورة هود حيث قال : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ...) الآية [الأعراف : ٨٥] ، كان من نسل أهل مدين ، ويقولون : إن شعيبا كان بعث إلى أهل مدين وهو كان منهم ، وإلى أصحاب الأيكة وهو لم يكن منهم ؛ لذلك قال ثم : أخاهم ولم يقل هاهنا.

لكن ليس فيما لم يقل : إنه أخوهم ما يدل أنه لم يكن من نسلهم ولا من نسبهم ؛ لأن جميع أولاد آدم إخوة ، إذ يسمى جميع البشر بنيه ؛ فعلى ذلك أولاده إخوة وأخوات.

ثم لا ندري أن مدين غير الأيكة والأيكة غير مدين ، فبعث شعيب إليهم جميعا أو هما واحد نسبوا إلى الأيكة مرة وإلى مدين ثانيا ، والله أعلم.

وقال القتبي (١) : الأيكة : الغيضة ، وجمعها : أيك.

وقال أبو عوسجة (٢) : الأيكة : شجرة ، والأيك : جمع أيكة ، وقال : لا أعرف «ليكة» بلا ألف ؛ وكذلك قال أبو عبيدة (٣).

وقال أبو زيد (٤) : أصحاب الأيكة أصحاب بادية ، والله أعلم.

وقوله : (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) ؛ وكذلك قال لأهل مدين في سورة هود : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ، ذكر فيهما جميعا إيفاء الكيل ، فلسنا ندري أنه قد ظهر فيهما جميعا نقصان الكيل والوزن ، فأمرهما بإيفاء ذلك لو كانت القصة واحدة فذكر فيهما ذلك.

ثم في قوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) جواز الاستدلال من وجهين :

أحدهما : وقوع المبيع بملك المشتري ، وإن لم يقبضه المشتري.

والثاني : جواز بيع الجزء من الكيلي والوزني شائعا من الكل ؛ لأنه قال : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ، أضاف الأشياء إلى الناس ونسبها إليهم ، فلولا أن ذلك ملك لهم وإلا لم تكن أشياءهم ، ولكن كانت أشياء هؤلاء ؛ إذ لا يخلو ذلك إما أن كان ثمنا أو كان مبيعا ، فكيفما كان فهو موصوف بالملك لهم دون الذين عليهم إيفاء ذلك.

وقوله : (أَوْفُوا الْكَيْلَ) : كأنه قال : أوفوا الكيل والوزن فيما عليكم إيفاؤه ، ولا تستوفوا

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٦٧٤٦) ، عن ابن عباس.

وينظر : تفسير غريب القرآن (٣٢٠).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٦٧٤٧) و (٢٦٧٤٨) ، عن ابن عباس.

وينظر : اللباب (١٥ / ٧٠ ، ٧١).

(٣) ينظر : مجاز القرآن (٢ / ٩٠).

(٤) أخرجه ابن جرير (٢٦٧٤٩).

٨٢

من الناس أكثر مما لكم عليهم.

(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) القسطاس : قال بعضهم : العدل ، أي : وزنوا للناس حقوقهم بالعدل ولا تنقصوها.

وقال بعضهم (١) : القسطاس : هو القبان وهو الميزان.

وقوله : (الْمُسْتَقِيمِ) : المستوي ؛ كأنه قال : وزنوا بالميزان المستوي ، لا تجعلوا إحدى الكفتين أثقل من الأخرى ؛ كأنهم يجعلون الكفة التي يوفون بها حقوق الناس أثقل ، والكفة التي يستوفون بها من الناس أخف ، فأمرهم أن يسووا الكفتين جميعا.

وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي : لا تفسدوا فيها.

وقوله : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) أي : اتقوا نقمة الذي خلقكم وخلق الجبلة الأولين ، أي : كيف عذبهم وانتقم منهم بظلمهم. والجبلة : هي الخليقة ؛ يقال : جبل أي : خلق.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) : قال بعضهم : هو الذي سحر مرة بعد مرة ؛ فعلى هذا التأويل يكون إنما أنت من المسحورين ، لكن التشديد للتكثير.

وقال بعضهم : إنما أنت مخلوق وبشر مثلنا ، وقد ذكرناه.

وقوله : (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) : هذا يدل أنهم إنما قالوا ذلك ظنّا منهم لا يقينا وحقا.

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : سألوا شعيبا العذاب على التعنت ، كما سأل غيرهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، فنزل بهم العذاب من حيث سألوا من السماء.

وعن الحسن (٢) قال : سلط الله الحر على قوم شعيب سبعة أيام ولياليهن ، حتى كانوا لا ينتفعون بظل بيت ولا ببرد ماء ، ثم رفعت لهم سحابة في البرية فوجدوا تحتها الروح ، فجعل بعضهم يدعو بعضا ، حتى إذا اجتمعوا تحتها أشعلها الله نارا فأحرقتهم ، فذلك قوله : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ...) الآية [الشعراء : ١٨٩].

وقال بعضهم : سقطت عليهم تلك السحابة فقتلتهم.

والظلة : قال أبو عوسجة : حر شديد.

__________________

(١) قاله ابن جرير (٩ / ٤٧٢).

(٢) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٧٥).

٨٣

وقال القتبي (١) : (كِسَفاً) ، أي : قطعة من السماء ، والكسف القطع.

وقال بعضهم (٢) : أصابهم حر شديد وغم في بيوتهم ، فخرجوا يلتمسون الرّوح قبله ، فلما غشيتهم تلك السحابة أخذتهم الرجفة فأصبحوا جاثمين.

وقال بعضهم : ظلل العذاب إياهم ، وبعضه قريب من بعض.

وعن ابن عباس (٣) قريبا من هذا قال : «بعث الله عليهم وهدة وحرّا شديدا ، فأخذ بأنفاسهم ، فلما أحسوا بالموت بعث لهم سحابة فأظلتهم ، فتنادوا تحتها ، فلما اجتمعوا سقطت عليهم ، فذلك قوله : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) ، والظلة : السحابة ؛ وهو قريب من الأول.

وقول شعيب : (رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) : من نقصان الكيل وغيره من صنيعهم.

وقوله : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) : كذبوه فيما أخبر من نزول العذاب بهم ، أو كذبوه فيما ادعى من الرسالة وما سوى ذلك ؛ هو مذكور فيما تقدم.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)(٢١٢)

وقوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) : وإنه ـ أي : القرآن ـ تنزيل رب العالمين ، أي : نزله رب العالمين.

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) : جواب لقولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ).

وقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ) : يحتمل وجوها :

أحدها : أن جبريل لما ينزل من القرآن إنما ينزل على قلبه ، لا يحجبه شيء عن قلبه.

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣٢٠).

(٢) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٧٥).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٦٧٥٩) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٧٥).

٨٤

والثاني : (عَلى قَلْبِكَ) أي : لا يذهب عنه ، بل الله يجمعه في قلبك ؛ كقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ).

أو أن يكون قوله : (عَلى قَلْبِكَ) أي : يثبته على قلبك لقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان : ٣٢].

أو أن يكون قال ذلك لما انتهى إلى قلبه وحفظه غاية حفظه قال : (عَلى قَلْبِكَ) ؛ كأنه ألقي في قلبه وكذلك يقال.

وقوله : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) : كأنه ـ والله أعلم ـ على التقديم والتأخير يخرج ، أي : نزل به الروح الأمين على قلبك بلسان عربي مبين لتكونن من المنذرين.

والباطنية يقولون : أنزله على رسوله كالخيال غير موصوف بلسان ، ثم إن رسوله أداه بلسانه العربي المبين أي : بينه ، لكنه ليس كذا ؛ لأنه قال في آية أخرى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ؛ فيبطل قولهم : إنه أداه بلسانه عربيّا من غير أن أنزله كذلك ، ولو كان على ما يقوله الباطنية : إنه لم ينزله بهذا اللسان ـ أعني : اللسان العربي ـ وأن الرسول هو الذي صيره بهذا اللسان وأداه به لكان لا يصير جوابا لقولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣] ، ولا حجة عليهم ، فإذا ذكر هذا جوابا لقولهم وحجة عليهم ؛ دل أنه إنما أنزل عليه عربيّا ، وأن تأويل الأول ما ذكرنا على التقديم والتأخير.

وقوله : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) : قال بعض أهل التأويل : وإنه ـ أي : نعت محمد وصفته ـ كان في كتب الأولين.

وجائز أن يكون قوله : (وَإِنَّهُ) أي : هذا القرآن كان ذكره في كتب الأولين أنه ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أن عينه كان فيها.

أو أن كان بعضه في زبر الأولين لا الكل ، والله أعلم.

وقوله : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) : قال بعض أهل التأويل : أو لم يكن لهم محمد آية أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم يجدونه مكتوبا عندهم في الكتب.

لكن تأويله : أو لم يكفهم علم علماء بني إسرائيل آية أنه رسوله. ثم الآية تكون بوجهين :

أحدهما : ما ذكر أن أهل مكة أرسلوا إلى اليهود بالمدينة يسألونهم عن رسول الله ، فأخبروهم عنه أنه يخرج في وقت كذا ، وأن نعته كذا ، وهذا وقت خروجه.

والثاني : يقول : أولم يكفهم آية إسلام علماء بني إسرائيل وفقهائهم أنه رسول نحو ابن

٨٥

سلام وغيره ؛ إذ كانوا لا يسلمون إلا عن علم وثبت أنه رسول ؛ إذ كان في إسلامهم ذهاب مكانتهم ورياستهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) : قال بعضهم : نزلناه على رجل منهم عربي فلم يؤمنوا به ، فكيف لو نزلناه على أعجمي؟!

وقال بعضهم (١) : لو نزلنا هذا القرآن على بعض الأعجمين ، فقرأه عليهم ، يقول : إذن لكانوا شر الناس فيهم ما فهموه وما دروا ما هو ؛ وهو قريب من الأول.

وقال بعضهم (٢) : لو نزلناه على بعض الأعجمين من الدواب فكلمهم هذا ما صدقوه ؛ يذكر سفههم وتعنتهم.

ويحتمل قوله : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) أي : لو نزلناه أعجميّا فلم يفهموه لقالوا : (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) ، ولكن نزلناه عربيّا ؛ لئلا يقولوا ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) : قال بعضهم (٣) : هكذا سلكنا الكفر والتكذيب ، وأدخلناه في قلوب المجرمين.

وقال بعضهم : كذلك سلكناه ـ يعني : البيان والحجج ـ في قلوب المجرمين حتى عقلوه ، ولزمتهم الحجة ، لكنهم تركوا الإيمان تعنتا وعنادا ، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ، حين لا ينفعهم إيمانهم ؛ لأن إيمانهم عند معاينة العذاب إيمان دفع واضطرار لا إيمان اختيار ، وهو كما قال : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) [غافر : ٨٤] ؛ لأنه إيمان دفع العذاب عن أنفسهم حين خرج أنفسهم من بين أيديهم ، وإيمان اضطرار لا إيمان اختيار ؛ لذلك لم ينفعهم.

وقوله : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي : يأتيهم العذاب فجأة وهم لا يشعرون ؛ لأنه ـ عزوجل ـ إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون أبدا ، أنزل بهم العذاب بغتة ، ولو علم منهم أنهم يؤمنون حقيقة عند معاينة العذاب ؛ لأنزل عليهم العذاب معاينة مجاهرة ؛ ليؤمنوا فيقبل منهم ذلك ويدفع العذاب عنهم ، كما قبل إيمان قوم يونس حيث قال : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) [يونس : ٩٨] ، قبل منهم الإيمان عند معاينتهم العذاب ؛ لما علم منهم أنهم يحققون الإيمان في ذلك ،

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٧٨).

(٢) قاله عبد الله بن مطيع أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٧٧٥) و (٢٦٧٧٦).

(٣) قاله ابن جريج وابن زيد والحسن وغيرهم ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٦٧٧٨) ، و (٢٦٧٧٩) و (٢٦٧٨٠) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٧٨).

٨٦

وأما من كان همهم المعاندة والمكابرة فهم لا يحققون الإيمان.

وقوله : (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) : لا يزالون يطلبون الرجعة إلى الدنيا ، وتأخير العذاب عن أنفسهم إذا نزل بهم ؛ كقولهم : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) [إبراهيم : ٤٤] ؛ وكقوله : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) [الأنعام : ٢٧] فيتمنون الرجوع والنظرة ، لكن لا يجابون.

وقوله : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) : [هو] كقولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) [يس : ٤٨] ، وقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) [الأنفال : ٣٢] ومثله ، وإلا ليس هذا في الظاهر جوابا لقوله : (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) وجواب هذا ـ والله أعلم ـ قوله : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ ...) : يقول : ما يغني تأخير العذاب عنهم ، وإمهالهم عنه وقتا يمتعون [فيه] ـ من عذاب الله من شيء ؛ لا ينفعهم ذلك.

أو أن يكونوا سألوا العذاب في الظاهر واستمهلوه في الحقيقة ، فخرج قوله : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ...) الآية جوابا لاستمهالهم.

أو أن يكون بعضهم استعجل العذاب واستمهل غيرهم ، فخرج هذا جواب من استمهل.

ثم خوفهم فقال : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى) : يقول : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) إهلاك استئصال وانتقام ، إلا بعد الإنذار وإقامة الحجة والبيان (ذِكْرى) ، أي : موعظة وزجرا عما هم فيه.

أو (ذِكْرى) بذكر ما لهم وما عليهم وما لبعضهم على بعض.

وقوله : (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) : في تعذيبهم ، أي : لم نعذبهم بلا ذنب ولا جرم ، ولكن بعنادهم ومكابرتهم ؛ لأن العذاب في الدنيا لا يكون لنفس الكفر ولكن لعناد ومكابرة ، وإنما عذاب الكفر في الآخرة ؛ وعلى ذلك يخرج قوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] أي : ما كنا معذبين في الدنيا تعذيب انتقام حتى نبعث رسولا ، فيظهر منهم العناد والمكابرة ، فعند ذلك يعذبهم الله.

وقال بعضهم (١) : (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي : ما كنا نعذبهم إلا من بعد البيان والحجة وقطع العذر ، والله أعلم.

وفي مصحف أبي : وما أهلكنا من قرية إلا بذنوب أهلها.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٦٧٨٣) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٧٨).

٨٧

وقوله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) : قال بعضهم : ما تنزلت بالقرآن الشياطين ، فذلك جواب لقول أهل مكة : إن محمدا كاهن معه رئيّ يأتيه بما يقول يعنون بالرئي : الشيطان ، وكانت الشياطين من قبل يقعدون من السماء مقاعد يستمعون فيها الوحي من الملائكة ، فينزلون به على الكهان فمن بين مصيب ومخطئ ، فقالوا : محمد كذلك ، فأكذبهم الله في مقالتهم تلك ، فقال : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ) أي : بالقرآن (الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أن ينزلوا بالقرآن (وَما يَسْتَطِيعُونَ) ، أي : قد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب ، وأخبر أنهم عن السمع لمعزولون.

وفي قوله : (وَما يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) دلالة أن من أراد أن يجعل القرآن حجة لغير الذي جعل هو حجة ، لم يقدر على النطق به ولا التلاوة ؛ نحو : من يأتي أفقا من آفاق الأرض لم ينته إليهم هذا القرآن ، فادعى لنفسه النبوة وجعل يحتج بهذا القرآن ، فإنه لا يقدر على تلاوته ولا النطق به ؛ لأنه إنما جعل حجة وبرهانا للمحق لا للمبطل حيث قال : وما تنزلت الشياطين وما ينبغي لهم أن ينزلوا وما يستطيعون ذلك وإنهم معزولون عن ذلك.

قوله تعالى : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢٢٠)

وقد ذكرنا وجه النهي لرسول الله في قوله : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) وأمثاله ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) : روي عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا ، فخص وعم فقال : «يا معشر قريش ، أنقذوا أنفسكم من النار ؛ فإني لا أملك لكم من الله نفعا ولا ضرّا ، يا معشر بني قصي ، أنقذوا أنفسكم من النار ؛ فإني لا أملك لكم من الله ضرّا ولا نفعا ، وقال : يا معشر بني عبد مناف ، أنقذوا أنفسكم من النار لا أملك [لكم] من الله ضرّا ولا نفعا» ؛ وكذلك قال لبني عبد المطلب ، وقال لفاطمة ابنته : «يا فاطمة بنت محمد ، أنقذي نفسك من النار ؛ فإني لا أملك لك من الله ضرّا ولا نفعا ، ولكن لك رحم سأبلّها ببلالها» (١) أي : بأصلها.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٤٥٠) ، كتاب التفسير : باب (وأنذر عشيرتك الأقربين) ، (٤٧٧١) ، ومسلم (١ / ١٩٢ ، ١٩٣) ، كتاب الإيمان : باب في قوله تعالى : (وأنذر عشيرتك الأقربين) ، (٣٥١ / ـ

٨٨

وفي بعض الأخبار : أنه قال عند نزول هذه الآية : «إني أرسلت إلى الناس عامة ، وأرسلت إليكم يا بني هاشم وبني عبد المطلب خاصة» ، وهم الأقربون وهما أخوان ابنا عبد مناف.

وعن الحسن قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع أهل بيته قبل موته فقال : «ألا إن لي عملي ولكم عملكم ، ألا إني لا أملك لكم من الله شيئا ، ألا إن أوليائي منكم المتقون ، ألا لا أعرفنكم يوم القيامة تأتونني بالدنيا تحملونها على رقابكم ، ويأتيني الناس بالآخرة» (١).

وعن قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بات ليلة على الصفا يفخذ عشيرته فخذا فخذا يدعوهم إلى الله ، قال في ذلك المشركون. لقد بات هذا الرجل يهوّت (٢) منذ الليلة. يقول يصيح ، فأنزل الله في ذلك : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى)(٣) الآية [سبأ : ٤٦].

ومعنى التخصيص في إنذاره عشيرته في هذه الآية يحتمل وجهين ـ وإن كانوا داخلين في جملة إنذار الناس جميعا في قوله : (لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) إذ هم من العالمين ـ :

أحدهما : جائز أن يكونوا هم يطمعون شفاعة رسول الله يوم القيامة ، وإن لم يطيعوه ولم يجيبوه إلى ما يدعوهم إليه ؛ على ما روي عنه أنه قال : «كل نسب وسبب منقطع يومئذ إلا نسبي وسببي» (٤) ، فيشبه أن يكونوا يطمعون شفاعته يومئذ ـ وإن خالفوه بحق القرابة والوصلة ـ ما لا يطمع ذلك غيرهم من الناس إلا بالطاعة والإجابة ، فأمره أن ينذرهم ؛ لئلا يكلوا إلى شفاعته ، ولكن احتالوا حيلتهم بالطاعة والعمل لما يأمر ، وهو ما ذكر في الأخبار التي ذكرنا : «إني لا أملك لكم من الله نفعا ولا ضرّا ، ألا إن أوليائي منكم المتقون» (٥) ، أخبر أن لا ولاية إذا لم يتقوا مخالفته.

والثاني [](٦).

وقوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : قيل (٧) : لين جانبك لمن اتبعك من

__________________

ـ ٢٠٦) ، والترمذي (٥ / ٢٤٧) ، في التفسير باب : (ومن سورة الشعراء) (٣١٨٥) ، وابن جرير (٢٦٧٨٩) و (٢٦٧٩٠) ، والبغوي في شرح السنة (٧ / ٩١) ، وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان وفي الدلائل ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٧٩).

(١) أخرجه عبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٨٠) ، من طريق قتادة عنه ، وأخرجه ابن جرير (٢٦٨١١) ، عن قتادة.

(٢) يهوّت : يصيح. ينظر : المعجم الوسيط (٢ / ١١٠٩).

(٣) أخرجه عبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٨٠).

(٤) تقدم في سورة المؤمنون.

(٥) تقدم.

(٦) بياض في أ.

(٧) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٨١٣).

٨٩

المؤمنين ؛ كأنه أمر رسوله أن يتواضع لهم ويرحم ، وقال في الوالدين : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء : ٢٤] ، وقال في المؤمنين : بعضهم لبعض فيما بينهم (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ، (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ، ذكر الذل فيما بينهم والرحمة ، ولم يذكر في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذل ـ والله أعلم ـ لأن الذل كأنه يرجع إلى الخضوع واستخدام بعضهم بعضا ، وذلك في رسول الله بعيد لا يحتمل أن يأمره بالخدمة لهم.

وجائز أن يمتحن بعضهم بخدمة بعض ، والله أعلم.

وقوله : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) قالوا : إنه راجع إلى قوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وموصول به ؛ كأنه قال : وأنذر عشيرتك الأقربين فإن عصوك فقل (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ).

قد كان رسول الله بريئا مما كان يعمل أولئك الكفرة ، لكنه يحتمل أن يكون أولئك لما أنذرهم رسول الله ، طلبوا منه أن يطيعهم في بعض أمورهم ويشاركهم في بعض أعمالهم ؛ حتى يطيعوا أولئك له في بعض ما يأمرهم ويدعوهم إليه ، ويشاركونه في بعض أعماله ، فقال عند ذلك : إنه بريء مما يدعونه إليه ، وطلبوا منه مساعدته إياهم والإغماض عما يعملون فقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ؛ كأنه أمنه عن شرهم وكيدهم فقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ، ولا تخف مخالفتهم إياك فيما تدعوهم إليه.

أو أمره أن يكل نفسه إليه ، ويفوض جميع أموره في كل وقت فقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ، العزيز : المنتقم لأوليائه أو الشديد بأعدائه ، الرحيم بأوليائه.

أو ذكر العزيز ؛ لأنه به يعز من يعز وهو يرحم من يرحم ، من لم يعزه هو لا يكون عزيزا ومن لم يرحمه هو لا ينفعه ترحم غيره ، والعزيز هو الذي لا يعجزه شيء.

وقوله : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) : في ظلمة الليل وحدك قائما وجالسا وعلى حالاتك ، ويراك في تقلبك ـ أيضا ـ في الساجدين في الصلاة مع الناس في الجماعة.

وبعضهم يقول في (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) : في المصلين ؛ يقول : كان يرى من خلفه من الصفوف كما يرى من أمامه.

لكن هذا ليس تأويل الآية ، بل كلام قاله من ذات نفسه ، ولو كان ما ذكر لكان يقول : يريك ، برفع الياء لا بالنصب (١).

وروي [في] بعض الأخبار : «أنا إمامكم ؛ فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ؛ فإني أراكم خلفي كما أراكم أمامي ، والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٥ / ٩٩).

٩٠

قليلا ولبكيتم كثيرا» ، قالوا : يا رسول الله وما رأيت؟ قال : «رأيت الجنة والنار» (١).

وقال بعضهم (٢) : يراك حين تقوم إلى الصلاة فتصلي وحدك ، ويراك مع المصلين في جماعة ؛ وهو مثل الأول.

وفي حرف حفصة : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)(٣).

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : السميع لمقالتهم مما يخفون ويسرون وما يعلنون ، والعليم : بضمائرهم وخفياتهم.

أو السميع : المجيب لمن دعاه ، العليم : بأفعالهم وأعمالهم.

قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧)

وقوله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ. تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) : خرج هذا ـ والله أعلم ـ وما تقدم ذكره من الآيات جوابا لقول كان من رؤساء الكفرة وقادتهم لا يزالون يلبسون على أتباعهم والسفلة أمر رسول الله وما ينزل ، فقالوا مرة : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] ، ومرة : (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ : ٤٣] ، وأنه شاعر وأنه ساحر ، ومرة قالوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ، وأمثال هذا ، فجائز أن كان منهم ـ أيضا ـ قول : إن الشياطين هم الذين يتنزلون بهذا القرآن عليه ، على ما ذكر أنهم قالوا : يجيء به الرئي ـ وهو الشيطان ـ فيلقيه على لسانه ، فقال عند ذلك جوابا لهم : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ ...) الآية ، ولكن إنما يتنزل به جبريل حيث قال : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ...) الآية [النحل : ١٠٢].

ثم أخبر عن الشياطين أنهم على من ينزلون حيث قال : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) فقال : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ، ذكر هذا لما عرفوا هم أن الشياطين لا يتنزلون

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ٣٢٠) ، كتاب الصلاة : باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما (١١٢ / ٤٢٦) ، وأحمد (٣ / ١٠٢) ، والنسائي (٣ / ٨٣) ، كتاب السهو : باب النهي عن مبادرة الإمام بالانصراف من الصلاة ، وابن خزيمة (١٦٠٢) و (١٧١٥) و (١٧١٦) ، من طريق المختار بن فلفل عن أنس.

وأخرجه البخاري (١٣ / ٣٧٢) ، كتاب الأيمان والنذور : باب كيف كانت يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦٦٤٤) ، ومسلم (١ / ٣١٩ ، ٣٢٠) ، كتاب الصلاة : باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها (١١٠ / ٤٢٥) ، من طريق قتادة عن أنس مختصرا.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٨٣).

(٣) هكذا في أبالتاء ، ولعل المراد بالياء : يقلبك.

٩١

إلا بكذب وباطل ، فمن لا ينزل إلا بكذب وباطل لا ينزل إلا على كذاب أفاك ، وكان معلوما عندهم أن محمدا لم يكذب قط ولا أفك أبدا ؛ إذ لم يأخذوه يكذب فيما بينهم قط ، فيقول ـ والله أعلم ـ كيف يتنزل عليه الشياطين وهو معروف عندكم أنه ليس بكذاب ولا أفاك ، وقد تعلمون أن الشياطين لا ينزلون إلا بكذب وباطل؟! على هذا يخرج تأويل هذه الآيات ، وإلا على الابتداء لا يحتمل أن تكون.

ثم أخبر عن صنيع الشياطين فقال : (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) :

قال بعضهم : يلقي الشياطين بآذانهم إلى السمع في السماء لكلام الملائكة ، وذلك أن الله إذا أراد أمرا في الأرض علم به أهل السماء من الملائكة ، فيتكلمون به فيسمع الشياطين ذلك ، فيخبرون به الكهنة ، فيخبر الكهنة أهل الأرض بذلك ، فيقولون : إنه يكون في الأرض كذا في وقت كذا ، ثم قال : (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) ـ على هذا التأويل ـ : وأكثر الشياطين كاذبون فيما يخبرون الكهنة من أخبار السماء.

وقال بعضهم (١) : إن الجن كانوا يصعدون إلى السماء فيسترقون أسماعهم إلى السماء ، فيسمعون من أخبار أهلها ، ثم ينزلون به على الكهنة ، ويسمع الكهنة ـ أيضا ـ من أخبار الرسل ، ويخلطون ما سمعوا من الرسل من الحق بما سمعوا من الشياطين.

وقال بعضهم : كانوا يسمعون من الجن حقّا ، لكنهم يخلطون من عند أنفسهم كذبا ، فيحدثون به الناس ، حتى إذا كان الناس يتركون ما يسمعون منهم من الكذب ، حدثوهم بذلك الحق الذي نزل به من السماء ، ويراجعونهم ويصدقونهم ؛ فذلك قول الله : (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي : أكثر قولهم كذب ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) قال بعضهم (٢) : رجلان شاعران كانا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، فهجوا رسول الله وأصحابه ومع كل واحد منهما غواة من قومه ؛ فذلك قوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ).

قال : فاستأذن شعراء المسلمين النبي أن يقتصوا من المشركين ، فأذن لهم النبي ، فهجوا المشركين ومدحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ؛ أخبر في الأول : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) ، فاستثنى شعراء المسلمين بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٦٨٢٨) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٨٤).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٨٣٨) ، وعن الضحاك (٢٦٨٣٩) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٨٥).

٩٢

وقال بعضهم (١) : الشعراء عصاة الجن يتبعهم غواة الإنس ؛ كقوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) [الأنعام : ١١٢].

وقال بعضهم (٢) : هم الكفار يتبعون ضلال الجن والإنس ؛ وهو مثل الأول.

وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) : قال بعضهم (٣) : في كل فن يأخذون ، أي : يمدحون قوما بباطل ، ويذمون قوما بباطل.

(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) ، وأنهم يصفون ما لا يعلمون ؛ وكذلك ذكر في بعض الحروف أنه كذلك.

وقال بعضهم (٤) : إنهم في كل لغو وباطل يخوضون.

(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) يقول : في أكثر قولهم يكذبون.

وقال بعضهم : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) أي : يقولون : فعلنا كذا ، وهم كذبة ؛ لم يفعلوا ذلك.

وقال أبو عوسجة : (يَهِيمُونَ) أي : يذهبون ويمضون ويركبون كل واد ، هام يهيم هيما فهو هائم ، ويقال : الهائم : العطشان ، يقول : هام يهيم هيما ، وهيمان : عطشان ، وقوم هيم ، والهائم ، الواهن المحب الذي هو عطشان إلى لقاء من يحب ، والتهويم : النوم ؛ يقال : هوم يهوم تهويما ، وقوله : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) هم العطاش ، والواحد : هيمان.

وقال القتبي (٥) : (فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أي : في كل واد من القول [و] في كل مذهب يذهبون ؛ كما يذهب الهائم على وجهه.

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) : هذا الاستثناء يحتمل أن يكون من قوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) وهو ما ذكرنا ؛ كأنه قال : أولئك الشعراء وهم القادة منهم الذين قالوا : نحن نقول بمثل ما أتى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا الشعر وأنشدوه واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم ، ويروون عنهم حين يهجون النبي وأصحابه ، فاستثنى شعراء المسلمين الذين قالوا الشعر وأنشدوه في انتصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فقال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم لا يتبعهم الغاوون.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٨٣٤) و (٢٦٨٣٥) ، وعن قتادة (٢٦٨٣٦) ، وعكرمة (٢٦٨٣٧).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٨٤٠) وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٨٦).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٨٤٥) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٨٦).

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٨٤٢).

(٥) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢١).

٩٣

أو أن يكون الاستثناء من قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم لا يهيمون في كل واد ، ويقولون ما يفعلون ، ولا يقولون ما لا يفعلون ، بل يذكرون الله كثيرا وينتصرون لرسوله ؛ ولأنفسهم من بعد ما ظلموا ؛ فيكون الاستثناء في أحد التأويلين من الاتباع [و] في الآخر من الأئمة والقادة ؛ فكان منهم قول سبق في ذلك ، حتى قال : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ...) إلى آخر ما ذكر ؛ إذ لا يحتمل على الابتداء دون قول كان منهم على ما ذكرنا في قوله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ...) ، وقوله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ ...) الآية ، قد كان من أولئك الكفرة قول وطعن بأن الشياطين هم الذين يتنزلون به عليه ، حتى خرج جوابا لهم : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) ، وإن لم يذكر ذلك ، يظهر ذلك في الجواب أن كان منهم قول وطعن ، وإن لم يذكر ، ثم أوعدهم وقال : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) يحتمل في الآخرة في منقلب الظلمة وهي النار ، أي : يعلمون علم عيان يومئذ ، وإن لم يعلموا ذلك في الدنيا علم استدلال لما تركوا النظر فيه.

أو يعلمون ذلك علم عيان في الآخرة ، وإن علموا في الدنيا علم استدلال ، لكنهم تعاندوا وكابروا فلم يؤمنوا ، والله أعلم وصلى الله على رسولنا محمد وآله أجمعين.

* * *

٩٤

سورة النمل وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)(٦)

قوله ـ عزوجل ـ : (طس) : قد ذكرنا فيما تقدم تأويل الحروف المعجمة وأقاويل الناس فيها ؛ وكذلك الآيات قد ذكرناها.

وقوله : (وَكِتابٍ مُبِينٍ) : يحتمل قوله : (مُبِينٍ) أي : بين واضح ؛ لأن (أبان) قد يستعمل في موضع (بان) ، يقال : بان وأبان.

ويحتمل : (وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي : يبين أنه رسول من الله ، أو يبين ما لله عليهم ، أو ما لبعضهم على بعض ، أو ما لهم وما عليهم.

وقوله : (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).

قوله : (هُدىً) يحتمل وجهين :

أحدهما : دعاء ؛ كقوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي : داع يدعو الخلق إلى توحيد الله تعالى ؛ فعلى ذلك يحتمل قوله : (هُدىً) أي : دعاء ، يدعوهم إلى توحيد الله تعالى ، فإن كان هذا فهو للناس كافة.

والثاني : جائز أن يريد بالهدى : الهدى الذي هو نقيض الضلال وضده ، فهو للمؤمنين خاصة ، وإن كان أراد به البيان والدعاء فهو للكل.

وقوله : (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : يدعوهم إلى الإيمان بالله وبرسوله ، فإذا آمنوا كان لهم بشرى.

ثم نعت المؤمنين ووصفهم فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) : يحتمل قوله : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي : يقرون بهما ويؤمنون ؛ لأن من الناس من كان يؤمن بالله وبرسوله ، لكنهم أبوا الإيمان بالصلاة والزكاة ؛ كقوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥]. لا يحتمل أن يأمرهم بحبسهم إلى أن تمضي السنة فتجب الزكاة عليهم فيؤتون ، فحينئذ يخلون سبيلهم ، ولكن الأمر بحبسهم إلى أن يقروا بها ويؤمنوا ، فيخلون عند ذلك سبيلهم.

٩٥

وكذلك قوله : (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٧] : لا يقبلونها ولا يقرون بها ليس على فعل الإيتاء ، فعلى ذلك الأول يحتمل هذا.

والثاني : يحتمل الأمرين جميعا : القبول والإقرار بها والإيتاء جميعا ، أي : إذا قبلوها وأقروا بها وأعطوها ـ فحينئذ يستوجبون هذه البشارة التي ذكرت.

وقوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) : الإيقان بالشيء : هو العمل به من جهة الاستدلال والاجتهاد ، والأسباب التي يستفاد بها العلم بالأشياء لا العلم الذاتي ؛ ولذلك لا يوصف الله على الإيقان بالشيء ولا يقال : يا موقن ؛ لأنه عالم بذاته لا بالأسباب ، وبالله التوفيق.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) : الأعمال التي هم فيها بما ركب فيهم من الشهوات والأماني.

ويحتمل (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) الأعمال التي هي عليهم ، أي : زين لهم الخيرات والطاعات ، لكنهم أبوا أن يأتوا بها ؛ فالمعتزلة قالوا بهذا التأويل ، وأبوا أن يقولوا بالأول أن يكون من الله تزيين ما هم فيه من الشرك والكفر وأنواع أفعال الكفر ؛ إذ أضاف تزيين ذلك إلى الشيطان حيث قال : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) [النمل : ٢٤] ، وقال : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) [محمد : ٢٥] ، ونحو ذلك من الآيات ، فقالوا : أضاف إلى الشيطان ، ولا يجوز أن يضاف إلى الله ذلك بعينه ؛ فدل أن الله إنما زين لهم أعمالهم التي عليهم من الإيمان والخيرات ، لا الأعمال التي هم فيها.

لكن عندنا يجوز إضافة تزيين أعمالهم التي هم فيها إلى الله من جهة ما ركب فيهم من الشهوات والأماني التي توافق طباعهم وأنفسهم ؛ لأن التزيين يقع بنفس الكفر وأفعاله ؛ إذ الكفر نفسه ليس بمزين ولا مستحسن ، إنما هو شتم رب العالمين ، ولكن تزيينه واستحسانه هو موافقة ما يعمل من الأعمال طباعه والجهة التي تضاف إلى الله ؛ إذ الجهة التي تضاف إلى الشيطان هو دعاؤه وتمنيه إلى ما يوافق طباعهم ؛ فمن هذه الجهة يجوز إضافته إلى الشيطان ، والجهة التي تضاف إلى الله هو ما ركب فيهم من الشهوات والأماني وجعل الطباع موافقة لها ، وإلا الصدق وجميع الخيريات إنما يكون مزينا مستحسنا في العقل للعاقبة ، والكفر وجميع المعاصي مستقبح في العقل للعاقبة إذا حمد أحدهما وأثيب على فعله ، وذم الآخر وعوقب لسوء اختياره.

أو أن يكون إضافة ذلك إلى الله لما خلق أفعالهم وأعمالهم التي عملوها ، وأخرجها من العدم إلى الوجود ، وهي من هذه الجهة فعله ، وهو يرد قولهم في إبائهم خلق أفعال العباد.

٩٦

وقوله : (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) : قيل (١) : يترددون ، وأصل العمه : الحيرة ، أي : يتحيّرون.

(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) : أي : لهم ما يسوءهم من العذاب في الآخرة ؛ لاختيارهم سوء الأفعال في الدنيا.

(وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) : الأخسرون والخاسرون واحد.

وجائز أن يقال : (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) للقادة منهم والرؤساء ؛ لأنهم ضلوا بأنفسهم وأضلوا غيرهم هم أخسر من الأتباع ؛ كقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [النحل : ٢٥].

وقوله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) : هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : لتلقى القرآن من الله على يدي رسوله وهو جبريل.

والثاني : جائز أن يكون حكيم عليم هو جبريل نفسه ، أي : إنك لتلقى القرآن من لدن جبريل ، وهو حكيم يضع الوحي والقرآن حيث أمر بوضعه فيه ؛ إذ الحكيم : هو المصيب في فعله الواضع للشيء موضعه ، وعليم بما أمر به وأرسل وهو كذلك كان ؛ إذ يجوز أن يقال للمخلوق : حكيم عليم ؛ ألا ترى إلى قول يوسف : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف : ٥٥] ؛ فعلى ذلك هذا جائز ، والأول أشبه.

أي : إنك لتأخذ القرآن من لدن حكيم عليم على يدي رسوله جبريل ، فما يأخذ من رسوله كأنه يأخذ من عند مرسله ؛ إذ الرسول إنما يؤدي كلام مرسله.

وقال أبو عوسجة : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) يقال : تلقيته : أخذته.

وكذلك قال القتبي (٢) : (لَتُلَقَّى) أي : لتأخذه.

وقال محمد بن إسحاق : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي : لتؤتى بالقرآن ؛ كقوله : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي : وما يؤتيها ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(١٤)

وقوله : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) : قيل (٣) : رأيت وأبصرت.

__________________

(١) قاله ابن جرير (٩ / ٤٩٥).

(٢) ينظر : غريب القرآن ص (٣٢٢).

٩٧

(سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) وقال في آية أخرى : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) [طه : ١٠] ، هذا يدل أنه كان ضل الطريق على ما ذكره أهل التأويل ، وقال في آية أخرى : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) [النمل : ٧] ، ذكر على التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف ، والقصة واحدة ، والممتحن بذلك موسى لا غير ؛ فهذا يدل أن ليس على الناس تكلف حفظ الألفاظ والحروف بلا تقديم ولا تأخير ولا تغيير ، بعد أن أصابوا المعنى المودع فيها ـ أعني : في الألفاظ ـ وحفظوها من غير تغيير يدخل في المعنى المودع ؛ إذ قصة موسى هذه وغيرها من قصص الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ذكرت في الكتاب في التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف فدل : أن ليس على الناس حفظ الألفاظ والحروف في كثير من الأحكام في الشهادات والأخبار وغيرها ، وإنما عليهم إصابة المعنى.

ثم قوله : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) قال بعضهم : الشهاب : خشبة في طرفها نار ، والقبس : النار وشهبان : جمع ، ولا تسمى النار : قبسا إلا ما يحمل من موضع إلى موضع ، يقال : قبست النار قبسا واقتبست ؛ وهو قول أبي عوسجة والقتبي.

وقال بعضهم : القبس : الجمر ، والشهاب : النار الموقدة ، وهو قول أبي عبيدة (١).

وقال بعضهم : الشهاب : النور ، والشهاب : الكواكب ، سمي : شهابا لضوئه.

وقال بعضهم : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي : شعلة من نار ، والجذوة : كأنها خشبة فيها نار ؛ وهو مثل الأول.

ودل قوله : (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) على أن الوقت وقت البرد وأيام الشتاء ؛ حيث ذكر الاصطلاء وهو الاستدفاء ، والله أعلم.

وقوله : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) : اضطربت أقاويل أهل التأويل في هذا :

صرف بعضهم تأويله إلى (ما) لا يزيده إلا سماجة وبعدا عن الحق والصواب وعمى ، لكن لو جاز أن يعبر ويكنى بحرف (من) عن غير مميز وغير ذي فهم وعقل ، لاستقام التأويل فيه ولم يقع فيه شبهة ؛ فيجعل كأنه قال : أن بورك ما فيه من النار وما حولها ، ويكون عبارة عن المكان الذي فيه النار وما حولها من الأمكنة ، أي : بورك في ذلك

__________________

(١) قاله ابن جرير (٩ / ٤٩٥).

٩٨

المكان الذي فيه النار وما حولها ؛ لأنه قال له في آية أخرى : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [طه : ١٢] أي : طوي فيه البركات.

وقال في آية : (بارَكْنا حَوْلَهُ) [الإسراء : ١] عن بركة ذلك المكان ؛ فعلى ذلك لو جاز أن يعبر بحرف (من) عن غير المميز والفهم ، ويكنى به ـ جاز صرف التأويل إلى ما ذكرنا من المكان.

أو يقال : (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) ، أي : بورك ما في النار من النور وما حول ذلك ، وما يستنار به ويستضاء ، وهو ما استفاد به من النبوة والرسالة.

هذا كله إذا جازت العبارة والكناية بحرف (من) عن غير ذي التمييز والفهم ، فإن جاز هذا لاستقام أن يقال هذا.

أو أن يكون التأويل منصرفا إلى ما ذكره في حرف ابن مسعود وأبي (١) على طرح حرف (من) وحرف (في) ذكر : أن في حرفهما : نودي أن بوركت النار ومن حولها ، وذلك جائز في اللغة أن يقال : بورك في فلان وبورك فلان وبوركت وبورك فيك ؛ وكذلك ذكر عن الكسائي أنه قال ذلك ، فإن كان ما ذكر عن ابن مسعود وأبيّ ثابتا صحيحا ـ لم يقع فيه شبهة ولا ريب.

أو إن لم يجز العبارة بحرف (من) عن غير ذى التمييز ، فجائز أن يصرف حرف (من) إلى موسى ؛ فيكون كأنه قال : بورك في الذي أتى النار وهو موسى ، أو بورك فيمن جعل له اقتباس النار ؛ فينصرف تأويل (من) إلى موسى ، وقد جعل له من البركة في تلك النار ما لا يحصى من استفادة النبوة والإرشاد إلى الطريق والاصطلاء وغير ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : ذكر هذا ـ والله أعلم ـ تنزيها عن جميع ما قاله بعض أهل التأويل ؛ تبرئة منه عن ذلك كله من نحو مقاتل ، ومن قال بمثل قوله مما يؤدي إلى التشبيه والشبه.

وقوله : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي : الذي أعطاك ذلك الله العزيز الحكيم.

أو يقول : إن الذي جعل لك ذلك الله العزيز الحكيم. أو أن يقول : إنه الذي أراك هذا وأكرمك به أنا الله العزيز الحكيم.

أو أن يقول : إن الذي أراك ـ أي : الذي جعل لك ذلك ـ الله العزيز الحكيم ؛ العزيز : الذي لا يعجزه شيء ، الحكيم : المصيب في فعله غير مخطئ ، أو أن يقال : عزيز لا يذل أبدا قط ؛ لأنه عزيز بذاته ، الحكيم : يضع كل شيء موضعه لا يخطئ.

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٩١).

٩٩

قال أبو معاذ : قال مقاتل بن سليمان : إنه يقول : يا موسى ، إن النور الذي رأيت أنا الله ، وهذا محال لا وجه له ؛ لأنك لا تقول : «إن الذي رأيت أنا» لإنسان رآه أو لشيء رآه ، ولكن تقول : أنا الذي رأيت.

ومحال ـ أيضا ـ قوله ؛ لما ذكر في حرف ابن مسعود : نودي يا موسى لا تخف يكلمه الله ويخاطبه ثم يقول : إن النور الذي رأيت أنا.

ومحال ـ أيضا ـ لقول الله : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) ، قال الله : (فَلَمَّا أَتاها) ، ولم يقل : أتاه.

ومحال ـ أيضا ـ : أن يكون الله نعتا ؛ لأنك لا تقول بأن الذي رأيت أنا أخوك.

فقال : قول مقاتل محال من أربعة أوجه خلافا لظاهر الآية ، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم.

وقوله : (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) : في الآية الأمر بإلقاء العصا ، ولم يذكر أنه ألقاها ، ولكن فيه : (وَأَلْقِ عَصاكَ) فألقاها ، (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) ، أي : تتحرك كأنها جان.

ذكر أهل التأويل أن الجان هي الحية الصغيرة ليست بعظيمة.

لكنه أخبر أن موسى خافها وولى مدبرا ، وموسى لا يحتمل أن يخاف من حية صغيرة على الوصف الذي ذكر ، فكأنها كانت عظيمة لكنها في تحركها والتوائها كأنها صغيرة ؛ إذ الحية العظيمة الكبيرة لا تقدر على التحرك والالتواء كالصغيرة ؛ لذلك خافها موسى ، حتى نهاه الله عن ذلك وقال له : (لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).

وقوله : (وَلَمْ يُعَقِّبْ) : قال بعضهم (١) : لم يرجع.

وقال بعضهم (٢) : لم يلتفت ، وهو مأخوذ من العقب.

والجان : قال بعضهم : من الجنّ ، والجانّ : الحية ، ولا تكون إلا من الجن.

وقول أبي عبيدة : وقوله : (لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) فإن قيل : كيف نهاه عن الخوف ، وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون ، وقد مدح الله الملائكة وغيرهم من الخلائق بالخوف من ربهم ؛ حيث قال : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٥٠] ، وقال في آية أخرى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦] ، و (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأنعام : ٦٣] ، وأمثال ذلك من الآيات مما فيها مدحهم بالخوف من ربهم؟ لكنه يخرج على وجوه :

أحدها : أنه قد أمن موسى حيث قال : (وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) [القصص : ٣١] ؛ فكأنه قال هاهنا : لا تخف بعد ما أمنتك ؛ (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) إذا أمنتهم.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٨٨٠) و (٢٦٨٨١) ، وعن ابن زيد (٢٦٨٨٣).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٨٨٢) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٩٢).

١٠٠