تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

أو أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) لما بلغت المحاجة غايتها في الدين والدنيا ، ولم تنجع فيهم ولا قبلوها أخبر أنهم يختصمون في ذلك يوم القيامة في الوقت الذي يعاينون العذاب ، ويظهر لهم الحق ، فينقادون لها في ذلك الوقت ، فلا ينفعهم ذلك ، والله أعلم.

وفي حرف ابن مسعود : إنك مائت وإنهم مائتون والعرب تقول : مات يمات فهو مائت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) يقول : لا ظلم أعظم ولا أفحش مما يكذب على من يتقلب في إحسانه ، ويتصرف في نعمائه ، وأنتم تتقلبون في نعم الله وأنواع إحسانه ، فلا ظلم أعظم ولا أفحش من الكذب عليه.

(وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) ولا ظلم أعظم وأفحش من تكذيب خبره ورده ؛ إذ لا خبر أصدق من خبره ، ولا حديث أحق من حديثه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) كأنه يقول : أليس جهنم كاف للكافرين مثوى ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها) [المجادلة : ٨] أي : حسبهم جهنم عقوبة لهم بكفرهم وتكذيبهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) اختلف أهل التأويل فيه :

قال بعضهم (١) : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) : جبريل ، عليه‌السلام ، (وَصَدَّقَ بِهِ) : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال بعضهم (٢) : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) : محمد (وَصَدَّقَ) أبو بكر.

وقال بعضهم (٣) : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) محمد (وَصَدَّقَ) أصحابه جميعا.

قلنا : أهل التأويل على اختلافهم اتفقوا أن الذي جاء به جبريل أو محمد هو التوحيد ، فإن كان التأويل ما ذكر أهل التأويل ، فعلى ذلك قوله : (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي : الموحدين ، ففيه نقض قول الخوارج والمعتزلة أنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ، وأنه يخلد

__________________

(١) قاله السدي أخرجه ابن جرير (٣٠١٤٧) ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٥).

(٢) قاله علي بن أبي طالب أخرجه ابن جرير (٣٠١٤٤) ، والباوردي في معرفة الصحابة كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٥).

(٣) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠١٤٥) وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٥).

٦٨١

في النار ؛ لأنه قال : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) وكل مرتكب الكبيرة مصدق بالذي جاء به جبريل ومحمد ، ثم أخبر أنهم هم المتقون ؛ أي : اتقوا الشرك ، وقال لأولئك ـ أيضا ـ : إنه يكفر عنهم ما ارتكبوا من المساوي ، وهو قوله : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) دل أن لهم مساوي ، ثم إن شاء عذب على تلك المساوئ وقتا ثم أعطاهم ما وعد ، وإن شاء عفا عنهم وتجاوز وأعطاهم ما ذكر ، فكيفما كان ، فلهم ما ذكر ؛ إذ هم على تصديق بما جاء [به] محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله أعلم.

وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) يحتمل وجهين :

أحدهما : صدق بقلبه ؛ أي : جاء بالقول وتصديق القلب.

والثاني : صدق به في المعاملة في اختيار كل ما يصلح ويوافق الذي جاء به ، وعلى ذلك ذكر عن الحسن قال : يا ابن آدم ، قلت : لا إله إلا الله ، فصدقها.

فإن كان التأويل هذا فهو أشد ، لكنه وإن لم يعمل الذي يوافق الذي جاء به وهو التوحيد لم يجتنب ما ذكرنا ، فإن له ما ذكر إما بعد التوحيد ، وإما بعد العفو ، والله أعلم.

وقوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) دل هذا أن ذلك الوعد للجماعة ، ليس لواحد ولا اثنين ، وهو لجميع المؤمنين.

وقوله : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) ذكر نوعين من العمل السيئ والحسن ، ثم أخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم بأحسن [الذي كانوا يعملون] ، فيحتمل : الأحسن : الحسنات نفسها يجزيها ، ويكفر السيئات.

ويحتمل أنه يكفر [أسوأ] السيئات وأعظمها ، ويجزي على أحسن الحسنات وأعظمها ، فعلى هذا أحسن وأسوأ من نوعها ، أحسن الحسنات وأسوأ السيئات ، وعلى الأول من غير نوعها أي يكفر السيئات ، ويجزي بالحسنات ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى

٦٨٢

فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٤٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) و (عِبادِهِ) أيضا.

الآية يحتج بها على إثبات الرسالة ، وكذلك قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [التوبة : ١٢٩] ، وكذلك قوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) [آل عمران : ١٦٠] ، ونحو ذلك ، وأمثاله كثير ؛ لأنه بعثه وحده ، لا عون معه ، ولا نصر له من البشر رسولا إلى الأعداء ، وكان يقرع أسماعهم بهذه الآيات التي ذكرنا ، وغير ذلك من قوله : (ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) [الأعراف : ١٩٥] ثم لم يقدروا على إهلاكه ؛ بل عصمه من كيدهم ومكرهم ؛ على ما قال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] فبلغ إليهم ما أمر بتبليغه من غير أن قدروا على ما قصدوا به ، وفي ذلك لطف من الله عظيم ، ودلالة على إثبات الرسالة.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر فهو ـ في الحقيقة ـ على الإيجاب والتقرير ؛ لأنهم كانوا يعلمون أن الله ـ عزوجل ـ هو الكافي لخلقه ، من ذلك أنهم إذا سئلوا : من خلق السموات والأرض؟ قالوا : الله ـ تعالى ـ وإذا سئلوا من يرزقكم؟ قالوا : الله ـ تعالى ـ ومن أنزل من السماء ماء؟ ومن أخرج من الأرض النبات؟ ونحو ذلك ـ قالوا : الله ، فعلى ذلك قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) أي : تعلمون أن الله هو الكافي لجميع خلقه في الدفع والذبّ عنهم ، والنصر لهم ، فإذا عرفتم ذلك فكيف تخوفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذي تخوفونه؟ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، اختلف فيه :

قال بعضهم : بأهل الأرض جميعا ، يقولون له : إن العرب تفعل بك كذا ، ويعملون بك كذا ، كانوا يخوفونه بهم.

وقال بعضهم (١) : كانوا يخوفونه بالأصنام التي كانوا يعبدونها أن يصيبه سوء وأذى من ناحيتها ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤] وكأن هذا أشبه بالآية ؛ لأنه ذكر على إثر ذلك وعقبه الأصنام ؛ حيث قال ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) هذا يدل أن ما ذكر من تخويفهم إياه إنما كان بالأصنام التي كانوا يعبدونها.

__________________

(١) قاله السدي أخرجه ابن جرير (٣٠١٥٥) وهو قول قتادة وابن زيد.

٦٨٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) أخبر أنه إذا أراد هداية أحدكم لم يملك أحد إضلاله ، وإذا أراد إضلال أحد لم يقدر أحد على هدايته ، ذكر في الدين أن لا أحد يملك دفع ما أراد من هدى أو ضلال ، ولا منعه على ذلك ؛ على ما ذكر في الرزق وأسباب العيش ، وعلى ما ذكر في الأنفس وحفظها ؛ حيث قال : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ) [فاطر : ٢] ، وقال في الأنفس : (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) ، وقد اجتمعوا في ذلك في الرزق والعيش وضرر الأنفس وحفظها أن لا أحد يملك دفع ما أراد هو ، فعلى ذلك في الدين ؛ لأن الذكر خرج في الكل على مخرج واحد ، وذلك على المعتزلة لقولهم : إن الله ـ تعالى ـ قد أراد هداية كل أحد ، ونصر كل ولي ، لكن غيره منعه عن ذلك ؛ فهو وحش من القول سمج ، وبالله العصمة والنجاة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) هو على الإيجاب والتقرير ؛ أي : يعلمون أنه عزيز ذو انتقام ؛ أي : عزيز لا يعجزه شيء ، ذو انتقام لأوليائه من أعدائه.

وقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) قد علموا أن لا خالق سواه ، وعرفوا أنه لا يملك أحد سواه كشف ما أراد هو من الضرر بأحد ، ولا إمساك ما أراد من الرحمة بأحد ؛ ولذلك فزعوا إليه عند نزول البلاء بهم ، ولم يفزعوا [إلى] من عبدوهم من دونه من الأصنام ، ولا إلى أحد من الخالقين ؛ دل ذلك على أنهم قد عرفوا أن ذلك به ينال من خير أو غيره ؛ ولذلك فزعوا إليه عند نزول البلاء بهم ، ولم يفزعوا [إلى من عبدوهم من دونه من الأصنام] ، احتج عليهم بما احتج ، ولو لم يكونوا علموا بذلك لم يكن ليحتج عليهم بذلك ، وهم لذلك منكرون ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) في قوله : (حَسْبِيَ اللهُ) ما ذكرنا من اللطف والدلالة على إثبات الرسالة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : على الإياس منهم أنهم لا يؤمنون ولا يجيبون إلى ما دعوا إليه بعد ما أقيم عليهم الحجج والبراهين ؛ كأنه يقول : اثبتوا أنتم على دينكم واعملوا له ، ونثبت نحن على ديننا ونعمل له ، فسوف تعلمون أينا على الحق نحن أو أنتم؟ وهو كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] أي : لا أدين أنا بدينكم ، ولا أنتم تدينون بديننا ، ولكن يلزم كل منا

٦٨٤

دينه الذي عليه ، فعلى ذلك الأول.

والثاني : على التوبيخ لهم والتعيير ؛ يقول : اعملوا على مكانتكم أنتم مما تقدرون من الكيد لي والمكر ، وأنا عامل ذلك بمكانتكم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) [الأعراف : ١٩٥] وغير ذلك من الآيات التي فيها ذكر توبيخهم وتعييرهم ، والله أعلم.

وفي هذه الآية وفيما تقدم من قوله ـ عزوجل ـ : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) إلى هذا الموضع تقرير وتوبيخ ومنابذة وإياس ، فأما الإياس فهو في قوله : (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) والتقرير في قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) والمنابذة في قوله : (حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) ، والتوبيخ في قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).

ثم جائز أن يكون قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) يخرج على الصلة بقوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) كأنه يقول : من أضله الله حتى لا يعلم أن الله هو كاف عبده ، وأن ما يخوفونه به لا يقع به خوف ولا يلحق به ضرر ـ فلا هادي له ، ومن هداه فعرف ذلك ، فلا مضل له عن ذلك ، والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) جائز أن يكون ذلك العذاب الذي يأتيه هو عذاب في الدنيا من نحو القتل والتعذيب بالذي أهلك الأولون المعاندون للرسول (يُخْزِيهِ) أي : يفضحه (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) في الآخرة ، وهو عذاب الكفر ، وإلى ذلك ذهب بعض أهل التأويل.

وجائز أن يكون ذلك كله في الآخرة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِ) هذا كأنّه ـ والله أعلم ـ : إنا أنزلنا عليك [الكتاب] لتحكم بين الناس بالعدل ؛ على ما ذكر في آية أخرى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء : ١٠٥] فعلى ذلك هذا ، ويكون قوله : (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أنشأ الله ـ عزوجل ـ البشر دراكا مميزا بين الخبيث والطيب ، وبين الحسن والقبيح ، وبين ما لهم وما عليهم ، وبين السبيلين جميعا غاية البيان ، وأوضح كل سبيل نهاية الإيضاح ، من سلكه أنه إلى ما ذا يفضيه وينهيه ، ثم امتحنهم في ذلك ، ومكن لهم من السلوك في كل واحد من السبيلين بعد البيان منه أنه من سلك سبيل كذا أفضاه إلى كذا ، ومن سلك سبيل كذا أفضاه إلى كذا ؛ امتحانا منه ، ثم أخبر أنه

٦٨٥

فيما امتحنهم لم يمتحنهم لمنفعة ترجع إليه ، أو لمضرة يدفع عن نفسه ، ولكن إنما امتحنهم لمنفعة ترجع إليهم إذا اختاروا ترك سلوك سبيل الباطل ، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن ، إحداها هذه ؛ حيث قال : (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها).

والثانية : بما قال ـ عزوجل ـ : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] أي : فعليها ، وغير ذلك من الآيات التي تبين أنه إنما امتحنهم لمنفعة أنفسهم واكتساب الخير الدائم لهم ، ولا قوة إلا بالله.

ثم قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) يخبر أن ليس عليك إلا تبليغ ما أرسلت وأمرت بتبليغه إليهم ؛ كقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] ، وقوله ـ تعالى ـ : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] ، وقوله : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [النساء : ٨٠] والوكيل : الحفيظ ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ...) إلى آخر ما ذكر.

قال ابن عباس (١) ـ رضي الله عنه ـ : كل نفس لها سبب تجري فيه ؛ فالتي قضي عليها الموت فتجري في الجسد كله.

لكن لم يفهم مما ذكر ابن عباس تأويل الآية.

وعن سعيد بن جبير (٢) قال : يجمع بين أرواح الأحياء وبين أرواح الأموات فيتعارف ما شاء الله أن يتعارف ، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجسادها ، وبهذا ـ أيضا ـ لم يفهم شيء من تأويل الآية.

وقال الكلبي : النائم متوفى حتى يرد الله إليه [روحه] ، فأما التي يتوفاها حين موتها فإنه يقبض الروح والنفس جميعا ويرسل التي يتوفاها في منامها حتى تبلغ أجلها المسمى ، وهو الموت.

ويقال : إنما يقبض الله من النائم النفس ، والروح في الجسد لم تفارقه ، فإذا قبض الله الروح ذهبت النفس مع الروح.

وهذا الذي ذكره الكلبي أقرب إلى تأويل الآية من الذي ذكره أولئك ، وأصله : أنّ الله ـ عزوجل ـ جعل في الأجساد أشياء وأرواحا يحيي الأجساد في حال نومها على الهيئة التي كانت من قبل ، ليس بها أثر الموت ، لكنها لا تدرك شيئا ، ولا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تعقل شيئا ، وبها آثار الحياة ؛ يدلنا هذا على أنها في حال النوم قد ذهب منها ،

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٧).

(٢) أخرجه ابن جرير (٣٠١٦١).

٦٨٦

وخرج ما به تدرك الأشياء ، وبقي منها ما به تحيا ، وهو الروح ، فإذا خرجت الروح منها ، وإن كانت لا تدرك شيئا على الهيئة التي كانت من قبل ، دل ذلك على أن الذي به تدرك الأشياء غير الذي به تحيا ؛ والله أعلم ؛ ألا ترى أنها في حال النوم تلك الأنفس الدراكة حيث كانت تتألم وتتلذذ ، وتقضي الشهوات وهي في أقصى الدنيا ، هذا كله يدل على ما ذكرنا ، والله أعلم.

ثم على هذا جائز أن يكون ما ذكر من عذاب القبر أنه إنما يكون على تلذذ الأنفس الدراكة ، لا على الروح ؛ على ما ذكرنا من تألمها وتلذذها بعد خروجها من الأجساد ومفارقتها عنها ، والله أعلم.

ثم أضاف في هذه الآية التوفي إلى الله ، وفي آية أخرى أضافه إلى الرسل ؛ حيث قال الله ـ عزوجل ـ : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ...) الآية [الأنعام : ٦١] ، وأضافه مرة إلى ملك الموت حيث قال ـ عزوجل ـ : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ...) الآية [السجدة : ١١] ، ثم يحتمل إضافة التوفي [إلى] الرسل وإلى ملك الموت وجهين :

أحدهما : وإن كان حقيقة التوفي والموت بالله ؛ لما يخلق فعل قبضهم الروح منها ، ويشاء ذلك منهم ، وهو كما ذكر من البشرى لهم [و] طمأنينة القلوب عند بعثه إليهم الملائكة بالإعانة لهم والنصر ؛ حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) [آل عمران : ١٢٦] [و] قال ـ عزوجل ـ : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران : ١٢٦] ، أخبر أنه جعل لهم بعث الملائكة بشارة النصر ، وأن حقيقة النصر ليس إلا من عند الله ، فعلى ذلك ما ذكر من إضافة التوفي إلى الرسل ؛ لما يخلق فعل قبضهم الروح ، وكان حقيقة ذلك لله ـ عزوجل ـ والله أعلم.

والثاني : أن يكون من الله لطف في ذلك ، ومعنى لا يكون ذلك منهم ، لكنه لم يبين ما ذلك اللطف وذلك المعنى الذي يكون منه ، والله أعلم بذلك.

ثم قوله : (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي : حين خلق موتها يقبض الروح منها.

وقوله : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) لم يقبض منها الروح ترسل إليها النفس الدراكة إلى الأجل الذي جعل لها ، والله أعلم.

وقوله : (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) جائز أن يكون من القبض ؛ أي : يقبض الأنفس.

وجائز أن يكون من العد ؛ كقوله : (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم : ٨٤].

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يحتمل قوله : (لَآياتٍ) : العبر ، أو الأعلام ، أو الحجج.

٦٨٧

وقوله : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يعلمون أن من قدر على استخراج تلك الأنفس الدراكة من الأجساد ، وإبقائها على الهيئة التي كانت إلى الوقت لا تدرك شيئا ، ثم ردها إليها ، وإعادتها على ما كانت ـ قادر بذاته ، لا يعجزه شيء.

أو من قدر على إنشاء النفس الدراكة في الأجساد حتى تدرك بها ، لا يحتمل أن يعجز عن إعادة الأجساد بعد ما بليت وفنيت ، وذاك ألطف من هذا وأكبر ؛ لأن الناس قد يتكلفون تصوير صور الأنفس الظاهرة ولا أحد يتكلف تصوير نفس دراكة من غيرها ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٤٨)

وقوله : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ).

على ما ذكرنا فيما تقدم في غير موضع : أن حرف الاستفهام والشك إذا أضيف إلى الله ـ عزوجل ـ فهو على الإيجاب والإلزام ، ثم قال بعض أهل التأويل : إن قوله ـ عزوجل ـ : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) هم الملائكة الذين عبدوها لكنه بعيد ؛ لأنه قال ـ عزوجل ـ بعد ذلك : (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) ، والملائكة أهل العقل والعلم ، وإنهم يملكون ذلك إذا جعل لهم وملكوا ، لكن الآية في الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله ؛ على رجاء أن تشفع لهم وتقربهم عبادتهم إياها إلى الله زلفى ؛ لقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، وقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ؛ فهو أشبه بالأصنام التي كانوا يعبدونها من الملائكة ، والله أعلم.

ثم قوله : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) يخرج على وجهين :

أحدهما : بل اتخذوا بعبادة من عبدوه من دون الله شفعاء لأنفسهم ، ولا يكونون شفعاء لهم ، ولا يملكون ذلك ولا يفعلون.

والثاني : بل اتخذوا لأنفسهم من دون الله شفعاء ، ولا يملك أحد جعل الشفاعة لأحد

٦٨٨

دون الله ، إلا من جعل الله له الشفاعة ، ولا يجعل الله لأحد الشفاعة إلا من كان له عند الله عهد ، أو من ارتضى له الشفاعة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [مريم : ٨٧] ، وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] ، يدل على هذا قوله ؛ حيث قال : (أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ).

[وقوله :] (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً).

هو ما ذكرنا : هو المالك الشفاعة جميعا ، لا يملك أحد سواه إلا من جعل الله له الشفاعة وارتضى له ، فأمّا أن يملك أحد سواه اتخاذ الشفاعة لنفسه ، أو جعل الشفاعة لنفسه فلا ، والله الموفق.

وقوله : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

في البعث ، أو يرجعون إلى ما أعدّ الله لهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).

قال بعض أهل التأويل (١) : إذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توحيد الله في القرآن (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ، أي : نفرت ؛ كقوله ـ عزوجل ـ في بني إسرائيل : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) [الإسراء : ٤٦] ، وإذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين عبدوا من دونه الآلهة ؛ كقوله في سورة النجم ؛ حيث قال : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠] ، وألقى الشيطان في فمه : «تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة لترتجى» ؛ ففرح الكفار حين سمعوا أن لها شفاعة : إلى هذا يذهب مقاتل (٢) وغيره ، لكنه ليس كذا ، وغير هذا كأنه أولى به وأقرب ، وهو أن قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) ، أي : إذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توحيد الله وألوهيته ، أو ذكر هذا أهل التوحيد وهذا الألوهية (٣) ممن عبدوا دونه (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ، أي : نفرت وأنكرت ؛ كقولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) : وإذا ذكر أهل الكفر الذين عبدوا من دونه عبادتهم إياها وخلوتهم بها إذا هم يفرحون ويستبشرون ، والله أعلم.

وقوله : (اشْمَأَزَّتْ) ، قال بعضهم (٤) : أبغضت ونفرت.

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (١١ / ١١).

(٢) وهو قول مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٠١٦٧).

(٣) كذا في أ.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن مردويه كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٨).

٦٨٩

وقال القتبي وأبو عوسجة : (اشْمَأَزَّتْ) : أنكرت وذعرت ، ويقال في الكلام : ما لي أراك مشمئزا؟ أي : مذعورا ، ويقال : اشمأز المكان ، أي : بعد.

وقال بعضهم (١) : (اشْمَأَزَّتْ) : استكبرت وكفرت ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم ، وهو كلام التوحيد.

وقوله : (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يحتمل : مبدئ ، ويحتمل : مبدع ، أو خالق السموات والأرض ، والله أعلم.

وقوله : (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

يحتمل قوله : (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ما أشهد الخلق بعضهم على بعض ، هو عالم ذلك كله.

أو الغيب : ما غاب عن الخلق كلهم ، والشهادة ما شهده الخلق.

أو أن يكون قوله : (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ، أي : عالم ما يكون أنه يكون ، والشهادة : ما قد كان ، يعلم ذلك كله : يعلم ما يكون أنه يكون ، وما كان يعلمه كائنا ، والله أعلم.

وقوله : (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

يوم القيامة ؛ كقوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) الآية [النساء : ١٤١].

أو أن يكون قوله : (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) : في هذه الدنيا ، فهو يخرج على وجوه :

أحدها : ما جعل الله في خلقتهم إثبات الصانع وشهادة الوحدانية لله ـ عزوجل ـ وألوهيته.

والثاني : بما أنزل الله من الكتب والرسل ، وبين لهم فيها ما لهم وما عليهم.

ثم إن كان في الآخرة فجائز ألا يكون يحكم بيننا فيما وسع علينا الحكم في الأمر في الدنيا ، ويرتفع المحنة به في الآخرة من نحو الأحكام التي سبيل معرفتها بالاجتهاد ، ولا يحكم بيننا بشيء من ذلك ، وأما ما كان غير موسع علينا في الدنيا ترك ذلك ، وهو مما لا يرتفع المحنة به في الدارين جميعا : من نحو التوحيد والدين فذلك يحكم بيننا في الآخرة ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠١٦٦) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٨).

٦٩٠

يَوْمَ الْقِيامَةِ).

كأنه ـ والله أعلم ـ يذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصبره على أذاهم إياه ، وأن يشفق عليهم بما ينزل بهم في الآخرة ؛ لأنه أخبر عن عظيم ما ينزل بهم : أنهم مع بخلهم وضنهم بهذه الدنيا لو كان ما في الأرض من الأموال ، وضعف ذلك أيضا لهم ، لافتدوا بذلك كله من سوء ما ينزل بهم من العذاب ، وكذلك ما ذكر من قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يخبر عن سوء معاملتهم ربهم ، على علم منه أنهم يؤذون رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن ذلك يشتد عليه ويشق ؛ لينظر أنهم كيف عاملوا ربهم من سوء المعاملة ؛ ليصبر هو على سوء معاملتهم إياه ولا يترك الرحمة والشفقة عليهم بما ينزل بهم في الآخرة من سوء العذاب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).

قال بعض أهل التأويل : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ) : من شهادة الجوارح عليهم والنطق ما لم يكونوا يحتسبون ذلك ، ولكن غير هذا كأنه أقرب : بدا لهم من الهوان والعذاب لهم في الآخرة ما لم يكونوا يحتسبون.

ثم هو يخرج على وجهين :

أحدهما : أنهم كانوا يقولون : حيث فضلنا الله في هذه الدنيا بفضول الأموال والكرامة ؛ فعلى ذلك نكون في الآخرة مفضلين عليهم كما كنا في الدنيا ؛ ولذلك قالوا : (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١] ، وقولهم : (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود : ٢٧] ونحوه ؛ فبدا لهم وظهر في الآخرة ما لم يكونوا يحتسبون ما ذكرنا من الهوان لهم والعذاب.

والثاني : كانوا ينكرون رسالة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ، وقالوا : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ...) الآية [ص : ٨] ، ونحو ذلك من الكلام ؛ كقولهم ـ أيضا ـ : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] : لا يرون الرسالة توضع إلا في العظيم من أمر الدنيا ؛ فأخبر أنه يبدو لهم ما [لم] يكونوا يحتسبون ؛ لما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا).

يحتمل قوله : (بَدا) ، أي : ظهر لهم جميع ما صنعوا في الدنيا في الآخرة ؛ حتى حفظوا وذكروا ذلك كله.

والثاني : بدا لهم ما حسبوا حسنات سيئات ، والله أعلم.

أو أن يكون ذلك في الجزاء ، أي : بدا لهم وظهر جزاء ما كسبوا ؛ يدل على ذلك

٦٩١

قوله : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٥٢)

وقوله : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا).

لا يحتمل أن يكون أراد : كل إنسان يكون على ما وصف وذكر ، ولكنه إنسان دون إنسان ، ولا يجب أن يشار إلى واحد أنه فلان ، وكذلك ما ذكر من مس الضر به لا يشار إلى ضر دون ضر ؛ ولكن ما أعلم الله ـ عزوجل ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ما ذا؟ لأن ذلك يخرج مخرج الشهادة على الله ـ عزوجل ـ والامتناع عن الإشارة إليه ، والتسمية له أسلم.

ثم كانت عادة أولئك الكفرة ـ لعنهم الله ـ عند نزول البلاء بهم والشدة الفزع إلى الله ـ عزوجل ـ وإخلاص الدعاء له ؛ فبعد الكشف عنهم ذلك يقع العود إلى ما كانوا من قبل ، على ما ذكرهم في آي من القرآن.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) ، أي : أعطيناه نعمة ، أو ملكناه نعمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ).

أي : على حيلة مني أعطيت ذلك.

وقال بعضهم : إنما أوتيته على شرف ومنزلة ، علمه الله مني.

وقال قتادة : على خير علمه الله عندي (١).

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : إنما آتانيه الله على علم.

وقال بعضهم (٢) : ما ذكرنا قال : إنما أوتيته على علم وشرف أعطيت ذلك.

قال الله ـ عزوجل ـ ردّا لقوله : (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ).

والفتنة هي المحنة التي فيها شدة ، أي : بل هي محنة فيها شدة وبلاء ، والمحنة من الله

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٠١٧٠) وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٩).

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٠١٧١) ، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٩).

٦٩٢

بأمر وبنهي ، أي : فيها أمر ونهي.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

أنه لم يعط لفضل وشرف له أو حيلة منه ؛ ولكنه لأمر ونهي ، والله أعلم.

وقوله : (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، عين ما قال هذا الرجل ؛ حيث قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) ؛ كان من قارون حين قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨] ، ولم يزل العادة من الكفرة والرؤساء منهم وأهل الثروة قائلين بمثل هذا الكلام والقول ، وهو ما أخبر عن قوم فرعون ـ حين قالوا ـ : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] ، وما قال أهل مكة : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] ، وغير ذلك من أمثال هذا ، لم يزالوا قائلين هذا.

ثم أخبر أن ذلك لم يغنهم حيث قال : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : ما قالوا : إنما أوتينا هذا بحيل من عندنا واكتساب ، أخبر أن ذلك لم يغنهم عن دفع عذاب الله ـ عزوجل ـ عنهم إذا نزل بهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا).

يوعد أهل مكة ويخوفهم أنه ينزل بهم ويصيبهم بكسبهم الذي يكتسبون كما نزل بأولئك الأوائل بمثل كسبهم وصنيعهم.

وقوله : (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ).

أي : ما هم بمعجزين عما يريد بهم من الانتقام منهم والتعذيب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ).

يذكر هذا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء لا لكرامة وفضل عند الله ولا لحق قبله ، ويضيق على من يشاء لا لهوان له عنده ولا لجناية ؛ ولكن امتحانا لهم بمختلف الأحوال : يمتحن هذا بالسعة ؛ ليستأدي به منه الشكر ، ويضيق على هذا ؛ يطلب منه الصبر على ذلك.

أو يمتحن بعضهم بالسعة ، وبعضهم بالشدة والضيق ؛ ليعلموا أن ذلك كله في يد غيرهم ، لا في أيديهم ؛ إذ يمتحنهم بمختلف الأحوال ليكونوا ـ أبدا ـ فزعين إلى الله في كل وقت وكل ساعة ، ولو كان السعة والنعمة لكرامة عند الله وفضل ـ على ما ظن

٦٩٣

أولئك ـ لكان لا يحتمل ذلك مختلفي المذهب الذي يناقض بعضه بعضا ويضاد بعضه بعضا : نحو المسلم والكافر ، وقد وسع على المسلم ووسع على الكافر ، وقد ضيق عليهما جميعا ؛ يدل أن التوسيع ليس للكرامة والمنزلة عند الله أو لحق عليه ، ولا التضييق والتقتير لهوان ؛ إذ لو كان لذلك لكان لا يجمع بين متضاد المذهب ومختلفهما ؛ فإذا جمع دل أنه لمعنى الامتحان ، لا لما ظن أولئك ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) ، فيما ذكر من التوسيع والبسط والتضييق والتقتير ، (لَآياتٍ) ، أي : لعبرة وعظة ، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) :

يؤمنون أنه لم يوسع على ما وسع لكرامته عند الله ومنزلته وفضله ، ولا ضيق على من ضيق لهوان له عنده ولا جناية ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦١)

وقوله : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ).

قال بعض أهل التأويل (١) : إن الآية نزلت في شأن الوحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب في الجاهلية أنه أراد أن يسلم الوحشي ؛ فذكر ما كان منه من قتله [حمزة] ـ رضي الله عنه ـ فظن أنه لا يقبل منه ؛ لعظم جنايته ؛ فنزلت الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لينبئه ، وأخبر أنه لا يقبل منه بعد ذلك ، والله أعلم.

وقال بعضهم : لا ؛ ولكن ناسا قد أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية من نحو القتل والزنا وكبائر ؛ فأشفقوا ألا يتاب عليهم ؛ فأنزل الله هذه الآية يدعوهم إلى التوبة والإسلام ، وأطمع لهم القبول منهم والتجاوز عما كان منهم ، وهو كأنه أولى ؛ لأن الوحشي من كان

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان بسند لين كما في الدر المنثور (٥ / ٦٢٠) ، وأورد له شواهد أخرى.

٦٩٤

حتى ينزل الله الآية بشأنه خاصة؟!

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) يحتمل وجهين :

أحدهما : يقول ـ والله أعلم ـ : (يا عِبادِيَ) الذين جنوا على أنفسهم ، وأوردوها المهالك بارتكاب ما ارتكبوا من الإسراف والكبائر (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) ؛ فإن قنوطكم من رحمة الله وإياسكم منه لا يغفر ولا يجاوز وذلك أعظم وأفظع ؛ إذ رجع أحدهما إلى أنفسهم والآخر إلى رحمة الله وفضله.

والثاني : يقول : إنكم وإن أسرفتم فيما ارتكبتم من الكبائر والفواحش ، وأعرضتم عن أمر الله فلا تقنطوا من رحمة الله بعد إذ تبتم عما كنتم فيه ، ورجعتم عما كان منكم [وأما] في الوقت الذي خرجت أنفسكم من أيديكم ؛ فلا يقبل ذلك منكم ، وهو وقت نزول العذاب بهم وإشرافه عليهم ؛ لأن التوبة في ذلك الوقت توبة اضطرار وتوبة دفع العذاب عن أنفسكم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) [غافر : ٨٤] ، ثم أخبر أنه لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت الذي خرجت أنفسهم من أيديهم ؛ حيث قال ـ عزوجل ـ : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً).

لمن يشاء.

(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

وذكر عن علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ أنه قال : أرجى آية في القرآن هذه الآية ، وذكر أن سورة الزمر كلها نزلت بمكة إلا هذه الآية ؛ فإنها نزلت بالمدينة (١) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ...) الآية.

كأنها صلة ما تقدم من قوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) بعد إذ أقبلتم إلى قبول ما دعيتم إليه ورجعتم عما كان منكم ، ثم قال ـ عزوجل ـ : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) :

قال بعضهم : أنيبوا بقلوبكم إلى طاعة ربكم ، وأخلصوا له تلك الطاعة ، ولا تشركوا فيها غيره.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٠١٨٤).

٦٩٥

قيل (١) : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) ، أي : ارجعوا إلى ما أمركم ربكم ، (وَأَسْلِمُوا لَهُ) ، أي : أخلصوا له التوحيد ، أو أن يقول : اجعلوا كل شيء منكم له.

وأصل الإنابة : هو الرجوع إلى طاعة الله والنزوع عما كان عليه لأمر الله ، يقول ـ عزوجل ـ : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ ...) الآية [الروم : ٣١]. وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) يقول ـ والله أعلم ـ على الصلة بالأول : أن أنيبوا له وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ؛ فلا يقبل منكم الإنابة والتوبة ؛ إذ أقبل عليكم العذاب.

(ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : ثم لا تنصرون بإنابتكم إلى الله ـ عزوجل ـ في ذلك الوقت الذي أقبل عليكم العذاب [فيه] ، على ما ذكرنا ، أي : لا تخافون من ذلك الوقت.

والثاني : لا تنصرون بعبادة من عبدتموه من الأصنام والأوثان ؛ على رجاء أن يشفع لكم ويدفع عنكم العذاب.

أي : أنيبوا إلى عبادة الله الحق قبل نزول العذاب بكم ؛ فإنكم إن كنتم على عبادة من تعبدون دونه لا تنصرون ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

يحتمل وجوها :

أحدها : كأنه يقول : اتبعوا ما أمركم ربكم ، وانتهوا عما نهاكم ربكم عنه.

والثاني : اتبعوا ما في القرآن وأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه واجتنبوه ، يقول : اعملوا به وبادروا في العمل به من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة.

والثالث : أن الله ـ عزوجل ـ قد بين السبيلين جميعا : سبيل الخير والشر على الإبلاغ ؛ فيقول : اتبعوا سبيل الخير منه ، ولا تتبعوا سبيل الشر ؛ فيكون تأويل هذا كأنه يقول : اتبعوا الحسن منه ، ولا تتبعوا غيره ، ونحو ذلك ، وقد ذكرناه فيما تقدم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ).

كأنه موصول بالأول ، يقول : لا يؤخرون الإنابة إليه والتوبة ، فإن العذاب لعله سينزل

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٤ / ٨٥).

٦٩٦

بكم في وقت لا تشعرون أنتم به ، ولا تقدرون أن ترجعوا إليه وتنيبوا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ).

هذا وما بعده من الآيات كأنه موصول بقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) من قبل (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ...) الآية.

وقبل أن تقول : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ، وقبل أن تقول (حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ، كأن كل ذلك صلة ما تقدم من قوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) ، (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من قبل أن يقول ما ذكر ، في وقت لا ينفعه ذلك القول ولا يغنيه من عذاب الله ، ولا يدفعه.

ثم قوله : (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ).

قال بعضهم (١) : في ذات الله.

وقال بعضهم (٢) : ما فرطت وضيعت من أمر الله ، وأمثال ذلك ، ولسنا نحتاج إلى تفسير قول ذلك الرجل الذي كان منه حتى قال ذلك ، وهو تضييع توحيد الله أو تضييع حد الله ، أو ما كان فيه من تكذيب البعث ؛ يتأسف على ما كان منه من تضييع ما ذكرنا : من توحيد الله وحدوده ، أو كفران نعمه ، أو إنكاره ما ذكرنا من البعث ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) :

قال بعضهم : (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) : من القرآن.

وقال بعضهم : من أهل توحيد الله.

قال قتادة : لم يكتف أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر من أهل طاعته ، وقال : هذا قول صنف منهم (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ ...) إلى آخره.

قول صنف منهم جائز ما قال : إن كل قول من ذلك قول صنف ، على ما قال قتادة.

وجائز أن يكون كل ذلك من كل كافر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

ذلك الكافر الذي قال هذا القول أعرف بهداية الله من المعتزلة ، وكذلك ما قال أولئك الكفرة لأتباعهم ؛ حيث قالوا : (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) [إبراهيم : ٢١] يقولون : لو وفقنا

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٤ / ٨٥).

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٠١٩٥ ، ٣٠١٩٦) وهو قول السدي أيضا.

(٣) أخرجه ابن جرير (٣٠١٩٨) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٦٢٤).

٦٩٧

الله للهداية وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه ، ولكن حيث علم منّا : اختيار الضلال والغواية ، وترك الرغبة إلى الهدى والاستخفاف به ـ أضلنا وخذلنا ولم يوفقنا.

والمعتزلة يقولون : بل هداهم الله وأعطاهم التوفيق ، لكنهم لم يهتدوا.

فإن قيل : هذا قول أهل الكفر ؛ فلا دلالة فيه لما تذكرون.

قيل : وإن كان ذلك قول الكفرة ، فذلك القول منهم عند معاينة العذاب ؛ فلو كان على خلاف ما ذكروا لكان الله يكذبهم في ذلك ؛ كما كذبهم في أشياء قالوها ؛ حيث قالوا : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) [السجدة : ١٢] ؛ فقال الله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] ، ونحوه ، والله أعلم.

والأصل في الهداية : أن عند الله لطفا : من أعطى ذلك اهتدى ، وهو التوفيق والعصمة ، ومن حرم ذلك ولم يعطه ، ضل وغوى ، ويكون استيجاب العذاب وما ذكر ؛ لتركه الرغبة في ذلك ، والاستخفاف به ، وتضييعه واشتغاله بضده ؛ لذلك كان ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) : الشرك أو المهالك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً).

أي : رجوعا.

(فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

قيل (١) : من الموحدين.

ويحتمل كل إحسان وطاعة ، والله أعلم.

وقد كذبه ـ عزوجل ـ في قوله هذا ؛ حيث قال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] ، ثم كذبهم في قولهم : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ، وفي قولهم : (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ؛ حيث قال الله ـ عزوجل ـ : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ).

يقول ـ والله أعلم ـ : بلى قد جاءتك آياتي ، وبينت لك الهداية من الغواية ، وسبيل الحق من الباطل ، والخير من الشر ، والكذب من الصدق ، ومكنت من اختيار الهداية على الغواية ، ومكن لهم اختيار الحق على الباطل والصدق على الكذب ، لكن تركتم ذلك ، وضيعتم واستخففتم به ، واشتغلتم بضد ذلك ؛ فإنما جاء ذلك التضييع من قبلكم لا من قبل الله ـ عزوجل ـ قد أتى بالحجج والآيات والبيان في ذلك غاية ما يجب أن يؤتى ما لم يكن لأحد عذر في الجهل في ذلك والترك ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٤ / ٨٥).

٦٩٨

وأكثر القراءات على التذكير في قوله ـ عزوجل ـ : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ...) إلى آخره : على إرادة المخاطبة ، وقد يقرأ بالتأنيث ؛ على إرادة النفس التي تقدم ذكرها والخبر عنها ، ويروى في ذلك خبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ بالتأنيث : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ).

كذبهم على الله يحتمل وجوها :

أحدها : في التوحيد ؛ حيث قالوا بالولد والشركاء.

ويحتمل ما قال ـ عزوجل ـ : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] وكان الله ـ عزوجل ـ لم يأمرهم بذلك ، فكذبوا على الله ـ عزوجل ـ أنه أمرهم بذلك.

أو ما قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

أو أن يكون كذبهم على الله هو إنكارهم البعث ، وقولهم : إن الله لا يقدر على البعث والإحياء بعد الموت ، ونحو ذلك ، والله أعلم.

والمعتزلة يقولون في قوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) : هم المجبرة. فيجيء أن يكونوا هم أقرب في كونهم في وعيد هذه الآية من المجبرة ؛ لأنهم يقولون : إن الله لا يأمر أحدا بشيء إلا بعد أن أعطى جميع ما يعمل ويقتضي به ؛ حتى لا يبقى عنده شيء من ذلك ، ثم قال ذلك ، ثم يسأل ربه المعونة والعصمة ؛ فهو بالسؤال كاتم لما أعطاه ، وهو كفران النعمة ؛ لأنه يسأل ما قد أعطاه ربه ، أو أن يكون هازئا به ؛ لأنه يسأل وليس عنده ما يسأل على قولهم على ما ذكرنا من مذهبهم ، وكل من يسأل [من] يعلم أنه ليس عنده ذلك ولا يملك ذلك ـ فهو يهزأ به ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ).

على توحيد الله ، أو متكبرين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمتكبر هو الذي لا يرى لنفسه نظيرا ولا شكلا ؛ ولذلك يوصف الله ـ عزوجل ـ بالكبرياء ؛ لأنه لا نظير له ولا شكل ، ولا يجوز لغيره ؛ لأن غيره ذا أشكال وأمثال ، ولا قوة إلا بالله.

وفي حرف ابن مسعود وحفصة ـ رضي الله عنهما ـ : على ما فرطت من ذكر.

وفي حرف ابن مسعود أيضا في قوله : بلى قد جاءته آياتنا من قبل فكذب واستكبر وكان من الكافرين ، والله أعلم.

٦٩٩

والمثوى : المقام ، (وَما كُنْتَ ثاوِياً) من ذلك ، أي : مقيما.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) كأنه يقول ـ عزوجل ـ : لو رأيتهم يا محمد يوم القيامة لرحمتهم ، وأشفقت عليهم مما هزءوا به ، وما نزل بهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) ، وبمفازاتهم يخرج على وجهين :

أحدهما : قوله : (بِمَفازَتِهِمْ) أي : بالأعمال والأسباب التي فازوا بها على أشكالهم (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

قوله ـ عزوجل ـ : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

قوله ـ عزوجل ـ : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) بعد المفازة والنجاة ، وإلا قبل ذلك قد يمسهم السوء (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وهو على الجهمية وعلى أبي الهذيل العلاف إمام المعتزلة :

أما على الجهمية : لقولهم : إن الجنة تفنى وينقطع أهلها ولذّاتها ، فإذا كان ما ذكروا مسهم السوء والحزن.

وعلى قول أبي الهذيل أيضا كذلك ؛ لأنه يقول : إن أهل الجنة يصيرون بحال حتى إذا أراد الله أن يزيد لهم شيئا أو لذة لم يملك ذلك ، فإن كان ما ذكر هو مسهم السوء والحزن ـ أيضا ـ فالبلاء على قوله : إن السوء والحزن ، إنما مس رب العالمين ، فنعوذ بالله من مقال يعقب كفرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على إبطال قول أولئك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

هذه الآية تنقض على المعتزلة قولهم على وجوه :

أحدها : أن قولهم : إن شيئية الأشياء لم تزل كائنة ؛ إذ من قولهم : إن المعدوم شيء ،

__________________

(١) كذا في أ ، لم يذكر إلا هذا الوجه.

٧٠٠