تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

وإحدى الشفتين ، وكذلك كل شيء منه في تلك النطفة من العينين واليدين والرجلين والبصر وكل الجوارح ما لو اجتمع الحكماء جميعا حكماء البشر لم يعرفوا كون شيء من الجوارح والنفس وتقديرها من تلك النطفة وتصويرها منها ؛ ليعلم أنه قادر على خلق الأشياء من شيء ومن لا شيء وبسبب وبغير سبب وما جعل من الأسباب لبعض الأشياء لم يجعلها استعانة منه بها على إنشاء ذلك ، وأن من قدر على تقدير ما ذكر وتصويره في الظلمات التي ذكر على السبيل التي ذكر ، فإنه لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء ، يحتج عليهم لإنكارهم البعث وإنكارهم بعث الرسل والحجج ، يخبر أن من فعل ما ذكر من تغييرهم من حال إلى حال وتحويلهم من صورة إلى صورة أخرى أنه لا يفعل ذلك ليتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يمتحنهم ، ثم إذا امتحنهم لا يحتمل ألا يبعثهم ؛ ليجزي المسيء منهم والعاصي جزاء الإساءة والعصيان والمحسن منهم والمطيع جزاء الإحسان والطاعة ؛ لأنه قد سوى بينهم في هذه الدار وفي الحكمة ، والعقل [يقتضي] التفريق بينهما فلا بد من دار أخرى يفرق بينهما [فيها] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ).

يحتمل (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي : ذلكم الله الذي ذكر من تقديركم وتصويركم في ظلمات تلك النطفة هو ربكم الذي فعل ذلك.

أو أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي : جميع ما ذكر من قوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) ، وما ذكر من تسخير الشمس والقمر وجريانهما على سنن واحد وعلى قدر واحد ، وما ذكر من خلقنا جميعا من تلك النفس الواحدة إلى آخر ما ذكر ، يقول : ذلكم الله الذي فعل [ذلك] كله هو ربكم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي : فأنى تصرفون عبادتكم إلى غيره ، أو فأنى تصرفون ألوهيته وربوبيته إلى غيره وتجعلون له شركاء وأعدالا ، وقد تعلمون أن الذي فعل ذلك كله هو الله الواحد الذي لا شريك له ولا مثل.

أو يذكر أن ما ذكر من النعم التي أعطاكم وأسدى إليكم هو ربكم الذي خلقكم ، فكيف تصرفون شكرها إلى غيره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ).

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي : تكفرون دين الله الإسلام ولم تسلموا فإنه لا يقبل منكم ، (وَإِنْ تَشْكُرُوا) أي : وإن تسلموا

٦٦١

(يَرْضَهُ لَكُمْ) أي : يقبل منكم ؛ كقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥].

وقال غيره : أي : إن تكفروا دينه فإن الله غني عن عبادتكم ، (وَإِنْ تَشْكُرُوا) ، أي : توحدوه (يَرْضَهُ لَكُمْ) من الأول.

وجائز أن يكون قوله : (إِنْ تَكْفُرُوا) النعم التي عدها عليكم فيما تقدم ذكرها من قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) ، وقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ...) إلى آخر ما ذكر من النعم يقول : إن تكفروا هذه النعم التي عدها عليكم فإنه غني عنكم ، وإن تشكروا ما عد عليكم من النعم يقبل ذلك منكم ، والله أعلم.

وأصله أن الله ـ عزوجل ـ بين سبيل الهدى ورغبهم إليه ، وبين سبيل الضلال وحذرهم عنه ، ثم بين أن من سلك سبيل الهدى فله كذا ومن سلك سبيل الضلال فله كذا ، [و] أفضى إلى كذا.

أو أن يقول : إن من سلك سبيل الهدى يرضى لنفسه عاقبة السبيل الذي سلك فيه ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ. لِسَعْيِها راضِيَةٌ) [الغاشية : ٨ ، ٩] ، ومن سلك سبيل الضلال والكفر يمقت ذلك السبيل في العاقبة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [غافر : ١٠] أخبر أنهم يمقتون أنفسهم إذا نودوا وعرفوا أنهم أخطئوا الطريق ، وبالله العصمة.

وذكر في حرف عبد الله بن مسعود : والله يكره لعباده الكفر ، وقوله : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، وكذلك ذكر هذا في حرف أبي وحفصة خاصة.

وأصل قوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) إخبار أنه لم يأمركم بما أمركم به ولا نهاكم عما نهاكم عنه لحاجة نفسه أو لمنفعة له في ذلك ، ولكن إنما امتحنكم بما امتحنكم لحاجة أنفسكم ولمنفعتكم ولدفع الضرر عنكم ؛ وكذلك ما أنشأ من الأشياء لم ينشئها لحاجة نفسه ولا لمنفعة له ، ولكن إنما أنشأها لكم ولمنافعكم.

وكذلك نقول : لم ينشئها لأنفسها حتى إذا أتلف شيئا منها عوضها بدلها على ما تقول المعتزلة أن ليس لله أن يتلفها إلا أن يعوضها عوضا بإزاء ذلك ، ولكن إنما أنشأها لكم لليسر ولهم يعزر من أتلف شيئا منها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

ذكر هذا ـ والله أعلم ـ جوابا لقولهم حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ...) الآية [العنكبوت : ١٢] ، أخبر أن لا أحد يحمل وزر آخر ، ولكن يحمل وزر نفسه.

٦٦٢

والثاني : يخبر أن أمر الآخرة على خلاف أمر الدنيا ؛ لأن في الدنيا قد يحمل بعض آثام بعض وأوزار بعض ، فأما في الآخرة فإنه لا يحمل أحد وزر آخر ولا آثامه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ ...) الآية.

خص البعث بالرجوع إليه مرة وبالمصير ثانيا والبروز له ، ونحو ذلك ، وإن كانوا في جميع الأحوال راجعين إليه صائرين ؛ لأن المقصود من إنشائهم في هذه الدنيا ذلك البعث ، فخص لذلك رجوعا إليه ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

قال أهل التأويل : إنه عليم بما في الصدور ، وعندنا عليم بكل ما يصدر من الخير والشر ، وذكر (بِذاتِ الصُّدُورِ) ؛ لأن أصحاب الصدور هم يصدرون ويظنون في صدورهم.

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١٠)

وقوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ).

أخبر الله الخلق ما كان من عادة الكفرة في غير آي من القرآن أنهم كانوا يخلصون الدين لله ويتضرعون إليه إذا مسهم بلاء أو شدة ، إذا ركبوا البحر ، وكان لهم خوف الهلاك في ذلك وفزع ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...) الآية [العنكبوت : ٦٥] ، وغير ذلك من الآيات ، وكذلك كل بلاء وشدة أصابتهم ، فزعوا إلى الله ـ عزوجل ـ وتضرعوا إليه ، ثم إذا كشف الضر عادوا إلى ما كانوا من قبل.

وقوله : (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) يحتمل قوله : (نَسِيَ) ألا تملك الأصنام التي عبدوها دفع ذلك عنهم ولا كشفه.

أو نسي ألا ينفع شفاعتهم إياهم ونحوه ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] أي : نسوا ما علموا من عجز الأصنام ونحوه.

وقوله : (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ).

كأن الآية في الرؤساء منهم جعلوا أندادا ليضل الناس عن سبيله ، يدل على ذلك : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) في الدنيا (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) ، لما علم أنه يختم على الكفر ، والله

٦٦٣

أعلم.

ثم الحكمة في ذكر هذا وأمثاله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتمل وجوها :

أحدها : يصبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سوء معاملتهم إياه ، كما حكى (١) عن سوء معاملتهم ولم يستأصلهم على أثر ذلك وذلك أعظم في العقل.

أو يخبر الأواخر عن سوء معاملتهم ربهم ليحذروا عن مثل معاملتهم ربهم.

أو يخبر عن حلمه أن كيف عاملهم فاحلم أنت ، والله أعلم.

وقرئ : (لِيُضِلَ) و (لِيُضِلَ) فيه ثلاث (٢) لغات.

وقوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ).

قال بعضهم : هذه الآية صلة ما تقدم من قوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) يقول : الذي تضرع إلى الله ، وأخلص دينه له ، نسي ذلك وتركه إذا خول ذلك نعمة ، وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله ـ كالذي هو قانت ـ أي : مطيع لله ـ آناء الليل والنهار يحذر عذابه ويرجو رحمته ، ليسا بسواء عندكم : الذي أطاع الله في جميع أوقاته حاذر تقصيره في ذلك راج رحمته لطاعته ، والذي عصى ربه ولم يطعه ، فإذا عرفتم أنهما ليسا بسواء ثم رأيتم أنهما قد استويا في نعم هذه الدار وسعتها وشدائدها وفي الحكمة التفريق بينهما ، فلا بد من دار أخرى يفرق بينهما فيها يثاب المحسن المطيع جزاء إحسانه وطاعته ، ويعاقب الكافر الظالم جزاء كفره وظلمه ، والله أعلم.

ومنهم من يجعل لهذه الآية مقابل لكنه يقول : مقابلها ليس الأول ، ولكن لم يذكر لها مقابل ويقول على ما عرفتم أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم ، فعلى ذلك لا يستوي الذي أطاع ربه آناء الليل وأجهد نفسه في عبادة الله [و] الذي عصى ربه وكفر نعمه ، وقد ظهر الاستواء بينهما في هذه الدنيا فلا بد من التفريق بينهما في دار أخرى ، ولو لم يكن دار أخرى فيها يفرق ويميز ، لكان خلق هذا العالم على ما كان باطلا سفها غير حكمة ، والله أعلم.

وقوله : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ).

أي : يحذر عذاب الآخرة ، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأه : يحذر عذاب الآخرة (٣).

__________________

(١) وهي قراءة سعيد بن جبير كما في الدر المنثور (٥ / ٦٠٥) ، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد.

(٢) في أ : حكم.

(٣) كذا في أ.

٦٦٤

وقوله : (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) دلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الرجاء والحذر يرجو رحمته لا عمله ويحذر عذابه لتقصيره في عمله.

ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون أمنا ، وقد قال الله ـ عزوجل ـ : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩] ، والخوف إذا جاوز حده يكون إياسا ، وقد قال الله ـ تعالى ـ : (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] ، ويجب أن يكون المؤمن كما ذكر ـ عزوجل ـ : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦] ، و (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء : ٩٠] لا يجاوز أحدهما.

وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) ، أي : جنته على ما سمى الجنة : رحمة في غير موضع ؛ لما برحمته تنال هي ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ).

في معرفة نعم الله والقيام بشكره ، والحذر عن عصيانه وعذابه.

وقوله : (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

في كل ذلك ، جوابه أن يقال : لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨].

وقوله : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ).

إنما يتذكر بمواعظ الله أولو العقول والبصر والمعرفة ، والله أعلم.

وقوله : (آناءَ اللَّيْلِ) أي : ساعات الليل ، و (قانِتٌ) أي : مطيع ، وأصل القنوت هو الطاعة ، وقيل (١) : القنوت : القيام ، وهو القيام في الطاعة ، والله أعلم.

وفي قوله : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) دلالة جواز الإرجاء ؛ لأنه لم يقطع على أحدهما دون الآخر ؛ وكذلك في قوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦] ، وفي قوله : (رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء : ٩٠] ، وفي القطع على أحدهما كفر على ما ذكرنا من قوله : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ) [الأعراف : ٩٩] و (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] ؛ إذ المجاوزة في الخوف إياس ، والمجاوزة في حد الرجاء أمن وقد ذكرنا أنه كفر.

وقوله : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ).

يحتمل قوله : (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) وجوها :

اتقوا سخط ربكم.

أو اتقوا نقمة ربكم.

__________________

(١) قاله ابن عمر أخرجه ابن جرير (٣٠٠٨٧).

٦٦٥

أو اتقوا مخالفة ربكم ونحوه.

وأصل التقى : ما تهلكون ، أي : اتقوا مهالككم ، والله أعلم.

وقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ).

قال عامة أهل التأويل : للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة لهم في الآخرة.

وجائز أن يكون لهم الحسنة في الدنيا و [في] الآخرة حسنة ؛ [كقوله :] (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ...) الآية [يوسف : ١٠٩] ؛ وكقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ).

ثم يحتمل الحسنة وجها آخر : استغفار الملائكة لهم والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لأن الله ـ عزوجل ـ امتحن ملائكته على استغفار المؤمنين والمؤمنات ؛ كقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٥] ، وكذلك امتحن رسله بالاستغفار للمؤمنين ، وكذلك المؤمنون يستغفر بعضهم لبعض ونحوه.

وقوله : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ).

ذكر هذا ـ والله أعلم ـ لأن من آمن منهم بمكة كانوا يظهرون الموافقة لأعدائهم ويقيمون فيما بينهم ، وكانت لهم أسباب التعيش في بلدهم ولم يكن لهم تلك في بلد غيرهم ، فخافوا الضياع إذا هم خرجوا من بلدهم فيهاجروا منها إلى غير بلدهم فيمتنعون عن ذلك ، فجاءت الآية على الترجي والإطماع لهم بمثل ذلك التعيش وأسبابه في غير ذلك البلد ، وهو ما ذكر في آية أخرى ، وهو قوله : (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧] لم يقدروا في تركهم الهجرة وإظهارهم الموافقة للأعداء ، ولهم طاقة ووسع التحول من بلدهم إلى بلد غيرهم ، إلا من لم يكن به طاقة الخروج من بينهم وهم الذين استثناهم وهو قوله : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ ...) الآية [النساء : ٩٨] ، والله أعلم.

و [يحتمل] قوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، وجوها :

أحدها : (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : بغير تبعة ولا مئونة ؛ كقوله : «من نوقش الحساب عذب».

أو (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : لا يحاسبون ؛ لما ليس وراء تلك الدار الآخرة دار أخرى يحاسبون فيها ما أعطوا في الآخرة ليس كدار الدنيا يحاسب من أوتوا فيها في الآخرة ، وأما ما أعطوا في الآخرة فلا يحاسبون في غيرها.

ويحتمل (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، أي : غير مقدر بالحساب ، ولكن أضعافا مضاعفة.

ويحتمل (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، أي : بلا نهاية ولا غاية ، والله أعلم.

ثم الصبر : هو حبس النفس إما على أداء ما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه ، أو

٦٦٦

حبسها وكفها في احتمال ما حملت من الشدائد والمصائب والمؤن العظام ، احتملوا ذلك ولم يجزعوا ، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ...) الآية [البقرة : ١٥٥] ، وقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ونحوه.

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ)(١٦)

وقوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ).

يحتمل أن يكون قال هذا ؛ لما أن أهل مكة كانوا يدعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى دينهم ودين آبائهم ، وكانوا يطمعون عوده إليهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) ذكر هاهنا أنه أمر أن يعبد الله مخلصا له الدين ، وقال في آية أخرى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) الآية [الأنعام : ٥٦] ، وقال في آية أخرى : (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً ...) الآية [الأنعام : ٥٦] ، أخبر أنه لو اتبع أهواءهم فيما هم فيه يضل وما كان من المهتدين ، ذكر في هذه الآيات النهي وترك اتباعه أهواءهم ، ولم يذكر الأمر فيها بعبادة الله تعالى مخلصا له الدين.

أو أن يقول : إني إذا أمرتكم بعبادة الله أمرت أنا أيضا في نفسي أن أعبده مخلصا ، لست أنا كمن يأمر غيره شيئا ولا يأتمر بنفسه ، أو هو غير مأمور بذلك وهو ما قال : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

أو يقول : لست أنا كالملوك يأمرون أتباعهم بأشياء ويستعملونهم في أمورهم [و] لا يستعملون في ذلك أنفسهم ، والله أعلم.

وقوله : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

الخوف هاهنا ليس هو حقيقة الخوف ، ولكن العلم كأنه قال : إني أعلم إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ، فآيسهم بالله بالمدينة عن عوده إلى دينهم ، وقطع طمعهم عنه ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) [المائدة : ٣] فأما ما داموا بمكة فإنهم كانوا طامعين في ذلك راجين فيه ، والله أعلم.

وقوله : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ).

إنه يخرج هذا الحرف منه مخرج التهدد لهم والتوعد ، يقول : أما أنا فإنما أعبد الله الحق وله أخلص ديني ، فاعبدوا أنتم ما شئتم فإنه يجزيكم جزاء عبادتكم ، كقوله تعالى :

٦٦٧

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ...) الآية [فصلت : ٤٠] ، وذلك معروف في كلام الناس ، يقول الرجل : اعمل ما شئت أو قل ما شئت فإن لك الجزاء كما تعمل ؛ على الوعيد ، فعلى ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) ، والله أعلم.

ويحتمل وجها آخر لا على الوعيد ، ولكن يقول : قد بينت لكم وأوضحت السبيلين جميعا بالآيات والحجج : سبيل النجاة الذي إذا سلكتموه نجوتم ، وهو سبيل الله ، وسبيل الهلاك الذي إذا سلكتموه هلكتم ، وهو سبيل الشيطان ، فإن أردتم النجاة فاسلكوا سبيل كذا ، وإن أردتم سبيل الهلاك فاسلكوا سبيل كذا ، والله أعلم.

ثم قوله : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

كناية لما أمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار حيث قال ـ عزوجل ـ : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ؛ ليكون لهم أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ويسلم لهم ذلك ، وقد مكن لهم ذلك وهلكوا فتركوا ذلك ولم يقوها ولا أهليهم النار ، قال عند ذلك : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ألا عند ذلك يتبين لهم أنهم خسروا أنفسهم وأهليهم.

أو أنهم قد أمروا بالسعي للآخرة والعمل لها ، ووعدوا إذا سعوا لها وعملوا النجاة في الآخرة والحياة الدائمة والأهل في الجنة ، وإذا لم يسعوا لها ولم يعملوا خسروا أنفسهم والأهل الذين وعدوا فيها إذا سعوا وهلكت أنفسهم ، (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ) ألا هنالك يتبين لهم أنهم خسروا خسرانا بينا ، والله أعلم.

وقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ).

أن يكون ما كان تحتهم من النار أن يوصف بالمهاد لهم لا بالظلل ؛ كقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] ، وكذلك في حرف ابن مسعود أنه قال : لهم من تحتهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ذلك يخوف الله به عباده ، والله أعلم.

لكن جائز أن يكون الظلل التي تحتهم هي ظلل لمن تحتهم ، وهي لأولئك الذين فوقهم مهاد وللذين ليس تحتهم أحد مهاد أيضا ـ والله أعلم ـ لأن النار دركات وأطباق ؛ ليكون كل طبقة لمن تحتها ظلل ولمن فوقها مهاد على ما ذكرنا.

وقوله : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ).

أي : ذلك الذي ذكر في القرآن من المواعيد يخوف الله [به] عباده.

(يا عِبادِ فَاتَّقُونِ).

اتقوا سخط الله ونقمته ، أو اتقوا مخالفة الله ، أو اتقوا المهالك.

٦٦٨

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ)(٢٠)

وقوله : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها).

اختلف في الطاغوت : قال بعضهم (١) : هو الشيطان ، أي : اجتنبوا من أن يأتمروه وأطاعوه.

وقال بعضهم : الطاغوت هم الكهنة ، كانوا يأتون الكهنة فيخبرونهم بأمور فيعملون بقولهم ويصدقونهم ، يقول : أي : اجتنبوا من أن تطيعوا الكهنة في أمورهم ونهيهم.

وقال بعضهم : كل معبود دون الله فهو طاغوت ، وهو من الطغيان وهو المجاوزة عن الحد. والله أعلم.

وقوله : (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) أقبلوا ورجعوا إلى ما أمرهم الله به ، أو رجعوا إلى ما به طاعته وتركوا ما به مخالفته ، وانتهوا عن مناهيه ، والإنابة إلى الله هي الرجوع إلى أمر الله وإلى ما به طاعته ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمُ الْبُشْرى).

وهو ما ذكر في قوله : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس : ٦٢ ، ٦٤] فعلى ما ذكر لهؤلاء من البشرى لهم في الدنيا وفي الآخرة ؛ لأنهم أولياء الله.

وقوله : (فَبَشِّرْ عِبادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ، اختلف فيه :

قال بعضهم : الذين يستمعون كلام الناس من الخير والشر والحسن والقبيح فيتبعون أحسنه ، أي : يرون ويحكمون منه ما هو خير وحسن ، ويتركون ما هو شر وقبيح. وقال بعضهم : يستمعون القرآن وكلام الناس وأحاديثهم ، فيأخذون بالقرآن ويتبعونه ويتركون كلام الناس وأحاديثهم ، فهو اتباع الأحسن منه وهو القرآن.

وقال بعضهم : يستمعون [القرآن] وفيه الناسخ والمنسوخ ، فيتبعون أحسنه ، أي : ناسخه ، ويعملون به ويتركون منسوخه لا يعملون به.

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٠١٠١) وهو قول السدي وابن زيد أيضا ، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة النساء.

٦٦٩

وقال بعضهم : يستمعون إلى القرآن وفيه الأمر والنهي فيتبعون أمره وينتهون عما نهى عنه ، والله أعلم.

وجائز أن يكون قوله : (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ، أي : يتبعون الحسن منه الأحسن ، بمعنى : الحسن ، والله أعلم.

وقال قائلون (١) : فيتبعون أحسن ما في القرآن من الطاعة منه ؛ كقوله : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ...) الآية [الأعراف : ١٤٥] ، وتأويله ما ذكرنا : أن خذوا ما فيه من الأمر وأتمروا به وانتهوا عما فيه من المناهي ، والله أعلم.

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ).

أي : أولئك هم المنتفعون بلبهم وعقولهم ؛ حيث اختاروا وآثروا هداية الله ونظروا إليها بالتعظيم والإجلال واهتدوا.

وقوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ).

ذكر الله ـ تعالى ـ في هذه السورة أشياء لا يعرف لها أجوبة في الظاهر إلا بالتأمل والاستدلال على غيره ، من ذلك ما ذكر : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : أفمن حق عليه العذاب كمن له البشرى في الآخرة ؛ لأنه ذكر فيما تقدم للمؤمنين البشرى حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى ...) الآية ، على هذا يخرج جوابه : أفمن وجب عليه العذاب كمن وجب له البشرى ، لا سواء.

أو أن يقول : أفمن حق ووجب عليه العذاب كمن شرح صدره للإسلام ، أي : ليس الذي وجب عليه العذاب كالذي شرح صدره للإسلام.

أو أن يقول : هذا لنازلة كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لحرصه على إسلام قوم أحب أن يسلموا ، فقال هذا له على الإياس من إسلامهم ؛ يقول : أفمن وجب عليه العذاب ، أفأنت تنقذه وتخلص من النار من قد وجب عليه العذاب ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] ؛ وكقوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩] كان لا يقدر أن يكرههم على الإسلام ، لكنه كان يحب ويحرص على إسلامهم ويحزن لتركهم الإسلام ؛ كقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [النحل : ١٢٧] ، وقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء : ٣٠] ، (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ونحو ذلك ، كان يحزن وكادت نفسه تتلف إشفاقا عليهم ، فيقول : أفمن وجب وحق عليه

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠١٠٦) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٦٠٧).

٦٧٠

العذاب ، أتقدر أن تنقذه من النار؟ أي : لا تقدر على ذلك ، والله أعلم.

ثم بين الذين أنقذوا من النار ، وهم الذين اتقوا ربهم ، حيث قال ـ عزوجل ـ : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ).

يحتمل اتقوا مخالفة ربهم ، واتقوا سخط ربهم ونقمته.

ثم بين ما أعد لهم في الآخرة ، فقال ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) ذكر أن لهم غرفا في الجنة ، والغرف على الغرف في الشاهد إنما تتخذ لضيق المكان ، لكن ذلك في الجنة ليس لذلك ولكن لما كان عرف من رغبة الناس في الدنيا في الارتفاع والعلو والكراهية للتسفل والانحدار في الأرض رغبهم في الآخرة على ما رغبوا وأحبوا في الدنيا ، ولكن لأهل الجنة الدرجات ولأهل النار الدركات.

ثم قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

يخبر أن أمر الجنة على خلاف أهل الدنيا ؛ إذ في الدنيا كلما ارتفع وعلا من البنيان كان الماء منها أبعد والوصول إليه أصعب ، فأخبر أنهم وإن كانوا في الغرف والدرجات فأبصارهم مما تقع على الماء والماء لا يبعد عنهم ولا يصعب ، والله أعلم.

ثم ذكر في الغرف البناء وذكر في السماء أنه بناها ، فلم يفهم من بنائه ما ذكر ما فهم من بناء الخلق ، فكيف فهم من مجيئه وغير ذلك ما فهم من مجىء الخلق وإتيانهم لو لا ما كان فيهم من فساد اعتقادهم ، والله أعلم.

ثم قال ـ عزوجل ـ : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) ؛ لأن من وعد في الشاهد وعدا ثم أخلفه إنما يخلفه لحاجته ، أو لما يبدو له من البدوات فيرجع عما وعد ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ [منزه] عن ذلك كله ، لا يحتمل خلف الوعد منه.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)(٢٣)

وقوله : (أَلَمْ تَرَ) ونحوه [يخرج] على وجهين :

أحدهما : على الخبر (أَلَمْ تَرَ) أي : قد رأيت.

والثاني : على الأمر : أن ره.

٦٧١

ثم الخطاب ، وإن كان في الظاهر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو لكل أحد يحتمل النظر والتأمل ، ثم جهة الحكمة المودعة فيها ما ذكر من إنزال الماء من السماء ، وجعله ينابيع في الأرض ، والينابيع هي العيون التي تخرج من الأرض ، والآبار التي جعلت فيها ؛ ليعلم أنّ المياه الخارجة من الأرض والجارية فيها أصلها من السماء ، منزلة منها ، وهي طهور ؛ على ما أخبر أنه أنزله طهورا ، وإن اختلف طبعه لاختلاف جواهر الأرض ما لم يخالطه شيء من جواهر الأرض من القذر والنجاسة وغيرها من الألوان التي تخرجه عن أن يكون طهورا وتغيره عن جوهره الذي أنزل من السماء ، ثم جعل الله ـ عزوجل ـ في سرّية ذلك الماء معنى ولطفا ما يوافق جميع الأشجار والنبات ، وكل خارج من الأرض وإن اختلفت جواهرها وألوانها وطعمها ؛ ليعلم أنّ من قدر على جعل ما جعل في الماء من اللطف ، والمعنى الذي يوافق كل شيء من النبات والشجر وإن اختلفت جواهرها وألوانها وطعمها ، لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه شيء ، ولا قوة إلا بالله.

أو أن يقول : إن من تكلف زرع الزراعة في الأرض ، ويتحمل المؤن العظام إلى أن بلغ المبلغ الذي ينتفع به وينال منه النفع فتركه لم ينتفع به ؛ أليس يوصف بالسفه وبغير الحكمة ، فكذلك الله ـ سبحانه ـ لما أنشأكم صغارا طفلا وغذاكم بألوان الأغذية والأطعمة حتى كبرتم وبلغتم مبلغ الانتفاع بكم ، ثم أتلفكم بلا عاقبة تقصد في ذلك كان غير حكيم ، وقد عرفتموه حكيما ؛ فدل أن المقصود في ذلك كله حتى يكون إنشاؤه إياكم صغارا وتربيته إياكم بألوان الأغذية التي جعل لكم حكمة ـ هو البعث ما لو لا ذلك كان سفها غير حكمة ؛ على ما ذكر من إخراج الزرع من الأرض بالماء الذي أخرج ، ثم تركه فيها حتى صار يابسا لا ينتفع به كان سفيها غير حكيم ، فعلى ذلك ما كان عند أولئك الكفرة أن لا بعث كان ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فيما يذكر من إنزال الماء من السماء وإدخاله في الأرض وإخراج ما ذكر منها به وما ذكر ـ موعظة لأولي الألباب ؛ أي : لمن انتفع بلبه وعقله ؛ لما ذكرنا ، وما ذكر لأهل الجنة من الغرف وغير ذلك.

وقوله : (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) أي : أدخله فيها وجعله ينابيع ؛ أي : عيونا.

وقوله : (ثُمَّ يَهِيجُ) أي : ييبس.

وقوله : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) متكسرا مثل الرفات والفتات ، وهو قول أبي عوسجة والقتبي ، ويقال : هاجت الأرض : إذا ابتدأت في اليبس ، حطاما ، أي : متكسرا.

٦٧٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) قيل (١) : (شَرَحَ اللهُ) : وسع الله.

وقيل : رحب الله.

وقيل : لبى الله ، ونحوه ؛ وكله واحد.

ثم يحتمل قوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) فيسلم (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) ، أي : يجعل الله في صدره النور ؛ أي : يجعل إذا أسلم حتى يبصر الحق وحججه وبراهينه بصورة الحق أنه حق ، والباطل أنه باطل ، وأنه تمويه ، يبصر كل شيء بذلك النور على ما هو حقيقة أنه حق وباطل ، فيأخذ الحق ويعمل به ، ويترك الباطل ويجتنبه ، والله أعلم.

أو أن يكون قوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) ، يكون نوره هو إسلامه الذي هداه شرح صدره لنوره حتى أسلم ، وهو ما روي في الخبر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل أنه : هل ينشرح الصدر للإسلام؟ وكيف ينشرح؟ فقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دخله النور انشرح لذلك الصدر ، وانفسح له» (٢) ؛ أخبر أن النور إذا دخل الصدر انشرح لذلك الصدر ، وانفسح له بذلك النور ، والله أعلم.

وجائز ـ أيضا ـ أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) في الدنيا (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) في الآخرة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ..) الآية [التحريم : ٨] ، والذين كفروا طبع الله على قلوبهم فتظلم وتفسق لما تبقى في الظلمة أبدا ، والله أعلم.

ومنهم من قال : (شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) : الإسلام نفسه إذا أسلم (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) كتاب الله ، قال : هذا المؤمن به يأخذ ، وإليه ينتهي ، وما سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل لذلك ـ أي : لانشراح الصدر للإسلام ـ علامة؟ فقال : «نعم ؛ التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل حلول الموت» (٣) ، فهذا في التحقيق ليس في المعاملة في العمل ، ولكن في الاعتقاد ؛ أي : يتجافى عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود : يتزود من الدنيا للآخرة.

ثم قوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) يحتمل أن يكون على الاستفهام ؛ على ما ذكر.

__________________

(١) قاله السدي أخرجه ابن جرير (٣٠١١٣).

(٢) أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود كما في الدر المنثور (٥ / ٦٠٩) ، وذكر له شواهد أخرى.

(٣) تقدم.

٦٧٣

ويحتمل ألا يكون على الاستفهام ، ولكن على الإيجاب ، فإن كان على هذا فهو على إسقاط الألف : فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه ... الآية ؛ كقوله في آية أخرى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥] فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الآية على هذا ، والله أعلم.

وإن كان على الاستفهام فلا بد أن يكون له مقابل يعرف ذلك بدليل أنه جواب.

ثم قال بعضهم : جوابه في قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) كأنه يقول : ليس المنشرح صدره للإسلام كالقاسي قلبه بالكفر ؛ وهو قول الكسائي.

وجائز أن يكون جوابه ومقابله ما تقدم ذكره ، وهو قوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ...) الآية [الزمر : ١٩] ؛ كأنه يقول : أفمن حق عليه العذاب كمن شرح صدره للإسلام ؛ أي : ليس من وجب عليه العذاب كمن شرح صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، والله أعلم.

وقوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ).

يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) : أصدقه خبرا ، وأعدله حكما ، وهو ما ذكر في آية أخرى ، ووصفه بالصدق والعدل ؛ حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] أي : صدقا فيخبره ، وعدلا في حكمه ، فعلى ذلك يحتمل قوله : (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) خبرا ، وأعدله حكما ، والله أعلم.

وجائز أن يكون قوله : (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) ، أي : أتقنه وأحكمه ، وهو متقن ومحكم ، وهو على ما وصفه بالصدق والعدل في آية أخرى قال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] أخبر أنه لا يأتي القرآن باطل من بين يديه ولا من خلفه ، وذلك لإتقانه وإحكامه ، والله أعلم.

وهو أحسن الحديث ؛ لأن من تأمله ونظر فيه وتفكّر أنار قلبه ، وأضاء صدره ، وهداه سبيل الخير والحق ، ودفع عنه الوساوس والشبهات وكل شر ، وأفضاه إلى كل خير وبرّ فهو أحسن الحديث ؛ إذ لا حديث يعمل ما يعمل هو ؛ لما ذكرنا ، وغير ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (كِتاباً مُتَشابِهاً) قوله : (مُتَشابِهاً) أي : ليس بمختلف ولا متناقض ، ليس كحديث الناس وكتبهم مما يختلف ويتناقض حديثهم وكتابهم ، وخاصة فيما امتدّ من الأوقات وطال وبعدت مدته ، وهو ما ذكر : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ...) [النساء : ٨٢] دل كونه متفقا ، متشابها ، غير مختلف في طول نزوله ، وتفرق أوقاته ، وتباعد أيامه في الإنزال ـ أنه من عند الله نزل ، ومنه جاء ؛ إذ

٦٧٤

لو لم يكن من عنده لخرج مختلفا متناقضا على ما يخرج حديث الناس وخبرهم مختلفا ومتناقضا ، والله أعلم.

وقوله : (مَثانِيَ) قال أهل التأويل (١) : سماه : مثاني ؛ لما ثنّى فيه أنباؤه وقصصه مرة بعد مرة ، وأصله : أنه سماه : مثاني ؛ لأنه ذكر فيه المواعظ والذكرى وكررها في غير موضع ، لما لو لم يكررها غفلوا عنها ، وسهوا عنها ؛ لأن الحكيم إذا وعظ أحدا عظة وزجره وسها عنه [كررها عليه] ، وكرر ـ عزوجل ـ عليهم المواعظ والزواجر ؛ ليكونوا أبدا متعظين متذكرين لذلك ـ والله أعلم ـ لكيلا يغفلوا عنها ولا يسهوا.

وقوله : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال أهل التأويل (٢) : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) عند تلاوة آية الرهبة والخوف ، وتلين قلوبهم عند تلاوة آية الرحمة.

وجائز أن يكون ذلك لهم بجميع القرآن بما فيه من الرحمة والرهبة جميعا يكون فيهما الموعظة : تلين قلوبهم وتقشعر جلودهم وتخاف أنفسهم ؛ لأن آية الرحمة ليست بأحق بتليين القلوب من آية الرهبة ، بل آية الرهبة أحق بذلك.

وقتادة يقول : كانت جلودهم تقشعر ، وعيونهم تبكي ، وقلوبهم تطمئن إليه ، ولا تذهب عقولهم ، ولا يغشى عليهم ، كما رأينا أهل البدع يفعلونه ، وإنما ذلك من الشيطان (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) قد بين سبيل الهدى والحق ، وحججه وبراهينه ، وبين سبيل الضلالة والباطل ، فمن سلك سبيل الهدى فبتوفيقه سلك ، وبمعونته اهتدى ، ومن سلك طريق الكفر والباطل فبخذلانه ضل وزاغ.

وقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أخبر أنّ من أضله الله فلا هادي له ، وعلى ما قال في المعيشة والرزق ؛ قال ـ عزوجل ـ : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر : ٢] وقال ـ عزوجل ـ في الضراء والخير ؛ حيث قال : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس : ١٠٧] ذكر في الضلال والهدى ما ذكر في الرزق والضر والخير ، ذلك أنّ لله في فعلهم وصنعهم تدبيرا ، ليس على ما تقوله المعتزلة أن لا تدبير لله في ذلك ، وأن من اهتدى إنما يهتدي بنفسه ، ومن ضل وزاغ إنما ذلك بنفسه ، لا تدبير لله في ذلك ، فالآية

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٠١٢١) وهو قول الحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم.

(٢) قاله ابن جريج أخرجه ابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٠).

(٣) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٠).

٦٧٥

تنقض قولهم ومذهبهم.

وقتادة (١) يقول في قوله : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) وإنما يذكر الله أهل الإيمان ، فكانت تقشعرّ بذلك جلودهم ، وتبكي أعينهم ، وتطمئن قلوبهم ، ولا تذهب عقولهم منه ، وأما أن يصرع أحدهم فلم يكن ، وإنما كان هذا في أصحاب البدع ، وربما هو من الشيطان ، ولعمري ما كان في هذه الأمة أحد أعلم من نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بعده أصحابه الذين انتخبهم الله ـ عزوجل ـ لصحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإقامة دينه ، ولقد سألنا من لقينا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحاب أصحابه ، فحدثوا أن هذا إنما كان في أهل البدع.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٢٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كأنه لم يذكر مقابل هذا في هذا الموضع ، فجائز أن يكون مقابله ما تقدم ، وهو قوله : أفمن جعل له الغرف على الغرف تجري من تحتها الأنهار كمن يتقي بوجهه سوء العذاب ، ليس هذا كذاك (٢) ، ولا أحد يتقي بوجهه سوء العذاب ، لكن يخرج ذكر ذلك على وجوه :

أحدها : كناية عن الشفعاء وأهل النصر ، كأنّه يقول : لا يكون لهم من يشفع أو يملك دفع العذاب عنهم.

أو تكون أيديهم مغلولة إلى أعناقهم بلا يد له يتقي بها سوء العذاب عن وجهه ؛ لأن في الشاهد من أصاب شيئا من العذاب يتقي ذلك العذاب عن وجهه بيده ، فيخبر أن لا يد له في الآخرة يتقي العذاب بها عن وجهه ؛ بل يصيب العذاب وجهه ، فكأنما يتقي به.

أو أن يكون ذكر الوجه كناية عن نفسه ، وهو ما ذكرنا ألا يكون له من يملك دفع العذاب عنه.

أو أن يكون ذكر الوجه كناية عن قلبه أي : يصل وجع ذلك العذاب إلى قلبه ، ولا يملك دفعه ، والله أعلم.

__________________

(١) تقدم تخريج قوله.

(٢) ثبت في حاشية أأي : هذا كهذا ، وأن يكون مقابله : أفمن يتق بوجهه سوء العذاب كمن أنعم في النعيم الدائم ، ليس هذا كذاك ، والله أعلم.

٦٧٦

وقوله : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

يحتمل أي : ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون.

أو يقول : ذوقوا ما اخترتم من الكسب ، وهذا بما اخترتم ؛ لأنه قد بين لهم الكسبين جميعا ، وما يكون لكل كسب في العاقبة ، فاختاروا هم الكسب الذي كان عاقبته الذي أصابهم ، فكأنهم اختاروا ذلك الذي حل بهم باختيارهم ذلك الكسب ، والله أعلم.

وقوله : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) ليخوفهم ويحذرهم ما نزل بالمتقدمين بتكذيب الرسل والعناد بعد ما حذرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبعث ، وما حل بهم يوم القيامة بذلك ؛ فإذ لم يصدقوه فيما يحذرهم يوم القيامة حذرهم بالذى انتهى إليهم الخبر ، يعني : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليحذروا.

وقوله : (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي : من حيث لا يأمنون العذاب أنى : ينزل بهم.

وقوله : (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) العذاب الذي نزل بهم في الدنيا ليس هو عذاب الكفر ، إنما هو عذاب العناد ، والتعنت ، وأفعال فعلوها في حال الكفر ، فهو في الآخرة أبد الآبدين فيه ، خالدين مخلدين فيه ؛ ولذلك قال : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٥)

وقوله : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ، أي : بينا للناس في هذا القرآن من كل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم ؛ أخبر لهم ما لهم وما عليهم ، أو لبعضهم على بعض ، وأمثاله ، والله أعلم.

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : لكي يلزمهم التذكر والاتعاظ.

٦٧٧

والثاني : لكي يبلغهم ما يتذكرون ويتعظون.

وقوله : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي : جعلناه قرآنا عربيّا ؛ كقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف : ٢] لكي يفقهوه ويعرفوه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ...) الآية [إبراهيم : ٤].

وقوله : (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه لا يخالف الكتب السالفة ؛ بل يوافقها ؛ لأن كتب الله جاءت كلها على الدعاء إلى توحيد الله وربوبيته ، فكذلك القرآن ، فهو لا يخالف سائر الكتب ؛ بل يوافقها.

والثاني : لا عوج فيه ؛ لما لا يخالف بعضه بعضا ، ولا يناقض ؛ بل خرج كله موافقا بعضه بعضا مستقيما على تباعد نزوله في الأوقات ، وبالله التوفيق.

وأصله : (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي : ليس بمائل ولا زائغ عن الحق.

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي : يتقون المهالك ، أو سخط الله ونقمته.

وقوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي : لا يستويان.

يشبه أن يكون ما ذكر من المثل لرجلين من البشر كله : المسلمون والكافرون ، ثم يحتمل الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون ؛ أي : يتشاكسون في نسبه ، يدعي كل نسبه.

أو يتشاكسون في الملك فيه ، يقول كل : هو لي أو في الملك في قوم يدعي كل أن الملك له فيه.

أو يدعي كل أن الملك فيهم ، ولا يثبت لواحد منهم النسب فيه لينتسب هو إلى واحد منهم ، فيبقى متحيرا تائها ؛ ولذلك لا يثبت لواحد منهم الملك الذي يدعي ؛ ليطلب هذا منه النفقة ، وما يجب على ذي الملك من حقوق الملك ، فسعى ضائعا متحيرا ، وإذا كان الملك لرجل واحد ، أو النسب أو الملك سالم له يصل إلى كل حق له ، ويكون محفوظا في نفسه معروفا ، فيكون مثل الذي فيه شركاء متشاكسون ، هو الذي يعبد الشيطان أو الأصنام ، أو هوى النفس ، يدعو كل شيطان إلى غير الذي دعا الآخر ، وكذلك الهوى يدعو صاحبه مرة إلى كذا ، ومرة إلى غير ذلك ، فهو كالذي فيه شركاء متشاكسون يدعي هذا وهذا ، والذي يعبد إله الحق الذي يثبت ألوهيته بالحجج والآيات كالرجل السالم الواحد يكون أبدا على حالة واحدة ، مطيعا لله ، خالصا له.

وقوله : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي : هل يستوي الرجل الذي يدعي فيه شركاء متشاكسون والرجل الذي يكون لرجل واحد ، فيما ذكرنا؟! أي : لا يستويان.

٦٧٨

وقال أهل التأويل (١) : (هَلْ يَسْتَوِيانِ) من يعبد آلهة شتى مختلفة ، والذي يعبد ربّا واحدا ، وهو المؤمن ، وقد رأوا أنهم قد استووا [في] هذه الدنيا ، وفي الحكمة التفريق بينهما ، وفيه دلالة البعث ، وكذلك في قوله : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ) [هود : ٢٤] وقد استووا في هذه الدنيا دل أن هنالك دارا أخرى يفرق بينهما [فيها] ؛ إذ في الحكمة والعقل التفريق بينهما ، والله أعلم.

وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذكر الحمد على أثر ذلك يخرج على وجهين :

أحدهما : أن يحمد ربه على ما خصه بالتوحيد من بين الكفار (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) توحيد ربهم.

والثاني : أمره أن يحمد ربه على ما جعله سالما خالصا ؛ لم يجعل فيه شركاء متشاكسين.

قال أبو عوسجة والقتبي : (شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) أي : مختلفون ، يتنازعون ، ويتشاحّون (وَرَجُلاً سَلَماً) أي : خالصا.

ومن قرأ سلاما لرجل أراد : سلم إليه ، فهو سلم (٢).

ثم قوله : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) يحتمل الأنبياء منهم والخواص ؛ كقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨].

وجائز أن يكون أراد جميع المؤمنين ، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود : تقشعر منه جلود الذين يؤمنون بربهم ثم تطمئن جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وفي حرف حفصة : ثم يثبت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.

وقال بعضهم في قوله ـ عزوجل ـ : (يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) : يقول ـ والله أعلم ـ : ليس الضال الذي يتقي النار بوجهه كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه ؛ ليسا بسواء ؛ على ما ذكرنا.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وجه ذكر هذا على أثر ما تقدم من قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) وقد استووا في هذه الدنيا من أخلص نفسه ودينه لله وللرسول ، ومن جعل فيه شركاء ولم يسلم نفسه له ، وهو الكافر ، ثم تموت أنت ويموتون هم ، فلو لم تكن دار أخرى يميز فيها ويفرق بين الذي جعل نفسه

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٠١٣٢) ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٢).

(٢) هي قراءة ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٠١٢٩).

٦٧٩

سلما لله ، خالصا له ، وبين من لم يفعل ذلك ـ لكان في ذلك استواء بين من ذكر ، وفي الحكمة أن لا استواء بينهما ، وقد يموت السالم نفسه لله ، ويموت الآخر دل أنّ في ذلك بعثا ، يثاب هذا ، ويعاقب الآخر ، والله [أعلم].

أو أن يذكر هذا ؛ لما كانوا يتشاءمون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتطيرون فيما يصيبهم من المصائب والشدائد ، حتى قال ـ عزوجل ـ : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤] أي : لا يخلدون ، فعلى ذلك يقول ـ عزوجل ـ : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) أيضا ، أي : لا يبقون بعد موتك أبدا ، ولكنهم يموتون ، ولو كان ما يصيبهم بك أنت على ما يزعمون ، فيجئ ألا يصيبهم بعد موتك ؛ نحو هذا يحتمل ، والله أعلم.

أو أن يقول : إنك ميت فتصل إلى ما وعد لك من الكرامات والثواب ، ويموتون هم فيصلون إلى ما أوعدوا من المواعيد والعقوبات ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) روي عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا لا نعلم ما يفسر هذه الآية ، وكنا نقول : من يخاصم؟ فلما وقعت الفتنة بين أصحاب رسول الله ، حتى كفح (١) بعضنا وجوه بعض بالسيوف ، فعرفت أنها نزلت فينا.

وذكر عن الزبير : لما نزلت هذه الآية ، فقال : يا رسول الله ، أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا ، فقال : (نعم) ، فقال : إن الأمر إذن لشديد (٢).

وروي عن بعض الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ لما نزلت هذه الآية أنهم قالوا : كيف نختصم ونحن إخوان؟! فلما قتل عثمان ظلما وعدوانا ، علموا أنها لهم وفيهم (٣) ، والله أعلم.

ثم خصومتهم هذه يوم القيامة تحتمل وجهين :

أحدهما : في المظالم [أو] في الحقوق التي كانت لبعض على بعض ، أو في الدين ، أو في أمر الدنيا (٤).

__________________

(١) يقال : تكافح المقاتلون : أي تضاربوا وجها لوجه.

ينظر : المعجم الوسيط (كفح).

(٢) أخرجه ابن جرير (٣٠١٣٨) ، والترمذي (٣٢٣٦) ، وعبد الرزاق وأحمد ، وابن منيع وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في البعث كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٤).

(٣) أخرجه ابن جرير (٣٠١٤٠) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن عساكر كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٣).

(٤) في أ : الدين.

٦٨٠