تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ). يقول المتبوعون للأتباع لما أدخلوا النار ورأوهم : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي : لا سعة بهم وهو من الرحب وهو السعة ، فأجابهم الأتباع : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ).

وقال بعضهم : قالت الخزنة لمن في النار : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ) فيردون على الخزنة : (لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) فيرد عليهم القوم الذين اقتحموا النار بعدهم : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ).

وأصل هذا : أن هذا منهم لعن ، يلعن بعضهم بعضا ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) [العنكبوت : ٢٥] ، ونحو ذلك من الآيات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ).

هذا كقوله : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨] ، هذا قول الأتباع للقادة والرؤساء منهم ، ثم ردت القادة على الأتباع ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) [سبأ : ٣٣] فعلى ذلك هذه المناظرة التي ذكرت هاهنا بين القادة والأتباع.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) ، وقوله : (مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) أي : أنتم شرعتموه لنا في الدنيا وسننتموه ، ولذلك قولهم : (مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) أي : من شرع لنا هذا وسن الذي كنا عليه وأمرنا به فزده عذابا في النار وهو كما ذكر في سورة سبأ حيث قالوا : (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) [سبأ : ٣٣] ، والله أعلم.

قال القتبي (١) : الغساق : ما يسيل من جلود أهل النار ولحومهم من الصديد ، يقال : غسقت عنه ، أي : سالت ، ويقال : هو البارد المنتن ؛ وكذلك قال أبو عوسجة (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) : من مثله ، الشكل : المثل ، والشكل بنصب الشين الغنج ، وشكلت المرأة إذا انغنجت ، والتقحم الدخول واقتحمت كلمة واحدة وهو الدخول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا مَرْحَباً بِهِمْ).

أي : لا سعة بهم ، والرحيب والرحب : الواسع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ...) إلى آخر ما

__________________

(١) وهو قول قتادة والسدي وإبراهيم وابن زيد وغيرهم أخرجه ابن جرير (٢٩٩٠ ، ٢٩٩١ ، ٢٩٩٢ ، ٢٩٩٣).

(٢) وهو قول مجاهد والضحاك ، أخرجه ابن جرير (٢٩٩٩٧ ، ٢٩٩٩٨).

٦٤١

ذكر ، ذكر هذا يقول في الآخرة في النار هذا ؛ ليلزمهم الحجة وألا يقولوا : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [الأعراف : ١٧٢] ؛ لأن هذه السورة مكية ، نزلت [في] محاجة أهل مكة في إثبات التوحيد وإثبات الرسالة ، ومنهم من ينكر البعث ، ذكر الأنباء المتقدمة لإثبات الرسالة فيما تقدم ، وذكر حجج البعث في هذه الآيات وحجج التوحيد في آخره ، ذكر ذلك كله لهم ليلزمهم الحجة وإن أنكروا ذلك ؛ لئلا يقولوا : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [الأعراف : ١٧٢].

ثم في هذه الآية دلالة أن عقوبة الله قد تلزم وإن لم يحقق عنده الحق ولم يعرفه حقيقة ؛ حيث أخبر أنهم يقولون في النار ما ذكر ـ عزوجل ـ : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) ؛ لأنه معلوم أنهم لم يعلموا حقيقة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كانوا [على حق وإلا] ما تركوا اتباعه ولا سخروا منهم ؛ وعلى ذلك يخرج مباهلة أبي جهل يوم بدر حيث قال : «اللهم أينا أوصل رحما وآثر ... كذا على ما ذكروا ـ نصر عليه» (١) ، ومعلوم أنه لو كان يعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حق لكان لا يجترئ على المباهلة دل أنه لم يعلم حقيقة أنه على حق ، فعوقبوا وإن لم يعلموا لما مكن لهم من العلم والمعرفة لو تأملوا وأحسنوا النظر في ذلك ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ).

قال أهل التأويل : إنهم ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم في دينهم وهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين كانوا يستهزءون بهم في الدنيا ويسخرون منهم ، يقولون : كنا نسخر منهم في الدنيا فأين هم؟ وما لنا لا نراهم (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) ، أي : حارت وشغلت أبصارنا فلا نراهم.

لكن لا يحتمل أن يكونوا يقولون على هذا الذي يقوله أهل التأويل ، ولكن يقولون على التلهف والتندم على ما كان منهم في الدنيا من ترك اتباعهم والسخرية منهم قد ظهر عندهم أن أولئك كانوا على حق ـ أعني : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ـ وأنهم على باطل ، فلا يحتمل أن يقولوا ذلك على غير التلهف والتندم ، وقد عرفوا بما ذا عذبوا وجعلوا في النار؟ عرفوا أنهم [لا] يكونون في النار ـ يعني : أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ كانوا على خلاف ما كان أولئك الكفرة [عليه] ، والله أعلم.

أو أن يقولوا ذلك على الاستغاثة بهم يقولون : أين أولئك الذين كانوا اتخذناهم سخريا

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن مندة ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في الدلائل كما في الدر المنثور (٣ / ٣١٨).

٦٤٢

في الدنيا لعلهم يشفعوننا فيعينوننا يطمعون النجاة إذا اتبعوهم في ذلك الوقت أو نحو ذلك ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : ٢] وهذا الذي ذكرنا هو أشبه مما يقوله أهل التأويل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ).

قال بعضهم : القسم بقوله ـ عزوجل ـ : (ص وَالْقُرْآنِ) وقع على هذا على ما ذكرنا.

وقال بعضهم : هذا على التقديم والتأخير ، يقول : إن ذلك الذي ذكره من إحن بعض على بعض حيث قالوا : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) [ص : ٦٠] ، وقولهم : (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) [ص : ٦١] وما ذكر في سورة الأعراف : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ ...) [الأعراف : ٣٨] كذا و (أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) [الأعراف : ٣٩] كذا ، أي : ذلك التخاصم الذي ذكر الحق ، أي : كائن فيما بينهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)(٨٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ).

ليس عليّ مما حملتم شيء ، إنما ذلك عليكم إنما عليّ الإنذار لكم فقط.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

يقول ـ والله أعلم ـ : ما من إله عندي دونه بإله ، إنما الإله هو الواحد القهار الذي تفرد وتوحد بربوبيته وألوهيته ، قهر الخلائق كلهم بقدرته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ).

يخبر عن غنائه وسلطانه يقول ـ والله أعلم ـ : تعلمون أنه رب السموات والأرض ومنشئهما ومنشئ ما بينهما ، فلا يحتمل أن ما يأمركم به وينهاكم عنه ، إنما يأمركم لحاجة

٦٤٣

نفسه أو لمنفعة له ، ولكن إنما يأمر وينهى لمنفعة أنفسكم ولحاجتكم.

أو يقول : تعلمون أنه هو ربكم ورب ما ذكر من السموات والأرض وما بينهما ، فكيف تعبدون من تعلمون أنه ليس بربكم ولا إله ، وإنما الإله ما ذكر فتتركون عبادته وطاعته؟! وقوله ـ عزوجل ـ : (الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ).

أي : لا يلحقه الذل بذل أوليائه وخدمه ؛ لأنه عزيز بذاته لا بأحد ليس كملوك الأرض يذلون إذا ذل أولياؤهم وأتباعهم ؛ لأن عزهم بأوليائهم وأتباعهم فإذا ذلوا ذل من كان عزه بهم ، فأما الله ـ سبحانه وتعالى ـ فعزيز بذاته لا يلحقه الذل بذل أوليائه ولا هلاكهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ، له تأويلان :

أحدهما : أن هذا القرآن الذي أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبأ عظيم أنتم عن التفكر فيه والنظر معرضون ؛ لأن فيه ذكر ما نزل بالمكذبين بالتكذيب والعناد ، وفيه ذكر من نجا منهم بم نجا؟ وفيه ذكر ما يؤتى وما يتقى ، وفيه ذكر البعث وذكر الجنة والنار ونحوه ، وذكر ما لهم وما عليهم ، فهم عن التفكر فيه والنظر معرضون ما لو تفكروا فيه وتأملوا ، لأدركوا كله ووصلوا إلى معرفة كل ما فيه مما ذكرنا ، والله أعلم.

والثاني : قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي : البعث والحشر هو نبأ عظيم أنتم عن السعي والعمل لذلك معرضون تاركون.

فمن جعل تأويله على البعث والحشر يجعل الإعراض عن السعي له والعمل لذلك اليوم ، ومن حمل تأويله على القرآن يجعل الإعراض عن التفكر فيه والنظر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِنْ يُوحى إِلَيَّ ...) الآية.

اختلف في الملأ الأعلى : قال عامة أهل التأويل (١) : الملأ الأعلى : هم الملائكة الذين تكلموا في آدم ـ عليه‌السلام ـ حين قال لهم الرب ـ عزوجل ـ : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، فقالوا عند ذلك : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ...) الآية [البقرة : ٣٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ليس على حقيقة الخصومة ، ولكن على التكلم في ذلك ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (يَتَنازَعُونَ فِيها) [الطور : ٢٣] كأنها ليس على التنازع المعروف عند الناس والخصومة ، ولكن على اختلاف الأيدي فعلى ذلك ما ذكر من اختصامهم ، والله أعلم.

ومعناه : ما كان [لي] من علم من اختصام الملأ الأعلى وما كان منهم من التكلم إلا أن أوحي إليّ فعلمت وإنما أنا نذير مبين.

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٠٠٢٤) ، وهو قول السدي وقتادة أيضا.

٦٤٤

وقال بعضهم (١) : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) وما كان اختصامهم في الكفارات وفي الدرجات وفي المنجيات والموثقات حتى علمني الله ذلك بالوحي إليّ وأعلمني ذلك ، ويذكرون أن الكفارات هو إسباغ الوضوء في المكروهات وبذل الطعام عند الضيق والشدائد ونحوها مما يطول ذكره ، والله أعلم.

وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي : بالجمع الأعلى وهو جمع يوم القيامة ، سماه : الجمع الأعلى ؛ لأنه جمع الأولين والآخرين من الفرق جميعا ، أي : ما كان لي من علم بذلك الجمع حتى علمت بالوحي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ يَخْتَصِمُونَ).

في ذلك اليوم تقع الخصومات ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر : ٣١] وهو على حقيقة الخصومة.

وجائز أن يكون الملأ الأعلى هم الأشراف من أولئك الكفرة والقادة ، منهم الذين أهلكوا بالتكذيب ومن نجا منهم بالتصديق ؛ يقول : ما كان لي من علم بهم وما نزل بهم أوحي إليّ فعلمت بالوحي ، كأنهم سألوه عن ذلك فأخبر ، أي : كنت كواحد منكم في ذلك حتى علمت ذلك بالوحي ، ألا إنما أنا نذير مبين أمرني ربي وأوحى إليّ أن أنذركم بذلك حين أعلم بالوحي ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ).

ظاهر هذا أن يكون لا على القول منه لهم ، ولكن على الخبر أنه كان ما ذكر ، والله أعلم.

ثم ذكر الذي خلق منه آدم على أوصاف مختلفة : مرة ذكر أنه خلق من طين ، ومرة من تراب ، ومرة من حمأ مسنون ، ومرة كالصلصال ، ومرة كالفخار ، ومرة لازب وغيره على اختلاف ما ذكر ؛ فجائز أن يكون كل وصف من ذلك قد كان وصف عن حال ، كان ترابا ، ثم صار طينا ثم ما ذكر [و] وصف ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي).

إضافة الروح إلى نفسه كإضافة خلق من خلائقه إليه ؛ إذ الروح خلق من خلائقه كسائر الخلائق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

لو لا صرف أهل التأويل سجود الملائكة لآدم إلى حقيقة السجود وإلا كنا نصرفه

__________________

(١) ورد في معناه حديث أخرجه الترمذي (٣٢٣٥) ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، ومحمد بن نصر عن معاذ بن جبل كما في الدر المنثور (٥ / ٥٩٧).

٦٤٥

لآخر : إلى الخضوع له والاستسلام ، كما أحوج الملائكة إلى معرفة هذه الأسماء إلى آدم وبه عرفوها حيث قال ـ عزوجل ـ : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ) [البقرة : ٣٣] ، لكن صرف أهل التأويل سجود الملائكة إلى حقيقة السجود له جائز ؛ لأنهم ممتحنون بالأمر والنهي وقد بينا ذلك فيما تقدم.

ثم استثنى إبليس من الملائكة وأخبر أنه استكبر وأبي أن يسجد له حيث قال ـ عزوجل ـ : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

على قول من يقول : إن إبليس كان من الملائكة ، فلما أبي السجود ، خذله ووكله إلى نفسه صار كافرا ؛ ليعلم أن كل أحد وإن عظم قدره وجلت منزلته يحتمل خلاف ما هو [عليه] وضده ، وأنه متى امتحنه بأمر فترك أمره ؛ تكبرا أو استخفافا ـ خذله ووكله إلى أمره ونفسه فصار كافرا مخذولا حقيرا ؛ ليكونوا أبدا على حذر وفزع إلى الله ـ عزوجل ـ على ما أخبر من عظم قدر الملائكة عند الله وجليل منزلتهم عنده إذا خذلهم ووكلهم إلى أنفسهم صاروا كما صار إبليس ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

أي : كان في علم الله أنه يكفر.

أو كان بمعنى صار من الكافرين إذ أبي السجود واستكبر ؛ كقوله ـ عزوجل ـ لآدم : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ٣٥] أي : تصيرا من الظالمين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ).

قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع أن تخصيص إضافة الشيء الواحد إلى الله ـ عزوجل ـ يخرج مخرج تعظيم ذلك الواحد وذلك الفرد ؛ كقوله : بيت الله ومساجد الله ورسول الله وولي الله وأشباه ذلك ، وخص هذه الأشياء بالإضافة إليه وإن كانت البقاع كلها والخلق كله له على التعظيم لذلك ؛ فعلى ذلك يخرج إضافة خلق آدم إلى نفسه مخرج تعظيم آدم حيث قال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) وإن كان جميع الخلائق هو خلقهم ، ويخرج إضافة كلية الأشياء إلى الله وكلية الخلائق إليه مخرج تعظيم الربّ والمدح له ؛ نحو قوله ـ عزوجل ـ : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢] ورزاق ، يخلق منشأ العالم ومبدأه ، وهو على كل شيء قدير ، مالك الملك ، وغير ذلك على ما ذكرنا فيما تقدم ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (بِيَدَيَ).

قد تكلف أهل الكلام والتأويل في تأويل إضافة اليد إلى الله ـ عزوجل ـ : منهم من قال : القوة ، ومنهم من قال : كذا ، لكن التكلف في ذلك فضل مع ما قد يضاف اليد إلى

٦٤٦

من لا يد له ولا جارحة ولا عضو ، نحو [ما] قال ـ عزوجل ـ : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] لم يفهم أحد بذكر اليد له ولا الخلف ما يفهم من الخلق ولا ذهابهم ، وكذلك ما ذكر من مجيء البرهان حيث قال ـ عزوجل ـ : (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [يونس : ٥٧] و (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [النساء : ١٧٤] وأمثال ذلك مما يكثر عده وإحصاؤه ، لم يفهم أحد من الخلائق من مجيء هذه الأشياء التي ذكرنا مجيء الخلق ولا فهم من ذكر اليد ـ لما ذكرنا من الأشياء ـ جارحة ولا عضو ، فكيف يفهم من ذكر اليد ما فهم من الخلق إلا لفساد اعتقادهم لربهم والجهل بتعاليه عن معنى الغير ، وإلا لم يخطر بباله بذكر ذلك لله أو إضافته إليه ما يخطر بباله من الخلق ومعنى الخلق.

أو أن يكون ذكر ذلك لنفسه وإضافته إليه من اليد وما ذكر ؛ لما باليد يكون في الشاهد لو احتمل كون ذلك من الخلق ، نحو ما قال : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) وما كسبت يداك ، ونحو ذلك مما يعلم في الحقيقة أن ذلك لم يكن يكسب به حقيقة ولا عمله من نحو الكفر وغير ذلك من الأشياء ، لكنه ذكر لما باليد يكتسب في الشاهد وبها يعمل أكثر الأعمال والأفعال.

أو أضاف ذلك إليها لما ذكرنا وإن لم يكن منها عمل حقيقة ؛ فعلى ذلك إضافة اليد إلى الله فيما أضاف على ما كان ذلك من الخلق إنما كان باليد ؛ على ذلك يخرج ما ذكر من استوائه على العرش بعد أن ذكرنا فيه ما يليق به ونفينا عنه ما لا يليق ، وأصل ذلك أنا عرفنا الله ـ عزوجل ـ متعاليا عن جميع معاني الغير [و] عن كل صفات يوصف بها الغير ، على ما ذكر في كتابه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] فإذا كان كذلك فلا حاجة لنا إلى تأويل اليد وما ذكروا أنه ما أراد بها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ).

معناه ـ والله أعلم ـ : أستكبرت للحال عند ما أبيت السجود له ، أم كنت في اعتقادك من العالين أي المستكبرين؟

ويحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ كُنْتَ) : أم صرت من العالين ، أي : استكبرت وصرت من العالين على ما في قوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ، أي : صار من الكافرين.

ثم حرف الشك والاستفهام من الله قد ذكرنا أنه على الإيجاب والقطع كأنه قال : بلى كنت في [علم] الله أنك تكفر.

أو يقول : صرت من العالين ، أي : ممن يطلب العلو ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِرْعَوْنَ

٦٤٧

عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).

ظن إبليس ـ عليه لعنة الله ـ أن النار لما كان من طبعها الارتفاع والعلو ومن طبع الطين التسفل والانحدار أن الذي طبعه الارتفاع والعلو خير من الذي طبعه التسفل والانحدار ؛ لذلك قال ـ والله أعلم ـ : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).

أو لما رأى أن إصلاح الأشياء كلها ونضجها بالنار فقال [هذا] عند ذلك.

لكن لو نظر الملعون وحقق النظر ، لعلم أن الطين خير من النار ؛ لأنه من الأرض ، والأرض كالأصل والأم لغيرها ؛ لأن الأشياء يكون صلاحها ونضجها بالنار [و] أول بدئها من الأرض ، كالابن من الأم الوالدة على ما ذكرنا ، والله الموفق.

ثم كفره بإبائه السجود له لما لم ير أمر الله له بسجود من هو خير وأعلى لمن دونه حكمة وحقّا ، فكفر لما رأى أنه وضع الأمر في غير موضع الأمر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاخْرُجْ مِنْها).

قال بعضهم (١) : أي : اخرج من الجنة.

وقال بعضهم : أي : اخرج من السماء إلى الأرض.

وقال بعضهم : أي : اخرج من الأرض إلى جزيرة البحر ، والله أعلم بذلك ، وليس لنا أن نتكلف القطع على القول فيه : أن أمره بالخروج من كذا ، وقد عرف اللعين أنه بما ذا أمره بالخروج منها.

ثم ذكر مرة (فَاخْرُجْ مِنْها) ، ومرة قال : (فَاهْبِطْ مِنْها) [الأعراف : ١٣] ونحو ذلك من الألفاظ المختلفة ؛ وكذلك ما ذكر مرة قال : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، وقال فيما وضع آخر : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢] ، وقال في موضع : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) و (تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر : ٣٢] ونحو ذلك على الألفاظ المختلفة ، فذلك كله يدل على أن ليس على الناس حفظ الألفاظ والحروف ، وكذلك ما ذكر في القصص على اختلاف الألفاظ مكررة معادة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ).

أي : لعين ، كأنه قال : فإنّك لعين على ألسن الناس ، ليس يذكره أحد من أعدائه وأتباعه وأوليائه إلا وقد لعنه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ).

كانت اللعنة عليه إلى يوم الدين هي خذلانه وطرده عن رحمته ودينه ؛ لما علم أنه لا

__________________

(١) قاله ابن جرير (١٠ / ٦٠٦).

٦٤٨

يعود إلى اختيار توحيده وطاعته أبدا ، وإلا كان عليه لعنته في الدنيا والآخرة : فأما في الدنيا ما ذكرنا من خذلانه وتركه في العمر ، وأما في الآخرة مطرود عن جنته ، والله أعلم.

ثم سأل ربه أن ينظره إلى يوم يبعثون فأجاب حيث قال ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) وإنما أنظره ـ والله أعلم ـ لأنه يختار الكفر والخلاف له أبدا.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).

هو يوم اختلف فيه :

[قال بعضهم :] (الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) : هو يوم البعث ، إلى ذلك أنظره على ما سبق منه السؤال على النظرة إلى يوم البعث حيث قال : (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

وقال بعضهم : (الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) : هو النفخة الأولى.

وقال بعضهم : لم يبين له ذلك الوقت ؛ ولذلك ذكر منه الخوف ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ)(١) ، ولو كان بين له الوقت المعلوم لكان لا يخاف دون ذلك الوقت ، ولكنه يأمن فدل خوفه أنه لم يبين له ذلك وهو معلوم عند الله ، والله أعلم.

وقوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).

وقال ـ عزوجل ـ : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢] كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان أن تغويهم إلا من كان في علمه أنه يختار الغواية ويؤثر اتباعه ؛ فيكون له عليهم سلطان الإغواء ، فأما من كان في علم الله أنه يختار الإيمان والتوحيد ، فلا سبيل لك عليهم ، والله أعلم.

ثم قال بعضهم : (الْمُخْلَصِينَ) للتوحيد ، فإن كان ذلك فيكون قوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) يكون كفرا.

وقال بعضهم : (الْمُخْلَصِينَ) من الهلاك ، فإن كان ذلك فيكون قوله : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) ، أي : لأهلكنهم.

وقال بعضهم : (الْمُخْلَصِينَ) من كل ذنب وكل معصية ، لكن الوجهين الأولين أشبه وأقرب ، والله [أعلم].

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ).

قرئ بنصبهما جميعا : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) ، وقد قرئ أيضا برفع الأول ونصب الثاني : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَ).

__________________

(١) زاد أولها في أ : نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وهي في الأنفال (٤٨).

٦٤٩

فمن قرأه بالرفع فيكون معناه ـ والله أعلم ـ (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) أي : مني يكون الحق على هذا.

ومن قرأه على النصب فهو على التأكيد ؛ تأكيدا على ما ذكر على أثره كأنه يقول : أقول الحق الحق ، وهو يقول : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ).

ثم جائز أن يحتج بهذه الآية على المعتزلة فيقال لهم : أراد الله تعالى أن ينجز ما وعد وأن يصدق خبره الذي أخبر أنه كان يكون ، أو لم يرد أن ينجز ما وعد وألا يخرج خبره على الصدق.

فإن قالوا : لم يرد ، أعظموا القول ؛ لأنهم زعموا أنه أراد أن يخلف ما وعد ، وأن يكذب في خبره ، فذلك عظيم القول حيث وصفوا ربهم بالسفه ؛ لأن من أراد أن يخلف وعده وأن يكذب في خبره ، فهو سفيه على زعم من قال ذلك.

وإن قالوا : أراد أن ينجز ما وعد وأن يصدق خبره ، فيقال لهم : أراد أن يتبعوا إبليس ، أو أراد أن يؤمنوا ولا يتبعوه؟

فإن قالوا : أراد أن يؤمنوا ولا يتبعوا إبليس ، فيقال : أراد أن يجور ويظلم على زعمكم ؛ لأنه أراد أن يملأ جهنم ولم يرد ما يستوجبون ذلك ؛ فدل على أن الله تعالى علم أنه يكون منهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)(٨٨)

وقوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ).

هذا يحتمل وجوها :

أحدها : لا أسألكم على ما أدعوكم من الشرف والذكر في الدنيا والآخرة من أجر ، ولا أجد في الشاهد من يبذل للآخر من الشرف أو الذكر ولا يعطيه ذلك إلا بأجر ، فكيف تتركون اتباعي ولا تقبلون ذلك مني؟!

أو يقول : لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر ، فيمنعكم ثقل ذلك الأجر وذلك الغرم عن إجابتي ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [الطور : ٤٠] أي : لست تسألهم أجرا حتى يمنعهم ثقل ذلك الغرم عن الإجابة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).

قال عامة أهل التأويل (١) : وما أنا ممن تكلف ذلك من تلقاء نفسي ، ولا أمرتكم بما

__________________

(١) قاله قتادة بنحوه أخرجه ابن جرير (٣٠٠٣٧).

٦٥٠

آمركم إلا بالوحي ، والمتكلف عند الناس في الظاهر : هو الذي يفعل ويقول بلا إذن.

وقال أبو عوسجة : المتكلف : هو الذي يتكلف ما لا يعنيه ويفعل ما لم يؤمر به.

وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ، أي : ما أنا من المتحملين مما حملتم إذا خالفتموني ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ).

أي : ما هذا القرآن وهذا النبأ إلا عظة وذكر لمن انتفع به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).

يحتمل نبأ القرآن.

ويحتمل البعث والحساب ، أي : يعلمون أن ذلك حق بعد حين.

ثم ذكر ـ عزوجل ـ في جهنم أنه يملؤها ولم يذكر في الجنة أنه يملؤها ، فجائز أن يكون ما ذكر من الملء هو أن يضيقها عليهم ، وفي التضييق زيادة في الألم.

أو أن يكون في سعة الجنة حكمة ولا يكون ذلك في جهنم ؛ لأن السعة تطلب للنزهة والانتشار في البساتين وغير ذلك وليس ذلك في جهنم ، والله أعلم بالصواب.

* * *

٦٥١

سورة الزمر وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧)

قوله ـ عزوجل ـ : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

يقول ـ والله أعلم ـ : إن الكتاب الذي يتلوه رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدعوكم إليه هو تنزيل من عند الله ؛ كقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ ...) الآية [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) على أثر قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) يخرج ـ والله أعلم ـ أنه يدعوكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اتباع الكتاب والطاعة ، ليس لذل به يطلب بكم العز أو الضعف في التدبير فيطلب بكم الاستعانة فيه ؛ لأنه عزيز بذاته حكيم لا يلحقه الخطأ أو الضعف في التدبير ، ولكن إنما أمركم بما أمر ونهاكم عما نهى لتكتسبوا لأنفسكم ولتنتفعوا به ، فأمّا الله ـ سبحانه ـ عزيز بذاته غني حكيم بنفسه.

وقال بعضهم : العزيز هو الذي لا يعجزه شيء ، والحكيم هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير.

وقال بعضهم : هو العزيز ؛ لأن كل عزيز دونه إنما يصير ذليلا عنده [و] عز من دونه عند عزه ذلا ، والحكيم هو المصيب في فعله وتدبيره ، وقيل : هو الذي وضع كل شيء موضعه.

وقال بعض أهل التأويل : العزيز هو المنيع ، وتأويل المنيع : الممتنع عن جميع مكائد الخلق وجميع حيلهم بالضرر له ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع ، والله أعلم.

٦٥٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ).

يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (بِالْحَقِ) أي : بالحق الذي لله عليكم ، وبالحق الذي لبعضكم على بعض ، أو كما [قال] أهل التأويل (بِالْحَقِ) ، أي : للحق ، أي : أنزلناه للحق ، لم ننزله عبثا باطلا لغير شيء ، ولكن أنزلناه للحق لحقوق ولأحكام ومحن وأمور ، والله أعلم.

وقوله : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ).

جائز أن يكون ما ذكر من إنزاله الكتاب بالحق ذلك هو ما أمره من العبادة له ، أمره بوفاء ذلك الحق له.

ثم يحتمل قوله : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) وجهين :

أحدهما : أصل في الاعتقاد ، أي : اعتقد جعل كل عبادة وطاعة لله خالصا لا تعتقد لأحد شركا.

والثاني : في المعاملة : أن كل [عمل] عبادة وطاعة اجعله لله خالصا لا تجعل لغيره فيه شركاء. والله أعلم.

وأما أهل التأويل قالوا : (فَاعْبُدِ اللهَ) : وحد الله (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ، وتأويل هذا أن اجعل الوحدانية والألوهية لله في كل شيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ).

أي : ولله شهادة الوحدانية والألوهية في كل شيء.

ويحتمل أيضا قوله ـ عزوجل ـ : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ، أي : دين الله هو الدين الخالص ؛ لأنه دين قام بالحجج والبراهين ، وأما غيره من الأديان فهو دين بهوى النفس وأمانيها لا بالحجج والآيات ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى).

كأن فيه إضمارا يقول : والذين اتخذوا من دونه أولياء وعبدوها قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، وقالوا في موضع آخر : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] عرفوا أن ما كانوا يعبدون من الأوثان وغيرها ليسوا بآلهة في الحقيقة ولا لهم الألوهية حقيقة ، وأن حقيقة الألوهية لله ، لكنهم سموها : آلهة ؛ لأنهم كانوا يعبدونها ، وكل معبود عند العرب إله ؛ لأن الإله هو المعبود ، وقدروا تسمية كل معبود : إلها ؛ لذلك سموها : آلهة وإن عرفوا أن ليست لهذه الأشياء ألوهية حقيقة ، وأن ذلك لله عزوجل.

٦٥٣

ثم إن الذي حملهم على عبادة ما عبدوا من دون الله وجهان :

أحدهما : لما لم يروا أنفسهم تصلح لعبادة الإله العظيم أو تقدر على القيام بخدمته ، فعبدوا هذه الأشياء رجاء أن تقربهم عبادة هؤلاء إلى الله زلفى ، وأن هؤلاء شفعاؤهم عنده ، وذلك لما رأوا في ملوك الدنيا أن كل أحد [لا] يجد السبيل إلى خدمة ملوكها ، أو [لا] يقدر على القيام بين يديه والخدمة له ، فيخدم من اتصل بالملك ومن عظم قدره ومنزلته عند الملك ؛ ليقربه ذلك المخدوم له إلى الملك إذا بدت له الحاجة أو الشفاعة ، وعلى ذلك ما ذكر في قصة فرعون أنه كان اتخذ لقومه أصناما يعبدونها من دونه ، لما لم يروا كل أحد منهم يصلح لخدمته ، وهو ما أغرى قومه على موسى حيث قالوا : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف : ١٢٧] ونحو هذا أوجه.

والثاني : عبدوهم ؛ لما رأوا آباءهم قد عبدوها ، وتركوا على ذلك حتى ماتوا ، فاستدلوا بتركهم على ذلك على أن الله قد كان رضي بعبادتهم الأصنام وأمرهم بذلك لقولهم إذا فعلوا فاحشة : (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] ؛ ولذلك قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨] ، وقولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [النحل : ٣٥] استدلوا بتركه آباءهم على ما عبدوا من الأصنام على ذلك ولم يعاقبهم في الدنيا ، وكانوا لا يؤمنون بالآخرة حتى يزجرهم إليها على أن الله قد رضي بذلك ، وأنهم عن أمر منه فعلوا ذلك ، فرد الله ذلك عليهم فقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

يحتمل قوله : (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر : ٣] في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم اختلفوا فيه ؛ فمنهم من قال : إنه ساحر ، ومنهم من قال : إنه شاعر ، وإنه مجنون ، وإنه مفتر ونحوه ، فيخبر أنه يحكم بينهم ؛ ليبين لهم أن ما ذكروا [ابتغوا فيه] أهواءهم.

أو يحكم بينهم أن الأصنام التي عبدوها لا تشفع لهم ، وأن عبادتهم لا تقربهم إلى الله زلفى ، وقد بين لهم في الدنيا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بشاعر ولا ساحر ولا كذاب على ما قالوا ؛ لما أنبأهم وأخبرهم بأخبار عرفوا أن الساحر والشاعر لا يعرف مثلها ، نحو ما أخبرهم بنصر الله إياه والظفر له عليهم ـ أعني : على الأعداء ـ فكان على ما أنبأهم بأنباء وأخبار عرفوا أنه صادق في ذلك ما لا يستفاد مثلها بالسحر وبالكهانة إلا بالوحي من الله ـ عزوجل ـ لكنهم عاندوا وكابروا ؛ وكذلك بين لهم أيضا ما عرفوا أن الأصنام التي عبدوها في الدنيا لا تملك لهم الشفاعة يوم القيامة ، حيث ابتلاهم بأهوال وأفزاع بركوب البحار والتضييق عليهم حتى فزعوا إلى الله في كشف ذلك عنهم ودفعه عنهم ، لم يفزعوا إلى

٦٥٤

الأصنام التي عبدوها ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] ، ونحو ذلك ما ابتلاهم بالشدائد والبلايا عرفوا أن معبودهم الذي عبدوه لا يملك دفع ذلك عنهم ولا كشفه ، وإنما المالك لذلك هو الله المعبود الحق.

ثم تناقض قولهم ؛ لأنهم كانوا ينكرون رسالة النبيين بقولهم : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] فيرون للخشب والأشجار الألوهية والعبادة ، فذلك تناقض ظاهر.

قال بعضهم (١) في قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي : مقربة فيشفعون لنا إلى الله تعالى.

وقوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ).

قال أبو بكر : لا يهدي أحدا بالضلال والكفر ، ولكن إنما يهدي بضد الضلال والكفر ، أو كلام نحوه.

وقال الجبائي : لا يهدي طريق الجنة في الآخرة ، أي : لا يهدي من كان في الدنيا كاذبا كفارا في الآخرة طريق الجنة.

وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) من صلة قوله ـ عزوجل ـ : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] كفار لنعمه بصرفهم العبادة إلى غير المنعم.

وقال جعفر بن حرب : إن الله لا يهدي إلى الزيادات التي يهدي ويعطي من اختار الهدى ؛ لأنه يقول : إن من اختار الهدى واهتدى كان عند الله لطفا ورحمة يعطي ذلك زيادات وفضل زيادة على ما كان اختاره ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ٤٧].

هذه التأويلات كلها للمعتزلة ، وأما عندنا فإن قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) من هو في علمه أنه يختار الكفر وقت اختياره الكفر والضلال ، أي : لا يوفقه للهدى ولا يعينه وقت اختياره الكفر ، ولكنه يخذله ؛ وكذلك يقول في قوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) و (الْكافِرِينَ) ونحوه أي : لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر والظلم ، والله الموفق.

والثاني : (لا يَهْدِي) ، أي : لا يخلق فعل من هو فعل كفر فعل هدى ، ولكن يخلقه

__________________

(١) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير (٣٠٠٥٢).

٦٥٥

فعل كفر وكذلك [لا يخلق] فعل من هو فعل هدى فعل كفر ، ولكن يخلق كل فعل على ما يفعله الفاعل ويختاره : يخلق فعل الكافر كفرا وفعل المهتدي فعل هدى ، يخلق كل فعل على ما يختاره الفاعل ويفعله : إن كان هدى يخلقه هدى ، وإن كان كفرا يخلقه كفرا.

وقال بعض أهل التأويل : إن الله لا يهدي من كان في علمه أن يختم بالكفر ويخرج به من الدنيا ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) يحتمل وجهين :

أحدهما : من هو كاذب كفار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : كفار أنعم الله ، وكاذب في القول ، كفار في الفعل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

ظاهر هذا أن إيجاد الولد له من المحتمل والممكن ليس من الممتنع ، وكذلك ظاهر قوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) ، ظاهر هذا الذي ذكر هو من المحتمل والممكن وكان [من] الممتنع أيضا ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ، ٩١] دلت هذه الآيات على أن إيجاد الولد من الممتنع والعظيم في العقول والقلوب جميعا.

ثم قوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

أي : لو جاز أو احتمل إيجاد الولد على ما تقولون أنتم وتتوهمون ، لاصطفى واختار مما يشاء ، هو [ما] شاء ، ليس على ما تختارون أنتم له وتشاءون : أن الملائكة بنات الله على ما تزعمون ؛ لأن العرف في الخلق أن من اتخذ لنفسه شيئا إنما يتخذ من أعز الأشياء وأرفعها وأعظمها قدرا عندهم ، لا من أخس الأشياء وأذلها ؛ وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] أي : إلى آلهتهم التي اتخذ أولئك آلهة في الحقيقة ، ولكن سماها بالذي عندهم ، وكذلك قول موسى ـ عليه‌السلام ـ : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) [طه : ٩٧] ، أي : انظر إلى الذي اتخذته إلها سماه على ما هو عنده ؛ فعلى ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ أَرادَ اللهُ) على ما في ظنونكم وتوهمكم أنه اتخذ الولد لاختار مما ذكر لا مما تقولون أنتم ، لو احتمل ذلك على ما في ظنكم وحسبانكم لكان مما ذكر.

والثاني : مبنى الاتخاذ راجع إلى البنين إذ كانت الكفرة ينسبون الملائكة إلى أنهم بناته ؛ لما عرفوا من كرامتهم على الله ـ عزوجل ـ وقربتهم عنده ، وينسبونه إلى أنهم بناته ، وإلى أن عيسى ابنه [و] إنما يتخذ الأولاد ويتبنى ليستنصروا بهم ، فبرأ الله ـ عزوجل ـ نفسه على احتمال الشكل وخوف الغلبة ، فقال : (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

٦٥٦

[و] في قوله ـ عزوجل ـ : (الْواحِدُ الْقَهَّارُ) دفع ما قالوا فيه وإحالة ذلك ؛ لما أخبر أنه واحد في الذات ، ولو كان كما ذكر هؤلاء من الولد ، لم يكن واحدا في الذات ؛ إذ كل محتمل الولد منه هو من شكل الولد ، فإذا عرفهم أنه واحد في الذات لم يحتمل الولد وما ذكروا.

وفي قوله ـ عزوجل ـ : (الْقَهَّارُ) دلالة إحالة ذلك ؛ لأنه أخبر أنه قهار ، والولد في الشاهد إنما يتخذ لأحد وجوه :

إما لوحشة أصابته فيستأنس [به].

وإما لحاجة تمسه فيدفع بالولد ذلك.

وإما لغلبة شهوة فيقضيها فيتولد من ذلك الولد.

وإما لوارثه ملكه بعد موته ، وهو دائم باق لا يزول ملكه أبدا.

وإما للاستعانة والنصرة على أعدائه.

لأحد هذه الوجوه [التي] ذكرنا يحتاج المرء إلى اتخاذ الولد ، [والله] قادر بذاته قاهر غني لا يحتمل ما ذكروا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ).

يحتمل قوله : (بِالْحَقِ) ، أي : بالحق الذي لله عليهم ، ولما لبعض على بعض من الحق.

أو أن يكون قوله : (بِالْحَقِ) أي : للحق ، وهو البعث ما لو لم يكن البعث ، لكان خلقهما عبثا باطلا على ما ذكر في آية أخرى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص : ٣٨] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥].

وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ،) أي : بالحكمة ، وهو أن جعل في خلقة كل شيء أثر وحدانيته وألوهيته ما يعرف كل أنه فعله وإن لم يشاهد خلقه ، وهو على ما يكون ذلك في فعل أحد من الخلائق أثر معرفة فاعله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) ، كما ذكر في آية أخرى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحديد : ٦] يذكر دلالة وحدانيته ؛ حيث جعل منافع الليل متصلة بمنافع النهار ، ومنافع النهار متصلة بمنافع الليل ، على اختلافهما وتناقضهما وتضادهما ؛ ليعلم أنهما فعل واحد ، وكذلك ما جعل من منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما ؛ ليعلم أن منشئهما واحد ، إذ لو كان عددا لامتنع ذلك ؛ إذ العدد المعروف من عادة الملوك انفراد كل بملكه وسلطانه ، والاستيلاء

٦٥٧

على ما استوى وقبض بزّ الآخر و [منع] نفاذ أمره في سلطانه ، فإذا لم يمتنع ذلك دل أنه فعل واحد ، وكذلك ما ذكر من تسخير الشمس والقمر لهم ولمنافعهم وجريهما في يوم واحد مسيرة ألف عام ، أو ما ذكر من غير أن يعرف أحد سيرهما أنهما يسيران وقت سيرهما إلا بعد قطعهما ذلك ، دل أن لهما منشئا وأنه واحد ، ودل اتساقهما وجريانهما على سير واحد منذ كانا إلى آخر ما يكونان ويدوران على أن منشئهما واحد عالم مدبر عرف حاجة [الخلق] إليهما أبد الآبدين ومنافعهما بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

أي : كل مما ذكر يجري إلى الوقت الذي جعل له لا يتقدم ولا يتأخر ولا ينقطع ما كان بالخلق حاجة [إليه] ، والله اعلم.

أو إلى منازل معلومة لا يجاوزانها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ).

هو العزيز بذاته لا يتعزز بما ذكروا له من الأولاد ولا بطاعة من أطاعه ، الغفار لمن كان له أهلا للمغفرة ما لا يخرج مغفرته إياه عن الحكمة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ).

قال بعضهم : أي : يدخل أحدهما على الآخر ؛ كقوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ...) الآية [٦].

وقال بعضهم (١) : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) أي : يغشي أحدهما بالآخر ؛ كقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف : ٥٤].

وقال بعضهم : (يُكَوِّرُ) ، أي : يلف هذا بهذا ، وهو [من] يكور العمامة ، ومنه قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، أي : جمعت ولفت ، وأصل التكوير : اللف والجمع ؛ وهو قول أبي عوسجة والقتبي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها).

ظاهر هذا أنه خلقنا من تلك النفس قبل خلق زوجه منها ؛ لأن حرف (ثم) إنما هو حرف اتباع وإرداف وحرف ترتيب لا حرف جمع ، فإذا كان كذلك فظاهره يوجب ما ذكرنا ، لكن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك وتفسيره :

ذكر عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في بعض الروايات أنه تأول في ذلك ، وقال : ـ

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠٠٥٥) ، وعبد الرزاق وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٦٠٣).

٦٥٨

عزوجل ـ (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أو كلام نحو هذا.

وعندنا أن قوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) يخرج على ظاهر ما ذكر ؛ لأن الخلق : هو التقدير في اللغة كأنه قال ـ عزوجل ـ : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي : قدركم جميعا على كثرتكم من أول ما أنشأكم إلى آخر ما ينشئكم من تلك النفس الواحدة منها قدرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها).

ثم أخرجنا منها ـ من تلك النفس ـ زوجها ، وإلا كان تقديره إيانا منها كان قبل [جعل] زوجها منها وهو الظاهر على ظاهر ما خرج الكلام ، والله أعلم. ثم كان منه خلق ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ).

ظاهر الإنزال هو أن ينزل من علو مرتفع إلى تسفل ومنحدر ، لكن اللغة لا تمتنع عن استعمال لفظ الإنزال لا على حقيقة الإنزال من علو إلى سفل ، يقال : نزل فلان بأرض أو بمكان كذا وإن لم يكن هناك منه نزول من علو إلى منحدر وسفل ، فعلى ذلك هذا ، وأصله أن كل حرف من حروف الإنزال وغيره مما أضيف إلى الله ـ عزوجل ـ مما يستقيم صرفه إلى خلقه أن المراد منه خلقه ؛ نحو قوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [الأعراف : ٢٦] ، (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [الحديد : ٢٥] وغير ذلك مما يكثر ذكره فهو خلقه إياه ؛ فعلى ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) ، أي : خلق لكم من الأنعام ما ذكر على ما ذكر : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ، أي : خلق لكم ما ذكر ، فعلى ذلك حرف الإنزال ، والله أعلم.

ثم ظاهر قوله : (مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) يجيء أن يكون على أحد وجوه ثلاثة :

إما ألا يسمي الأنعام ولا يكون إلا الثمانية الأزواج التي ذكر أنه خلقها لنا ، فإن كان على هذا فيكون حرف (مِنْ) هاهنا صلة ، كأنه قال ـ عزوجل ـ : «وأنزل لكم أنعاما وهي ثمانية أزواج».

أو أن يسمي كل ما خلق من الدواب : أنعاما ، إلا أنه لم يحل لنا منها إلا الثمانية الأزواج التي ذكر ، فإن كان هذا فيكون حرف (مِنْ) حرف تبعيض وتجزئة.

أو أن يسمي كل الدواب : أنعاما إلا أنه لم يحل لنا كل شيء منها من جميع أنواع الانتفاع بها من الأزواج التي ذكر ، فإنه قد أحل لنا كل شيء من هذه الأصناف الثمانية من لحومها وألبانها وأصوافها وكل شيء منها ، وأما ما سوى ذلك من الأنعام ، فإنه لم يحل لنا

٦٥٩

كل شيء منها من اللحوم وغيرها ، ولكن أحل لنا الانتفاع بظهورها من نحو الحمير والبغال وغير ذلك مما يشتهى ، والله أعلم.

ثم الثمانية الأزواج التي ذكر أنها خلقها لنا في هذه الآية هي التي ذكرها في سورة الأنعام وهو قوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ...) [الأنعام : ١٤٣] إلى قوله : (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ...) [الأنعام : ١٤٤] إلى آخر ما ذكر ، فيشبه أن يكون ما ذكر من ثمانية الأزواج أنه أنزل لنا في سورة الزمر التي هي أحل لنا كل شيء منها ، وأما ما سوى ذلك فإنه إنما أحل لنا الانتفاع بها لم يحل لنا أكلها ؛ لأنه ذكر في سورة الأنعام الأكل ، ثم ذكر على أثر هذه الثمانية الأزواج الإبل والبقر والضأن والمعز ، حيث قال ـ عزوجل ـ : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [الأنعام : ١٤٢] ، ثم قال ـ عزوجل ـ : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ...) [الأنعام : ١٤٣] إلى آخر ما ذكر ، وهذا يدل على أن قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) إنما هو مما ذكر ، أي : لا أجد محرما من هذه الأصناف الثمانية إلا ما ذكر من الدم والميتة ولحم الخنزير.

ثم يخرج استثناء لحم الخنزير مخرج استثناء غير جنس المذكور على إضمار كون ذلك الغير فيه ، وذلك غير جائز في الكلام ؛ كقوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ١] كأنه قال : أحلت لكم بهيمة الأنعام والاصطياد (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) [المائدة : ١] ؛ فعلى ذلك الأول كأنه أضمر فيه استثناء لحم الخنزير منه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ).

قال أهل التأويل (١) : تحويله من حال إلى حال من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة حتى يتم خلقا مستويا.

(فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ).

قيل (٢) : الرحم والبطن والمشيمة ، وقيل : الظهر ، يخبر عن قدرته وعلمه [و] تدبيره : أنه حيث قدر على خلق الإنسان وكل خلق في تلك الظلمات الثلاث والتسوية بين كل شيء منه من اليدين والرجلين والعينين والأذنين والسمعين والبصرين وقسمة الأعضاء على السواء حتى لا يزداد إحدى اليدين على الأخرى ، وكذلك إحدى الرجلين وإحدى العينين

__________________

(١) قاله عكرمة أخرجه ابن جرير (٣٠٠٦٢ ، ٣٠٠٦٥) ، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي أيضا.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٠٠٧١) ، وهو قول عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد أيضا.

٦٦٠