تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٢٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) ، الباطل : هو الفعل الذي يذم عليه [فاعله]. والحق : هو الفعل الذي يحمد عليه فاعله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا).

لم يظن أحد من الكفرة أن الله خلق شيئا باطلا ، لكن يكون خلق ما ذكر من السموات والأرض وما بينهما من الأهل مخلوقا باطلا على ما عبد أولئك الكفرة وفي حسبانهم ؛ لأن عندهم أن لا بعث ولا حياة بعد ما ماتوا ، فكان خلق ذلك كله لو لم يكن بعث ولا نشور خلقا باطلا لوجهين :

أحدهما : أنه لو لم يكن بعث يحصل إنشاؤه إياهم للفناء خاصة ، وإنشاء الشيء وبناؤه للفناء خاصة لا لعاقبة تقصد عبث باطل سفه ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ...) إلى آخر الآية [المؤمنون : ١١٥] ، صير خلقه إياهم إذا لم يكن رجوع إليه عبثا ؛ لذلك كان ما ذكرنا.

والثاني : أنه لو لم يكن بعث ، لكان خلقهم غير حكمة ؛ لأنه قد جمعهم جميعا في نعيم هذه الدنيا ولذاتها : الولي ، والعدو ، وفي الحكمة التفريق والتمييز بينهما ، فلو لم يكن دار أخرى ليفرق بينهما ، لكان في خلقهم غير حكيم ، وعندهم جميعا أنه حكيم.

ثم يقول قتادة في قوله ـ عزوجل ـ : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) يقول : لم يذكر الله ـ عزوجل ـ من شأن داود ـ عليه‌السلام ـ ما ذكر إلا أن يكون داود قضى نحبه من الدنيا على طاعة الله والعمل له والعدل فيما ولاه الله عزوجل ، ولكن الله تعالى وعظ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين موعظة بليغة شافية ، ليعلم من ولي [من] هذا الحكم شيئا أنه ليس بين الله وبين العباد سبب يعطيهم خيرا ولا يدفع عنهم به شرّا إلا بطاعة الله والعمل بما يرضى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ).

أي : جعلنا لك الخلافة فيمن ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).

هو صلة قوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : كان ظنهم أن لا بعث ولا نشور ، فيقول ـ والله أعلم ـ : إنه لو كان على ما ظن أولئك الكفرة : أن لا بعث لكان في ذلك

٦٢١

جعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات في هذه الدنيا كالمفسدين في الأرض وجعل المتقين كالفجار ؛ إذ قد سوى بينهم في هذه الدنيا وجمعهم في لذات هذه الدنيا وشهواتها وفي حسناتها وسيئاتها ، وفي الحكمة التفريق بينهما والتمييز ، وقد سوى بينهما في الدنيا على ما ذكرنا من جمعهم في المحنة بالخير والشر ، فلو كان على ما ظن أولئك أن لا بعث ولا حياة ، لكان ذلك جمع وتسوية بين الولي والعدو ، وفي الشاهد من سوى بين من عاداه وبين من والاه ، وجمع بينهما في البر والجزاء كان سفيها غير حكيم ؛ فعلى ذلك الله ـ سبحانه ـ لو لم يجعل دارا أخرى يفرق بينهما كان غير حكيم ؛ إذ قد سوى بينهما وجمع ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ثم من الناس من يقول : يجب أن يفرق بينهما في الدارين جميعا في الدنيا والآخرة ، وقد فعل حيث سمى هؤلاء : ضلالا وهؤلاء مؤمنين ، وخذل الكفار ، وأذلهم ، ووفق المؤمنين وأعزهم ؛ وهو قول المعتزلة.

ومنهم من يقول : لا يجب ذا في الآخرة ؛ لأن الدنيا دار محنة وابتلاء يمتحن الفريقان جميعا بالخير مرة والشر ثانيا ، وبالحسنة تارة وبالسيئة أخرى على ما أخبر حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] وما ذكر : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ ...) الآية [الأنبياء : ٣٥] ، أخبر ـ عزوجل ـ أنه يمتحنهم ويبتليهم بالخير والشر وبالسيئة والحسنة ، وذلك للفريقين جميعا على ما ذكرنا من جمعه إياهم جميعا في الحالين ، [وأما الآخرة] فإنما هي مجعولة للجزاء خاصة ، فهنالك يقع التفريق والتمييز بينهما لا فيما فيه المحنة والابتلاء ، والله أعلم.

وأما قولهم : إنه قد فرق بينهما ؛ حيث سمى هؤلاء : ضلالا ، وهؤلاء : مؤمنين ، وخذل هؤلاء ، ووفق أولئك فليس ذلك بتفريق بينهما ؛ لأنه إنما سماهم : ضلالا كفرة بفعلهم الذي اختاروه وصنعوا ، أو أمر آثروه على غيره فإنما هو تسمية فعلهم لا جزاء يجزون (١) ، والله أعلم.

ثم في قوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ـ دلالة لزوم الحجة والوعيد على الظن والجهل ، وإن لم يتحقق لهم العلم بذلك إن مكنوا من العلم وجعل لهم سبيل الوصول إلى معرفة ذلك ، وإنما لزمهم ذلك الوعيد والحجة بما هم ضيعوا معرفة ذلك والعلم به ؛ لأنهم لو تأملوا فيه ونظروا ، لوقع لهم علم ذلك ، لكنهم تركوا علم ذلك ، وضيعوه ؛ فلم يعذروا في ذلك ، وعلى ذلك نقول في القدرة : إن من منع عنه القدرة ، وحيل

__________________

(١) في أ : يخرجون.

٦٢٢

بينه وبينها كان غير مكلف بها ولا مخاطبا معذورا ، ومن لم تمنع عنه ومكن [من] ذلك إلا أنه ترك العمل به كان مكلفا به غير معذور ؛ لأنه هو الذي ضيع ذلك وتركه بالاختيار ، والأول غير مضيع لها ولا تارك لذلك أمر ؛ وذلك على المعتزلة ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ).

سماه : مباركا ؛ لأن من اتبعه وتمسك به وعمل بما فيه صار شريفا مذكورا عند الناس عظيما على أعينهم وقلوبهم ، وذلك عمل المبارك أن ينال كل بر وخير يكون أبدا على الزيادة والنماء ، والله اعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).

أخبر أنه أنزله ؛ ليدبروا في آياته ؛ ليعرفوا ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يتبع ، إنما يعرف ذلك بالتأمل والتدبر والتفكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).

أي : ليتذكر وليتعظ أولو الألباب بما فيه من المواعظ والآداب وغير ذلك.

قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)(٤٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

أثنى الله ـ عزوجل ـ على داود وابنه سليمان ـ عليهما‌السلام ـ بالأوبة إليه والرجوع ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ في داود ـ عليه‌السلام ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص : ١٧] وقد فسرنا الأوّاب.

وقال في سليمان ـ عليه‌السلام ـ : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ...) إلى آخر ما ذكر.

دل ذكر قوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) على أثر قوله : (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أنه إنما كان أوابا بالذي ذكر منه ؛ لأن حرف (إِذْ) لا يذكر إلا عن شيء سبق ، وسمى ـ عزوجل ـ داود ـ عليه‌السلام ـ : أوابا بما ذكر من تسبيحه بالعشي والإشراق والفزع إليه بما هو به ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) :

٦٢٣

قيل : الصافنات (١) : هو الخيل.

وقال بعضهم (٢) : الصافنات : هن القائمات على ثلاث قوائم ، رافعات إحدى الرجلين ، أو إحدى اليدين على طرف الحافر.

وقال بعضهم : الصافنات : هن القائمات لا غير ؛ وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من تمنى أن يقوم له الرجال صفونا ـ أي : قياما ـ فليتبوأ مقعده من النار» (٣) أو كلام نحوه. والجياد (٤) : قيل : السراع ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ).

دل ما سبق من ذكر الصافنات الجياد بالعشي على أن قوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) إنما أراد به تواري الشمس بالحجاب ؛ إذ ليس شيء يتوارى بالحجاب في ذلك الوقت سوى الشمس.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) حتى شغلني عن ذكر ربي ؛ إذ المحبة يجوز أن يكنى بها عن الإيثار ، والله أعلم.

والثاني : إني أحببت حب الخير حبا حتى شغلني عن ذكر ربي حتى توارت الشمس بالحجاب على التقديم والتأخير ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (حُبَّ الْخَيْرِ) يجوز أن يكنى بالخير عن الخيل نفسه ؛ على ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» (٥) ، سمى الخيل : خيرا ؛ فعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) ، والله أعلم.

وقال بعضهم (٦) : صفونها : قيامها وبسطها قوائمها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ).

قال عامة أهل التأويل (٧) : أي : جعل يعقر سوق الخيل ويضرب أعناقها ـ والسوق : هو جماعة الساق ـ لما شغلته عن ذكر ربه وعن صلاة العصر حتى غفل عنها ، فجعل

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٨٧٣) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٧٩).

(٢) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير (٢٩٨٧٥).

(٣) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (٩٧٧) ، وأحمد (٤ / ٩١) ، وأبو داود (٥٢٢٩) ، والترمذي (٢٧٥٥).

(٤) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩٨٧٧) ، وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٥٧٩).

(٥) أخرجه البخاري (٦ / ٦٦) في الجهاد : باب الجهاد ماض (٢٨٥٢) ، ومسلم (٣ / ١٤٩٢) كتاب الإمارة : باب الخيل في نواصيها الخير (٩٧ ـ ١٨٧٢).

(٦) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٨٧٣) وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٧٩).

(٧) قاله الحسن وقتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٨٨٩) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٥٧٩).

٦٢٤

يقطع سوقها ويضرب أعناقها كفارة عما شغل عن ذكر ربه ، ثم إن ثبت ما ذكروا من عقر السوق والأعناق أنه على الحقيقة فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : أنه كان ذلك في شريعته جائزا ، وإن كان في شريعتنا لا يجوز ، نحو ما ذكر عنه من تعذيب الهدهد وغيره حين تفقده ولم يجبه حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ...) الآية [النمل : ٢٠ ، ٢١] ، فمثله لا يجوز تعذيب الطير في شريعتنا ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكروا من عقر الخيل وضرب الأعناق له جائزا في شريعته وإن كان ذلك لا يجوز عندنا ، والله أعلم.

أو أن يكون ذلك منه قبل النهي عن القتل ، ثم جاء النهي عنه بعد ذلك فحرج عليه ذلك وعلينا جميعا.

وجائز أن يخرج تأويل الآية على غير حقيقة عقر الساق وضرب الأعناق لكن ما ذكر من الأعناق يكون كناية عن الذبح ، وقوله ـ عزوجل ـ : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ) كناية عن التسليم إلى الناس ، أو أن يكون ما ذكر من المسح بالساق والأعناق كناية عن مسح وجهها ورأسها بعد ما ردوها عليه ، والتسليم إلى الناس من غير أن كان هناك عقر أو ذبح أو كفارة عما غفل عن ذكر ربه.

قال الحسن : قال سليمان ـ عليه‌السلام ـ : والله لا يشغلن عن عبادة ربي أحد ما عليك ، لكن كشف عراقبها وضرب أعناقها.

ثم اختلف في تلك الخيل التي عرضت عليه ، فشغلته عن ذكر الله ، ففعل ما ذكر : قال بعضهم (١) : إنها خيول ، أخرجها الشياطين من مروج البحر لسليمان ـ عليه‌السلام ـ لها أجنحة تعدو وتطير.

وقال بعضهم : لا ، ولكن كانت خيلا ورثها من أبيه داود ـ عليه‌السلام ـ وكان داود ـ عليه‌السلام ـ أصابها من العمالقة ، وقال : وما بقي في أيدي الناس من الخيل فمن نسل بقية تلك الخيل ، والله أعلم.

وقال بعضهم : لا ، ولكن أهل دمشق من العرب وأهل نصيبين جمعوا جموعا لسليمان ـ عليه‌السلام ـ فأصاب منهم ألف فرس عراب ، فعرض عليه الخيل حتى شغلته عن ذكر ربه ، ففعل ما ذكر من قطع العراقيب وضرب الأعناق ، والله أعلم.

وعن الحسن (٢) في قوله ـ عزوجل ـ : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) قال : كسر عراقيبها وضرب أعناقها ، فأبدله الله خيرا منها ، وأرسل الريح (تَجْرِي بِأَمْرِهِ ...) الآية.

__________________

(١) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير (٢٩٨٧٥).

(٢) تقدم.

٦٢٥

قال أبو معاذ : قوله ـ عزوجل ـ : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) تقول العرب : مسح علاقة السيف مسحا ، أي ضربها.

وقال القتبي : قوله ـ عزوجل ـ : (فَطَفِقَ مَسْحاً) ، أي : فأقبل يمسح يضرب سوقها وأعناقها.

وقال أبو عوسجة : (فَطَفِقَ) ، أي : أخذ ، وجعل يمسح ، أي : يقطع ؛ يقال : مسح عنقه ، أي : قطعها.

وقال القتبي : (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) يقال : هي القائمة على ثلاث قوائم وقد قامت الأخرى على طرف الحافر من يد كان أو من رجل ، والصافن في كلام العرب : الواقف من الخيل وغيرها على ما ذكر في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سره أن يقوم [له] الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار» (١) أي : يديمون له القيام.

وقال أبو عوسجة : الجياد من الخيل : السراع والواحد جواد ، ورجل جواد ، أي : سخي وقوم أجواد ، (أَحْبَبْتُ) ، أي : آثرت (الْخَيْرِ) أي : المال على ذكر ربي وفي حرف حفصة : أي ألهاني حب الخير عن ذكر ربي ، أي : أشغلني.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ).

اختلف أهل التأويل في سبب فتنة سليمان ـ عليه‌السلام ـ الذي ذكر أنه ـ عزوجل ـ فتنه وأنه ألقى على كرسيه جسدا ـ اختلافا كثيرا بينا ما يطول الكتاب بذكر كل ما ذكروا ، ولا ندري أكان ذلك سبب افتتانه أم لا؟ مع علمنا أن ذلك كله لم يكن سبب فتنة إن كان وإنما كان واحد منها ولا ندري ما هو؟ لذلك تركنا ذكر ما ذكر أولئك أنه كان سبب افتتانه.

ثم يخرج قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) على وجهين :

أحدهما : أنه امتحن بأمر فكان منه في ذلك زلّة وغفلة ، فعوقب بما ذكر وعوتب بنزع ملكه.

والثاني : أنه فتنه وامتحنه بنزع ملكه منه لا بزلة منه ولا عثرة ، وصرفه إلى غيره لا بسبب كان منه وزلة ويجعله لغيره ، ثم إن له أن ينزع الملك منه بأدنى سبب كان منه وزلة فعوقب ؛ لأن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كانوا مخصوصين بالعتاب والتعيير بأدنى شيء يكون منهم ما يعد ذلك الذي كان منهم من أفضل الأعمال على ما ذكرنا فيما تقدم ، ثم كان منهم من التوبة والتضرع إلى الله ـ عزوجل ـ بالذي كان منهم لما عرفوا لأنفسهم من الخصوصية لهم من الكرامات والفضائل التي خصوا هم بها ، فرأوا على أنفسهم بما

__________________

(١) تقدم.

٦٢٦

أكرموا من أنواع الكرامات والفضائل التي خصوا هم بها من التوبة لله وفضل التضرع والابتهال إلى الله ؛ لما رأوا ما ارتكبوا كفرانا له فيما أنعم عليهم وأحسن إليهم ـ فضل تضرع وابتهال ما لا يلزم ذلك غيرهم فيماثل ما كان منهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً).

يحتمل أن يكون كرسيه ملكه ؛ فيكون ما ذكر كناية عن نزع ملكه.

وجائز أن يكون ما ذكر من إلقاء الجسد على كرسيه حقيقة الكرسي ألقى عليه جسدا يشبه جسد سليمان في الجسمية ، لا في العلم والمعرفة والبصر وما كان فيه من الكرامات ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [طه : ٨٨] ، أي : عجلا مجسدا في الجسدية ، لا أن جسد العجل الذي اتخذه هو جسد العجل المعروف ؛ فعلى ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) يشبه جسد سليمان في الظاهر في الجسدانية ، لا في أن جسده كجسد سليمان فيما فيه من اللحم والبصر وغير ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ أَنابَ).

يحتمل وجهين :

أحدهما : ثم أناب إلى الله تعالى ورجع إليه بجميع أموره إن كان فيه زلة وعثرة وأناب ورجع وأقبل وتاب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً).

يحتمل سؤال المغفرة عند سؤاله الملك أمرا فيما بينه وبين ربه ؛ لأن الملك مما يتلذذ به وفيه هوى النفس ؛ وعلى ذلك خرج سؤال زكريا ـ عليه‌السلام ـ لما سأل ربه ـ عزوجل ـ الولد سأل أمرا بينه وبين ربه في ذلك وهو ما قال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [آل عمران : ٣٨] ؛ ولذلك خرج سؤال الأنبياء فيما سألوا مما فيه اللذة وهوى النفس من الولد وغيره فرقوا في ذلك السؤال أمرا بينهم وبين ربهم ، فعلى ذلك سؤال سليمان ـ عليه‌السلام ـ والملك قربة بالمغفرة في ذلك.

ثم يحتمل سؤاله المغفرة نفسها عما يكون منه من التقصير في ذلك.

أو يكون سؤاله المغفرة سؤال الأسباب التي بها يكون المغفرة لا نفس المغفرة ؛ نحو قول نوح ـ عليه‌السلام ـ لقومه : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح : ١٠] ، وقول هود ـ عليه‌السلام ـ : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا) [هود : ٥٢] لا يحتمل أن يأمروا قومهم أن قولوا : نستغفر الله ، ولكن أمروهم أن يأتوا بالأسباب التي بها يصيرون أهلا للمغفرة وبها يستوجبون التجاوز ، فعلى ذلك يحتمل سؤال المغفرة ما ذكرنا ، والله أعلم.

٦٢٧

ثم يحتمل سؤاله الملك ـ والله أعلم ـ أنه أراد أن يستسلم له الخلق في الإجابة إلى ما يدعو إليه من وحدانية الله تعالى وجعل العبادة له ؛ لما رأى أن إجابة الناس وإقبالهم إلى ما عنده من السعة والغناء أسرع ولقوله أقبل ورغبتهم فيه أكثر ، وإذا كان ما ذكرنا وهو متعارف فيما بينهم أن إجابتهم ـ أعني : إجابة الناس ـ للملوك ولمن عنده السعة والغنى أسرع لهم وأطوع ، فكان في سؤاله الملك له نجاة الخلق كلهم بما يستسلمون له ويجيبون إلى ما يدعوهم إليه ، فينجون نجاة لا هلاك بعدها ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) يحتمل وجوها :

أحدها : أنه سأله ملكا لا ينزع عنه بعد إذ نزع مرة على ما يقوله أهل التأويل.

والثاني : سأل ربه ملكا لا يكون لأحد ما بقي وهو حي ، فيكون له آية لنبوته على ما ذكرنا [؛ إذ] لو كان مثله لأحد منهم ، لم يكن له في ذلك آية لنبوته.

والثالث : سأله ملكا ليبقى له الذكر والثناء الحسن ؛ كقول الناس : «اللهم صل على محمد وعلى آلي محمد كما صليت على إبراهيم» ونحوه ، فعلى ذلك جائز أن يكون سليمان ـ عليه‌السلام ـ أراد أن يكون مذكورا على ألسن الخلق بالثناء الحسن بالملك الذي يناله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ).

بين ما أعطاه من الملك بما ذكر من تسخير الريح له والجن والشياطين وغير ذلك ما لم يكن لأحد من ملوك الأرض سواه ، وهذا يدل على أن تسخير هذه الأشياء التي ذكر أنه سخرها لسليمان ـ عليه‌السلام ـ كان بلطف من الله ـ عزوجل ـ لا يكون ذلك بالحيل ؛ إذ لا يملك أحد من الخلائق تسخير ما ذكر من الخلق لنفسه ، ولو كان يملك ذلك بالحيل لكان يبغي لذلك مع العلم أن كل ملك لا يترك لنفسه من الحيل ما يزيد من ملكه ويبقيه إلى ما بقي وهو حي ، فإذا لم يكن دل أنه إنما كان لسليمان ذلك بالله لطفا منه ؛ ليكون آية من آيات النبوة ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ).

وصف تلك الريح باللين والرخوة في هذا الموضع ، وقال في آية أخرى : (الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ) [الأنبياء : ٨١] وصفها بالشدة :

فجائز أن يكون هي في أصل الخلقة شديدة ، لكنها صارت لسليمان ـ عليه‌السلام ـ لينة سهلة.

وقال قائلون : هي وقت الحمل شديدة ، لكنها تصير بالسير لينة سهلة ، والله أعلم.

٦٢٨

أو أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (عاصِفَةً) على أعداء الله رخاء لينة على أوليائه ، والله أعلم.

ثم فيما ذكر من جرية الريح بأمره حيث أراد وقصد ، لطف الله ـ عزوجل ـ بسليمان حين جعله بحيث تفهم الريح مراده ويفهم هو منها ما أرادت حتى كان يستعملها فيما شاء ، وكذلك ما فهم من نطق الطير وكلامه وكلام النمل الذي ذكر وتفهم هي منه ، فذلك كله لطف منه به ورحمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ).

أي : سخرنا له الشياطين حتى يستعملهم فيما شاء : بعضهم في البناء ، وبعضهم في الغوص في البحر لاستخراج ما فيه من الأموال ؛ ليتفرغ الناس لعبادة الله والخدمة لا يكون لهم شغل في البنيان ولا في مئونة أنفسهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ).

وآخرين لم يطيعوه فيما أمرهم من الأعمال في البناء والغوص وغير ذلك من الأعمال جعلهم في الأصفاد ـ وهي الأغلال تجعل في الأعناق ـ ليدفع شرهم وسوءهم عن الخلق حيث لم يطيعوه فيما أمرهم بالعمل للخلق ليتفرغوا للعبادة ، وهو ما ذكرنا من آية عجيبة لسليمان ـ عليه‌السلام ـ واللطف له حيث مكن له من استعمال ما ذكر من الجن والشياطين والريح وسخر له ذلك ؛ ليعلم أنه إنما قدر على ذلك بلطف منه لا بالحيل والأسباب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

قال عامة أهل التأويل (١) : هذا في الشياطين التي ذكر أنه سخرها له في العمل ، وآخرين في جعله إياهم في الأصفاد ، خيره بين أن يمن على من شاء منهم فيخلي سبيله ، وبين أن يمسك من شاء منهم فلا يخلي سبيله.

وقال بعضهم (٢) : ذلك التخيير في الشياطين وفي جميع ما أعطاه له من الملك يقول : إن شئت تمن فتعطيه من شئت ، وإن شئت أمسكت فلا تعط أحدا شيئا ، ولا تبعة عليك في ذلك الإعطاء ولا في الإمساك ، والله أعلم.

وجائز أن يكون لا على التخيير ، ولكن امتحن بالإعطاء لقوم والمنع عن قوم ، فيقول :

__________________

(١) قاله السدي وغيره أخرجه ابن جرير (٢٩٩٣٨).

(٢) قاله الحسن أخرجه ابن جرير (٢٩٩٣٣) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٨٨) ، وهو قول الضحاك وعكرمة ومجاهد.

٦٢٩

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ) أي : أعط وابذل لمن أمرت وامتحنت بالإعطاء من كان أهلا لذلك ، وأمسك عمن ليس هو بأهل لذلك ومن لم تؤمر بدفعه إليه ؛ وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) [الكهف : ٨٦] أن ليس على التخيير ، ولكن على تعذيب من هو أهل للعذاب مستحق له ، واتخاذ الحسن فيمن كان أهلا على ما بين في ذلك وأظهر في الآية حيث قال ـ عزوجل ـ : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ ...) الآية [الكهف : ٨٧] ، (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) [الكهف : ٨٨] ، فعلى ذلك يحتمل الأول ، والله أعلم.

وقال الحسن : قوله ـ عزوجل ـ : (عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) يقول : هذا ملكنا الذي أعطيناك يقول : أعط منه ما شئت وامنع منه ما شئت ، لا تبعة عليك فيه في الآخرة (١) ، وهو قريب مما ذكرنا في أحد التأويلين.

وقال قتادة : احبس منهم في وثاقك هذا وعذابك وسرح منهم من شئت لا حساب عليك في ذلك ، وهو قريب (٢) مما ذكرنا في أحد التأويلين : رجع أحدهما إلى الشياطين خاصة في الحبس في العمل من شاء والتسريح لمن شاء منهم ، والآخر إلى كل ما أعطاه من الملك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِغَيْرِ حِسابٍ).

أي : أعطى له من الملك ما لا يحسب من الكثرة والعدد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى).

أي : القربة ، (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي : مرجع ، هذا يدل على أن ما أعطاه من الملك لم يحطه عن مرتبته ولا نقص من قدره عند الله ؛ لأنه إنما سأله الملك ـ والله أعلم ـ لما ذكرنا من رغبته في نجاة الخلق ؛ لسرعة إجابتهم إياه إلى ما يدعوهم إليه ، لا رغبة منه في الدنيا ولذاتها وطلب العز فيها ، ولكن لما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى).

أي : الأسباب التي تزلفه إلى الله وتقربه من التوفيق والعصمة والمعونة على الطاعة ، وذلك يكون في الدنيا والأول يكون في الآخرة ، والله أعلم. وهذا من أعظم المنن واللطف حيث أمنه عن جميع أنواع التبعات ، يغفر له بغير حساب ويستر له بالزلفى وحسن المرجع ، والله أعلم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٩٩٣٧) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٨٨).

٦٣٠

ثم اختلف في سبب فتنة سليمان ـ عليه‌السلام ـ وفي ذنبه :

قال بعضهم : وذلك أن الله ـ تعالى ـ أمره ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل ، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل وجعل لها صنما فعبد في بيته كذا كذا يوما ، فابتلاه الله بسلب ملكه عقوبة له على قدر ما عبد من الصنم في بيته.

وقال بعضهم : كانت فتنة سليمان ـ عليه‌السلام ـ التي ذكر في ناس من أهل الجرادة وكانت الجرادة امرأته وكانت من أحب نسائه إليه ، وكان إذا أراد أن يحنث أو يدخل الخلاء أعطاها خاتمه وأن ناسا من أهلها جاءوا يخاصمون قوما إلى سليمان ، قالوا : وكان سليمان أحب أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم ، فعوتب حين لم يكن هواه فيهم واحدا ؛ وهو قول ابن عباس (١).

وقد ذكرنا نحن أنه يجوز أن يكون نزع الملك منه وما ذكر فتنة إياه بلا زلة ولا سبب كان منه ابتداء محنة وابتلاء ، وذلك جائز ، ولله أن يفعل ما يشاء بمن شاء وكيف شاء من نزع الملك وغيره ، والله أعلم.

وقال القتبي وأبو عوسجة : (رُخاءً) أي : رخوة لينة ، وهو من اللين ، ويقال : رجل رخو ، أي : ضعيف في عمله ، وقوم رخاء ، قال : والرخاء : الساكن ، ويقال : استرخى ، أي : سكن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

ومثله قوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦] أي : لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثر مما أعطيت.

وقال الفراء : سمى العطاء : منا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَيْثُ أَصابَ).

أي : أراد ، قال الأصمعي : العرب تقول : أصاب الصواب ، فأخطأ الجواب ، أي : أراد الصواب ، والأصفاد : الأغلال التي يشد بها الأيدي إلى العنق.

دل قول سليمان ـ عليه‌السلام ـ ودعاؤه ربه باستيهابه الملك قال : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ...) على أن الملك الذي أعطاه لم يكن حقّا عليه ؛ إذ لو كان حقا له لكان لا يستوهبه ولا يقول له : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ، ولكن يقول له : أعطني حقي ؛ إذ كل طالب حق له قبل آخر لا يوصف إذا أعطاه إياه أنه وهاب ، ولكن يؤدي حقّا عليه.

ويدل هذا أيضا على أن ليس على الله حفظ الأصلح في الدين ؛ إذ لو كان عليه حفظ

__________________

(١) أخرجه الفريابي والحكيم الترمذي والحاكم وصححه كما في الدر المنثور (٥ / ٥٨٠).

٦٣١

الأصلح في الدين وأعطى الآخر لكان لا يستوهب الملك إذ كان الملك له أصلح في الدين ، ولكن يقول : أعطني حقي ، فدل استيهابه منه الملك على أن ليس عليه حفظ الأصلح في الدين ولا إعطاء الأخير ، وأن له ألا يعطيه ، وأنّ إعطاءه الملك له فضل منه ورحمة ، والله أعلم.

فإن قيل : فيه تفضيل الغنى والسعة على الفقر والضيق ؛ لما أن الله ـ عزوجل ـ جعل الغنى والسعة آية من آيات النبوة والرسالة ، ولم ير الفقر والضيق جعلهما آية من آيات النبوة ، فهلا دل جعل الغنى آية من آيات النبوة على أنه أفضل من الفقر؟

يقال لهم : إن الغنى والملك إنما جعله آية لرسالة نبي واحد ، وأكثر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كانوا فقراء وأهل الحاجة والضيق في أمر الدنيا ، فمع ما كانوا ما ذكرنا من الضيق والفقر وقلة أعوانهم وأنصارهم نفذ قولهم وظهر ما دعوا الناس إلى ما دعوهم وهو التوحيد والإسلام ، مع وجود رغبة الناس فيمن عنده السعة والغنى ، ونفارهم ، وقلة رغبتهم فيمن عنده الفقر والضيق ؛ فدل اختيار أكثر الأنبياء الحال التي ينفر طباع الناس عنها على الحال التي يرغبون فيها مع حرصهم ورغبتهم في الدين ـ على أن الحال التي اختاروا هم أفضل وأخير من الحال الأخرى ، والله أعلم.

وكذلك قوله ـ عزوجل ـ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) [الحجر : ٨٨] نهاه أن يمد عينيه إلى ما متعوا هم ، على العلم منه أن لو مد عينيه إلى ذلك ويختاره إنما يمد ويختار ليتبعه قومه وأصحابه في أبواب الشرف والخير ، وأنه لا يختار ولا يأخذ إلا ما يحل ويطيب ؛ فدل النهي عما ذكر على العلم منه ما وصفنا على أن ذلك أفضل من الآخر ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(٤٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).

ثم لا ندري ما الذي كان من الله من تمكين الشيطان عليه حتى أضاف ذلك إلى الشيطان ، وليس لنا أن نقول : إنه مكن عليه كذا ، وفعل كذا في كذا ، وفعل به كذا ، إلا أن يثبت عن الله.

ثم وجه الحكمة في تمكين الشيطان على أوليائه فيما مكن في أمر الدين ؛ ليعلم جهة الفضل من جهة العدل وجهة الحكم من جهة الرحمة ، وأن له أن يمتحن عباده بما شاء

٦٣٢

وكيف شاء من أنواع الشدائد والبلايا على أيدي من شاء ، بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك ، وله أن يجتبي إلى من شاء من أنواع الخير والنعم ابتداء بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك ؛ فعلى ذلك بلاء أيوب ـ عليه‌السلام ـ والشدائد التي أصابته جائز أن يكون بلا سبب كان منه يستوجب ذلك ، ولكن ابتداء امتحان منه إياه بذلك.

ثم قوله : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) إنه وإن أضاف إليه فهو في الحقيقة من الله لما أخبر أنه على يديه ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٤] أخبر أن حقيقة العذاب منه وإن كان على أيديهم يجري ذلك ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) [الانعام : ١٧] أي : ما يمس الإنسان من ضر يكون على يدي آخر ويكون من الله ، وله في ذلك صنع وفعل لا على ما يقوله المعتزلة أن لا صنع [لله] في فعل العباد ، وأخبر أنه لو أراد بأحد ضرا ومسه بذلك ، فلا كاشف لذلك الضر ولا دافع ، وأنه لو أراد خيرا بأحد فلا راد لذلك الفضل غيره ، فهو على المعتزلة أيضا.

وقوله : (بِنُصْبٍ) ، ونصب : واحد وهو تعب ؛ وكذلك يقول القتبي : النّصب والنّصب واحد مثل حزن وحزن وهو العناء والتعب.

وقال أبو عبيدة : النّصب : الشر ، والنّصب : الإعياء.

ومنهم من يقول : إن أحدهما فيما يصيب ظاهرا من جسده ، والآخر فيما يصيب باطنه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ).

جائز أن يكون لما قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) دعا عند ذلك أن يكشف عنه البلايا التي مسته ، كأنه قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) فاكشف ذلك عني (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يدلك على ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) دل هذا على أن قد كان منه دعاء وسؤال في كشفه الضر عنه ، فاستجاب الله دعاءه ، فعند ذلك قال : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) جائز أن يكون لما ضرب برجله الأرض وركضها نبع منها عينان : إحداهما للاغتسال فيها والأخرى للشرب منها ، فكانت التي للشرب منها ماؤها بارد على ما يوافق الشرب ويختار ذلك ، والأخرى ماؤها ما يوافق الاغتسال وهو دونه في النزول على ما قاله أهل التأويل عامة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] وإنما السكون فيما يسكن وهو الليل والابتغاء بالنهار.

وجائز أن يكون العين واحدة إلا أنه لما اغتسل منها كان ما يوافق الشرب.

٦٣٣

قال بعض أهل التأويل : كان به البلاء بظاهر الجسد وبباطنه : فما كان بظاهره ذهب بالاغتسال ، وما كان بباطنه ذهب بالشرب ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ).

أي : اذكر صبره كيف صبر على البلاء من الله ـ عزوجل ـ بأنواع الشدائد والبلايا ، فاصبر أنت إذا ابتليت بشيء من البلايا ، وعلى ذلك يخرج جميع ما ذكر في هذه السورة ، وأمره أن يذكرهم بالذي ابتلاهم من الشدائد أن كيف صبروا له على ذلك ، ومن امتحنهم بالسعة والملك يقول : أن اذكر لهم كيف شكروا ربهم وأطاعوه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ).

اختلف أهل التأويل فيه : قال بعضهم : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) أي : أحيا من هلك من أهله وماله ، وزاد له على ذلك ضعفهم في الدنيا ؛ رحمة منه وفضلا.

والحسن يقول بهذا : إنه أحياهم له بأعيانهم وزاده مثلهم معهم (١).

وقال بعضهم : قيل له : يا أيوب إن أهلك في الجنة ، فإن شئت أتيناك بهم وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم ، قال : لا ، بل اتركهم في الجنة ، فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا ، ولله أن يحيي من شاء بعد ما أماته ، وله أن يؤجر على ذلك ما شاء ؛ ألا ترى أنه قال على أثره : (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) ، دل قوله : (رَحْمَةً مِنَّا) على أن كشف الضر عن أيوب وإعطاء ما أعطاه رحمة منه وفضلا ونعمة ، كان له ألا يكشف الضر عنه ، وألا يرد عليه أهله ولا يزيد له ، وهو على المعتزلة ؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون ما أعطى وردّ عليه أصلح له ، وقد أخبر أنه برحمته كان ذلك له وفضل منه ، ولو كان عليه حفظ الأصلح له في الدين ، كان في تركه ومنعه جائرا عندهم ظالما.

أو أن يكون منعه ذلك عنه أصلح له فأعطاه وترك الأصلح له ؛ فدل أن ليس على الله حفظ الأصلح لأحد في الدين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ).

أي : ذكرى وعظة لمن ينتفع باللب ، ليعلم أن ليس التضييق لمقت منه وسخط على من ضيّق عليه ولا في التوسيع رضاء منه ، ولكن محنتان : يمتحن من شاء بالشدة والبلاء ، ومن شاء بالسعة والرخاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٩٤٩).

٦٣٤

اختلف في السبب الذي كان من أيوب ـ عليه‌السلام ـ الحلف بضرب امرأته ، ولكن لسنا ندري ما السبب الذي حمله على الحلف بضربها ، ولا حاجة لنا إلى معرفة ذلك السبب ، غير أنا نعلم أنه كان من المحلوف عليه معنى يستوجب بذلك الضرب حيث حلف هو بالضرب وأمره الله ـ عزوجل ـ بالضرب ، ثم معلوم أن غضبه وحلفه لا يحتمل أن يكون لمنفعة نفسه ولكن لله عزوجل ، ثم الغضب لا يخرج الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ عن أيدي أنفسهم على من كان غضبه لنفسه.

ثم اختلف في قوله ـ عزوجل ـ : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ) : قال بعضهم (١) : قضبان وأغصان ، ونحو ذلك ، لأيوب خاصة.

وقال بعضهم : هو له ولسائر الناس أن من حلف أن يضرب كذا خشبة أو سوطا ، فجمع قضبانا أو أغصانا فضرب بها ، برّ في يمينه ، وليس في الآية أنه ضرب به مرة أو مرارا حتى يخرج به المرء عن يمينه.

ثم الأصل عندنا أن من هم بضرب آخر كان بالضارب هيئة وإبداء يعرف أنه يزيد الضرب فيحرز بالمضروب هيئته وأثره وهو السالم ، فجائز أن يكون المراد به تلك الهيئة والأثر الضرب نفسه ليس في يمينه ، وأن الأفضل فيها ترك الضرب والكفارة عن الحنث.

ثم أثنى الله على أيوب ـ عليه‌السلام ـ فقال ـ عزوجل ـ : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً).

بما ابتلاه الله في نفسه وأهله وماله.

(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

أي : راجع إليه ـ عزوجل ـ في جميع أحواله : في حال الشدة والبلاء ، وفي حال السعة والرخاء ، والله أعلم.

وقال أبو عوسجة : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) ، أي : اضرب بها الأرض ، وكذلك ركض دابتك إذا ضربتها برجلك حتى تسرع ؛ وكذلك قال القتبي ، قال : والضغث : ملء الكف من الحشيش وغيره ومن كل شيء ، وأضغاث جمع.

وقال القتبي : الضغث : الحزمة من الكلأ أو من العيدان وهو قريب من الأول. وقال : المغتسل : الماء وهو الغسول أيضا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَحْنَثْ).

من الحنث ، والحنث في الأصل : الإثم أي : لا يحنث بيمينه إذا صدق فيها ووفى.

__________________

(١) قاله مجاهد بنحوه أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق ابن أبي نجيح عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥٩١).

٦٣٥

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ)(٥٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ).

يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ) من ذكر من الرسل ـ عليهم‌السلام ـ وأهل الصفوة ، أي : اذكر هؤلاء بما لقوا من أعدائهم ، فتستعين [به] أنت بما تلقى من أعدائك.

أو يقول : اذكر صبر هؤلاء على قومهم ؛ لتصبر أنت على أذى قومك ؛ وهو قريب من الأول [، أي :]. اذكر خبر هؤلاء في العبادة والدين ليحببك ذلك ويخرجك على الجهد فيها.

أو يقول : اذكر الأسباب التي بها صار هؤلاء أهل صفوة الله ومحل إحسانه ؛ ليحملك ذلك على طلب تلك الأسباب ؛ لتصير من أهل صفوة الله ونحوه يحتمل.

أو يقول : اذكر هؤلاء الصالحين لتتسلى بذكرهم عن بعض أمورك ، وهمومك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ).

قيل : أولي الأيدي ، أي : أولي القوة في العبادة والبصر في الدين ، ثم معلوم أن هؤلاء لم يكونوا أهل قوة في أنفسهم ، وإنما كانوا أهل قوة في العبادة في الدين ، ليعلم أن القوة في الدين غير القوة في النفس.

وقيل : أولي القوة في طاعة الله والبصر في الحق.

وقيل : في الفقه.

وقيل : أولي الفهم في كتاب الله ، وهو واحد.

وفي قوله : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) دلالة أن قد يفهم بذكر الأيدي غير الجارحة وبذكر البصر غير العين ؛ لأنه معلوم أنه لم يرد بذكر الأيدي الجوارح ، ولا بذكر الأبصار الأعين ولا فهم منه ذلك ، ولكن فهم باليد القوة وبذكر البصر الفهم أو ما فهم ؛ فعلى ذلك لا يفهم من قوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ونحوه الجارحة على ما يفهم من الخلق ، ولكن القوة أو غيرها لكن كنى باليد عن القوة لما باليد يقوى ، وكنى بالبصر عن درك الأشياء حقيقة لما بالبصر يدرك الأشياء.

٦٣٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ).

أي : شرف الدار وذكرهم صاروا مذكورين مشرفين في الدار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ).

أي : هم عندنا أهل صفوة اصطفاهم الله ـ عزوجل ـ واختارهم لنفسه ولرسالته.

وقال بعضهم : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) اختارهم على علم الرسالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ).

يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ) وجوها على ما ذكرنا : صبر هؤلاء على ما لقوا من قومهم ، فتستعين أنت على الصبر مما تلقى من قومك.

أو يقول : اذكر حسن معاملة هؤلاء ربهم وحسن سيرتهم فيما بينهم وبين الخلق ؛ لتعامل أنت ربك مثل معاملتهم ومثل سيرتهم.

أو يقول : اذكر هؤلاء ومن ذكر ، أي أكثر عليهم بحسن الثناء واذكرهم بخير ما أثنى عليهم ، وأمر الناس أن يثنوا عليهم على ما تقدم ذكره ؛ ليكونوا أبدا أحياء بحسن الثناء والذكر.

أو أن يقول : اذكر هؤلاء أن كيف عاملهم الله واختارهم لرسالته وما ذكر الله ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِلْياسَ) قال بعضهم : هو إلياس ، وقال بعضهم : هو غيره ، وكان ابن عم إلياس ، والله أعلم.

(وَذَا الْكِفْلِ) اختلف فيه أيضا :

قال بعضهم : كان إلياس في أربعمائة نبي ـ عليهم‌السلام ـ في زمن ملك ، فقتل الملك ثلاثمائة منهم فكفل رجل إلياس في مائة نبي فكفلهم وخبأهم عنده يطعمهم ويسقيهم حتى خرجوا من عنده ، وكان الكفل بمنزلة من الملك فلذلك سمي : ذا الكفل ؛ لأنه خبأهم وكفلهم ، والله أعلم.

وقال بعضهم : سمي : ذا الكفل ؛ لأنه كفل لله ـ عزوجل ـ خوفا لله به ، فسمي : ذا الكفل.

وقال أبو موسى الأشعري : إن ذا الكفل لم يكن نبيّا ، ولكن كان رجلا صالحا فكفل بعمل رجل صالح عند موته كان يصلي لله ـ عزوجل ـ كل يوم مائة صلاة ، فأحسن الله عليه لسابق كفالته.

وقال بعضهم : إن نبيّا من الأنبياء قال لقومه : أيكم يكفل بتبليغ ما بعثت به إلى الناس بعدي لأضمن له الجنة والدرجة العليا ، فقال شاب : إنا نكفل التبليغ على ذلك ووفى ما

٦٣٧

كفل ، فسمي : ذا الكفل لذلك ، والله أعلم.

وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة أنه لما ذا؟ وأن اليسع كان فلانا سوى أن نعرفهم أنهم من الأخيار على ما ذكر الله عزوجل ، والله أعلم.

وبعد فإن معرفة ذلك بأخبار الآحاد يوجب علم العمل ولا يوجب علم الشهادة ، وليس هاهنا سوى الشهادة على الله ، والترك أولى.

وقوله ـ عزوجل ـ (هذا ذِكْرٌ) يحتمل قوله : (هذا ذِكْرٌ) ، أي : شرف وذكر للذي تقدم ذكرهم من الأخيار ؛ لأنهم يذكرون أبدا بخير وحسن الثناء عليهم بما كان منهم من حسن السيرة والعمل ، فذلك شرفهم حيث صاروا مذكورين على ألسن الناس وهم أموات.

أو أن يكون ذكر هؤلاء ذكر [ى] وعظة لمن بعدهم.

أو ذكر [ى] لك وعظة لتعرف حسن معاملة الرب لهم.

أو هذا القرآن ذكر وعظة لمن آمن به ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ).

جملة الاتقاء : هو أن يتقي المهالك ، أي : اتقوا جميع ما يهلككم (لَحُسْنَ مَآبٍ) ، أي : مرجع ، ثم بين ووصف حسن المرجع الذي يرجعون إليه حيث قال ـ عزوجل ـ : (جَنَّاتِ عَدْنٍ).

قوله ـ عزوجل ـ : (جَنَّاتِ عَدْنٍ).

أي : مقام ، يقال : عدن في مكان كذا ، أي : أقام ، كأنه جنات يقام فيها لا يبغون عنها حولا ولا غيرا على ما أخبر الله ـ عزوجل ـ : (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) [الكهف : ١٠٨].

وقال بعضهم : (عَدْنٍ) الذي هو وسط الشيء كأنه ذكر أن جنة عدن كانت وسط الجنان ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ).

يحتمل قوله : (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أبواب الجنة ، يقال له : ادخل أي باب من أبوابها شئت على ما يقوله بعض الناس.

وجائز أن يكون أبواب كل أحد منهم في الجنة تكون مفتحة ؛ لأن إغلاق الأبواب إنما يكون في الدنيا إما لخوف السرقة أو نظر الناس إلى أهله وحرمه ، وخوف نظر أهله إلى الناس ؛ لهذا المعنى يتخذ الأبواب في الدنيا والغلق والإغلاق دونهم ، وليس ذلك المعنى في الجنة ؛ لما أخبر أن أزواجهم يكن قاصرات الطرف لا ينظرن إلى غير أزواجهن ولا

٦٣٨

يكون فيها خوف السرقة ؛ لذلك كان ما ذكر.

والأشبه ألا يكون فيها أبواب ؛ لما ذكرنا أن الأبواب إنما تتخذ لخوف السرقة والنظر في حرمهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ).

هذا ـ والله أعلم ـ كأنه وصف حال اجتماعهم ؛ لأنه لذلك يدعى بالفواكه والشراب في الدنيا ، وأما في حال الانفراد قلما يدعون بالشراب.

ثم فيه إخبار أنهم يدعون في الجنة بالفواكه والشراب جميعا وفي الدنيا العرف فيهم أن أهل الشراب قلما يجمعون بين الفواكه والشراب لوجهين : إما لخوف الضرر بهم إذا جمع ، أو لما لا يوجدان ، وليس هذان المعنيان في الجنة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ).

كأن ذكر الكثرة كناية عن أنواع الفواكه وألوان مختلفة في كل نوع ، ليس بعبارة عن الكثرة من نوع واحد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ).

أي : طرفهن يقصرنه على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غير أزواجهن ولا يرون غيرهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَتْرابٌ).

قالوا : مستويات الأسنان ، أراد أن يكونوا جميعا الأزواج والزوجات على سن واحد.

أو أن يخبر أنهم جميعا يكونوا على حال واحدة لا يتغيرون ولا يهرمون ، كما يكون في الدنيا بعضهم أكثر سنّا من بعض وأضعف حالا من الآخر ، ولكن لا يهرمون ولا يكبرون ولا يضعفون ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ).

كأنه يقول لهم الملائكة : هذا ما توعدون أهل الجنة في القرآن ، ثم أتاهم من الله بشارة يبقى لهم ذلك أبدا وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) ، أي : انقطاع وذهاب ، نفد الشيء : إذا فني وذهب ، والله أعلم.

قوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ

٦٣٩

الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (هذا) أي : هذا الذي ذكرنا ثواب المتقين وجزاء تقواهم.

ثم بين جزاء الطاغين ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ).

أي : لبئس المرجع [، ثم بيّن] ما هو فقال ـ عزوجل ـ : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ). أي : بئسما مهدوا لأنفسهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هذا) أي : هذا الذي ذكرنا جزاء الطاغين والطغيان يرجع إلى وجوه إلا أن أصله هو الذي لا يجتنب المهالك ولا يتقي ، والمتقي هو الذي يتقي المهالك ويجتنبها حقيقة التقى والطغيان ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ).

كان الملائكة تقول لهم إذا أدخلوا جهنم وألقوا فيها : (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) ، والحميم : هو الشراب الذي قد انتهى حره غايته ونهايته ، والغساق : اختلفوا فيه : قال بعضهم : هو ما يسيل من الصديد والقيح واللحم ، جعل ذلك شرابهم في النار.

وقال بعضهم : الغساق : هو الزمهرير ، والزمهرير : هو البرد الذي بلغ غايته ونهايته يحرق بشدة برده ، كما يحرق الحميم الذي بلغ نهايته [و] شدة حره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ).

اتفق أهل التأويل ـ أو أكثرهم ـ على أن قوله ـ عزوجل ـ : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) هو العذاب كأنه يقول : وآخر من شكل ما ذكر من العذاب له.

ثم اختلفوا في ذلك العذاب الذي قالوا : (مِنْ شَكْلِهِ) :

قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : هو الزمهرير (١) ، وروي عن الحسن : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) : ألوان من العذاب (٢) ، [و] قال بعضهم (٣) : زوج من العذاب.

ويشبه أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) أي : قوم من شكل أولئك الذين ذكرهم يقربون إلى أولئك ؛ فيجمعون في العذاب ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢].

أو أن يكون فوج آخر يدخلون من شكل الأولين ، وهو ما ذكر ـ عزوجل ـ : (هذا فَوْجٌ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٠٠٠١ ، ٣٠٠٠٢ ، ٣٠٠٠٣ ، ٣٠٠٠٤) ، وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٣٠٠٠٩) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٥٩٥).

(٣) قاله قتادة وابن زيد أخرجه ابن جرير (٣٠٠١٠ ، ٣٠٠١١).

٦٤٠