تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

وقال بعضهم في قوله : (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) : هي الحال التي كانوا عليها يقولون : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) التي نحن عليها وكان آباؤنا عليها لا على عبادة الواحد ، يقولون : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا).

يدل على أنهم قد رأوا أن من أنزل عليه الذكر من السماء إنما ينزل لفضل وخصوصية ، لكن إنما رأوا الفضل والخصوصية لأنفسهم ؛ لما لهم الفضل في الدنيا ؛ فلم يروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لذلك أنكروا إنزال الذكر عليه دونهم ؛ ولذلك قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، وقوله : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا).

ثم أخبر ـ عزوجل ـ أنهم شاكون في ذكره ، حيث قال : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي).

وتأويل هذا ـ والله أعلم ـ : أن الشك هو الذي لا يوجب القطع على شيء بل يوجب الوقف فبطل القطع على شيء ، فكيف قطعتم علي الرد والإنكار دون أن تقفوا فيه؟! والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ).

ثم يحتمل أن يكون هذا على الإخبار عن الإياس من إيمانهم أنهم لا [يؤمنون حتى] يذوقوا العذاب ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ، ٩٧].

وقال مقاتل : اللام زائدة كأنه قال : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) يذكر سفههم في ردهم الذكر وتكذيبهم إياه على الشك منهم ، والشك يوجب الوقف في الشيء لا القطع في الرد والتكذيب له.

ثم فيه الدلالة على أن الحجج والبراهين قد تلزم من جهلها ولم تتحقق عنده إذا كانت يسهل التحقق منها والوقوف عليها بالتأمل والنظر فيها وإن كانت لم تتحقق عنده بالبديهة وعند قرعها سمعه ؛ فهو حجة لقول علمائنا : إن من أسلم في دار الإسلام ولم يعلم أن عليه الشرائع والأحكام كان مأخوذا بها غير معذور في جهله فيها ؛ لأنها يسهل ما يوصل إليها بالسؤال والبحث عنها والفحص منها ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا

٦٠١

قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ)(١٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ).

قد ذكرنا فيما تقدم أن حرف الاستفهام من الله تعالى يخرج على الإيجاب والإلزام مما لو كان ذلك من مستفهم حقيقة يتضمن الجواب له ، فقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) جواب لقولهم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) فجوابه لهم ليس عندهم رحمة ربك حتى يختاروا الرسالة والنبوة لأنفسهم أو لمن شاءوا هم ؛ كقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] كانوا لا يرون وضع الرسالة إلا فيما كانت له أموال وله سعة في الدنيا وفضل مال ، فيذكر أن [ليس] عندهم خزائن ربك حتى يجعلوا الرسالة والنبوة فيمن شاءوا هم واختاروا لذلك ، قال الله ـ عزوجل ـ : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] ، أي : لا يملكون قسمة رحمة ربك ، بل (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) الآية [الزخرف : ٣٢] يخبر أنهم على ما لا يملكون توسيع المعيشة على من ضيق عليه ورفع من وضع ؛ فعلى ذلك ليس إليهم اختيار النبوة والرسالة لمن شاءوا واختاروا ، بل اختيار ذلك إلى الله ـ عزوجل ـ فقالوا : أإذا كنا أحق بهذا في الدنيا فنحن أيضا أحق بالرسالة والنبوة على ما [نحن] أحق في الدنيا بالسعة والفضل فيها ، بل لو عرفوا أن ما نالوا من السعة في الدنيا وفضل الأموال إنما نالوا ذلك برحمة الله وفضله لا بحق كان لهم على الله ، فلو عرفوا ، كانوا لا ينكرون وضع الرسالة فيمن اختار الله ـ عزوجل ـ وضعها فيمن شاء ، وعلى ذلك قول المعتزلة : إنهم لا يريدون لله أن يفعل بأحد شيئا إلا ما هو أصلح له في الدين ، وأنه لو فعل ما ليس بأصلح له في الدين ، كان جائرا ظالما ، فيرون حفظ الأصلح له حقّا كما رأى أولئك الكفرة السعة والأموال حقّا على الله ، فرأوا أنفسهم أحق أيضا بالرسالة والنبوة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم إن المعتزلة يقولون في ألم الصغار : إن ليس لله أن يؤلمهم إلا بعوض يجعل لهم بإزاء ذلك الألم عوضا يرضون هم بذلك ؛ إذ جعلوا أنفسهم له حقيقة حيث لم يجعلوا لله الإيلام إلا بالعوض ، ومن أخذ حقّا لغير لا يأخذه إلا ببدل وعوض برضاء ذلك الغير ، فهذا تناقض في قولهم : إن على الله حفظ الأصلح للخلق في دينهم حيث لم يجعلوا له ذلك إلا بعوض يجعل لهم ، والله أعلم.

ودل اتفاق القول : إنه وهاب ، على أن ما ينال من خير أو سعة أو فضل إنما ينال برحمة وفضل لا بحق عليه ؛ لأن من أدى حقا عليه لا يقال : إنه وهاب ، ولا يسمى : وهابا ، على ما أعطى من أعطى ، إنما أعطاه تفضلا منه ورحمة لا حقّا كان عليه.

٦٠٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما).

هو مثل الأول ، أي : لهم ملك السموات والأرض ؛ ليملكوا ما شاءوا من الأمور ويختاروا وضع الرسالة فيمن شاءوا هم ، أي : ليس لهم ملك السموات والأرض ؛ فيملكوا ما يذكرون ويختارون [ما] قالوا ، بل نملك ذلك ، وإلينا ذلك ، فعند ذلك يقال : (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ).

ثم اختلف في الأسباب التي ذكر : قال بعضهم : السبب ما بين السماء والأرض ، وكذلك ما بين كل سماءين سبب ، والأسباب جماعة.

وقال بعضهم (١) : الأسباب : طرق السماء.

وقال بعضهم (٢) : هي الأبواب التي في السماء تفتح للوحي.

ومعناه ـ والله أعلم ـ أي : فليرتقوا في الأسباب إن كانوا صادقين بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذاب ، وأنه ساحر ، وأنه اختلقه من تلقاء نفسه ، أي : يفتح له أبواب السماء فليستمعوا إلى الوحي حتى يوحي الله ـ عزوجل ـ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ).

أو أن يكون معناه ـ والله أعلم ـ : أن يرتقوا [إلى] ملك فينزل فيخبر أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاذب فيما يدعى لقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ).

قال بعضهم (٣) : حرف (ما هُنالِكَ) صلة كأنه قال ـ عزوجل ـ : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ).

وقال بعضهم : جند بل هنالك مهزوم من الأحزاب.

وجائز أن يكون على تحقيق (ما) فيه ، أي : جند ما يهزم هنالك من الأحزاب ، لا كل الأجناد ، وهو الجند الذين خرجوا عليه بالمباهلة ، وهم الذين قالوا : اللهم انصر أينا أوصل رحما وأنفع مالا وأخير للخلق فغلبوا هم وقهروا.

وقال عامة أهل التأويل (٤) : هو الجند الذي قتل ببدر ، والله أعلم.

ثم في الآية وجوه ثلاثة من الدلالة :

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩٧٥٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٥٨) ، وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد.

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٧٥٩).

(٣) انظر : تفسير ابن جرير (١٠ / ٥٥٥).

(٤) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٧٦٦) ، وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٥٨) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٦٠٣

أحدها : الأمن له عن أن يصلوا إلى قتله وإهلاكه على الآحاد والأفراد ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) [هود : ٥٥].

وفيه الأمن له عن أن يصلوا إلى قتله وإهلاكه على الجمع والاجتماع عليه ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥] أخبر ـ عزوجل ـ أنهم يهزمون جميعا.

وفيه بشارة له أنهم يهزمون في ضعفه وقلة أعوانه وأنصاره مع كثرة أولئك وعدتهم.

ففي الوجوه الثلاثة التي ذكرنا دلالة رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أخبر بما ذكر ؛ فكان على ما أخبر دل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالله تعالى عرف ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ).

حين تحزبوا عليه قال بعضهم : إنه ساحر ، وقال بعضهم : إنه كذاب ، وإنه مفتر ، وإنه مجنون على ما تحزبوا عليه ، وتفرقت قلوبهم فيه وتلونت ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ ...) إلى قوله : (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي : الفرق.

وقوله : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ).

يذكر هؤلاء الأحزاب الذين كادوا لرسول الله ، ويخبرهم عن صنيعهم ومعاملتهم الرسل لوجهين :

أحدهما : كيفية معاملة الرسل ـ عليهم‌السلام ـ أولئك الكفرة مع تكذيبهم إياهم وسوء معاملتهم وصنيعهم مع الرسل وأنواع البلايا التي كانت منهم إليهم أن كيف عاملوهم وصبروا على أذاهم ؛ ليعامل هو قومه مثل معاملتهم قومهم ، ويصبر على أذاهم كما صبر أولئك على أذى قومهم ، مثل معاملتهم قومهم وسوء صنيعهم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥].

والثاني : يذكر هذا لأهل مكة ويحذرهم ما نزل بالأمم المتقدمة بتكذيبهم الرسل وعنادهم وتمردهم معهم ؛ ليحذروا تكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وألا يعاملوه كما عامل أولئك رسلهم ، فينزل بهم كما نزل بأولئك من العذاب والإهلاك ، والله أعلم.

(فَحَقَّ عِقابِ).

قال بعضهم (١) : أي : وجب عليهم عقاب ، لكن قوله ـ عزوجل ـ : (فَحَقَّ عِقابِ) أي : نزل بهم العقاب ووقع عليهم ، وإلا كان العذاب واجبا على الكفار.

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (١٠ / ٥٥٧).

٦٠٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ).

قال بعضهم (١) : إن فرعون كان إذا غضب على أحد من قومه مده بأوتاد فيعاقبه بها ويعذبه ، والله أعلم.

وقال بعضهم (٢) : (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) ، أي : ذي البناء المحكم.

وقال بعضهم (٣) : كانت له أوتاد وأرسان ، أي : جبال وتلاعيب يلاعبون بها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ).

يخبر ـ عزوجل ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويؤيسه عن إيمانهم أنهم لا يؤمنون إلا عند وقوع العذاب بهم حتى لا ينفعهم الإيمان ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ، ٩٧].

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) يحتمل أن يكون سمى نفس العذاب : صيحة.

وجائز أن يكون ذكر صيحة ؛ لما أن العذاب إذا نزل بهم ووقع عليهم يصيحون ، فسمى ذلك : صيحة ؛ لصياحهم.

أو أن يكون ذلك إذا نزل بهم كان فيه صياح ، وصوت الشيء الهائل العظيم الشديد إذا هو وقع ومال إلى الأرض ، كان فيه صياح وصوت حتى يفزع الناس منه ؛ فعلى ذلك الصيحة التي ذكر يحتمل ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لَها مِنْ فَواقٍ).

قال أبو عبيدة : من فتحها أراد : ما لها من راحة ولا إقامة ، كأنه ذهب إلى إفاقة المريض من علته.

ومن ضمها جعلها من فواق الناقة وهو ما بين الحلبتين ، ويريد (ما لَها مِنْ فَواقٍ) : انتظار ومكث.

قال أبو عوسجة والقتبي : (ما لَها مِنْ فَواقٍ) ، أي : من انقطاع ؛ إذ هي دائمة أبدا لا تنقطع به.

وقال الكسائي : الفواق : بالنصب والرفع لغتان ، وهو من فواق الناقة بين الحلبتين

__________________

(١) قاله السدي والربيع بن أنس أخرجه ابن جرير (٢٩٧٦٩ ، ٢٩٧٧٠).

(٢) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير (٢٩٧٧١).

(٣) قاله ابن عباس وقتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٧٦٧ ، ٢٩٧٦٨).

٦٠٥

والرضعتين.

وقال عامة أهل التأويل (١) : (ما لَها مِنْ فَواقٍ) ، أي : من مرد ومرجع وقرار.

وقال بعضهم : هو مد البصر ، يقول : هي أقرب من ذلك ، كقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧] ، والله أعلم.

وأصل الفواق : كأنه من العود والرجوع كعود اللبن إلى الضرع بعد ما حلب مرة ، والله أعلم.

ذكر عن الحسن فى (٢) قوله ـ عزوجل ـ : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١] يقول : حارث القرآن بقلبك وهو من قول العرب : صادته الدابة إذا كانت امتنعت فأطعمها حتى ذلت ولانت.

وقال أبو عوسجة : (ص) : هو أشد كلام وهو شبه قسم ، والصاد في غير هذا الموضع العطشان ، وقوم صادون.

ثم اختلف في موضع القسم على ما ذكر : قال الكسائي : من القسم في القرآن ما هو ظاهر لا يخفى ، ومنه غامض :

فمن ظاهره قوله ـ عزوجل ـ : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) [التكوير : ١٥ ، ١٦] ، وجوابه قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [التكوير : ١٩].

ومن غامضه : (ص) قال بعض الناس : موضع قسمه قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤] ، والله أعلم.

لا أراه شيئا لحال الكلام ولما قص من القصص ما لا يكون ذلك قسمه.

ولكن قسمه ـ والله أعلم ـ عندي : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ، ثم اعترض : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنا) القسم هاهنا ب (كَمْ أَهْلَكْنا) ، ولكن لما اعترض : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) صار قوله ردا عليه وجوابا له ؛ وهو غريب ظريف غامض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذِي الذِّكْرِ).

قال بعضهم (٣) : ذي الشرف ، أي : من أوتيه شرف ، وقيل : ذي الشأن ، وقيل : ذي الذكر ، فيه ذكر ما يؤتى وما يتقى ، وذكر من كان قبله من الأمم الخالية.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٧٨٠) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٥٨) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٩٧٠٥) وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٥٦).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٩٧١٧) ، وهو قول السدي وأبو حصين وسعيد وغيرهم.

٦٠٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ).

قيل : في تكبر وتكذيب ، وقيل (١) : في حمية وخلاف ، وقيل : في غفلة ، ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ).

قال بعضهم : أي : هربهم في غير وقت الهرب ، و (مَناصٍ) : مهرب ، وناص ينوص نوصا : وهو المنجى والغوث.

وقال القتبي : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي : لا حين هرب ؛ على ما قال أبو عوسجة ، وقال : النوص : التأخر في الكلام ، والنوص : المتقدم ، وأصله ما ذكرنا : أن ذلك الوقت ليس هو وقت المهرب ، ولا وقت المنجى ولا وقت الغوث على ما تقدم ذكره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ).

قال بعضهم : (عُجابٌ) بلغة قوم : عجب.

وقال الكسائي : العجاب والعجاب والعجيب والعجب كلها لغات واحدة.

وقال أبو عوسجة : (عُجابٌ) هو يكثر للعجب كما يقال : كبار وكبار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ).

أي : الأشراف منهم ، وقالوا : للأتباع على ما ذكرنا (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) ، قال بعضهم : قوله : (أَنِ امْشُوا) إلى أبي طالب واثبتوا على عبادة آلهتكم (إِنَّ هذا) : قال بعضهم : بقبول إسلام وذلك كان حين أسلم عمر ـ رضي الله عنه ـ بشيء أي لأمر يراد ، فمشوا إلى أبي طالب ، وقالوا له ما ذكرنا فيما تقدم والقصة طويلة.

وقال بعضهم : (أَنِ امْشُوا) أي : امضوا وارجعوا إلى عبادة آلهتكم واصبروا عليها. وقال بعضهم : قوله : (أَنِ امْشُوا) من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واصبروا على عبادة آلهتكم (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) بأهل مكة ، والله أعلم.

وقوله : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ).

يعنون : عبادة إله واحد وترك عبادة آلهة في الملة الآخرة.

قال عامة أهل التأويل : (الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) : النصرانية واليهودية كليهما.

وقال بعضهم : يعنون (الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) الملة التي هم عليها ، وآثارهم ، يقولون : ما سمعنا عبادة إله واحد وترك عبادة الآلهة في الدين [الذى] نحن وآباؤنا عليه (إِنَّ هذا) أي : ما هذا (إِلَّا اخْتِلاقٌ) من نفسه ، وقالوا : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) يعنون : النبوة

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٧٢٢) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٥٦) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف.

٦٠٧

والكتاب والوحي ، وهو أفقرنا وأصغرنا ونحن أكثر سنا وأعظم شرفا ، يقول الله ـ عزوجل ـ : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) بأنه لم ينزل عليه (لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) ؛ وهو قول مقاتل ، ثم قال : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) ، أي : يحتمل نعمة ربك ، أي : بأيديهم مفاتيح الرحمة والنبوة والرسالة فيضعونها حيث شاءوا ، أي : ليست تلك بأيديهم ولكنها بيد الله ، العزيز في ملكه الوهاب يهب النبوة والرسالة لمن يشاء ويضعها فيمن يشاء.

ثم قال ـ عزوجل ـ : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ، أي : ليس لهم ذلك ، ولكن ـ عزوجل ـ يوحي الرسالة إلى من يشاء ويختار لها من يشاء.

ثم قال : (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) ، أي : الأبواب التي في السماء إن كانوا صادقين بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلقه من تلقاء نفسه ، أي : فليستمعوا إلى الوحي حين يوحي الله إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول أولئك.

وقال بعضهم (١) : السبب : ما بين السماء والأرض أصلب من الحديد وأدق من الشعر يعرج به الملائكة وهو المعراج يبصره الميت إذا خرجت روحه.

وقال بعضهم : (فَلْيَرْتَقُوا) أي : فليصعدوا في طرقها ؛ فيعلموا علم ذلك أنزل عليه الذكر أو لم ينزل؟ والله أعلم. والارتقاء : الصعود.

أو أن يقول : ارتقوا أنتم السبب الذي ارتقى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتوا بمثل الذي أتى به محمد أنه ليس برسول.

أو أن يقول : ائتوا أنتم بالذي أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدين والأسباب ؛ حتى تختصوا بالنبوة والرسالة كما اختص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ).

قال : وعد الله ـ عزوجل ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيهزم جند المشركين ، فقال عامة أهل التأويل : جاء تأويلها يوم بدر ، وقد ذكرنا تأويله فيما تقدم ، والله أعلم.

والأحزاب : الذين تحزبوا عليه ، أي : تفرقوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) ، اختلف فيه :

قال بعضهم (٢) : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي : كتابنا ؛ وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يوعدهم أنهم يؤتون كتابهم بشمالهم فيه أعمالهم التي عملوها في الدنيا في الآخرة ، فعند ذلك قالوا له : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) ، أي : كتابنا الذي توعدنا أنه يعطى بشمالنا ، قالوا ذلك استهزاء به وتكذيبا له.

__________________

(١) قاله الربيع بن أنس أخرجه ابن جرير (٢٩٧٦٤).

(٢) قاله الحسن أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٥٩).

٦٠٨

وقال بعضهم (١) : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي : نصيبنا وحظنا من العذاب الذي توعدنا به وتحذرنا يوم الحساب قبل يوم الحساب ، قالوا ذلك استهزاء به وتكذيبا له ؛ ولذلك قال له على أثر ذلك : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) يصبره ويعزيه على ما يقولون ؛ ليصبر على ذلك ، والله أعلم.

وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) ليس على سؤال العذاب والكتاب الذي حمله عامة أهل التأويل عليه ، ولكنه سؤال السعة والنصيب في الدنيا ، ويكون ذلك في قوم لا يؤمنون بالآخرة سألوا ما وعدوا من النعيم في الآخرة والسعة في الدنيا ، وذلك أشبه لأنهم سألوا ربهم أن يعجل ذلك لهم ، فلو كان على ما يحمله أهل التأويل من سؤال العذاب والكتاب على الاستهزاء بالرسول والتكذيب له ، لسألوا الرسول ذلك ، ولم يسألوا ربهم ذلك ؛ فدل ذلك على أنه أشبه وأقرب ، والله أعلم.

ويكون قوله ـ عزوجل ـ : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) على ما تقدم من قولهم : إنه ساحر [و] إنه كذاب ، وإنه اختلق هذا القرآن من ذات نفسه ونحوه ، ويؤيد ذلك قول سعيد بن جبير قال (٢) : ذكرت لهم الجنة فاشتهوا ما فيها ، فقالوا : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي : نصيبنا من الجنة.

قوله تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)(٢٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ).

يحتمل قوله ـ عزوجل ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) وجوها :

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٧٨٧) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٥٨) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٩٧٨٩).

٦٠٩

أحدها : أن اذكر نبأ داود ، ونبأ من ذكر في هذه السورة من قوله : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ، ومن ذكرهم ـ عليهم‌السلام ـ وعلى محمد في هذه السورة ، أي : اذكر نبأهم الذي لم يكن لتعرفه أنت ولا قومك من قبل هذا ، لعلهم يصدقونك ويؤمنون بك ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود : ٤٩].

والثاني : قوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) ، أي : اذكر صبر هؤلاء على أذى قومهم وتكذيبهم إياهم ؛ لتصبر على أذى قومك وتكذيبهم إياك كما صبر أولئك ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥].

والثالث : اذكر داود ومن ذكر من الأنبياء ، أي : اذكر لهم المصدقين وما يكون لهم من الكرامات والثواب ، كما ذكرت لهم المكذبين وما نزل بهم من العذاب ، لعلهم يرجعون ويصدقونك ؛ ليعلموا من هلك منهم بم هلك؟ أو ليعلموا أن في أوائلهم المصدقين له والمؤمنين ، فكيف اتبعتم المكذبين منهم دون المصدقين؟! والله أعلم.

ويحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا) ، أي : اذكر جهد داود وجهد من ذكر من هؤلاء في العبادة والدين وأمثال ذلك يحتمل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

قال عامة أهل التأويل (١) : (ذَا الْأَيْدِ) ، أي : القوة على العبادة.

وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (ذَا الْأَيْدِ) في أمر الله ، [أو] في أمر الدين ؛ لأنه ألين له الحديد حتى كان يتخذ منه الدروع وغيرها من الأسلحة ، وسخر له الطير والجبال حتى كان يسبح معهم بالعشي والإشراق ، وحتى كان يستعمل ما اتخذ الحديد فيمن شاء من أمر الدين من المحاربة مع الأعداء والدرء عن أهل الإسلام والدفع عنهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ أَوَّابٌ).

قال بعضهم (٢) : (أَوَّابٌ) مطيع لله ، مقبل على طاعته.

وقال بعضهم (٣) : (أَوَّابٌ) ، أي : مسبح لله ، ذكر أنه كان كثير التسبيح ؛ وكذلك قال ـ عزوجل ـ : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١٠] ، أي : سبحي معه ، هذا محتمل.

وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (أَوَّابٌ) ، أي : رجّاع إلى الله ، يرجع إليه في كل

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٧٩١) ، وهو قول مجاهد وقتادة.

(٢) قاله قتادة بنحوه أخرجه ابن جرير (٢٩٧٩٨) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٦٠).

(٣) قاله ابن عباس ومجاهد وعمرو بن شرحبيل كما في الدر المنثور (٥ / ٥٦٠).

٦١٠

أمر وإليه يفزع في كل نائبة وحادثة.

وقال بعضهم : (ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ، أي : ذا الإحسان والعمل الصالح (أَوَّابٌ) ، أي : تواب.

وقتادة يقول : ذا القوة في العبادة ، وذا الفقه في الإسلام ، وذا البصر في الدين (١).

وقال أبو عوسجة : (قِطَّنا) ، أي : كتابنا ، يقال : قططت ـ أي : كتبت ـ أقط قطا ، فأنا قاط ، والكتاب مقطوط ، والقط ـ أيضا ـ : القطع ، يقال : قططت أظفارى ، والقط : الدهر ، ويقال : قطي ، أي : حسبي ، وقطك أي : [حسبك].

قال القتبي : القط : الصحيفة المكتوبة ، وهي الصك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ).

هو على التقديم والتأخير كأنه قال ـ عزوجل ـ : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) ، أخبر أنه سخر الجبال والطير وما ذكر لداود كي يطعنه ويسبحن معه ، وفيه لطف من الله ـ عزوجل ـ : في هذه الأشياء والخصوصية لداود في ذلك ؛ حيث صير الجبال والطير بحيث يقفن وقت تسبيح داود معه على ما أخبر عزوجل.

وفيه أن الله ـ عزوجل ـ حيث صير الجبال مع شدتها وصلابتها بحيث تعرف وقت تسبيح داود ، وتعرف تسبيحه وتسمعه وتلين له ، فجائز أن يجعل قلب الكافر بحيث يلين ويخضع لله بلطفه ؛ إذ قلبه ليس أشد قسوة وصلابة من الجبال ، فإذا جعل لطفه فيها لانت وخضعت ؛ فعلى ذلك إذا جعل ذلك اللطف في قلب الكافر لا يحتمل ألا بلين ولا يخضع ؛ إذ هو ليس بأصلب وأشد من الجبال التي ذكرنا ، والله أعلم.

وأما الخصوصية له : فإن الله ـ عزوجل ـ جعل بكل من الرسل خصوصية في شيء ، لم يجعل مثل تلك الخصوصية لآخر في ذلك الشيء بعينه بلطفه ، وخصوصية داود : ما ذكر من تسخير ما ذكر له من الجبال والطير والتسبيح معه ، وما ذكر من إلانة الحديد له وغير ذلك من الأشياء ، وخصوصية سليمان ما ذكر من تسخير الرياح له وحملها إياه حيث شاء إلى ما شاء مسيرة شهر بغدوة ومسيرة شهر بعشية ، حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ : ١٢] ، وما ذكر من فهم نطق الطير والنطق معه وفهمه تسبيحها ونحو ذلك كثير ، ومثل هذا ما قد جعل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث ذكر أنه أخذ أحجارا فسبحن في يده حتى سمع ذلك من حضره ، وما ذكر أن أصابعه يسبحن ونحوه كثير ، فلكل منهم خصوصية في شيء ليست تلك لغيره ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٧٩٣) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٥٩).

٦١١

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً).

أي : مجموعة مسخرة ، أي : سخرت له الطير أيضا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ).

قال بعضهم (١) : كل له مطيع.

وقال بعضهم (٢) : كل له مسبح ، فإن كان قوله ـ عزوجل ـ : (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) ، أي : مطيع ، فهو يحتمل مطيع لداود ، وإن كان الأواب هو المسبح ، فهو لا يحتمل لداود ، لكن لله تبارك وتعالى ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) جائز أن يكون لا على إرادة حقيقة العشي والإشراق ، ولكن على إرادة التسبيح معه في كل وقت ؛ فيكون العشي كناية عن الليل والإشراق كناية عن النهار ، يخبر أنهن يسبحن في كل وقت من الليل والنهار ، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون يسبحن في العشيات والغدوات خاصة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) ، والله أعلم.

ثم جائز أن يكون ما ذكر من تسبيح هذه الأشياء صلاة (يُسَبِّحْنَ) أي : يصلين لله ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور : ٤١] ، ثم قال ـ عزوجل ـ : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [النور : ٤١] دل أن لها صلاة ، والله أعلم.

ومن الناس من يقول : تسبيح هذه الأشياء التي ذكر هو تسبيح خلقة لا تسبيح نطق وكلام ، لكن لو كان على هذا ، لكان لا معنى لذكر تسبيحهن مع داود ـ عليه‌السلام ـ إذ ذا مع داود وغيره في كل وقت ؛ دل أنه على تسبيح النطق ، وإن كان على الصلاة ، فهو ألا يجوز الصلاة لأحد حتى تشرق الشمس وترتفع ؛ حيث ذكر إشراق الشمس ، والله أعلم.

ثم من الناس من حمل قوله ـ عزوجل ـ : (وَالْإِشْراقِ) على صلاة الضحى ، وهو قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ذكر عنه أنه سأل أم هانئ عن صلاة الضحى : هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل في بيتها؟ فأخبرته أنه فعل ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : وقلت : أي : صلاة الإشراق ، وهذه صلاة الإشراق (٣) ، يعني : صلاة الضحى ، والله

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٨٠٧) وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٦٣) ، وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٢) قاله السدي أخرجه ابن جرير (٢٩٨٠٩).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٩٨٠٣ ، ٢٩٨٠٤) ، وأورد له السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٦١ ، ٥٦٢) طرقا كثيرة عنه.

٦١٢

أعلم. وسميت صلاة الضحى : صلاة الأوابين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ).

قال عامة أهل التأويل في قوله : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) : لأنه كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفا من بني إسرائيل ، لكن ليس فيما ذكروا كثير شد الملك وتقويته إنما هو وصف ضعف إلا أن يعنوا بما ذكروا : كثرة أعوانه وأنصاره وفضل أتباعه وحواشيه ؛ فعند ذلك يحتمل ما ذكروا ، فأما في نفس ما ذكروا من الحرس له والحفظ ، فليس فيه كثير شد ولا فضل منقبة.

وجائز أن يكون غير هذا أشبه له وأولى بما ذكر ملكه ، وهو يخرج على وجهين :

أحدهما : شد ملكه بما ذكر من إلانة الحديد ، حتى كان يتخذ منه لباسا من الدروع وغيرها منه أسباب الحرب والتأهب لها وما يصلح للقتال ما لم يعط مثله لأحد سواه ، فينقطع بذلك طمع المنازعين له في ذلك والراغبين في ملكه ، ويأمن هو بذلك ذهابه ، فهو شد ملكه ، والله أعلم.

والثاني : شد ملكه بما ذكر من تسخير الجبال له والطير والتسبيح معه ، وما ذكر من طاعة هذه الأشياء له والخضوع لأمره ، فمن بلغ أمر ملكه هذا المبلغ الذي وصف من طاعة من ذكره والتسخير له وعبادته لله تعالى وطاعته لربه في نفسه حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) لم يقصد أحد من ملوك الأرض قصده ولا طمع في زوال ملكه إليه بحال ، وهذا أشبه أن يجعل تأويل شد ملكه الذي ذكر ـ والله أعلم ـ مما قاله أهل التأويل.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ).

قال بعض أهل التأويل : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي (١) : النبوة (وَفَصْلَ الْخِطابِ) ، أي (٢) : البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه ، لكن ليس فيما ذكروا من جعل البينة على المدعي وجعل اليمين على المنكر كثير منقبة وخصوصية ؛ إذ قد أعطينا نحن مثله ، وقد ذكر على الخصوصية له.

ثم جائز أن يكون ما ذكر من الحكمة أنه آتاها له : إحكام أمره فيما بينه وبين ربه : العبادة له ـ أي : لله تعالى ـ والطاعة له في كل وقت ؛ على ما وصفه حين قال : (ذَا الْأَيْدِ

__________________

(١) قاله السدي أخرجه ابن جرير (٢٩٨١٢) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٦٣) ، وزاد نسبته للحاكم.

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٨٢٥) والبيهقي كما في الدر المنثور (٥ / ٥٦٤).

٦١٣

إِنَّهُ أَوَّابٌ) ، أي : ذا القوة والجهد في العبادة لله والطاعة له فيهم ، وإنزال كل منهم منزلة وتأليف قلوب بعضهم من بعض ، وجمعهم على دين واحد ، ومذهب واحد حتى لم يقع تنازع ولا خلاف في الدين ، والله أعلم.

وعلى ذلك يخرج قوله ـ عزوجل ـ : (وَفَصْلَ الْخِطابِ) ، أي : قطع الخصومات فيما بينهم على التأليف والتلطف وإيصال كل إلى حقه من غير أن يقع بينهم خشونة أو ضغينة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفَصْلَ الْخِطابِ).

قال بعضهم (١) : ما ذكرنا من القضاء بين الخصوم بالبينة على المدعي واليمين على المنكر ، وليس في ذلك كثير منقبة ولا خصوصية.

وقال بعضهم : هو «أما بعد» وهذا أيضا ليس بشيء ، والأصل فيه ما ذكرنا ، والله أعلم.

والخطاب : هو الخصومة ؛ قال أبو معاذ : الخطاب : كالجدال والخصام ، تقول : خاطبته [خطابا و] مخاطبة و [جادلته] جدالا ومجادلة فكل «فاعل» له مصدران : فعال ومفاعلة.

وقال أبو عوسجة : الفصل : القضاء ، والخطاب : الخصومة ، تقول : خاطبت الرجل ، أي خاصمته. والإشراق : هو طلوع الشمس ووقوعها في كل ناحية بنورها ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ).

قد ذكرنا في غير موضع أن حرف الاستفهام من الله ـ عزوجل ـ يخرج على الإيجاب ، أو على التقرير والتنبيه.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) على وجهين :

أحدهما : أي : قد أتاك نبأ الخصم فتفكر فيه كيف ابتلاه الله ـ عزوجل ـ وفتنه [على] ما ذكر؟!

والثاني : قوله ـ عزوجل ـ : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) أتاك وأرسل إليك نبأه وخبره : أن كيف ابتلاه وفتنه؟! وعلى هذا يجوز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) ، أي : اذكر ما قربه هو ، أو اذكر متقربه إياه ، أو اذكر خصومة الخصمين إليه ، أو

__________________

(١) تقدم أنه قول قتادة.

٦١٤

اذكر ما أعطى هو من الحكمة والحكم وفصل الخطاب.

ثم قوله : (نَبَأُ الْخَصْمِ) هو حرف التوحيد والوحدان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ).

حرف الجماعة ؛ وكذلك قوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ) ذكره بالجماعة ؛ وكذلك قوله ـ عزوجل ـ : (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) ذكر بحرف الجماعة ، وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا لا تَخَفْ) ، ثم ذكر بحرف التثنية حيث قال ـ عزوجل ـ : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) ذكر بعضه بحرف الوحدان والإفراد وبعضه بحرف التثنية وهي قصة واحدة.

وقال بعضهم : أما قوله ـ عزوجل ـ : (الْخَصْمِ) فهو مصدر ، والمصدر للجمع والفرد والتثنية واحد ، وأما قوله ـ تعالى ـ : (تَسَوَّرُوا) و (دَخَلُوا) و (قالُوا) ، ونحوه قد يقال للاثنين ذلك ؛ لأن الاثنين جماعة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] ، والقلوب جماعة ، وإنما هو قلبان ، وذلك كثير في القرآن ، وذلك جائز في اللغة شائع فيها.

وعندنا جائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (تَسَوَّرُوا) و (دَخَلُوا عَلى داوُدَ) و (قالُوا لا تَخَفْ) ونحوه : أن كان مع الخصمين الملكين ملائكة سواهم شهود على دعواهما وخصومتهما تسوروا معهما ودخلوا معهما عليه فلما فزع منهم (قالُوا لا تَخَفْ) وإن كان الذي تخاصم بين يديه اثنان ؛ لما لا يحتمل أن يقول داود لأحد الخصمين : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ، ينسبه إلى الظلم ويصفه بالبغي بلا شهود يشهدون ، إلا أن يكون من الآخر إقرار على ما يدعي عليه ، فإذا كان كذلك فيشبه أن يكون ما ذكرنا أنه كان مع الملكين ملائكة آخرون شهود يشهدون على ذلك ، وأن حاصل الخصومة لاثنين منهم ، وفيما أضيف الفعل إلى الجماعة كانوا جماعة في التسور والدخول عليه والقول منهم : (لا تَخَفْ) ، وفيما أضيف إلى الاثنين اثنين كانا في الخصومة ، والله أعلم.

ثم فيه من الكلام والقول حيث قالا : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) ، و (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) ، وقوله : (أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) ، ونحوه من الكلام والقول الذي كان منهما كيف حققا ذلك وقطعاه أنهما خصمان ولم يكونا في الحقيقة خصمين وإن لهذا كذا وكذا نعجة ولهذا واحدة ، ولم يكن في الحقيقة ذلك ، وأن هذا بغى على هذا ونحو ذلك من الخصومات التي جرت بينهما ، ولم يكن ذلك كذلك في الحقيقة ، كيف قالا ذلك وحققاه وهم ملائكة والملائكة لا يحتمل أن يكذبوا قط ، أو يرسلهم الله ليكذبوا؟! لكنه ـ والله أعلم ـ على التقرير والتمثيل ، أي : لو كان لأحدهما

٦١٥

كذا كذا نعجة وللآخر واحدة فغلب صاحب النعاج الكثيرة على صاحب النعجة الواحدة فأخذها ، أليس يكون ظالما أو يكون باغيا؟! ليس على التحقيق ، ولكن لما ذكرنا يقرران عنده الزلة ويمثلان به القضية ، [لا] أن كانت له على ما يقوله أهل التأويل ويقررونه ، وقد ذكر الله ـ عزوجل ـ أشياء كثيرة على التمثيل والتقرير على تقرير أشياء غفلوا عنها وسهوا فيها لتقرر ذلك عندهم ؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون خصومة هؤلاء الملائكة عند داود ـ عليه‌السلام ـ وما كان منهم من القول والخصومة ليتقرر ما كان منه من الهفوة والزلة ليعرف ذلك ويرجع عنه ، والله أعلم.

ثم قول أهل التأويل : إن طائرا وقع بين يديه قريبا منه فنظر إليه وصار معجبا به ، فهم أن يأخذه وارتفع إلى كوة المحراب فصعد ليأخذه فوقع بصره على امرأة فأعجبته ، فإن هذا يحتمل أن يكون ، وأما قولهم : أدام النظر أما هذا فإنه لا يحتمل أن يكون مثل داود أو نبي من الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أنه يديم النظر إلى ما لا يحل النظر إليه ، وأما الأول من الذهاب لطلب ذلك الطائر والنظر إليه أنه من أين؟ وإلى ما ذا؟ فذلك يحتمل أن يكون ، ثم هو يكون معذورا في الصعود إلى الكوة والارتفاع للنظر إلى الطائر ؛ لما كان الطيور حشرت له وسخرت في التسبيح معه والطاعة له ، فجائز أن يكون له البحث والفحص عن حال ذلك الطائر على ما أخبر عن سليمان حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) [النمل : ٢٠] فإذا كان ما ذكرنا : هو في الصعود إلى الكوة والارتفاع إلى ذلك معذورا ، لكن وقع بصره عليها بلا قصد منه ولا علم بحالها ومال قلبه إليها لحسنها وجمالها ، وذلك ما يكون بلا تكلف ولا صنع ، وذلك مما لا يملك دفعه ؛ نحو ما كان من ميل قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى امرأة زيد [و] وعد لها نكاحها حيث قال ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) [الأحزاب : ٣٧] وما ذكر من بعث زوجها إلى القتال ليقتل فهذا أيضا غير محتمل ، لكن يحتمل بعثه إياه ليجاهد أعداء الله وكان ذلك فرضا عليه ، فصار مقتولا فيه من غير أن يتوهم منه أنه قصد قتله وإهلاكه ، والله أعلم.

فإن قيل : كيف عوتب كل هذا العتاب ، حتى بعث إليه الملائكة بالخصومة عنده والتمثيل لما ذكر وتقرير ذلك عنده ، ثم أخبر أنه غفر له بعد طول المدة ، إن كان معذورا في ذلك غير مؤاخذ به؟!

قيل : إن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ أجمعين كانوا يؤاخذون بأدنى شيء كان منهم ما لا يؤاخذ غيرهم بذلك ، بل يعدّ ذلك منهم من أرفع الخصال وأجلها نحو ما عوتب يونس ـ عليه‌السلام ـ في خروجه من بين قومه ؛ ليسلم دينه أو نفسه ، لكنه خرج بلا إذن

٦١٦

كان له من الله ؛ فعوتب لذلك ؛ فعلى ذلك داود ـ عليه‌السلام ـ إنما فعل بلا إذن من الله عزوجل ، والله أعلم.

ثم في بعث الملائكة إليه فيما ذكر وجوه من الحكمة وأنواع من الفائدة :

أحدها : جواز الحجاب والحرس له ، حيث دخلوا عليه من غير الباب.

والثاني : رفع الحجاب عن الخصوم لا على وقت حاجة نفسه حيث دخلوا من غير الباب للخصومة بلا إذن منه.

والثالث : قدرة الملائكة على التصور بصورة البشر مع كون النفس الكثيفة موجودة معهم ، وذلك يرد على الفلاسفة مذهبهم أن النفس الروحانية خلقت منتشرة متحركة في كل حال ، لكن الجسد الذي جعل يمنعها عن ذلك ، فإذا نام ذلك الجسد أو مات ذهبت تلك النفس حيث شاءت إلى حاجتها ؛ ألا ترى أن الملائكة قد تسوروا عليه بصورة البشر ، واختصموا إليه خصومة البشر؟! دل على أنه ليس على ما وصفوا هم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ).

قال بعضهم : صعدوا ، وأصل التسور : هو الدخول من العلو والارتفاع وهو النزول من السور وهو الحائط المشرف المرتفع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَفَزِعَ مِنْهُمْ).

لما خاف دخول الوهن في ملكه ؛ إذ دخلوا بلا إذن من غير الباب.

أو خاف ؛ لما ظن أنهم لصوص مكابرون.

أو لما عرف أنهم ملائكة جاءوا بأمر عظيم ونحوه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تُشْطِطْ).

أي : لا تجر.

وقوله : (أَكْفِلْنِيها).

قال بعضهم (١) : أعطينيها.

وقال بعضهم يقال : أكفلته ، أي : أعطيته ؛ وهو قول أبي عوسجة.

وقال بعضهم : أي : ضمها إلى ، واجعلني كافلها ؛ وهو قول القتبي.

وقوله : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ).

قال بعضهم : غلبني في الخصومة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ).

__________________

(١) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير (٢٩٨٣٦).

٦١٧

ثم استثنى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، أي : الذين آمنوا ، واعتقدوا في إيمانهم الأعمال الصالحات ، فإنهم لا يبغون بعضهم على بعض ، ثم أخبر أن من آمن واعتقد في إيمانه العمل الصالح ، أي : من اتقى من المؤمنين قليل و [من] ترك البغي قليل منهم ، وهذه الآية شديدة صعبة على ما ذكرنا.

وفيه أن المؤمن الذي اعتقد في إيمانه العمل الصالح وترك البغي على غيره ـ قليل في كل زمان ودهر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ).

أي : علم داود وأيقن أن خصومة الملكين عنده فيما اختصما فيه محنة له ، هو الممتحن بها ، لا أنهما كانا ممتحنين بذلك ؛ فاستغفر ربه إذ أيقن بذلك أنه هو الممتحن بذلك لا غيره ، والله أعلم.

ثم فسر أهل التأويل الظن هاهنا : الإيقان ، أي : أيقن ، وكأن الإيقان هو علم يستفاد بالأسباب ، على ما استفاد داود ـ عليه‌السلام ـ علما بخصومة الملكين عنده ؛ ولذلك لا يضاف الإيقان إلى الله أنه أيقن كذا لأنه علم يستفاد بالأسباب ، وهو عالم بذاته لا بسبب ، وأما العلم فإنه قد يستفاد بسبب وبغير [سبب] ؛ لذلك أضيف إليه حرف العلم ولم يضف حرف الإيقان ، والله أعلم.

فإن قيل : ما الحكمة في ذكر زلات الرسل ـ عليهم‌السلام ـ والأصفياء في الكتاب ، وهو وصف نفسه أنه غفور وأنه ستور ، وقد أمرنا لنستر على من ارتكب شيئا من ذلك وبالغفران والعفو ، فكيف ذكر هو زلات أنبيائه وأصفيائه حتى نقرأ زلاتهم في المساجد والمكاتب بأعلى صوت إلى يوم التناد ، وما الحكمة في ذكر ذلك؟!

قال الشيخ أبو منصور محمد بن محمد الفقيه ـ رضي الله عنه ـ : يخرج ذكر زلات الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ في القرآن وترك الستر عليهم على وجوه :

أحدها : ذكرها ؛ ليكون ذلك آية لرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن قلوب الخلق وأنفسهم لا يحتمل ذكر مساوئ الآباء والأجداد ، وكذلك لا تحتمل قلوبهم ذكر مساوئ أنفسهم ، فإذا ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ؛ دل أنه على أمر من الله ـ عزوجل ـ يذكر ذلك ؛ ليعلم الناس أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه عن أمر منه ذكر ذلك ، والله أعلم.

والثاني : ذكر زلاتهم امتحانا منه عباده أن كيف يعاملون رسلهم بعد ما عرفوا منهم الزلات وأظهر عنهم العثرات؟ وكيف ينظرون بعين الرحمة والرأفة؟ يمتحنهم بذلك على ما امتحنهم بسائر أنواع المحن.

٦١٨

والثالث : ذكر زلاتهم ليعلموا ـ أعني : الخلق ـ كيف عاملوا ربهم عند ارتكابهم الزلات والعثرات؟ فيعاملون ربهم عند ارتكابهم ذلك على ما عامله الرسل بالبكاء والتضرع والفزع إليه والتوبة على ذلك ، والله أعلم.

أو أن يكون ذكرها ؛ ليعلم أن ارتكاب الصغائر لا يزيل الولاية ولا يخرجه من الإيمان ، وذلك على الخوارج بقولهم : إن من ارتكب صغيرة أو كبيرة خرج من الإيمان.

أو أن يكون ذلك ؛ ليعلم أن الصغيرة ليست بمغفورة ، ولكن له أن يعذب عليها ، وليس على ما قالت المعتزلة أن ليس لله أن يعذب أحدا على الصغيرة ، والله أعلم.

وزلات الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ في قلوب الناس ، فخافوا عليها ، فلولا أنهم عرفوا أن لله أن يعذبهم عليها وإلا لم يخافوا منها كل ما ذكر منهم ، يذكر عن الحسن أن داود جزأ الدهر أجزاء : يوما لنسائه ، ويوما لعبادة ربه ، ويوما لقضاء بني إسرائيل ، ويوما لعباد بني إسرائيل : [يذكرهم] ويذكرونه ، ويبكيهم ويبكونه ، فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا : هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب به ذنبا؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك ، قال : فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر ألا يدخل عليه أحد ، فأكب على الزبور يقرؤها فابتلي بما ذكروا ، قال : ولذلك سمي : أوابا (١) ، والله أعلم.

وابن عباس وهؤلاء قالوا : «إنه كان له تسع وتسعون امرأة ، فكان يكون عند كل امرأة يوما فإذا كان رأس المائة يفرغ للعبادة ، ففي ذلك اليوم أصابه ما أصابه».

وقال بعضهم (٢) في قوله ـ عزوجل ـ : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي : غالبني في الكلام ، أراد إذا تكلم أن يكون أبين مني ، وإذا دعا ودعوت كان أكثر مني أو ما قلت أن يكون أعرض ، على ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ).

أي : زلته التي كانت منه وعثرته ، وما يقول أهل التأويل : ربه أوحى إليه : أني قد غفرت لك ، لكن لا بد أن يتعلق بك أوريّا في رءوس الخلائق ، ثم أستوهبك منه أو عوض كذا ـ فذلك مما لا نقول به ولا نعلم ذلك ، ولا يصح ذلك ، ولا يستقيم على ما ذكرنا نحن : أنه لم يكن منه أوريّا ما يلحقه ما يذكرون ، إنما أمره بمجاهدة أعداء الله وكان له أن يأمر ، إلا أنه عوتب ؛ لأن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كانوا يعاتبون بأدنى شيء كان منهم ، ويعيرون على ذلك ؛ لذلك كان ما ذكرنا ، وقد عرفنا أنه كان منه شيء عوتب عليه ، ثم

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٨٥٥) ، وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٥٦٦).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٩٨٤١) ، وهو قول الضحاك أيضا.

٦١٩

علمنا أن ربه غفر له بقوله ـ عزوجل ـ : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) ، فأما ما سوى ذلك الذي ذكره أهل التأويل فلا نعرفه ، فإن صح شيء منه يقال به ، وإلا الترك أولى به وأسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) في باقي عمره ، أي : له في باقي عمره ما يزلفه لدينا ، ويقربه عندنا ، والله أعلم.

أو أن يكون له زلفى عنده في الآخرة ، أي : له كرامة ومنزلة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ).

يحتمل قوله : في جملة أهل الأرض من الرسل والأنبياء والملوك وغيرهم على الشريف والوضيع ، والله أعلم.

ويحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) في الرسل خاصة ، وكلا التأويلين يرجعان إلى واحد ، إلا أن أحدهما يرجع إلى العامة منهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى).

ثم لم ينهه عن هوى النفس ، ولكن نهاه عن اتباع هواها أن النفس قد تهوى في الحكم بغير حق حيث قال : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) ؛ لأن النفس أنشئت على الهوى والميل إلى اللذات والشهوات وعلى ذلك طبعت وبنيت ؛ فيكون في هواها إلى ما تهوى مدفوعا غير مالك ولا قادر على دفعه ؛ لذلك لم ينه عن هواها ولكن نهاه عن اتباع هواها ، ويقدر على منعها بالعقل وردها إلى اتباع الحق ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

ذكر أنه لو اتبع هواها أضله عن سبيله ، ولا كل هوى إذا اتبعه المرء ، أضله عن سبيله ، لكنه إذا اتبعه في شيء بعد شيء يحمله على الإضلال عن سبيله ؛ إذ من ضل عن سبيله إنما يضل لاتباعه هواه ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الفرقان : ٤٣] : أخبر أن من اتخذ إلها دونه إنما اتخذه بهواه لا بحجة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ).

أي : تركوا الأعمال التي تعمل ليوم الحساب.

أو (بِما نَسُوا) أي : بما تركوا الإيمان به والإقرار ، والله أعلم.

٦٢٠