تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

أربعين خريفا.

ويقول بعضهم (١) : كان ذلك الكبش في نفسه عظيما ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ).

قال أهل التأويل (٢) : أي : تركنا عليه في الآخرين الثناء الحسن.

ويجوز أن يكون قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) ذلك السلام الذي ذكر على أثره حيث

قال ـ عزوجل ـ : (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) ترك ذلك فينا ؛ لنسلم عليه وعلى جميع المرسلين ؛ كقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٨٠ ، ١٨١] قد أمرنا أن نثني ونسلم على جميع الأنبياء والمرسلين ؛ وكقوله : «اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد» (٣) ويكون [سلام] الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ بعضهم إلى بعض كما كان بعضهم من شيعة البعض.

أو أن يكون ذلك السلام من الله لهم أمنا من كل خوف وسلامة عن كل خبث.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

أي : كذلك نجزي كل محسن أن يترك له السلام والثناء الحسن في الآخرين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

يحتمل هذا وجوها :

أحدها : أنه كان من عبادنا المؤمنين قبل أن يوحى إليه وقبل أن يبعث رسولا.

ويحتمل أنه من عبادنا المؤمنين الذين حققوا الإيمان في قوله وفعله ووفاء ما عليه.

أو أنه كان من عبادنا المؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأنبياء جميعا بعضهم يصدق بعضا ويؤمن به ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).

كان سأل ربه الولد يقول : (هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فاستجاب الله دعاءه وبشره بما ذكر ،

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير كما في تفسير البغوي (٤ / ٣٥).

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٥٥٤) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٢٤) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٣٩٢) كتاب التفسير : باب (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ...) (٤٧٩٧) ، ومسلم في الصلاة (١ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦) (٦٦ ـ ٤٠٦) ، وأبو داود (١ / ٢٥٧) ، كتاب الصلاة : باب الصلاة على النبي (٩٧٦).

والترمذي (٢ / ٣٥٢) أبواب الصلاة : باب ما جاء في صفة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤٨٣) ، والنسائي (٣ / ٤٧ ـ ٤٨) ، وابن ماجه (١ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣) كتاب إقامة الصلاة : باب الصلاة على النبي (٩٠٤).

٥٨١

ثم أخبر أنه نبي من الصالحين.

يحتمل قوله ـ تعالى ـ : (نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : نبيّا من السلف ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١] أي : نبيّا نصيره ونجعله من الأنبياء ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) [النجم : ٥٦].

ويحتمل أن تكون البشارة في الولادة [أي : في] الولد الذي سأل ربه.

ويحتمل أن بشر له بنبوته ، أو بشر لهما بهما بالولادة وبالنبوة جميعا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ).

البركة هي اسم كل خير لا يزال على الزيادة والنماء.

أو يقول : إن البركة شيء من أعطى كان لا تبعة عليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ).

(مُحْسِنٌ) أي : مؤمن مصدق (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) ، أي : كافر ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] ، فقال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] أخبر أن في ذريته من لا ينال عهده كما ذكر هاهنا : أن في ذريته محسنا وهو مؤمن وظالم لنفسه مبين ، أي : كافر ظاهر مبين.

أو أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (مُحْسِنٌ) إلى نفسه ، أو محسن إلى الناس ، وهو إسحاق ، و [إن ثبت] ما روي أن رجلا سأل فقال : يا رسول الله ، أي الناس أكرمهم حسبا؟ قال : «يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله» (١) فهو ذاك ، وإلا فلا حاجة لنا إلى معرفة ذلك أنه فلان أو فلان ؛ إذ لو كان لنا إلى بيان ذلك حاجة لبين وأزال الإشكال واختلاف الناس في ذلك والتكلم فيه فضل وتكلف ؛ إذ لا يحتمل أن يكون بالناس حاجة إلى معرفة ذلك وبيانه ، ثم لا يبين لهم ولا يعرف ذلك ، فدل ترك التنازع لذلك على أن لا حاجة لهم إلى ذلك ، والله أعلم.

وقال أبو عوسجة والقتبي : الذّبح : الكبش واسم ما يذبح ، والذّبح بنصب الذال مصدر ذبحت ؛ هذا قول القتبي.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الكبير (١٠ / ١٨٣ ـ ١٨٤) رقم (١٠٢٧٨) ، من طريق بقية بن الوليد عن شعبة عن أبي عبيدة عن ابن مسعود وقال الهيثمي في المجمع (٨ / ٢٠٥) : بقية مدلس وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه.

وله شاهد من حديث أبي هريرة ، أخرجه البخاري (٦ / ٤٨١) ، كتاب التفسير : باب قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ) (٣٣٨٣) ، ومسلم (٤ / ١٨٤٦) ، كتاب الفضائل : باب من فضائل يوسف (١٦٨ ـ ٢٣٧٨).

٥٨٢

وقال أبو عوسجة : الذّبح بالنصب هو الفعل وهما واحد.

وقال القتبي : البلاء المبين : الإحسان المبين العظيم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٢٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ).

يحتمل ما ذكر من المنة عليهما الرسالة والنبوة التي أعطاهما ، والآيات والحجج التي أعطاهما وخصهما بهما [و] الذي أبقى لهما الذكر والثناء الحسن عليهم في الآخرين ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) ، وإنما أوجب عليهم ذكر المنن والنعم التي خصهم بها وفضلهم من بين غيرهم ، وأما أن يوجب عليهم ذكر كل ما من عليهم وأنعم عليهم ، فذلك ليس في وسع أحد القيام بذكر جميع ما من عليهم وأنعم والشكر لها ، وإنما يجب القيام بذكر ما خصوا بها ظاهرا وإن كان في الجملة أخذ عليهم أن يروا جعل النعم والمنن من الله جل وعزّ فضلا منه وإنعاما لا حقا عليه بقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) ما خصوا به من الرسالة والنبوة والآيات والحجج التي وقعت لهم الخصوص ، فأما في كل ما من عليهم وأنعم فلا على ما ذكرنا : أن ليس في وسع أحد القيام بشكر أحد نعمه في عمره وإن طال ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).

قال عامة أهل التأويل (١) : قوله ـ عزوجل ـ : (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) ، أي : من الغرق ، ولكن جائز أن يكون (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي نجاهم منه ما ذكر من قتل الرجال واستحياء النساء ، حيث قال : (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ...) الآية [الأعراف : ١٤١] ، وما استعبدوهم واستخدموهم ، أنجاهم الله من ذلك الذل وأنواع البلايا والشدائد التي كانت عليهم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ...) [الأعراف : ١٣٧] أخبر أنهم كانوا مستضعفين ، فأنجاهم الله من ذلك كله ، وهو الكرب العظيم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ).

__________________

(١) قاله السدي أخرجه ابن جرير (٢٩٥٦٤) ، وانظر تفسير البغوي (٤ / ٣٥).

٥٨٣

يحتمل قوله : (وَنَصَرْناهُمْ) بالحجج والآيات التي أعطاهم.

أو (وَنَصَرْناهُمْ) حيث أنجاهم وأهلك فرعون والقبط ، والله أعلم.

وقوله : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) : التوراة.

ثم يحتمل قوله : (الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) وجهين :

أحدهما : استبان لكل من عقل ونظر أنه من عند الله نزل ؛ لأن التوراة نزلت ظاهرا في الألواح ليست كالقرآن لا يعرف أنه من عند الله نزل إلا بعد التأمل والنظر ؛ لأنه نزل في الأوقات الخالية التي [لم] يطلع عليه أحد سرّا عن ظهر القلب.

والثاني : أنه استبان لكل من نظر فيها ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يتقى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

يحتمل الصراط الذي من سلكه أفضاه إلى مقصوده ، وبلغه إلى الصراط المستقيم ؛ لما بالحجج والبراهين قام لا بهوى الأنفس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ).

هو ما ذكرنا فيما تقدم : أنه أبقى لهما الثناء الحسن في الآخرين ، وهو السلام الذي ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

أي : إنا كذلك نبقي ونترك لكل محسن الثناء الحسن في الآخرين كما تركنا لهؤلاء ، وهو المعروف في الناس : أن كل محسن صالح وإن مات فإنه يذكر بالخير بعده ويثنون عليه بالثناء الحسن ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

يحتمل الوجوه التي ذكرنا فيما تقدم :

من عبادنا المؤمنين قبل الرسالة.

أو من عبادنا المؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أو من عبادنا المؤمنين الذين حققوا الإيمان قولا وفعلا ، والقيام بوفاء ما وجب بعقد الإيمان وعهدته ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

٥٨٤

(١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٣٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

هذا ينقض على الباطنية مذهبهم ؛ لأنهم يقولون : إن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ ستة : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ـ صلوات الله عليهم ـ وما سواهم أئمة ، وفي الآية إخبار أن إلياس كان من المرسلين ، هذا كله ينقض قولهم ويرد مذهبهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) ، عبادة غير الله.

أو يقول : (أَلا تَتَّقُونَ) : ألا تخشون ولا تخافونه في ترككم عبادته واشتغالكم بعبادة غيره.

أو (أَلا تَتَّقُونَ) نقمة الله في مخالفتكم أمره ونهيه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ).

قال بعض أهل التأويل (١) : البعل هاهنا الرب بلسان قومه ، وذكر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «أنه سئل عن قوله ـ عزوجل ـ : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) قال : فقال رجل : من يعرف الآثار ، فقال أعرابي : بعلها ، أي : ربها ، فقال ابن عباس : كفاني الأعرابي جوابها» (٢).

لكن لا يحتمل أن يكون المراد من قوله : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أي : ربا ، إلا أن يكون ذكر أنه بلسان قومه ، في قول : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) : ربا تعلمون أنه لا يضر ولا ينفع ، وتذرون عبادة من تعلمون أنه يضر وينفع ، أو تختارون عبادة من تعلمون أنه لا يملك الضر ولا النفع على عبادة من تعلمون أنه يملك ذلك.

وقال بعضهم (٣) : البعل : السيد هاهنا ، وكذلك يقول في قوله : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] أي : سيدي. وقال بعضهم : البعل : هو اسم الصنم هاهنا ، يقول : أتعبدون صنما وتذرون أحسن الخالقين ، وأصل البعل : الزوج ، كأنه يقول لهم : أتدعون من له أزواج وأشكال ، وتذرون عبادة من لا زوج له ولا أشكال ، والله الموفق.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : أول هذه يماني وآخرها مضري وهو قوله :

__________________

(١) قاله عكرمة ومجاهد وقتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٥٧١ ، ٢٩٥٧٢ ، ٢٩٥٧٣).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٩٥٧٥) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٣٩) ، من طرق عنه وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) قاله ابن عباس أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٥٣٨) ، وهو قول الضحاك وابن زيد.

٥٨٥

(وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) يسمون كل صانع : خالقا ، والخلق : هو التقدير في اللغة يضاف إلى الخلق على المجاز وإن كان حقيقة التقدير لله ـ عزوجل ـ ذكر على ما عندهم لا على حقيقة الخلق ، والله أعلم.

ثم يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) ، أي : أحكم وأتقن ؛ على ما ذكر : وهو (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [هود : ٤٥] ، أي : جعل في كل شيء أثر شهادة وحدانية الله وربوبيته.

أو (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) لما ذكر أنه خلقهم وخلق آباءهم الأولين ، وأنه ربهم ورب الخلائق ، فقالوا : من أحسن الخالقين؟ فعند ذلك [ذكر] ما ذكر ونعته : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، ثم أخبر عنهم أنهم كذبوه مع ما ذكر لهم ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) ، ولم يذكر في ما ذا؟ لكن فيه بيان أنهم لمحضرون النار والعذاب ؛ لأن أهل اللذات هم المحضرون أنفسهم و [أهل] العذاب يحضرون كرها لا بأنفسهم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨] ، وقوله : (وَيَصْلى سَعِيراً) [الانشقاق : ١٢] ونحوه ، ثم استثنى العباد المخلصين منهم أنهم لا يحضرون النار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ).

هو ما ذكرنا أنه أبقى لهم الثناء الحسن [ومن أهلك] إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم ، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم وإياكم وتكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينزل بكم كما نزل بأولئك.

قوله تعالى : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(١٤٨)

وقال ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ)(١).

أي : على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار ، فتعلمون أنهم إنما أهلكوا بالتكذيب للرسل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

وتعتبرون وتمتنعون عن تكذيبه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى

__________________

(١) كذا في أ ، لم يذكر من هذه القصة سوى الآيتين المذكورتين.

٥٨٦

مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(١٤٨)

وقوله : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

هذا ينقض على الباطنية قولهم حين قالوا : إن الرسل ليس إلا ستة لا يعدون يونس ولوطا ـ عليهم‌السلام ـ منهم فيخالفون ظاهر الآية ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، وهم يقولون : ليس من المرسلين ، وبالله العصمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ).

ذكر هاهنا الإباق ، وفي سورة الأنبياء الذهاب ، وهو قوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) [الأنبياء : ٨٧]. فمن الناس من يجعل هذا غير الأول ـ يعني : إباقه الذي ذكر وذهابه ـ لكن جائز أن يكون ذكر الإباق وذكر الذهاب وإن كان في رأى العين في ظاهر اللفظ مختلفا فهما في المعنى واحد ، فيكون قوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ أَبَقَ) من قومه بدينه ؛ ليسلم له ، أو أبق لخوف على نفسه من قومه ، أو أبق على ما أوعد قومه من نزول العذاب بهم إذا لم يؤمنوا به ، وكان الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ يخرجون من بين أظهر قومهم إذا خافوا نزول العذاب بهم ، إلا أن يونس خرج من بينهم قبل أن يأتيه الإذن من الله ـ عزوجل ـ بالخروج من بينهم ؛ لذلك جاء العتاب له والتعيير ، لا لما يقوله عامة أهل التأويل من الخرافات التي يذكرونها وينسبون إليه ما لا يجوز نسبة ذلك إلى أجهل الناس بربه وأخسهم ، فضلا أن يجوز نسبة ذلك إلى نبي من أنبيائه ورسول من رسله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ).

ذكر في القصة أنه ـ عليه‌السلام ـ لما أبق إلى سفينة فركبها أراد أن يعبر البحر ، فجعلت تكفو وتقف وكادت أن تغرق ، فقال القوم بعضهم لبعض : إن فيكم لرجلا مذنبا [ذنبا] عظيما ، وكانوا يعرفون ذلك من عادتها من قبل كانت إذا ركبها مذنب تغرق وتتسرب في الماء ، فلم يعرفوا من هو ذلك؟ فاستهموا مرارا فساهم يونس في كل مرة ، فلما رأى ذلك يونس ـ عليه‌السلام ـ قال لهم : يا قوم ألقوني في البحر حتى لا تغرقوا جميعا ، فأبوا وقالوا : لا نلقي نبيّا من أنبياء الله في البحر ، فألقى هو نفسه فيه ، فالتقمه الحوت على ما أخبر الله ـ عزوجل ـ حيث قال : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ).

ثم قوله : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) قال : فكان من المغلوبين في القرعة والاستهام ، أي : خرجت القرعة عليه ، و (الْمُدْحَضِينَ) : هو الذي لا حجة له فيما يريد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ).

قال بعضهم : (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي : عجيب.

٥٨٧

وقال بعضهم : مليم من الملامة ، أي : كان يلوم نفسه فيما صنع من الخروج من بينهم بلا إذن من الله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

يحتمل قوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) لربه قبل ذلك ومن المصلين له ، وإلا للبث في بطنه إلى ما ذكر ؛ ولذلك قيل : من عمل لله ـ تعالى ـ في حال الرخاء ، نفعه الله بذلك في حال الشدة ويرفعه إذا عثر ، والله أعلم.

قيل في الحكمة : إن العمل الصالح رفع صاحبه إذا عثر وإذا صرع وجد متكئا ، والله أعلم.

ويحتمل (كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) ، أي : صار من المسبحين في بطن الحوت ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) [الأنبياء : ٨٧ ، ٨٨] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ).

العراء : قيل (١) : هي الأرض الصحراء التي لا شجر فيها ولا نبت ولا ركز.

وقال أبو عوسجة : العراء : الأرض التي لا ظل فيها ، والمدحض : المغلوب ، ومليم : أي : أتى أمرا يلام عليه.

وقال القتبي : العراء : هي الأرض التي لا يواري فيها شجر ولا غيره ، كأنه من عري الشيء ، والله أعلم. البعل : الزوج.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ سَقِيمٌ).

ذكر أن الحوت لما نبذه بالعراء لم يكن به شعر ولا جلد ولا ظفر ولا سن سقيم من السقم وهو المرض ، أي : مريض لما مسه بطن الحوت ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ).

قال بعضهم (٢) : هي شجرة القرع ، أنبت عليه ليأكل منها ، ويستظل بها.

وقال بعضهم (٣) : كل شجرة تنبسط على وجه الأرض مما يتسع أطرافه إذا مد [و] أصله واحد ، فهو يقطين ، من نحو البطيخ والعرجون وغيرهما.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٦١٢) وهو قول السدي أيضا كما في تفسير البغوي (٤ / ٤٣).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٩٦٢١) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٤٦) ، وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم ، وهو قول ابن مسعود وقتادة ومجاهد.

(٣) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن جرير (٢٩٦١٧ ، ٢٩٦١٨) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٤٦) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

٥٨٨

والأشبه أن تكون شجرة القرع ؛ لأنها أسرع الأشجار نبتا وامتدادا وارتفاعا في السماء في مدة لطيفة ووقت قريب ، والوصول إلى الانتفاع بها أكلا واستظلالا لها ما لا يكون مثل ذلك [في] مثل تلك المدة من الأشجار ، والله أعلم. وعلى ذلك روي أنه قيل : يا رسول ، إنك لتحب القرع؟ قال : «أجل هى شجرة أخي يونس ، وهو تزيد في العقل» (١) فهذا يدل إن ثبت : أنها كانت شجرة القرع ، والله أعلم.

ثم فيه لطف من الله ـ عزوجل ـ : حيث أنبت عليه شجرة في وقت لطيف ، لا ينبت مثلها إلا بعد مدة [غير] لطيفة ووقت مديد ، وأبقى عليه الضعف وقتا طويلا مما يرتفع ذلك ويزول في وقت يسير في العرف ؛ ليذكره ما أنعم عليه ويقوم بشكره ، وهو كما ذكر في قصة صاحب الحمار حيث قال ـ عزوجل ـ : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) [البقرة : ٢٥٩] أبقى طعامه وشرابه وحفظه وقتا طويلا غير متغير مما طبعه التغير في وقت يسير وغير ما طبعه البقاء لطفا منه ، فعلى ذلك أنبت على يونس شجرة في وقت لطيف مما لا ينبت مثلها إلا في وقت طويل ، وأبقى ذلك الضعف الذي كان به والسقم مما سبيله الزوال والارتفاع في وقت يسير لطفا منه ؛ لتذكير ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ).

هذا يحتمل وجوها :

أحدها : ما ذكرنا أن حرف الاستفهام إذا أضيف إلى الله فهو على التقدير والإيجاب ليس على حقيقة الاستفهام ، فعلى ذلك حرف الشك : أي : مائة ألف بل يزيدون ، أو يقول : ويزيدون ؛ لما يتعالى عن الشك.

والثاني : قوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) حتى يزيدوا ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] ، أي : حتى يسلموا.

أو كأنه وقت ما بعثه إليهم كانوا مائة ألف ، ثم ازدادوا بعد ذلك ، والله أعلم.

والثالث : يزيدون مائة ألف أو يزيدون عند الناس ، فمعناه : أن من نظر إليهم لا يظن دون مائة ألف ، ولكن يظن مائة ألف وزيادة ، والله أعلم.

قال ـ عزوجل ـ : (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ).

قيل : آمنوا به فلم يهلكوا ، ولكن أخر عنهم إلى وقت موت حتفهم.

وقال ـ عزوجل ـ في آية أخرى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا

__________________

(١) أخرجه البيهقي في الشعب (٥٩٤٧) عن عطاء مرسلا بلفظ : «عليكم بالقرع فإنه يزيد في العقل ويكبر الدماغ».

٥٨٩

آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) [يونس : ٩٨] أخبر هاهنا أنه لم ينفع قوما إيمانهم عند معاينتهم العذاب إلا قوم يونس ، وكذلك ذكر ـ عزوجل ـ في آية أخرى : أنه لم ينفع الإيمان عند معاينة العذاب حيث قال ـ عزوجل ـ في آية أخرى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥] ثم لا يدرى أنه إنما يقبل إيمان قوم يونس ؛ لأنهم آمنوا عند خروج يونس ـ عليه‌السلام ـ من بين أظهرهم قبل أن يقبل العذاب عليهم ، لما كانوا يعلمون أن الرسول متى ما خرج من بينهم بعد ما أوعدهم بالعذاب أن العذاب ينزل بهم لا محالة ، فآمنوا به ، وإن لم يعاينوا.

أو أن يكون العذاب قد أقبل عليهم فعاينوه عند معاينتهم فعند ذلك آمنوا.

فإن كان الأول فهو بأنهم إنما آمنوا به عند خروجه منهم فهو مستقيم قبل إيمانهم ؛ لأنهم لم يؤمنوا عند معاينتهم العذاب ، ولكن إنما آمنوا قبل ذلك.

وإن كان الثاني ، فجائز أن يكون قبل إيمانهم ونفعهم إيمانهم وإن عاينوا العذاب ؛ لما عرف ـ جل وعلا ـ أن إيمانهم كان حقا وهم صادقون في ذلك محققون ، لم يكونوا دافعين العذاب عن أنفسهم إلا بإيمان حقيقة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)(١٦٦)

وقوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ).

الاستفتاء والسؤال يخرج على أربعة أوجه :

إن كان الاستفتاء والسؤال من عليم خبير لأهل الجهل يكون تقريرا وتنبيها إذا لم يكونوا أهل عناد ، وإذا كانوا أهل عناد فهو تسفيه وتوبيخ لهم.

وإذا كان الاستفتاء من جاهل مصدق طالب رشد لعليم خبير ، يكون استرشادا وطلب الصواب.

وإذا كان من معاند مكابر ، فهو يخرج على الاستهزاء به والسخرية ؛ كقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] إنما قالوا ذلك استهزاء به.

ثم ما ذكر من الاستفتاء لهؤلاء إنما يكون تسفيها منه لهم في قولهم : لله ـ عزوجل ـ ولد ، والملائكة بنات الله سبحانه ونحوه من الفرية العظيمة التي لا فرية أعظم منها ولا

٥٩٠

كذب أكبر منه ؛ لأن درك الأشياء ومعرفتها إنما يكون في الشاهد بأحد وجوه ثلاثة :

أحدها : المشاهدة.

والثاني : الخبر.

والثالث : الاستدلال بما شاهدوا وعاينوا على ما غاب عنهم.

ثم معلوم عندهم ـ أي : عند هؤلاء ـ أنهم لم يشاهدوا الله حتى عرفوا له الولد ، ولا كانوا يؤمنون بالرسل حتى يكون عندهم الخبر بما قالوا ونسبوا إليه من الولد وغيره ؛ إذ الخبر إنما يوصل إليه بالرسل ، وهم لا يؤمنون بهم ، ولا كانوا شاهدوا ما يستدلون على ما قالوا فيه ونسبوا إليه حتى دلهم ذلك على ذلك ، فسفههم في قولهم الذي قالوا فيه وما نسبوا إليه ، [و] إنهم كذبة في ذلك ؛ إذ أسباب العلم بالأشياء ما ذكرنا ، ولم يكن لهم شيء من ذلك ؛ ولذلك قال : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ، وقال ـ عزوجل ـ : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) يقول : أأختار لنفسي ما تأنفون أنتم عنه ، وتنسبون إليه ما تستنكفون أنتم عنه ، يسفههم في قولهم ونسبتهم إلى الله ما قالوا فيه ونسبوا إليه إلى آخر ما ذكر ، والله أعلم.

وفيه تصبير رسول الله على أذاهم وتركهم الإيمان به والاتباع ؛ لأنه علمهم أنه خالقهم ورازقهم وقديم الإحسان إليهم [و] قالوا فيه ما قالوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

يحتمل قوله : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ، أي : ما لكم تحكمون بلا حجة ولا علم؟

وقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ، أن هذا الحكم جور وظلم عظيم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ).

أي : لكم حجة وبيان على ما تزعمون وتقولون في الله سبحانه.

وقوله : (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : ائتوا بكتاب من عند الله فيه ما تذكرون من الولد وغيره.

وقوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً).

قال عامة أهل التأويل (١) : إن الجنة هم الملائكة ؛ لقول أولئك الكفرة : إن الملائكة بنات الله ، وما قالوا في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) ، أي : علمت الجن الذي

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩٦٥٤ ، ٢٩٦٥٧) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٤٨) ، وزاد نسبته لآدم بن أبي إياس وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب ، وهو قول قتادة وابن زيد.

٥٩١

وصفوا له بنين إنهم لمحضرون النار وعذاب الله ، ويحاسبون ، على قول مجاهد وغيره ، والذين أولئك ـ أعني الأتباع ـ أنهم (١) ملائكة الله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

قوله : (سُبْحانَ اللهِ) نزه نفسه عما وصفه الذين تقدم ذكرهم ، وتبرأ عن جميع ما قالوا فيه ، ثم استثنى عزوجل : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ، فلسنا ندري ما موضع الثنيا هاهنا على أثر ما ذكر من التنزيه لنفسه ، يحتمل الاستثناء وجهين :

أحدهما : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أولئك الكفرة من الولد وغيره إلا عبادنا المخلصين.

والثاني : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، أي : من أخلص منهم وآمن فإنه غير برىء مما يصفه ؛ لما يجوز أن يسلم منهم نفر فيصفونه بما يليق به ؛ لأن المؤمن والمخلص لا يصف ربه إلا بما يليق به ، والله أعلم.

وقال بعضهم : «إلا عبادنا المخلصين» استثنى من قوله : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) للنار (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) فإنهم لا يحضرون النار والعذاب على سبق استثناء هؤلاء الذين أخلصوا ممن يحضر فيما تقدم ـ والله أعلم ـ وهو على التقديم والتأخير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ* ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ* إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ* وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) : يقول ـ والله أعلم ـ : إنكم وما تعبدون لا تملكون أن تفتنوهم وأن تضلوهم ، إلا من هو في علم الله أنه يختار الضلالة ؛ مما يصليه النار ، على حق المعونة لهم لا حقيقة الإضلال ، وهو ما ذكر ـ عزوجل ـ في آية أخرى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢] ، وما أخبر أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، إنما سلطانه على الذين يتولونه ، والله أعلم.

وقال بعضهم في قوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) : إلا من كتب عليه في اللوح : أنه يصلى الجحيم.

وقال بعضهم (٢) : إلا من قضي الله عليه أنه يصلى النار.

وأصله ما ذكرنا ، والله أعلم.

وما يعبدون : الجنّ الذين عبدوا الجن ، أو الملائكة ، ويحتمل الأصنام التي عبدت ؛ إذ

__________________

(١) كذا في أ.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٩٦٦١ ، ٢٩٦٦٢) وابن أبي حاتم واللالكائي في السنة كما في الدر المنثور (٥ / ٥٤٨ ، ٥٤٩) وهو قول الحسن وإبراهيم التيمي وعمر بن عبد العزيز والضحاك ، والله أعلم.

٥٩٢

قد ينسب إليهن الإضلال ؛ لقوله : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ).

يحتمل هذا منهم ـ أعني : الملائكة ـ وجهين :

أحدهما : قالوا ذلك لتبرئة أنفسهم عن أن يأمروا بالعبادة لهم ، أي : لم نتفرغ نحن بعبادة هؤلاء طرفة عين فكيف نأمر هؤلاء بعبادتنا ؛ كقولهم : (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) [سبأ : ٤١] أي : نحن في طلب ولايتك فكيف نتفرغ لذلك ، أو أن يقولوا : إن ولايتك التي واليتنا شغلتنا عن جميع ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) أي ما أنتم بمضلين أحدا من عبادي بإلهكم هذا الذي تعبدون إلا من تولاكم بعمل أهل النار ، وذكر عن عمر بن عبد العزيز (١) [و] عن الحسن (٢) أيضا أنهما قالا في قوله ـ عزوجل ـ : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ* إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) يقول : ما أنتم بمضلين بآلهتكم أحدا إلا من قدر أنه يصلى الجحيم ، وهو قريب مما ذكرنا ، والله أعلم.

(إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ).

يحتمل مكان معلوم محدود لا يبرح عنه ولا يفارق.

ويحتمل (مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي : عبادة معلومة نحو ما ذكر حكيم بن حزام قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بما نحن فيه ولكن أمر آخر (٣) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) (١٧٨)

ثم قوله : (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) بنصب اللام على ظاهر ما قالوا ، يخبر أن يكون من المخلصين بكسر اللام ، أي : لو كان كذا ، فنحن نخلص له التوحيد والعبادة ، لكن المخلص أن يخلصنا الله لو كان كذا ، والله أعلم.

ثم أخبر أنهم كفروا ما آتاهم البيان وأن أولئك المتقدمين إنما أهلكوا لما ذكر محمد ـ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٦٦٦).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٩٦٦٣ ، ٢٩٦٦٤) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٤٩).

(٣) كذا في أ. وأخرج ابن مردويه كما في الدر المنثور (٥ / ٥٥٠) عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل تسمعون ما أسمع؟» قلنا : يا رسول الله ، ما تسمع؟ قال : «أسمع أطيط السماء ، وما تلام أن تئط ؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد».

٥٩٣

عليه الصلاة والسلام ـ لكنهم عاندوه وكابروه وكفروا به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

علم عيان ومشاهدة ؛ إذ عرفوا علم خبر بالحجة والآيات ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) ، اختلف فيه :

قال بعضهم : إن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ كانوا منصورين لم يغلب رسول قط فإنما قتل : الأنبياء ورسل المرسلين الذين يبلغون رسالة الرسل إلى قومهم ويخبرون عنهم ، فأما الرسل أنفسهم فهم لم يقتلوا ولا قتل أحد منهم ؛ عصمهم الله تعالى عن الناس وعما هموا بهم.

وقال بعضهم : إنهم منصورون لما نصر العاقبة لهم ؛ إذ لم يكن رسول إلا وقد كانت العاقبة له وإن غلب في الابتداء.

وقال بعضهم (١) : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) بالحجج والآيات والبراهين أنهم يغلبون بحججهم وآياتهم ويرفعون بها الشبه والتمويهات ، والله أعلم.

ويستدل صاحب التأويل الأول بقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦] ، وفي بعض القراءات : (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا) [آل عمران : ١٤٦] أخبر أنهم وإن قتلوا فإنهم لم يهنوا ولم يضعفوا ، ثم قال ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٤٧] ، ثم أخبر أنه آتاهم الله ذلك حيث قال : (فَآتِهِمْ ...) [آل عمران : ١٤٨] كذا ، والله أعلم ؛ دل [أنه] وإن غلبوا وقتلوا فهم المنصورون.

ثم قوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) ذكر (إِنَّهُمْ لَهُمُ) بحرفين ومعناهما واحد على التأكيد ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) [الصافات : ١٦٥] ، وقوله : (إِنِّي أَنَا اللهُ) [طه : ١٤٤] ، وإن كان الواحد [كافيا] كما في قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧٣] أي : رسلنا أو أتباعنا وأولياؤنا هم الغالبون على ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ).

يحتمل أي : لا تكافئهم بأذاهم إياك إلى حين أو لا تقاتلهم ، فكيفما كان ففيه وجهان من الدليل : أحدهما : دليل على رسالته حيث أخبر أنهم يكونون على الكفر إلى الحين الذي ذكر ويهلكون على ذلك حيث قال : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ).

__________________

(١) قاله السدي أخرجه ابن جرير (٢٩٦٩٦).

٥٩٤

والثاني : فيه دليل حفظه إياه وعصمته عما كانوا يهمون به من القتل والإهلاك ؛ حيث منعه من مقاتلتهم ونهاه عن التعرض لهم إلى وقت ، على المعلوم ما كان منهم من الهم بقتله وإهلاكه لو وجدوا السبيل إليه ؛ فدل أن الله ـ عزوجل ـ قد عصمه وحفظه عنهم حين قال لهم ما قال حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) ؛ كقوله : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) [هود : ٥٥].

قوله تعالى : (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ).

عيانا ومشاهدة.

وقال بعضهم : وأبصرهم العذاب إذا نزل بهم خير فسوف يبصرون وقوعا.

ويحتمل قوله : (وَأَبْصارِهِمْ) أي : عرفهم أن العذاب ينزل بهم فسوف يعرفون إذا نزل بهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ).

دل هذا أنهم كانوا يستعجلون نزول العذاب بهم ـ والله أعلم ـ إنما يستعجلون العذاب استهزاء بالرسول ـ عليه‌السلام ـ وتكذيبا له فيما يوعدهم أن العذاب ينزل بهم.

ثم قوله : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) هو حرف التعجب أن كيف يستعجلون عذابي؟! ألم يعرفوا قدري وسلطاني في إنزال العذاب والإهلاك إذا أردت تعذيب قوم وإهلاكهم؟! أي : قدرت ذلك وملكت عليه.

ثم أخبر أنه إذا نزل العذاب بساحتهم يساء صباحهم ، حيث قال ـ عزوجل ـ : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) [الصافات : ١٧٧].

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) يحتمل النزول بالساحة ، أي : بقربهم.

ويحتمل النزول بالساحة : النزول بهم والوقوع عليهم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) [الرعد : ٣١] حتى يأتي وعد الله في نزوله بهم ـ والله أعلم ـ يحتمل نزوله بساحتهم ما ذكرنا من نزوله بقربهم ووقوعه عليهم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) ساء صباحهم ؛ لأن ذلك العذاب إذا حل بهم صيرهم معذبين في النار أبد الآبدين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ).

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وكذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) ويقول بعضهم : أي : انظر فسوف ينظرون ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا.

٥٩٥

قوله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٨٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وهذه الأحرف الثلاثة جميع ما بينه من الحق على الخلق من التوحيد ، وجميع ما عليهم من التفويض إليه في الأمور كلها ، وجميع ما عليهم من الثناء الحسن ، والحمد له فيما أنعم عليهم وما ألزمهم من الثناء الحسن على جميع المرسلين : أما حرف التوحيد فهو قوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) نزه نفسه وبرأه عن جميع ما قالت الملاحدة فيه مما لا يليق به من الولد والشريك والصاحبة وغير ذلك ، فيرجى أن يثاب قائل هذا ثواب كل واصف لله ـ عزوجل ـ بالبراءة له والتنزيه عن ذلك كله.

وفي قوله ـ عزوجل ـ : (رَبِّ الْعِزَّةِ) وصف بالعزة والقوة وتفويض الأمر إليه ، فيرجى أن يثاب قائل هذا ثواب كل واصف لله بالعز له والقوة.

وأما الثناء الحسن على المرسلين فهو قوله ـ عزوجل ـ : (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) أمر الله ـ عزوجل ـ عباده أن يثنوا على المرسلين جملة ؛ وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا سلمتم فسلموا على إخواني المرسلين ، فإنما أنا رسول من المرسلين» (١).

أما الثناء الحسن على الله بكل ما أنعم عليهم وأحسن إليهم فهو قوله ـ عزوجل ـ : (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فيرجى أن يثاب قائل هذا وتاليه على المعرفة به مما فيه ثواب جميع القائلين به والتالين ، والله أعلم.

وذكر عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : قال : «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه من مجلسه : سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين» (٢) ، والله أعلم.

ورب العزة : قال بعضهم : هو رب النعمة والقوة.

ويحتمل رب العزة ، أي : به يتعزز كل من يتعزز ، وإليه يرجع كل عزيز ؛ وكذلك كل من حمد أو أثنى على شيء فحقيقة ذلك الحمد والثناء راجع إليه تعالى ، والله أعلم بحقيقة مراده.

__________________

(١) أخرجه ابن مردويه عن قتادة عن أنس ، وأخرجه ابن سعد وابن مردويه عن قتادة عن أنس عن أبي طلحة ، وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد ، وابن جرير (٢٩٧٠٤) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة مرسلا كما في الدر المنثور (٥ / ٥٥٣).

(٢) أخرجه حميد بن زنجويه في ترغيبه من طريق الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب كما في الدر المنثور (٥ / ٥٥٤).

٥٩٦

سورة ص مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ)(٨)

ـ قوله ـ عزوجل ـ : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ).

قال بعضهم : (ص) لنا هو اسم تلك السورة التي ذكر ، وكذلك قوله : (ق وَالْقُرْآنِ) [ق : ١] وكذلك جميع الحروف المقطعات ، ولله أن يسمي ما شاء بما شاء وبأي اسم شاء.

وقال بعضهم لنا : هو أسماء الرب ، تبارك وتعالى.

وقال بعضهم لنا : هو فواتح السورة ، وقد ذكرنا أنه يفسره ما ذكر على أثره ، وقد ذكرنا في غير موضع ما قيل في الحروف المقطعة.

وقال بعضهم (١) : صاد ، أي : عارض بالقرآن.

قال أبو عبيدة : صاد : من المصاداة.

وقال الزجاج : صاد بالقرآن ، أي : قاتل به ، وحارب بالقرآن.

وقال بعضهم : صاد بالقرآن ، أي : ناد بالقرآن.

وقيل : أقبل بالقرآن ونحوه ، والله أعلم.

وقال بعضهم (٢) : هو قسم أقسم بقوله : (وَالْقُرْآنِ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذِي الذِّكْرِ).

يحتمل ذي الشرف ، سماه : ذكرا ؛ لأن كل شريف يذكر في كل ملأ من الخلق ، أو سماه : ذكرا ؛ لما يذكرهم كل ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يذر ، والله أعلم.

وقال بعضهم : ذي البيان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ).

__________________

(١) قاله الحسن أخرجه ابن جرير (٢٩٧٠٥ ـ ٢٩٧٠٨) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٥٦).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٩٧١٠).

٥٩٧

ذكر أن أبا طالب كان مريضا فجاءه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوده وعند رأسه مقعد رجل ، فقام أبو جهل ، فجلس فيه وعنده ملأ من قريش ، فشكوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبي طالب ، فقالوا : إنه يقع في آلهتنا ، قال : يا ابن أخي ، ما تريد منهم؟ قال : «يا عم ، إني أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب ويؤدي إليهم بها العجم الجزية» ، قال : وما هي؟ قال : «لا إله إلا الله» ، فقال أبو جهل : أجعل الآلهة إلها واحدا (١) ، بذلك أخبرهم «العزة» التي ذكر حيث قال : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ).

وقوله : (فِي عِزَّةٍ).

قال بعضهم (٢) : منعة معاندين ممتنعين.

وقال بعضهم : (فِي عِزَّةٍ) في حمية واعتزاز ، والحمية هي التي تحمل على الخلاف والمعصية ، والله أعلم.

ثم اختلف في موضع القسم هاهنا :

قال بعضهم : القسم في قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) قيل : في قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) بوجهين :

أحدهما : أن هذا في كل كافر ومشرك ينادي عند موته وهلاكه ، ويسأل ربه الرجوع والعود إلى الدنيا ليؤمن ؛ كقوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ...) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠] (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) الآية [المنافقون : ١٠] ونحوه ، لكن لم ينفع ذلك النداء والغوث والسؤال التأخير على ما أخبر أنه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

ومنهم من يقول : هذا في الجملة في الأمم التي أهلكت من قبل واستؤصلت بالتكذيب والعناد ، كانوا ينادون عند نزول ذلك بهم ووقوعه عليهم ، ويسألون الغوث ويظهرون الإيمان ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) [غافر : ٨٤] لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت على ما أخبر الله ـ عزوجل ـ لأنه إيمان دفع العذاب واضطرار لا إيمان اختيار ، يخوف بهذا أهل مكة أن ينزل بهم ما نزل بأولئك ويندمون على

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٣٢٣٢) ، وأحمد (١ / ٢٢٧ ، ٢٢٨) ، وأبو يعلى (٢٥٨٣) ، وابن حبان (٦٦٨٦) ، والحاكم (٢ / ٤٣٢) ، والبيهقي (٩ / ١٨٨) ، وابن جرير (٢٩٧٣٧ ، ٢٩٧٣٨) ، من حديث ابن عباس.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٧٢٢) وعبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف كما في الدر المنثور (٥ / ٥٥٦).

٥٩٨

صنيعهم كما ندم أولئك ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) هو في الأصل (ولاه) ، فإذا وصل ب (حين) صارت (ولات) كأنه يمين ، أي : والله ، وهو قول الكسائي.

وقال بعضهم : هو (ولا) وليس هنالك تاء وإنما التاء في (حين) ، أي : (تحين) ، وربما يزاد التاء في (حين) و (لا).

وقال بعضهم : (ولات) بالتاء ، وقد قرئ بالتاء والوقف عليها.

[و] قوله : (حِينَ مَناصٍ) ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يقول : «ليس بحين تزور ولا فرار» (١).

وقال بعضهم (٢) : ليس بحين مغاث.

وقيل (٣) : ليس بحين جزع ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ).

يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : (عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي : من بشر مثلهم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الأنبياء : ٣] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون : ٣٣] ، وقولهم : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] كانوا ينكرون الرسالة في البشر ويقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) [الفرقان : ٢١].

والثاني : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي : من دونهم في أمر الدنيا ، لما رأوا أنفسهم قد فضلوا في أمر الدنيا دونه ، فقالوا : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) ، وقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] لم يروا من دونهم في أمر الدنيا [أهلا لذلك] على ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ).

دل هذا القول منهم : أنه قد كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه معجزة أتى بها حتى قالوا : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) ، علموا أنه رسول الله ، لكنهم عاندوا وأرادوا بقولهم : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) أن يغووا أتباعهم عليه ، كما أغوى فرعون قومه على موسى ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) [الشعراء : ٣٥] وهو ـ عليه‌السلام ـ لم يرد أن

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٧٢٤ ـ ٢٩٧٢٧) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٥٦) وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه وفي أ : بروز وفي الطبري : نزو.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٩٧٢٨) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٥٧) ، وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٣) قاله سعيد بن جبير أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٥٥٧).

٥٩٩

يخرجهم من أرضهم ، إنما يريد الإسلام منهم ؛ فعلى ذلك هؤلاء الرؤساء عرفوا أنه ليس بساحر ولكنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن أرادوا أن يغووا قومهم وأتباعهم عليه ولبسوا أمره عليهم ؛ لئلا يتبعوه ، وكذلك قوله ـ عزوجل ـ : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) هذا القول من الرؤساء والمتبوعين منهم إغواء عليه لما عرفوا من خبر عبادة الأصنام والأوثان في قلوبهم ، فقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ).

اختلف في قوله : (أَنِ امْشُوا) قال بعضهم : إن الملأ منهم والأتباع ، أتوا أبا طالب يشكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يذكر آلهتهم بسوء ، فلما كلموه في ذلك لم يلتئم أمرهم فيما طمعوا منه ولم يجبهم إلى ما دعوه إليه وسألوه ، فقال الملأ وهم أشرافهم للأتباع : امشوا من عنده واصبروا على عبادة آلهتكم.

أو أن يقال : أن قال الملأ للأتباع : (أَنِ امْشُوا) إلى آلهتكم (وَاصْبِرُوا) على عبادتها.

أو أن يكون قولهم لهم : (أَنِ امْشُوا) إلى أبي طالب وقولوا له كذا (وَاصْبِرُوا) على كذا.

أو يقولون : امشوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ).

لسنا ندري ما أرادوا بقولهم : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) ، فجائز أن يكونوا أرادوا بذلك أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن دعاكم إلى ترك عبادة الأصنام لا يترككم كذلك ، ولكن يدعوكم إلى عبادة غيرها ، أو يطلب منكم أشياء أحوالا ، أو أشياء أرادوا لسنا نعرف ما أرادوا بذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ).

قال بعضهم : الملة الآخرة (١) : هي ملة عيسى ـ عليه‌السلام ـ قالوا ذلك ؛ لأن النصارى اختلفوا في عيسى ـ عليه‌السلام ـ منهم من اتخذه إلها ، ومنهم من اتخذه ولدا لله ـ عزوجل ـ فيقولون : عبادة الواحد الذي يدعو إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الملة الآخرة وهي النصرانية إذ من صيره إلها عنده ومن قال : إنه صيره بحيث يحتمل الشريك؟! فيقولون : ظهرت عبادة العدد في الملة الآخرة فكيف يمنعنا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن عبادة العدد ويدعونا إلى عبادة الواحد؟!

__________________

(١) قاله محمد بن كعب القرظي أخرجه ابن جرير (٢٩٧٤٤) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٥٨) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٦٠٠