تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

ويحتمل أن يكون للكثير الذي لا يحسب ولا يعد ؛ لكثرته هو في نفسه معلوم محدود.

أو أن يريد بالمعلوم : أنه صار ما وعدوا في الدنيا لهم في الآخرة معلوما معروفا عند الوصول إليه كان ذلك لهم موعودا ، فإذا وصلوا إليه ، صار معلوما محدودا.

وقوله : (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ).

أي : معظمون مشرفون.

وقوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ).

يخبر أن لهم في الجنة ما يستحبون ويختارون في الدنيا من الجلوس على السرر على المواجهة والمقابلة والشرب على ذلك ، والكأس : قيل : كل إناء أو قدح فيه شراب فهو كأس.

وقوله : (بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ).

المعين قال بعضهم (١) : هو الجاري ، وكأنه يخبر أن خمور أهل الجنة تجري في الأنهار ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [محمد : ١٥].

وقال بعضهم : المعين : هو الظاهر الذي يقع البصر عليه ؛ كقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) [الملك : ٣٠] أي : ظاهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ).

ذكر أن خمورهم في الآخرة بيضاء ؛ لأن البياض يظهر كل ما فيه من الأذى والآفة ويرى ، فأما في غيره من الألوان فإنه قلما يظهر وقلما يرى إلا يجهد ، أو ذكر أنها بيضاء لأن البيضاء من الألوان المستحسن الطباع كلها ؛ وهو المختار عندنا.

قال الزجاج : إن الخمر لذة للنفس الروحانية لا للجسدانية ؛ ألا ترى أن الخمر يشربها الناس وتظهر كراهة ذلك في وجوههم من العبوسة وغيرها ، ثم مع هذا يعودون ويشربون دل أنها لذة لا لهذه النفس الجسدانية ، ولكن للنفس الروحانية أو كلام نحوه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ).

و (يُنْزَفُونَ) بنصب الياء وكسر الزاء ، ورفعها ونصب الزاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا فِيها غَوْلٌ) أي : لا آفة ولا صد ولا أذى ، (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) من قرأها (يُنْزَفُونَ) برفع الياء ونصب الزاء يقول : لا تنزف (٢) الخمر

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٢٢٧ ، ٢٢٨) ، والترمذي (٥ / ٢٨١ ، ٢٨٢) ، كتاب التفسير : باب «ومن سورة ص» (٣٢٣٢) ، وأبو يعلى (٢٥٨٣) ، والحاكم (٢ / ٤٣٢) ، والبيهقي (٩ / ١٨٨).

(٢) في أ : ينزفون.

٥٦١

عقولهم ، أي : لا تذهب بها ، أي : لا يسكرون كما يسكر بشرب خمور الدنيا. ومن قرأها (يُنْزَفُونَ) أي يعني شرابهم.

وتأويل هذا الكلام : أن أهل الدنيا إذا أخذوا في الشراب لا يتركون شربهم إلا لإحدى الخلتين : إما لذهاب عقولهم وذلك عند شدة سكرهم ، وإما لفناء الشراب ، لإحدى هاتين الخلتين يتركون شربهم ، فيخبر أن أهل الجنة لا يذهب عقولهم الخمر ولا يفنون شرابهم ، ولا كان فيها آفة ولا ضرر ، والله أعلم.

قال أبو عوسجة : طاهر لا تحرك ، ويقال : الجاري ، (لا فِيها غَوْلٌ) أي : سكر ولا ضرر ، ولا يكون الاغتيال إلا من الخديعة والقتل في الأولاد ، [و] هي أن ترضع المرأة ولدها وفي بطنها آخر ، والغلول : التلوّن ، وكذلك سميت الغول غولا ؛ لأنها تتلوّن ، والغيلان : جميع ، (يُنْزَفُونَ) قال : النزيف : السكران.

وقال القتبي : (لا فِيها غَوْلٌ) أي : لا تغتال عقولهم فيذهب بها ، يقال : الخمر غول للحلم ، والحرب غول للنفوس ، والغول : العدو ، (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي : لا يذهب خمرهم وينقطع و [لا] يذهب عقولهم ، والخمر التي جعلها الله لأهل الجنة في الآخرة هي للذي لم يشربها في الدنيا ولم يتناول منها ولا تلذذ بها ، والله أعلم.

وقيل (١) : (لا فِيها غَوْلٌ) ، أي : غائلة لها ، أي : الصداع ، أي : لا يتجع منها الرأس ، (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي : لا يسكرون بنزف عقولهم فتذهب.

وفي قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) بنصب اللام دلالة : أنه قد كان من الله ـ جل وعلا ـ لطف به استوجبوا الإخلاص والخصوصية ، وهو ينقض على المعتزلة قولهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قاصِراتُ الطَّرْفِ).

أي : لا ينظرن إلى غير أزواجهن ، جبل الله ـ عزوجل ـ البشر على الغيرة ، ولا يستحب الرجال أن ينظر أزواجهم إلى غيرهم ، ولا النساء أن ينظر أزواجهن إلى غيرهن ، فأخبر ـ عزوجل ـ عن أزواجهم في الجنة : أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن ؛ حبّا لأزواجهن وطلبا لمرضاتهم ، والله أعلم.

وقوله : (عِينٌ).

قال بعضهم (٢) : واسعات العيون في الجمال ؛ لأن السعة في العين إذا جاوز الحد

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٣٤٣) وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٦) ، وهو قول الضحاك أيضا.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٩٣٤٨) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٧).

٥٦٢

فحش ولا يكون فيه جمال ، ولكن يكون فيه قبح ، والله أعلم.

وقال بعضهم (١) : (عِينٌ) ، أي : حسان العيون ، والعين جماعة : العيناء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ).

أي : مستور ، لا يصيبه مطر ولا ريح ولا غبار ولا شمس ولا شيء مما يصيب في الدنيا ؛ كقوله : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٥٦] ، والله أعلم.

وقال بعضهم : قوله : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ).

أي : قد خبى وكن من الحر والبرد والمطر فلم يتغير ؛ وهو مثل الأول.

وقال بعضهم (٢) : (بَيْضٌ مَكْنُونٌ) : هو كبيض النعام الذي يكنه الريش من الريح وغيره ، فهو أبيض إلى الصفرة فكأنه ينزف ؛ فذاك المكنون.

وقال بعضهم (٣) : شبهن بالبياض الذي يكون بين القشر وبين اللحا وهو أبيض شيء يكون ، والله أعلم بذلك ، لكن فيه وصفهن بالجمال والبهاء والحب لأزواجهن.

وقال بعضهم : البيض المكنون : هو المصون ، هو وصفهن بالصون والصيانة ؛ كقوله : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢] ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ* قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ* يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ...) إلى آخر ما ذكر :

في بعض القصة : أن رجلين شريكين كان لهما ثمانون ألف دينار ، وذكر أنهما كانا أخوين ورثا ثمانين ألف دينار فاقتسما ـ وذكر أربعون ألف درهم ـ فعمد أحدهما إلى ماله فاشترى به قصورا وبستانا وفرشا وجواري ونساء ، فأنفقه في أمر الدنيا ، وعمد الآخر إلى ماله فأنفقه في طاعة الله ، وطلب مرضاته ، وطلب بعمده [الحياة] الدائمة في الآخرة ، وهذا مؤمن والآخر كافر طاغ ، ثم أصاب الذي أنفقه في طاعة الله وطلب مرضاته حاجة شديدة ، فقال : لو أتيت صاحبي هذا لعله أن ينال منه بمعروف ، فأتاه فسأله ، فأبى أن يعطيه شيئا ، وقال له : ما شأنك وما فعلت بمالك؟ فأخبره بما فعله به ، فقال له : (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ* أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي : محاسبون ، فرجع فقضى لهما أن توفيا فنزلت فيهما : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) وهو المؤمن حين أدخله الله الجنة (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ* يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بالبعث بعد الموت (أَإِذا مِتْنا

__________________

(١) قاله السدي وابن زيد بنحوه أخرجه ابن جرير عنهما (٢٩٣٦٨ ، ٢٩٣٦٩).

(٢) قاله مجاهد أخرجه عبد بن حميد عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٧).

(٣) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير عنه (٢٩٣٧٤).

٥٦٣

وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) ، أي : لمحاسبون (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) ، كأنه قال لأصحابه : هل أنتم مطلعون في النار لننظر ما حاله؟ ثم أخبر أنه اطلع (فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ)(١) ذكر اطلاعه ، ولم يذكر اطلاع أصحابه ؛ فجائز أن يكون أخبر عن اطلاع كل واحد منهم في نفسه : أنه اطلع (فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) ، أي : وسط الجحيم ، وإن كانوا جميعا مطلعين إليه فيها ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) [الانشقاق : ٦] ، و (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] ، وإن كان خاطب إنسانا فإنما خاطب به كل إنسان في نفسه ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) إنما أخبر عن اطلاع كل منهم ـ والله أعلم ـ وكانوا جميعا مطلعين.

ثم في الآية شيئان عجيبان :

أحدهما : ما ذكر من اطلاع أهل الجنة على أهل النار أنها تكون قريبة من الجنة حتى ينظر بعضهم إلى بعض فيرون.

أو تكون بعيدة منها ، إلا أن إبصار أهل الجنة يكون أبعد وأبصر مما يكون في الدنيا ، فجائز أن يجعل الله ـ عزوجل ـ أبصار أهل الآخرة أبصر وأحد ؛ حتى لا يحجبه ولا يمنعه بعد المسافة والمكان عن النظر والرؤية ، والله أعلم.

والثاني : أن كيف يعرفه في النار مما يحرقه ويفني وجهه ولونه وجميع أعلامه وسيماه ، لكن جائز أن يكون الله ـ عزوجل ـ يعرفه بأعلام تجعل له ؛ فيعرفه بتلك الأعلام ، وذلك على الله ـ عزوجل ـ يسير هين.

وأهل التأويل يقولون : يجعل الله ـ عزوجل ـ لأهل الجنة كوى منها إذا أرادوا أن ينظر أحدهم إلى من في النار ، فتح الله له كوة ينظر إلى من شاء من مقعده إلى النار ، فيزداد بذلك شكرا ، وهو قوله : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) ، أي : في وسط الجحيم ؛ كقوله : ـ عزوجل ـ : (سَواءَ السَّبِيلِ) [المائدة : ١٢] ، أي : وسطه.

فقال : (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) ، أي : هممت لتغوين ، وكذلك في حرف ابن مسعود : [مكان] لتردين : لتغوين.

وقال الكسائي : تالله ، وبالله ، وو الله ، والله ـ بغير واو ـ لغات.

يخبر أن بالله يكون على الأسف مرجعهما إلى سفاه يقول : لو لا أن الله أنعم على الهدى ، ولو لا أن الله رحمني فهداني ؛ المعنى واحد. يقول له : اترك دينك واتبعني ، وقال : (لَتُرْدِينِ) أي : لتهلكني ، يقال : رديت فلانا ، أي : أهلكته ، والردى : الموت

__________________

(١) قاله عطاء الخراساني بنحوه أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٨).

٥٦٤

والهلاك ؛ وهو قول أبي عوسجة والقتبي (١).

وقوله : (لَمَدِينُونَ).

قال بعضهم (٢) : لمحاسبون.

وقال أبو عوسجة والقتبي (٣) : لمجزيون ، والدين : الجزاء.

وقال : (بَيْضٌ مَكْنُونٌ) : مستور ، لا يصيبه غبار ولا وسخ.

وقوله : (إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي : هممت ، وأردت [أن] تهلكني وتغويني لو أجبتك واتبعتك فيما [دعوتني] إليه وسألتني.

ثم أخبر أنه (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معه ، وهذا على المعتزلة لقولهم : إن عليه هداية كل أحد ما لو منعه عنه كان جائرا في منع ذلك ، وهذا الرجل أخبر أنه بنعمته ورحمته اهتدى ما اهتدى ، وأنه لو لم يكن منه إليه نعمة ، لكان من المحضرين فيها ، فهو أعرف بربه من المعتزلة ، وكذلك الشيطان وجميع الكفرة أعرف بنعمة ربهم من المعتزلة ؛ لأنهم قالوا : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) [إبراهيم : ٢١] ، (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٤٣] ومثله كثير في القرآن : أنهم جميعا رأوا الهداية لهم من الله نعمة ورحمة ولم يعط الكفرة ذلك ، والمعتزلة يقولون : بل هدى كل كافر ومشرك لكنه لم يهتد ، وأهل الجنة قالوا أيضا : (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) [الأعراف : ٤٣] ، وقالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣] ، ومثله كثير في القرآن ، والله أعلم.

وقوله : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى).

يحتمل قوله : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) على الإيجاب والإلزام ، ليس على الاستفهام ، وسؤال بعضهم بعضا : ألا نموت فيها ولا نعذب ، وإذ لم نمت ولم نعذب فيها ، فإذن كان ذلك فوزا عظيما ؛ ولذلك ذكر أبو معاذ عن الكسائي : أن هذا استفهام تعيين وفي القرآن كثير مثله ، وقال : قد يكون الاستفهام على التعجيب ، ويكون على التعيين ، ويكون على الجهالة ، ويكون قوله : (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) أي : بعد موتتنا الأولى ؛ لأنه بعد إذاقتهم الموتة الأولى ؛ فإنهم لا يذوقون ثانيا.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي ، وعن فرات بن ثعلبة البهراني أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير (٢٩٣٨١) ، كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٩ ـ ٥٢٠).

(٢) انظر تفسير غريب القرآن ص (٣٧١).

(٣) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٣٨٣) وعبد بن حميد عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥٢١) وهو قول مجاهد أيضا.

٥٦٥

وقوله : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ).

أي : لمثل هذه العاقبة التي أعطينا نحن وظفرنا بها ، فليعمل العاملون ، لا لمثل ما فيه صاحبه الذي في النار.

قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(٧٤)

ثم قال : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ).

يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً) من النزل والمقام ، أي : المقام الذي نزلنا فيه نحن خير أم شجرة الزقوم.

ويحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً) أن يكون من الأنزال ، أي : ما لنا من [النعم] العظام والمأكل والمشرب خير أم شجرة الزقوم؟

قال بعضهم (١) ـ أعني : بعض الكفار ـ عند ما خوفوا بها : هل تدرون ما الزقوم؟ هو التمر والزبد ، فقالوا : هذا الذي يخوفنا به محمد.

وقال بعضهم (٢) : إن محمدا يدعي أن تكون الشجرة في النار ، والنار من طبعها أن تحرق الشجر وتأكله ، فكيف يكون في النار الشجرة؟! تكذيبا منهم وإنكارا لذلك ، فأخبرهم الله ـ عزوجل ـ عن تلك الشجرة وعن حالها فقال : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) ، أخبر أن تلك الشجرة خرجت من أصل الجحيم وأنشئت منها ، والشجرة التي أنشئت من النار لا تأكلها النار ولا تحرقها وإنما تأكل غيرها من الأشجار التي لم تنشأ منها ، ومثل هذا جائز أن يكون الشيء الذي يكون نشؤه وبدؤه من كل شيء ألا يهلكه كونه في ذلك ؛ كالسمك الذي يكون أصل نشوئه في الماء ، لا يهلكه الماء وكذلك جميع دواب البحر وإن كان غيرها من الدواب في البرية يهلك فيه ويتلف ؛ فعلى ذلك الشجرة المنشأة منها لا تهلكها النار ولا تحرقها ، وإن كان غيرها من الأشجار تأكلها وتحرقها ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٧١).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥٢٢) ، وهو قول مجاهد والسدي.

٥٦٦

والجحيم : قيل : هو معظم النار وغلظها ، يقال : أجحمت النار ، أي : أعظمتها ، يقال : نار جحيمة ، أي : عظيمة.

وقوله : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ).

اختلف فيه :

قال بعضهم (١) : إن نوعا من الحيّات يسمين : شياطين ، لها رءوس سود قباح ، لها عرف كعرف الفرس ، و [شبه] طلع تلك الشجرة وثمرتها لقبحها وسوادها برءوس من تلك الحيات ، والله أعلم.

وقال بعضهم (٢) : هو نوع من النبات بالبادية يستقبحه الناس أشد الاستقباح ، شبه طلع تلك الشجرة وثمرتها بذلك النبات.

وقال بعضهم : إن جبالا بمكة سود قباح يستقبحها أهل مكة سموها : شياطين ، شبه ثمار تلك الشجرة وطلعها برءوس تلك الجبال ، والله أعلم.

وقال بعضهم (٣) : لا ولكن حقيقة رءوس الشياطين ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ جعل للشياطين في قلوب أولئك الكفرة فضل بغض وقبح والنفار منها وإن لم يروها ولم يعاينوها ، فشبه طلع تلك الشجرة برءوس الشياطين ؛ لفضل إنكارهم وبغضهم إياها حقيقة ، وفي ذلك آية عظيمة لرسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم لم يروا الشياطين ببصرهم ولا عرفوهم معاينة ، وإنما عرفوهم بأخبار الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وبها استنكروها واستقبحوها وهم قوم لا يؤمنون بالرسل ـ عليهم‌السلام ـ فإذا قبلوا أخبار رسل الله فيهم ، لزمهم أن يقبلوا قولهم في الرسالة وفي جميع ما أخبروا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) :

يحتمل قوله : (فِتْنَةً) ، يعني به : الشجرة التي أنشئت من أصل الجحيم ، وهي شجرة الزقوم [جعلها] عذابا للظالمين ، يعني به : الشجرة ؛ كقوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣] أي : يعذبون ، (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي : عذابكم ، (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) [الذاريات : ١٤].

ويحتمل قوله : (جَعَلْناها) ، أي : تلك الشجرة : الزقوم ، (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) في الدنيا وجهة القصة بها لهم : هو إنكارهم إياها من الجهة التي ذكروا : أن النار تحرق وتأكل

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (٢٩٣٩٨) وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥٢٢).

(٢) قاله البغوي في تفسيره (٤ / ٢٩).

(٣) قاله ابن عباس كما في تفسير البغوي (٤ / ٢٩).

٥٦٧

الشجر ، فكيف يكون فيها شجر؟! إنكارا لها وتكذيبا بها.

والثاني : ما ذكر بعضهم : أن الزقوم هو الزبد والتمر ، صار ذلك فتنة لهم ؛ لما ذكرنا وسببا لعذابهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها).

أي : من الشجرة الزقوم ، ذكر أنها تخرج من أصل الجحيم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ).

جائز أن يشدد الله عليهم الجوع حتى يأكلوا منها فيملئون بطونهم منها ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة : ٥٥] وهي الإبل التي تملأ بطونها من المسايم ، لا يغني ذلك الشرب وهو الحميم ، ولا يدفع عنهم العطش الذي يكون بهم ؛ فعلى ذلك ما جعل طعامهم من تلك الشجرة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ ...) الآية [الدخان : ٤٣ ، ٤٤] ، إنهم وإن ملئوا بطونهم فإن ذلك لا يدفع عنهم الجوع ؛ كقوله : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية : ٧] ، والله أعلم.

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها).

وفي حرف عبد الله بن مسعود (١) ـ رضي الله عنه ـ : ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ).

أي : ثم إن لهم على تلك الشجرة التي جعل طعامهم منها خلطا من حميم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ).

أي : ثم إن مردهم ، أي : ثم إنهم يردون إلى الجحيم لا أنهم يرجعون بأنفسهم ، ولكن يردون فيها ؛ كقوله : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) [الزمر : ٧٢] هم لا يدخلون فيها ولكن يدفعون فيها ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] ، والجحيم : هو معظم النار على ما ذكرنا ، يقال : نار جاحمة ، أي : عظيمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ).

أي : وجدوا آباءهم ضالين.

(فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٤٠٨) عن السدي في حكاية قراءة ابن مسعود فقال : «منقلبهم» بدل «مقيلهم» ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٢٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم ، وذكر له طريقا آخر عن ابن جريج رواه أبو عبيد وابن المنذر عنه.

٥٦٨

فيه أن ما ذكر من العذاب للأتباع منهم لا للمتبوعين ، ولم يذكر عذاب المتبوعين في الآية حيث قال : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ. فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ).

قال بعضهم (١) : يسرعون وهو شبه الهرولة ، والإهراع : هو الإسراع ؛ وهو قول القتبي وأبي عوسجة.

وقال بعضهم : (يُهْرَعُونَ) أي : يسعون ؛ وهما واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ).

يقول ـ والله أعلم ـ : ولقد ضل قبل قومك يا محمد من الأولين أكثرهم من الأمم الخالية من لدن آدم فهلم جرّا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آدم [و] من بينهما من النبيين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ).

أي : لقد أرسلنا في الذين ضلوا قبل قومك منذرين ينذرونهم ، ما من قوم إلا بعث إليهم نذير كما أرسلناك إلى قومك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ).

يقول ـ والله أعلم ـ : انظر كيف صنعنا بمن أنذرنا بالعاقبة فلم يؤمن ولم يقبل ولم ينفعه النذارة.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

استثنى المخلصين منهم ، وهم الذين نفعتهم النذارة وقبلوها ؛ فنجوا مما ذكر من عذابهم ، والله أعلم.

ويحتمل : أنه سماهم المخلصين ؛ لما اصطفاهم الله وأخلصهم لعبادته.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)(٨٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ ...) الآية.

قال بعضهم (٢) : حين دعا ربّه فقال ـ عليه‌السلام ـ : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠] ، فكأنه إنما دعا ربه بالهلاك على قومه ، فأجاب الله دعاءه ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ...) [القمر : ١١] إلى آخر ما ذكر.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٤١٣) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٢٣) وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وهو قول مجاهد والسدي أيضا.

(٢) انظر : تفسير البغوي (٤ / ٣٠).

٥٦٩

ثمة أمران الرسل ـ عليهم‌السلام ـ هم مخصوصون بهما من بين غيرهم من الناس : أحدهما : أن ليس لهم الدعاء على قومهم بالهلاك وسؤال العذاب عليهم إلا بعد مجيء الإذن لهم من الله ـ عزوجل ـ بالدعاء عليهم ، فنوح ـ عليه‌السلام ـ إنما دعا ربه بإنزال الهلاك عليهم بالإذن من ربه.

والثاني : لم يكن لهم الخروج من بين أظهرهم عند نزول العذاب بهم إلا بإذن من الله ـ عزوجل ـ على ذلك ؛ ولذلك جاء العتاب ليونس ـ عليه‌السلام ـ والتعيير لما خرج من بينهم عند نزول العذاب بلا إذن كان من ربه حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ...) الآية [الأنبياء : ٨٧] ، هما خصلتان لهم خاصة صلوات الله عليهم ، وأما لغيرهم من أهل الدين فلهم أن يدعوا على الفجرة والفسقة منهم باللعن والهلاك ، فلهم أن يفروا منهم ، وأن يخرجوا من بين أظهرهم ؛ لفسقهم وفجورهم ، وكان هذا يعد من صالح الأعمال لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ).

وهو الرب ـ تبارك وتعالى ـ ذكر المجيب على الجماعة : إنا نفعل كذا ، وفعلنا كذا ، وهو كلام الملوك فيما بينهم ، ثم كل فعل يضاف إلى الله ـ تعالى ـ [يشاركه] فيه غيره أو ينسب يزداد فيه شيء يكون فاصلا ، وذلك بينه وبين فعل غيره ؛ نحو ما قال ـ عزوجل ـ في موضع آخر : (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [هود : ٤٥] ، ونحو قوله : (عالِمُ) [الحشر : ٢٢] لا كالعلماء ونحوه مما يكثر ذلك ؛ لأنه قادر على وفاء ما وعد وأخبر وإنجاز ذلك لا يعجزه شيء ، وغيره من الخلائق لعلهم لا يقدرون على وفاء ذلك والقيام بإنجاز ما وعدوا ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).

يحتمل نجاته من الكرب العظيم هو دعاؤه قومه إلى توحيد الله ـ عزوجل ـ تسعمائة وخمسين سنة ، وما قاساه منهم من أنواع الأذى من التكذيب وغيره ، فأنجاه الله من كرب ذلك حين أهلكهم.

ويحتمل : (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) هو القول الشديد وهو الغرق ، أغرق قومه وأنجاه منه ، سماه : عظيما ؛ لشدة ما أصابهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ).

أي : جعلنا ذرية نوح ـ عليه‌السلام ـ من بين سائر ولد آدم وذريتهم [هم الباقين] وأهلكنا غيرهم ؛ ولذلك كان بقاء نسله إلى يومنا هذا وهلك نسل غيره ، والله أعلم.

وقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ).

٥٧٠

يشبه أن يكون ما ذكر أنه ترك في الآخرين ما ذكر على أثره من السلام حيث قال ـ عزوجل ـ : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) ، أي : أبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين حتى يثنوا عليه جميعا ويصدقوه ويقولوا فيه خيرا وحسنا ، والله أعلم.

ويحتمل ما قال بعضهم : سلام الله على نوح في العالمين ، وسلم إليه جميع العالمين في جميع الأوقات ، كما سلم عيسى على نفسه حيث قال : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ٣٣] ، وما سلم على يحيى ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ١٥] ذكر السلام عليهما في أوقات ثلاثة وفي نوح في الأوقات كلها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

أي : إنا هكذا نجزي كل محسن ، فجزاه الله بإحسانه إلينا الحسن في العالمين ، رغب الناس في الإحسان : إما إلى الخلق ، وإما إلى أنفسهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

وليس في ذكره أنه من المؤمنين كثير منفعة له وهو من أولي العزم من الرسل ، لكن يحتمل ذكره إياه أنه من المؤمنين وجوها :

أحدها : أنه من عبادنا المؤمنين قبل الرسالة وقبل أن يبعث رسولا ، أي : لم يصر مؤمنا وقت الرسالة ، ولكن كان لم يزل مؤمنا قبل الرسالة.

والثاني : أنه من عبادنا المؤمنين بك يا محمد ؛ يذكر هذا ليس به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويفرح عليه ، والرسل ـ عليهم‌السلام ـ جميعا يؤمن بعضهم ببعض.

والثالث : أنه كان من عبادنا المؤمنين المحققين الموفين (١) ، أي : وفاء ما اعتقد بلسانه ، وهكذا كان الرسل كلهم موفين (٢) ما اعتقدوا [و] أعطوا بلسانهم ، وهكذا يعتقد كل مؤمن في أصل إيمانه واعتقاده ألا يعصي ربه ، وألا يخالفه في شيء من أموره ونواهيه ، لكنه لا يفي ما اعتقده فعلا بل يقع ـ ربما ـ في معاصيه وفي مخالفة أمره ونهيه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا

__________________

(١) في أ : الموقنين.

(٢) في أ : موقنين.

٥٧١

لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(٩٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ).

أي : إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من شيعة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على دينه ومنهاجه.

وقال بعضهم (١) : من شيعة نوح ، أي : إبراهيم من شيعة نوح ـ عليهما‌السلام ـ على ما تقدم ذكر نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث قال : (نادانا نُوحٌ ...) إلى آخر ذلك أن إبراهيم من شيعته على دينه ومنهاجه.

وقيل : لذكرها (٢) (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) : عن جميع ما يمنعه من الإجابة لربه فيما دعاه ، والصبر على ما امتحنه وابتلاه ، والله أعلم.

وعلى ذلك سماه الله ـ عزوجل ـ في كتابه الكريم : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧] جميع ما أمر به وامتحن به ، والله أعلم.

وجائز أن يكون ذلك في الآخرة يقول : (جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة : ١٣٠] أخبر أنه في الآخرة يكون من الصالحين وذلك سلامة قلبه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ* أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ).

قد اختلف سؤال إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ بقوله مرة : قال لهم (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) [الأنبياء : ٥٢] ، ومرة قال : (ما ذا تَعْبُدُونَ) ، ثم ذكر في غير هذا الموضع إجابتهم إياه حيث قالوا : (نَعْبُدُ أَصْناماً) [الشعراء : ٧١] ، وما قالوا : (وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) [الأنبياء : ٥٣] ، ولم يذكر هاهنا شيئا قالوه له ، ثم معلوم أنه لا بهذا اللسان أجابوه بما أجابوه ، ثم ذكره على اختلاف الألفاظ والحروف ليعلم أن تغيير الحروف والألفاظ لا يغير المعنى ، وكذلك جميع القصص التي ذكرت في القرآن يذكرها مكررة معادة مختلفة الألفاظ والحروف والقصة واحدة ؛ ليدل أن المأخوذ والمقصود من الكلام معناه لا لفظه وحروفه ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ).

يقول ـ والله أعلم ـ : إفكا أي : كذبا تمسككم بالأصنام التي تعبدونها من دونه ، يقول : كذبا ذلك ، ليست بآلهة دون الله [و] عبادته.

أو يقول : إفكا ، أي : كذبا الآلهة التي اتخذتموها آلهة دون الله ، يريدون أن

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩٤٢٩) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٢٥) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وهو قول قتادة والسدي.

(٢) كذا في أ.

٥٧٢

يتخذوا آلهة وهو قريب [من] الأول ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

يقول ـ والله أعلم ـ : فما ظنكم برب العالمين أن يفعل بكم إذا اتخذتم دونه آلهة ، وصرفتم العبادة والشكر عنه إلى من دونه ، وقد تعلمون أنه هو المنعم عليكم هذه [النعم] وهو أسدى إليكم هذا الإحسان وهو تعالى أداها إليكم.

أو يقول : فما ظنكم برب العالمين أنه يرحمكم ويفعل بكم خيرا في الآخرة بعد تسميتكم الأصنام : آلهة ، وعبادتكم إياها دون الله ، بعد علمكم : أنه هو خالقكم ، وهو سخر لكم جميع ما في الدنيا وهو أنشأها لكم ، فما تظنون به أن يفعل بكم : أن يرحمكم ويسوق إليكم خيرا؟! أي : لا تظنوا به ذلك ، ولكن ظنوا جزاء صنيعكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ).

أي : سأسقم ، وذلك جائز في اللغة ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] للحال ؛ فعلى ذلك قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (إِنِّي سَقِيمٌ) أي : سأسقم.

أو يقول : (إِنِّي سَقِيمٌ) وهو صادق ؛ إذ ليس من الخلق أحد إلا وبه سقم ومرض وإن قل ، فعلى ذلك قول إبراهيم ، عليه‌السلام.

وقول من قال : إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كذب ثلاثا : أحدها : هذا (إِنِّي سَقِيمٌ) فذلك وحش من القول سمج (١) ، لا جائز أن ينسب الكذب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو من أنبيائه لا يقع قط في وجه من الوجوه ، ويذكر أهل التأويل أن قومه أرادوا أن يخرجوا بإبراهيم إلى عيدهم ، فنظر إبراهيم نظرة في النجوم فقال : (إِنِّي سَقِيمٌ) ليخلفوه ويتركوه ؛ ليكسر أصنامهم التي يعبدونها على ما فعل من الكسر والنحت ، ويذكرون أنه إنما نظر في النجوم ؛ لأن قومه كانوا يعملون بالنجوم ويستعملونها وعلم النجوم ، فإن كان ذلك ، فهو ـ والله أعلم ـ أراد أن يرى من نفسه الموافقة لهم ليلزمهم الحجة عند ذلك وهو ما ذكر في قوله : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦] و (هذا أَكْبَرُ) [الأنعام : ٧٨] ونحوه ، قال ذلك على إظهار الموافقة لهم من نفسه ؛ ليكون إلزام الحجة عليهم والصرف عما هم عليه أهون وأيسر ؛ إذ هكذا الأمر بالمعروف في الخلق أن من أراد أن يصرف آخر عن مذهب أو دين أنه إذا أظهر من نفسه الموافقة له [كان ذلك أهون عليه.

__________________

(١) قلت : بل صح الحديث في هذا المعنى وهو في الصحيحين ، أخرجه البخاري (٧ / ٣٦) كتاب أحاديث الأنبياء : باب قول الله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (٣٣٥٨) ، ومسلم (٤ / ١٨٤٠) ، كتاب الفضائل : باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٥٤ / ٢٣٧١) عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال : «لم يكذب إبراهيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قط إلا ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله قوله : إني سقيم ، وقوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وواحدة في شأن سارة ...» الحديث.

٥٧٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَراغَ)] عليهم ضربا باليمين أي : ضربهم ضربا باليمين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ).

أي : فراغ إلى ما اتخذوا هم ، وسموها آلهة ، ذكرها على ما عندهم وعلى ما اتخذوها هم وإلا لم يكونوا آلهة ، وكذلك قول موسى : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) [طه : ٩٧] أي : انظر إلى إلهك الذي هو عندك ، وإلا لم يكن هو إلها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ).

كأن طعاما [كان] موضوعا بين يديها ؛ لذلك قال : ألا تأكلون؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ).

بحوائجكم ، أو يشبه أن يكون قوله : (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) : أنه من فعل بها ما فعل ؛ كقوله : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ. قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٢ ، ٦٣] عمن فعل بهم هذا ، سفه قومه في عبادتهم الأصنام ، وهي لا تأكل ولا تنطق ولا تملك دفع من قصد بها ضررا ، فكيف تطمعون شفاعتها لكم في الآخرة وهي لا تملك ما ذكر؟! والله أعلم ؛ وهو كقوله : (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) [الشعراء : ٧٢ ، ٧٣].

وقوله : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ).

أي : مال ورجع عليهم.

وقوله : (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) اختلف فيه :

قال بعضهم : ضربا مألوفا ليمينه التي كانت منه حيث قال : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] ، والله أعلم.

وقال بعضهم (١) : (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) بالقوة ، وقد يعبر باليمين عن القوة كما يعبر باليد عن القوة.

وقال بعضهم (٢) : (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) ، أي : بيده اليمنى نفسها ، على ما يعمل المرء أكثر أعماله باليمين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ).

ظاهر هذا أنهم أقبلوا إليه وقت ما كسرها وفعل بها ما فعل ، لكن في آية أخرى ما يدل أن إقبالهم إليه كان بعد ما خرج من عندها وغاب وكان بعد ذلك بزمان ؛ ألا ترى أنهم قالوا : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ...) الآية [الأنبياء : ٥٩ ، ٦٠] ، ولو كانوا أقبلوا إليه مزفين وهو عندها حاضر لم

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٤ / ٣١) ، وابن جرير (١٠ / ٥٠٣).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٩٤٥٢) وهو قول الضحاك وذكره البغوي في تفسيره (٤ / ٣١).

٥٧٤

يحتاجوا إلى أن يقولوا : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) [الأنبياء : ٥٩] ، بل يقولون : إن إبراهيم فعل ذلك بها ، ولا كان لقول إبراهيم : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٣] معنى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَزِفُّونَ).

قال بعضهم (١) : يمشون إليه.

وقال بعضهم (٢) : يسرعون ؛ وهو قول أبي عوسجة. وأصل التزفيف : كأنه المشي فيه سرعة ، على ما يسرع المرء في المشي إذا أصابه شيء أو فعل به أمر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ).

يسفههم بعبادتهم ما ينحتون بأيديهم ويتخذونها بأنفسهم ، على علم منهم أنها لا تملك نفعا ولا ضرّا ، والذي نحتها أولى بالعبادة له [أي :] أولى بأن يعبد ـ إن كان يجوز العبادة لمن دونه ـ من ذلك المنحوت ؛ إذ هو يملك شيئا من النفع والضر والمنحوت لا ، فإذا لم تعبدوا الناحت لها والمتخذ وهو أقرب وأنفع ، فكيف تعبدون ذلك المنحوت الذي لا يملك شيئا وتركتم عبادة الذي خلقكم وخلق أعمالكم؟!

ثم من أصحابنا من احتج على المعتزلة بهذه الآية في خلق أفعال العباد ؛ يقولون : أخبر ـ عليه‌السلام ـ عن خلق أنفسهم وعن خلق أعمالهم حيث قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ).

لكنهم يقولون : ليس فيه دلالة خلق أفعالهم ؛ ألا ترى أنه قال عليه‌السلام : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) وهم لا يعبدون النحت إنما يعبدون ذلك المنحوت ؛ فعلى ذلك لم يخلق أفعالهم وأعمالهم ، ولكن خلق ذلك المعمول نفسه ، والله أعلم.

لكن الاحتجاج عليهم من وجه آخر في ذلك كأنه أقرب وأولى وهو أن صير ذلك المعمول خلقا لله تعالى بقوله : (خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ؛ لأنهم إنما يعبدون ذلك المعمول [وهو] مخلوق لله دل أن عملهم الذي عملوا به مخلوق ؛ لذلك قلنا : إن فيه دلالة خلق أعمالهم ، والله أعلم وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة : ٢٢٢] إنما صار التواب والمتطهر محبوبا لحبه التوبة والتطهر ، وصار المعتدي غير محبوب لبغضه الاعتداء ، فعلى ذلك المعمول صار مخلوقا بخلقه عمله ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله السدي أخرجه ابن جرير (٢٩٤٥٩).

(٢) قاله الضحاك أخرجه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٥٢٦) ، وهو قول قتادة أيضا.

٥٧٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً).

كأنه قال بعضهم لبعض : ابنوا له بنيانا ليجمع فيه الحطب فتعظم فيه النار فيصير جحيما ، ثم ألقوا إبراهيم في الجحيم ، والجحيم قد ذكرنا أنه معظم النار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ).

أي : هالكين ، يقولون : ما تأخر الله بعد ذلك حتى أهلكهم.

ويشبه أن يكون ما ذكرنا والله أعلم ، فإذا أرادوا إهلاك إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فصاروا من الهالكين ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ(١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ(١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)(١١٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ).

قال بعضهم (١) : ذاهب إلى ربي بقلبي وعملي ونيتي وذلك في الآخرة.

ويحتمل : ذاهب إلى ما أمرني ربي ، أو إلى ما أذن لي ، أي : وقد أمر بالهجرة إلى الأم من مكة.

أو ذاهب إلى ما فيه رضاء ربي ، أو طاعة ربي ونحو ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَيَهْدِينِ).

قال بعضهم : أي : سينجيني مما رأيت من قومي.

وقال بعضهم : سيهديني الطريق ، وذلك جائز نحو قول موسى ـ عليه‌السلام ـ : (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) [القصص : ٢٢] لما توجه إلى مدين ؛ فعلى ذلك جائز قول إبراهيم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أي : ذاهب إلى أمر ربي ، أي : متوجه إلى ما أمرني ربي أن أتوجه سيهديني ذلك الطريق ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٤٦٤) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٢٦) ، وزاد نسبته لعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٥٧٦

وقال بعضهم : سيهديني لدينه وذلك أول ما هاجر من الخلق ، أي : ليعلم دينه ، وقد ذكر في حرف حفصة : إني مهاجر إلى ربي سيهدين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ).

كأنه قال : رب هب لي غلاما واجعله من الصالحين ، دليل ذلك ما ذكر له من البشارة بالغلام ، فدلت البشارة له بالغلام على أثر ذلك [على أن] سؤاله كان سؤال الغلام.

ثم فيه دليل جواز سؤال الولد الذكر ربّه ، لكنه يسأله بشرط الصلاح والطيب كما سأل الأنبياء وسأله إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) ، وقال زكريا ـ عليه‌السلام ـ : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [آل عمران : ٣٨] ، وما ذكر وحكي عنهم مدحا لهم وثناء عليهم حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٤] يجب على من يسأل ربه الولد أن يسأله على هذه الشرائط التي سألته الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ فيكون سؤالهم الولد على ذلك سؤالا لله ـ عزوجل ـ وما يصلح لقيامه لأمره وعبادته ، فأما أن يسأله إياه لذة لنفسه وسرورا له في الدنيا فلا.

ثم يحتمل قوله : (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ...) [الفرقان : ٧٤] إلى آخر ما ذكر وجهين :

أحدهما : أي : هب لنا من أزواجنا وذريتنا ما تقر به أعيننا.

أو هب لنا من أزواجنا من الولد والذرية ما تقر به أعيننا على ما سأل زكريا ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [آل عمران : ٣٨].

ثم فيه دلالة أن الولد هبة الله لهم وعطاء لهم ؛ ولذلك قال : (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [آل عمران : ٣٨] ، (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩] ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ـ والله أعلم ـ نعني : ما صار الولد هبة من الله.

وقوله : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ).

يصير حليما إذا بلغ مبلغ الامتحان بالأعمال والأمر والنهي ، أي : بشرناه بغلام حليم يحلم فيما امتحن إذا بلغ مبلغا يمتحن فيه ، قال قتادة : «إن الله ـ عزوجل ـ لم يذكر أحدا ولا وصفه بالحلم سوى إبراهيم وولده الذي بشر به» (١) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ).

أي : بلغ بحيث يقدر أن يسعى معه إلى حيث أمر هو أن يسعى ويمشي معه وهي

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٤٦٨) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٢٧) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

٥٧٧

الهجرة.

وقال بعضهم (١) : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ،) أي : بلغ بحيث يعمل ويمتحن عندنا.

قال له : (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى).

وترى بالنصب والرفع جميعا ـ فيه دلالة أن رؤيا الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ على حق تخرج كالأمر المصرح ؛ ألا ترى أنه لما قال له : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) ، وقد عرف حرمة ذبح بني آدم وقتلهم قال له ولده : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ولو لم يكن أمرا لم يقل : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ، ولا قال له إبراهيم : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) ، وقد عرف حرمة ذبح بني آدم وقتلهم الذي لا يسع الإقدام عليه ، والله أعلم.

ثم [في] قوله لأبيه : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) دلالة أن لا كل مأمور بأمر من الله شاء الله أن يفعل ما أمره ؛ حيث أخبر [أنه] سيجده من الصابرين إن شاء الله ، وقد ذكرنا أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان مأمورا بالذبح ، فإذا أمر هو بالذبح أمر هذا أن يصبر على الذبح ولا يجزع ، ثم أخبر أنه يصبر إن شاء الله دل أن لا كل مأمور لله بأمر شاء منه أن يفعل ذلك ، ولكن شاء أن يفعل ذلك ممن علم منه أنه يختار ذلك الفعل ويفعله ، ومن علم منه أنه لا يفعل ذلك لا يجوز أن يشاء منه ذلك الفعل ؛ وكذلك قول موسى ـ عليه‌السلام ـ : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) [الكهف : ٦٩] ، وهذا على المعتزلة لقولهم : إن الله تعالى إذا أمر أحدا بأمر شاء أن يفعل ما أمره به ، لكنه تركه لما لم يشأ هو ، والله أعلم. وقد بينا فساد قولهم في غير موضع ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ).

يحتمل قوله : (أَسْلَما) أي : استسلما لأمر الله فيما أمرهما : هذا بالذبح ، وهذا بالبذل والطاعة في ذلك.

أو أسلم هذا ابنه وهذا نفسه لله ـ عزوجل ـ وأصله : أسلما أنفسهما لأمر الله وإطاعته في ذلك.

وقوله : (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) ، أي : صرعه ، وكبه على وجهه ، فيه أنه لم يضجعه كما يضجع المرء ما يريد أن يذبحه من الشياه وغيرها ، ولكنه أضجعه على وجهه ، فهو ـ والله أعلم ـ لما أراد أن ينفذ أمر الله ويقدر على أداء ما أمر به ، فلعله لو أضجعه على ما يضجع غيره من الذبح نظر كل واحد منهما إلى وجه الآخر ، فيرحمه هذا بترك ذبحه وهذا ينظر في

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٤٦٩) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٢٧) ، وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

٥٧٨

وجهه في جزع ويترك طاعته.

أو على ما قال أهل التأويل (١) : إنّ ولده قال لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : كذا ، ففعل ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) يجوز أن يحتج بهذه الآية على المعتزلة لقولهم : إن الله ـ عزوجل ـ إذا أمر أحدا بأمر يجوز ذلك الفعل منه وأراد أن يفعل ما أمره به ، ونحن نقول : يجوز أن يريد غير الذي أمره به ، يريد أن يكون ما علم أنه يكون منه ويختاره حيث قال ـ عزوجل ـ : (يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) ، ولم يكن منه حقيقة ذبح الولد وقد أمره بذبحه ، فلو كان في الأمر إرادة كون ما أمره به ، لكان لا يصدقه في الوفاء بالرؤيا ، ولم يكن ذلك منه حقيقة.

لكنهم يقولون : إن الأمر بالذبح لم يكن إلا ما كان منه من ذبح الكبش من ذلك أراد فكان ما أراد ، ومذاهبهم الاحتيال لدفع ما ذكرنا.

لكن نقول : إن الأمر بالذبح إنما كان بذبح الولد حقيقة لا بذبح الكبش ؛ دليله وجوه :

أحدها : قول إبراهيم حيث قال : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) ، وقول ولده ـ عليهما‌السلام ـ : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ، لو لم يجعل الأمر من الله له بالذبح أمرا بالذبح على ذبح الولد حقيقة لكان يجهلهما في قولهما : أمر الله ، وفي تسميتهما ما سميا ، ولم يجهلهما في ذلك ، فدل أن الأمر كان على حقيقة ذبح الولد لا على ذبح الكبش على ما يقولون ، والله أعلم.

والثاني : أن إبراهيم وولده ـ عليهما‌السلام ـ قد مدحا وأثنى عليهما بالصنيع الذي صنعا : هذا بإضجاعه إياه للذبح ، وهذا لبذله نفسه له والطاعة له في ذلك ، فلو كان الأمر منه لهما لا غير الإضجاع والبذل لذلك لم يكن لهما في ذلك الصنيع فضل مدح ولا فضل ثناء ومنقبة ؛ إذ لكل أحد إضجاع الولد لذلك وللآخر البذل له ، فإذا مدحا وأثني عليهما في صنيعهما الذي صنعا وصار لهما منقبة عظيمة إلى يوم القيامة ، حتى سمي هذا : ذبيح الله ، وهذا : فداء الله ؛ حيث قال الله ـ عزوجل ـ : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، فلو كان الأمر بالذبح ذبح الكبش لا ذبح الولد لم يكن الكبش فداء منه ؛ إذ لا يسمى الفداء إلا بعد إبدال غير عنه وإقامة غير مقامه ، دل على ما ذكرنا ، والله أعلم.

لكنه إذا أضجعه وتله للجبين على [ما] ذكر صارا ممنوعين عن ذلك الفعل غير تاركين

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩٤٨٥) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٢٨) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وهو قول عكرمة وقتادة وغيرهما.

٥٧٩

أمر الله ـ عزوجل ـ على ما ذكر في القصة : أن الشفرة قد انقلبت عن وجهها فلم تقطع ، فمن أمر بأمر ثم منع عمّا أمره به وحيل بينه وبين ما أمر به ، لم يصر تاركا للأمر ، ولا كان موصوفا بالترك له ، لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

ثم يجوز أن يستدل بهذه الآية لمسائل لأصحابنا :

إحداها : في المرأة إذا أسلمت [نفسها للزوج وهناك] ما يمنع الزوج عن الاستمتاع بها والجماع صارت موفية مسلمة ما على نفسها إلى زوجها ، فاستوجبت بذلك كمال الصداق ولزمتها العدة ؛ إذ لا تملك سوى ما فعلت وإن لم يجامعها زوجها.

وفيمن عنده أمانة إذا سلمها إلى صاحبها وصيرها بحال يقدر على أخذها وقبضها يصير مسلما إليه مؤديا خارجا منها موفيا ، وإن لم يقبض الآخر ولم تقع في يده.

وفي البائع إذا سلم المبيع إلى المشتري وخلى بينه وبين ذلك يصير مسلما إليه خارجا من ضمان ذلك وعهدته وإن لم يقبضه المشتري ، ونحوه من المسائل مما يكثر إحصاؤها ؛ إذ ليس في وسعهم إلا ذلك المقدار من الفعل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا).

لو كان هذا القول بعد ذبح الكبش ، ففيه حجة لقول أصحابنا حيث قال أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ : إن من أوجب على نفسه ذبح ولده يخرج منه بذبح الكبش ؛ لما أخبر أنه قد صدق الرؤيا بذبح الكبش ؛ فعلى ذلك يصير هذا موجبا على نفسه ذبح كبش لا غير ، والله أعلم ، وإن كان قوله : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) قبل ذبح الكبش بإضجاعه إياه وإسلامه لذلك ، ففيه ما ذكرنا أنه بذل تسليمهما نفسه منزلة إتيان عين ذلك ؛ إذ منع عن ذلك لا أنه ترك ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ).

إن الأمر بذبح الولد الذي أمر به إبراهيم محنة عظيمة.

ويقول بعض أهل التأويل (١) : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) ، أي : النعمة العظيمة ، أي : في الفداء الذي فدى لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ نعمة عظيمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

وهو الكبش ، قال بعض أهل التأويل (٢) : سماه : عظيما ؛ لأنه كان يرعى في الجنة

__________________

(١) قاله مقاتل كما في تفسير البغوي (٤ / ٣٤).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٩٥٥٠) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٣٤) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٥٨٠