تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

أهون من ابتدائه ، فإذا قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر وأملك ؛ إذ ذلك في عقولكم أهون وأيسر ، وإلا ليس في وصف الله تعالى أن شيئا أهون عليه من شيء ، بل الأشياء كلها تحت قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) من غير أن كان منه كاف أو نون أو شيء من ذلك ، لكنه عبر به ؛ لأنه أخف حروف على الألسن وأيسره وأقصر كلام وأوجزه يؤدى به المعنى ويفهم منه المراد.

والثالث : أنه خلق هذه الأشياء والجواهر كلها سوى البشر للبشر ولمنافعهم ، فلو لم يكن بعث ولا نشأة أخرى ، كان خلق هذه الأشياء لهم عبثا باطلا.

أو أن يكون قوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي : غفل عن بدء خلقه إذ بدأ خلقه ، إما أن كان من ماء أو تراب ؛ فعلى ذلك إذا أفناه يصير ماء أو ترابا فيعيده منه على ما أنشأه منه بدءا.

ثم في قوله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) ـ دلالة نقض قول الباطنية وفساد مذاهبهم ؛ حيث قالوا : إن إعادة الخلق وإنشاءه ليس على هذه البنية والصورة التي أنشأها بدءا ، ولكن ينشئ نفسا روحانية على خلاف ما شاهدوها وعاينوها ، فالآية تكذبهم وتنقض قولهم ؛ حيث قال : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) أخبر أنه يحيي العظام التي أنكروا هم إحياءها واستبعدوا ذلك ، وعلى ذلك قال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) احتج عليهم بعلمهم النشأة الأولى ؛ لإنكارهم النشأة الأخرى ، فلو كان على خلاف ذلك لم يكن للاحتجاج عليهم بذلك معنى ؛ فدل أنه ينشئهم ويعيدهم على الهيئة الأولى.

والثاني : ينقض عليهم قولهم أيضا حيث قالوا : يوصل إلى معرفة ذلك من الذي يعلمه الرسول ويخبره دون النظر والتفكر والتدبر ، فلو كان على ما يقولون ، لم يكن لقوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) ، ولا لقوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) [الروم : ٨] ، وقوله : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧] ، وقوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١] ـ معنى ؛ فدل أنه قد يوصل إلى معرفة ذلك بالتفكر والنظر ، كما يوصل بخبر الرسول الذي قد أظهر صدقه للخلق ، فتلزمه الحجة في هذا كما تلزمه في ذلك.

وقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) ، اختلف فيه : قال بعضهم (١) : هو نوع من الشجر يقال : المرخ ، كانوا يوقدون منه النار ، ويورون

__________________

(١) قاله ابن عباس كما في تفسير البغوي (٤ / ٢١).

٥٤١

منه ، وقيل : هو الزيتون الذي يسرج منه.

وتأويله : أن الشجر الأخضر خضرته إنما تكون من الماء ، والماء يطفئ النار ، والنار تأكل الحطب والخشب ، فمن قدر على الجمع بين المتضادين وحفظ كل واحد منهما عن صاحبه مما السبيل منها التنافر والتدافع ـ لقادر على البعث ، وأنه لا يعجزه شيء.

وقال بعضهم : قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) هو ما أنشأ لهم من الشجر يتنزهون به ويتلذذون ما دام أخضر ، فإذا أدرك وبلغ ينتفعون بثماره وفواكهه ، ثم يصير حطبا يوقدون منه النار ويصطلون ، فمن قدر على ما ذكرنا لا يحتمل أن يعجزه شيء ، أو من فعل ما ذكر لا يحتمل أن يفعله عبثا باطلا ، فلو كان على ما قاله أولئك الكفرة أن لا بعث ولا نشور ، كان فعل ذلك عبثا باطلا ، والله أعلم.

وقوله : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى).

يذكر ـ والله أعلم ـ أو ليس من قدر على إنشاء السموات والأرض مبتدأ لا من شيء ولا أصل لا يحتمل أن يعجزه إعادة الخلق وبعثهم.

أو يقول : إن من قدر على خلق السماوات والأرض وما فيها قادر على أن يخلق مثلهم ، وخلق المثل إعادة ؛ لأنه إنما يكون بعد هلاك الذين أنشأهم وبعد إماتتهم ، ويخلق مثلهم مع بقائهم سواهم ، وفي ذلك ابتداء خلق وإعادة ؛ فيلزمهم الإقرار بالبعث والقدرة على الإعادة.

ثم أخبر عن قدرته فقال : (بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).

أي : هو خلق كل شيء من جواهر الأشياء وأفعالهم.

أو هو الخلاق في الدنيا والآخرة ، (الْعَلِيمُ) يحتمل وجوها :

يحتمل العليم ببعثهم ، أو العليم بمصالحهم ومعاشهم وما لا يصلح.

أو العليم بأحوالهم وأنفسهم ما ظهر منهم وما بطن وما أسروا وما أعلنوا.

وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً).

يحتمل : إنما حاله إذا أراد شيئا (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، قد ذكرنا معنى هذه الآية فيما تقدم أن كل ما كان ويكون أبد الآبدين إنما يكون ب (كُنْ) الذي كان من غير أن كان منه كاف أو نون أو شيء من ذلك ، إنما هو إخبار عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته ، أو إخبار عن خفة ذلك عليه ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : كما لا يثقل عليكم قول : «كن» ؛ فعلى ذلك لا يثقل على الله ابتداء خلق ولا إعادته ولا شيء من ذلك.

ثم نزه نفسه وبرأها وذكر تعاليه عما ظن أولئك من البعث في خلق شيء وبطلانه ،

٥٤٢

فقال : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

أي : تعالى وتبرأ عن أن يكون خلقه على ما ظن أولئك حيث قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) ، ذلك ظن الذين كفروا ؛ فكان ظنهم أن لا بعث ولا نشور ، ثم أخبر أنه لو لم يكن ذلك ، لكان خلق ما ذكر عبثا باطلا ، فقال : تعالى عن أن يلحقه في خلق شيء عبث أو فساد ، وكذلك قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ...) الآية [المؤمنون : ١١٥] ، صير خلق الخلق لا للرجوع إليه عبثا باطلا.

أو أن يقول : يتعالى أن يثقل عليه إعادة الخلق أو ابتداؤهم ، أو يتعالى عن أن يعجزه شيء ، والله أعلم.

قال القتبي (١) وأبو عوسجة : (رَمِيمٌ) أي : بالية ، يقال : رم العظم إذا بلي ، فهو رميم ورمام ؛ كما يقال : رفيت (٢) ورفات.

وقوله : (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) قالا : أراد الوقود التي توري بها الأعراب من شجر المرخ والعفارة.

* * *

__________________

(١) انظر تفسير غريب القرآن ص (٣٦٨).

(٢) في أ : رفات.

٥٤٣

سورة الصافات مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ)(٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً).

اختلف فيه :

قال بعضهم : الصافات هي الطير إذا صفت أجنحتها بين السماء والأرض.

وذكر عن ابن مسعود قال : الصافات والزاجرات والتاليات كلهم الملائكة (١) ، قال : الملائكة الصافات اصطفت الملائكة صفّا لعبادة الله ـ عزوجل ـ وتسبيحه ، وكذلك ذكر عن ابن عباس (٢) وغيره إلا أن غيره يفسر الزاجرات والتاليات أي ملائكة هم؟ ولسنا نذكر عن ابن مسعود وابن عباس التفسير.

وقال بعضهم (٣) : الزاجرات : هم الملائكة الذين يزجرون السحاب والأمطار ، (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) هم الملائكة يتلون القرآن والوحي على الرسل والأنبياء ، عليهم‌السلام.

وقال قتادة : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) أقسم الله ـ عزوجل ـ بخلق ممن خلق ، قال : (وَالصَّافَّاتِ) : الملائكة صفوف في السماء ، (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) : ما ذكر الله في القرآن من زواجر عن المعاصي والمساوي (٤) ، (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) قال : ما يتلى عليكم في القرآن من أخبار الرسل ـ عليهم‌السلام ـ وأنباء الأمم التي كانت قبلكم (٥).

وجائز أن يكون (وَالصَّافَّاتِ) : هم الملائكة الذي يصلون لله ـ عزوجل ـ صفوفا على ما ذكروا ، (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) : هم الملائكة الموكلون بأرزاق الخلق وسوقها إليهم يسوقون إليهم سوقا ، (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) : هم الملائكة الموكلون بالتسبيح والتحميد وجميع الأذكار.

ثم وجه القسم بالملائكة الذين ذكر ـ والله أعلم ـ : أنه عزوجل قد عظم شأن الملائكة وأمرهم في قلوب أولئك الكفرة حتى قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٢٤٨) ، وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه من طرق عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٠).

(٢) أخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٠).

(٣) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩٢٥٢) وهو قول السدي أيضا.

(٤) ينظر : اللباب (١٦ / ٣٧٣).

(٥) أخرجه ابن جرير (٢٩٢٤٩) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٠).

٥٤٤

نَذِيراً) [الفرقان : ٧] ، وقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) [الأنعام : ٨] ، وقول فرعون : (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [الزخرف : ٥٣] ، وقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] ، وما وصفهم الله ـ عزوجل ـ : أنهم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ...) الآية [التحريم : ٦] ، (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) الآية [الأعراف : ٢٠٦] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ...) الآية [الأنبياء : ٢٠] ، عظم الله ـ عزوجل ـ أمر الملائكة عليهم و [عظم] شأنهم في قلوب أولئك الكفرة وصدقهم عندهم ؛ لذلك أقسم بهم على وحدانيته بقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) على هذا وقع القسم.

ثم أخبر عن صنع ذلك الواحد الذي هو إلهكم وإله الخلق جميعا ، وذكر نعته ، فقال ـ عزوجل ـ : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ).

يخبر عن وحدانيته وتفرده حيث أنشأ السماوات وأنشأ الأرض وما ذكر ، وجعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما ، ومنافع المشارق متصلة بمنافع المغارب على بعد ما بينهما ، ولو كان فعل عدد لمنع اتصال منافع بعض ببعض على ما يكون من فعل ذوي عدد وغلبة بعض على بعض ، فإذا لم يمتنع ذلك ، بل اتصل بعض ببعض ؛ دل أنه فعل واحد لا شريك له.

ثم تخصيص ذكر السماوات والأرض وما ذكر دون غيره من الخلائق ؛ لما عظم قدر السماء في قلوبهم ؛ لنزول ما ينزل منها من الأمطار والبركات وغيرها ، والأرض بخروج ما يخرج منها من الأنزال والأرزاق ؛ ولذلك يخرج ذكرهما ـ والله أعلم ـ فيما ذكر حيث قال فيهما : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧] فلعظم قدرهما في قلوبهم ودوامهما عندهم خرج ذكرهما ، وإن كانتا تفنيان ولا تدومان أبدا ، والله أعلم.

ثم قال ـ عزوجل ـ : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) قال بعض المعتزلة ـ وهو جعفر بن حرب ـ : فإن قال لنا قائل من قوله ـ عزوجل ـ : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) : إنه رب أعمالنا وأفعالنا ، فنقول له : إن أردت أنه رب أعمالنا وأفعالنا فبلى ، ثم قال : فيقال لهم : أتقولون : إنه خالق الكفر وخالق الشر ونحوه ، وفي أفعال الخلق الكفر والشر ونحوه؟!

قيل له : لا يقال ذلك على الإطلاق : إنه خالق الكفر وخالق شر ، وإن كان يقال في الجملة : خالق أفعال الخلق ، ورب كل شيء ، وخالق كل شيء ؛ لأن ذكره على الجملة يخرج على تعظيم ذلك الشيء ؛ نحو ما يقال : رب محمد ، ورب البيت ، إنما هو لتعظيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعظيم ذلك البيت خاصة ؛ فعلى ذلك وصفنا إياه بالجملة أنه خالق أفعال

٥٤٥

العباد وخالق كل شيء يخرج على وصف البيت بالعظمة والجلال ، وعلى الإشارة التي تبني منها ، والتخصيص على تعظيم ذلك الشيء خاصة ؛ لذلك جاز أن يوصف أنه خالق أفعال العباد جملة ؛ لما ذكرنا أنه يخرج على المدح والتعظيم وعلى الإشارة على المنة له في تعظيم ذلك الشيء ؛ لذلك افترقا ، والله الموفق.

ثم يقال لهم : قولكم : إنه مالك لها وليس بخالق هل يقال لأحد : إنه مالك كذا إلا لما ينشئ ذلك أو لتمليك من يملكه ، فإذا ثبت أنه مالك الأعمال والأفعال ثبت أنه خالقها ؛ إذ لا يقال : مالك كذا إلا للقدرة على ذلك أو لما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَبُّ الْمَشارِقِ).

قال بعض أهل التأويل (١) : إن للشمس ثلاثمائة وستين مشرقا تطلع كل يوم من كوة ، وكذلك يقولون في المغارب : إنها تغرب كل يوم من كوة ، لكن يشبه أن يكون أراد بالمشارق والمغارب كل شيء يشرق وكل شيء غارب من الشمس والقمر والنجوم والكواكب وغيرها ؛ [وعلى ذلك] يخرج قوله ـ عزوجل ـ : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧].

وأما أهل التأويل (٢) فإنهم يقولون : مشرق الشتاء والصيف وكذلك مغربهما.

قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(١٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ).

ليس أن هذه السماء التي نراها ونعاينها هي سماء الدنيا وغيرها سماء الآخرة ، ولكن سماها سماء الدنيا لدنوّها من أهل الأرض وقربها منهم ، وأهل الأرض هم الجن والإنس ، ولهما جرى الخطاب في ذلك وفي غيره ؛ وعلى ذلك قول أهل التأويل : إنها إنما سميت : سماء الدنيا ؛ لدنوها من أهلها ، ولقربها منهم ، والله أعلم.

وفي قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) أخبر أنه ـ عزوجل ـ زينها بزينة الكواكب ، وزينة الكواكب نفسها أضافها إلى نفسها وهي الزينة لها لا غير ، فهو ـ والله أعلم ـ كأنه قال ـ عزوجل ـ : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ) وهي الكواكب ، أو قال : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ) فسئل ما هي؟ فقال : الكواكب.

__________________

(١) قاله السدي أخرجه ابن جرير عنه (٢٩٢٥٩) وهو قول قتادة.

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير عنه (٢٩٢٥٨) وهو قول السدي.

٥٤٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ).

قال ـ عزوجل ـ : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) [الحجر : ١٧] ، وحفظه إياها ما ذكر في قوله ـ عزوجل ـ : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً) ، قال ابن عباس وغيره : قوله : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) كانوا يسّمّعون ولا يسمعون.

وقال بعضهم : كانوا لا يسمعون أخبار الملائكة وحديثهم فيما يتراجعون بينهم من أمر الله وهم الملأ الأعلى.

ومن يقول : إنهم كانوا لا يسمعون يذهب إلى ما ذكر في سورة الجن حيث قالوا : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٨ ، ٩] أخبروا أن من يستمع الآن يجد له ما ذكر ؛ دل أنهم كانوا يستمعون.

فإن قيل : كيف يوفق بين هذه الآية وبين قوله ـ عزوجل ـ : (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً .... إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) استثنى الخطفة ، وقال هاهنا : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ ...) [الجن : ٩] كذا ثم الخطفة إلا أن يكون على التمثيل ، أي : موضع يخطف ، أو على حقيقة الخطفة وهي الاستلاب والأخذ على السرعة ، والله أعلم.

لكن يشبه أن يكون الآية التي [قال] ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٨ ، ٩] في المؤمنين منهم ؛ ألا ترى أنهم قالوا : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) [الجن : ١٣] ، وأما ما ذكر في سورة الصافات فهو في الكفار منهم والمردة (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) من الشياطين الذين يستمعون ، والله أعلم.

ثم [في] قوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) [الجن : ٨] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ...) الآية [الجن : ٩] دلالة إثبات الرسالة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه كان يخبرهم أن الجن يصعدون إلى السماء الدنيا ويستمعون من أخبار الملائكة وحديثهم فيما يتراجعون فيما بينهم من أمر الله في الأرض ، ثم يخبرون الكهنة بذلك ، فيخبر الكهنة أهل الأرض عن ذلك أنه يكون غدا كذا وفي يوم كذا وكذا وأنه انقطع ذلك بالوحي ويمنعون ، فقالت الجن ذلك وأخبرت عن أنفسهم أنهم كذلك كانوا يفعلون ، فصدقوه على ما أخبر من صنيعهم.

فإن قيل : كيف صار ذلك آية له ، وإنما أخبر عن قول الجن هم ، وبه ظهر ذلك

٥٤٧

ومنه عرف؟!

قيل : هكذا لكن انقطاع الكهنة من بعد وحديثهم يدل على أن ذلك قد كان ، ثم انقطع ذلك بالرسالة والوحي ، والله أعلم.

فإن قيل : فإذا ولوا الملائكة حفظ السماء وحرسها كيف أغفلوا عما ولوا من حفظها وحرسها وامتحنوا حتى أمكن أولئك من الاستماع والاختطاف وما ذكر؟

قيل : جائز أن يشتغلوا هم بأعمال ويمتحنون بأمور أخر سوى ذلك ، فيمكن ذلك لهم ما ذكر ، والله أعلم.

فإن قيل : كيف كانت صنعة الشياطين من الاستماع منهم والخطف ، وقد رأت وعاينت ما أصاب من فعل ذلك من القذف والرمي والاحتراق؟

قيل : إن الشياطين عادتهم طلب الغفلة في كل وقت ، فجائز أن يكونوا فعلوا ذلك لما كانوا يظنون ويقع عندهم أنهم في غفلة وسهو من أمورهم ، وإن كانوا يعلمون ما يصيب من فعل ذلك ، والله أعلم.

ثم جائز أن يستدل بقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ...) الآية [الجن : ٩] ، يقول علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم فلانا ، فناداه من حيث لا يستمع : لا يحنث ، وإذا ناداه من حيث يسمع حنث وإن لم يسمع ؛ لما ذكر (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) [الجن : ١٩] ، ومعلوم أنهم كانوا يقصدون من الأرض إلى الملأ الأعلى ، لكن لا يسمعون ، ثم لم يذكر ذلك منهم إلا في المكان الذي يسمع ؛ دل أنه على ما ذكرنا من الدلالة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى).

الأشراف منهم وأهل المنزلة والكرامة ، ويحتمل الجماعة ؛ لأن الملأ هو اسم للشيئين : للجماعة منهم ، واسم لأهل الشرف والمنزلة.

ثم لا ندري كيف سماع الجن من الملائكة؟ وما سبب ذلك؟ أن تكون تلك الأخبار وما يريد الله ـ عزوجل ـ إحداثه في الأرض مكتوبا في كتاب ينظرون فيه فيعلمونه ، أو ليتحدث الملائكة فيما بينهم بذلك فيستمع هؤلاء منهم ذلك ، أو كيف جهة سماعهم ذلك منهم؟ وما يشبه ذلك ، والله أعلم.

وفيه أن الجن تفهم كلام الملائكة وإن اختلفت جواهرهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ(١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)

٥٤٨

أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ)(٢٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا).

قيل (١) : هي السموات والأرض والجبال ، وقيل (٢) : الملائكة ، وأكثرهم قالوا : قوله ـ عزوجل ـ : (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) ، أي : السموات والأرض ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ...) الآية [غافر : ٥٧] ، يقول ـ والله أعلم ـ : سلهم أن خلقهم وإعادتهم أشدّ وأكبر وأعظم من خلق السماوات والأرض؟ وإذا أقررتم أنتم بقدرته على خلق السموات والأرض كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم بعد ما متم ، وكنتم ترابا ورفاتا؟! والله أعلم.

وقوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ) و (سَلْهُمْ) [القلم : ٤٠] ونحو ذلك مما أمر الله ـ عزوجل ـ رسوله أن يسألهم ويستفتيهم يخرج من الله ـ عزوجل ـ على وجوه :

أحدها : على التقرير عندهم والتنبيه لهم.

أو على التعيير لهم والتوبيخ.

أو على التعليم حجة الحجاج والمناظرة فيما بينهم وبين خصومهم ، وهكذا كل سؤال واستفتاء كان من خبير عليم لمن دونه يخرج على هذه الوجوه ، وكل سؤال واستفتاء كان من الجهّال لخبير عليم يخرج على استرشاد وطلب الصواب.

وقوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ) و (سَلْهُمْ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ...) الآية [الزخرف : ٤٥] ، و (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٢١١] ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] و (قُلْ ...) كذا ـ هذا كله يخرج على التقرير والتنبيه ، وعلى تعليم الكل حجة الحجاج والمناظرة لا على الأمر ؛ لأنه لو كان [على] الأمر ، لكان لا يقول ذلك المأمور بالتبليغ : سل ، ولا قل ، ولا شيء من ذلك ، ولكن يبلغ إليه رسالته وأمره أنه يقول لكم : أن افعلوا كذا ولا تفعلوا ؛ فدل أن ذلك الأمر للكل في أمر أنفسهم : أن قولوا لهم ، وأن افعلوا بهم كذا ، والله أعلم.

وقوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ...) الآية.

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩٢٨٥) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٢).

(٢) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٢).

٥٤٩

أمره أن يستفتيهم ، ولم يذكر أنهم ما أفتوه؟ ولا أجابوه أو لا؟ ولا قال لهم : إنهم لو أجابوك وأفتوك بكذا فقل لهم كذا أو أجبهم بكذا ؛ فجائز أن يكون الجواب ما ذكرنا : أنكم لو لم تشاهدوا خلق ما ذكر من السماوات والأرض وغيرها سوى خلق أنفسكم ثم شاهدتم خلقنا أعني ما ذكرنا من السماوات والأرض والجبال وغيرها ـ هل تنكرون قدرته على خلق ما شهدتم وعاينتم : أنه لم يخلقها إلا هو ، كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم وبعثكم؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ).

فذكر ـ والله أعلم ـ ضعفهم وشدة ما خلق من سواهم أنكم تعلمون ضعف أنفسكم وعجزها ، وشدة من سواكم وقوتها وصلابتها ، ثم إنها مع شدتها وقوتها وصلابتها أخضع لله وأطوع منكم نحو ما ذكر من طاعتها له وخضوعها ؛ حيث قال ـ عزوجل ـ : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١] ونحو ذلك مما يكثر ، والله أعلم.

أو أن يذكر لقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) بدء خلقهم وأصله الذي خلقوا هم منه ، إنكم إنما عرفتم ابتداء خلقكم وأصلكم الذي منه خلقتم أنه تراب أو طين بإخبار الرسل ، ويقول لهم : وأنتم يا أهل مكة ممن لا يؤمنون بالرسل ، فكيف صدقتم الرسل بما أخبروا من أصلهم وبدء خلقكم ، ولم تصدقوهم بما يخبرونكم من إعادتكم وبعثكم بعد موتكم؟! فإذا صدقتموهم في ذلك لزمكم التصديق لهم في كل ما يخبرون ويقولون ، والله أعلم.

أو يقول : إنه أنشأ من تلك النفس الواحدة التي خلقها من تراب من الخلق ما لو تركهم جميعا لم يفنهم ولم يمتهم ، لامتلأت الدنيا منها ، فمن قدر على إنشاء ما تمتلئ الدنيا منه من نفس واحدة لا يحتمل أن يعجزه شيء من البعث والإعادة وغير ذلك ، والله أعلم.

أو أن يقول في قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) ، أي : قد أنشأ من تلك النفس ومن ذلك الأصل قرنا وقرنا بعد قرن بعد إفناء كل قرن أنشأ قرنا آخر ؛ فلا يحتمل أن يكون المقصود من إنشائهم الإنشاء ثم الإفناء والنقض ، خاصة لا عاقبة تقصد بالإنشاء والإفناء ؛ إذ في الشاهد من كان مقصوده في البناء الفناء والنقض ، خاصة كان غير حكيم ، فإذا عرفتم الله ـ عزوجل ـ أنه حكيم ؛ فلا يحتمل أن يكون مراده من إنشائكم وإفنائكم ذلك خاصة لا غير وذلك مزيل الحكمة ، ويوجب السفه ، تعالى الله عن ذلك وجميع ما يصفه الملاحدة علوّا كبيرا.

٥٥٠

أو أن يقول : إنكم عرفتم أنه إنما أنشأكم من تلك النفس التي أنشأها من تراب أو طين على اتفاق منكم ، فإذا متم وفنيتم صرتم ترابا أو طينا ، فكيف أنكرتم إعادته إياكم من تراب أو طين ، وقد أقررتم أن أصلكم تراب أو طين ـ والله أعلم ـ على الوجوه التي ذكرنا يجوز أن يخرج.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ).

بالنصب يحتمل وجوها :

أحدها : عجبت منهم إنكارهم ما أنكروا بعد كثرة قيام الآيات والحجج عليهم في ذلك وهم ينكرون ويسخرون.

أو يقول : عجبت ويسخرون ؛ لما أنك بزعمهم لعظيم ما ينزل بهم من العذاب والشدائد وما يستقبلهم من الأمور المهمة وهم يسخرون ، والله أعلم.

أو يقول : بل عجبت لما تدعوهم أنت إلى ما به نجاتهم وفلاحهم وهم يسخرون ، ونحو ذلك يحتمل ، والله أعلم بما كان يعجّبه.

وفي بعض الحروف : (بَلْ عَجِبْتَ) بالرفع ، وكذلك ذكر عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يقرؤه بالرفع : (بَلْ عَجِبْتَ) فإن ثبت ذلك وصح إضافة العجب إلى الله فهو في الشاهد وإن كان لظهور عظيم مما قالوا خفيّا عليهم مستترا ، عند ذلك يقع لهم العجب فهو في الله عزوجل ، وإن كان لا يحتمل أن يخفى عليه شيء ، فذلك لعظيم ما كان منهم من الإنكار من قدرته على الإنشاء والجحود في ذلك ؛ فيكون ما ذكر من حرف العجب منه كناية عن الإنكار والدفع لقولهم ، وذلك كما أضاف الامتحان إلى نفسه وإن كان في الشاهد لا يستعمل إلا في استظهار ما خفي عليهم واستتر منهم ، فهو من الله يخرج على الأمر والنهي ـ أعني الامتحان ـ وإن كان في الشاهد بين الخلق لا يكون إلا لما ذكرنا ، فعلى ذلك جائز إضافة العجب إلى الله على إرادة الإنكار منه عليهم والدفع لقولهم ، والله أعلم.

ومن الناس من أنكر هذه القراءة وقال : لا يجوز إضافة التعجب إلى الله ـ عزوجل ـ لما هو لم يزل عالما بما كان ويكون ، وهو في الشاهد إنما يكون لظهور عظيم من الأمر قد جهلوه ، لكن هذا وإن كان في الخلق ما ذكر فهو من الله على غير ذلك ، على ما ذكرنا من إضافة الامتحان إليه والابتلاء وإن كان بين الخلق لما ذكرنا ، وقد ظهرت إضافته إليه بقوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) [الرعد : ٥] وهو يخرج على الإنكار عليهم والرد على تعظيم إنكار ما قالوا وأنكروا ، والله أعلم.

ومن الناس من قال في قوله عزوجل : (بَلْ عَجِبْتَ) فيما أضافه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٥٥١

أي عجبت من هذا القرآن حين أعطاك إياه ويسخر منه أولئك الكفرة.

ويحتمل معنى [آخر] ، وهو أن يقال : إن قوله عزوجل : (بَلْ عَجِبْتَ) أي : جعلت ما أنزلت عليك من القرآن والوحي أمرا عجبا ، أو أن يقال : كان إنكارهم رسالتك وتكذيبهم الآيات أمرا عجبا وهم يسخرون ، ونحوه ، والله أعلم.

وقوله عزوجل : (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ).

ابن عباس يقول : وإذا وعظوا لا يتعظون ، والموعظة والتذكير واحد.

وقتادة يقول : (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي : [لا] ينتفعون بالموعظة على ما ذكرنا في قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] أي : لا ينتفعون بتلك الحواس ، وإن كانت لهم تلك ، كمن لا حاسة له. فعلى ذلك قول قتادة.

وجائز أن يكون على مرادفة التذكير ما نسوا من الآيات والحجج ، يقول : إنهم وإن ذكروا ما نسوا وتركوا وغفلوا عنه لا يتذكرون ، والله أعلم.

وقوله عزوجل : (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) هذه الآيات وأمثالها ذكرها ـ والله أعلم ـ لقوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا [](١) (وَيَسْخَرُونَ. وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ* وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ* وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ* أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ...) إلى آخر ما ذكر ؛ يخبر عن عنادهم ومكابرتهم ... الآيات ، ويذكر سفههم.

ثم في ذكر ما ذكر من عنادهم وسفههم ، وجعله آيات من القرآن تتلى أبدا وجهان من الحكمة :

أحدهما : صيّر ذلك آية لرسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه معلوم أنهم كانوا على ما أخبر عنهم من العناد والسفه وعلى أن ختموا وقبضوا ، دل أنه بالله عرف ذلك وبوحيه علم ، والله أعلم.

والثاني : يخبر ـ والله أعلم ـ على ما رأى سلفنا من سفه أولئك وعنادهم وما قاسوا منهم وما لحق بهم من الأذى والضرر والسوء ؛ لئلا يضيق صدرنا في سفه من تسفه علينا من أهل الفساد والفسق ، وألا نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لسفه السفيه ، ولا لأذى المؤذي ولا سوء يقال ، بل يجب علينا أن نتأسى بسلفنا ونقتدي بهم ، وإذا أصابنا منهم ما أصاب أولئك من الأذى والسفه ، وإن عاندوا أو كابروا وظهر منهم كل فسق وسوء على ما فعل أولئك ، واحتملوا منهم ما كرهوا ، فنحمل عن سفهائنا مثله ـ والله أعلم ـ وإلا لو لم يكن في ذكر سفههم وعنادهم ما ذكرنا من الحكمة كان لا معنى لذكر سفه أولئك وعنادهم.

وجائز أن يكون الشيء سفها باطلا في نفسه ويكون حكمة ودليلا لغيره ـ والله أعلم ـ على ما قال بعض الناس : إن الكذب نفسه يجوز أن يكون دليل الصدق ، وكلام السفه

__________________

(١) بياض في أ.

٥٥٢

والباطل دليل الصدق والحكمة ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) أي : وإذا أنزل عليهم آية على سؤال منهم يستسخرون ويستهزءون ، يخبر عن سفههم أنهم وإن سألوا الآيات فإنهم لا يسألون سؤال استرشاد ولكن سؤال عناد وهزء ؛ كقوله عزوجل : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) [الحجر : ١٤ ، ١٥] ، وكقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١].

وقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) كان هذا تلقينا لأولئك الكفرة الرؤساء من الشيطان اللعين حتى يموّهوا على أتباعهم عند ما ظهر ، وكثير من الآيات ؛ لما كانوا يعلمون أن لا كل أحد يعرف السحر ويتهيأ إتيانه وفعله ؛ يلبسون بذلك على أتباعهم ليقع عندهم أنها السحر لا الآية ، والله أعلم. ولو كان ذلك سحرا حقيقة لكان من آيات الرسالة ، فكيف إذا كان آية لما كانوا يعلمون أنه لم يختلف إلى أحد ممن له معرفة بالسحر قط؟! فدل أنه بالله عرف ذلك ، على ما ذكرنا : أن ما أنبأ وأخبر عن أنباء الأمم الخالية وأخبارهم يدل على رسالته ؛ لما علموا أنه لم يختلف إلى أحد ممن له المعرفة بتلك الأنباء والأخبار ولا ينظر في كتبهم ليعرف ذلك ، ثم أخبر على ما كان في كتبهم ، دل أنه بالله عرف ذلك وبوحى منه إليه علم ، فعلى ذلك لو كان سحرا فكيف إذا كانت آية عظيمة معجزة؟!

وقال الزجاج : حرف العجب إنما يكون عند ظهور العجب من الأمر وعبرة عظيمة ، فأما ما أضيف إلى الله فهو على الإنكار منه والرد على من أنكر عظيما من الأمر ظاهرا ، أو كلام نحوه ، والله أعلم.

وقوله عزوجل : (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) قيل : دائم ؛ كقوله عزوجل : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) [النحل : ٥٢] أي دائما ، وقيل : (عَذابٌ واصِبٌ) أي : شديد.

وقوله عزوجل : (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) قيل : ملتزق ، وقيل ملتصق الذي يلتصق باليد إذا لمس.

وقوله : (دُحُوراً) قيل : طردا ، وهو مطرود.

وقوله : (شِهابٌ ثاقِبٌ) قيل : مضيء ، وقيل : هوى بضوئه.

ثم قوله : (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) قال بعضهم : يسخرون ، وقال بعضهم : (يَسْتَسْخِرُونَ) : يطلبون من أتباعهم السخرية ـ يعني : القادة ـ على الآية. والله أعلم.

وقوله عزوجل : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ* قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ

٥٥٣

داخِرُونَ) : قد ذكرنا : أنهم يقولون ذلك وما تقدم على العناد والتعنت وعلم منهم أنهم لا يؤمنون أبدا وإن بين لهم جهة الإحياء والقدرة عليهم ؛ لذلك اكتفى بقوله : (قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) ، قد ذكرنا أنهم كانوا يقولون ذلك ، ولم يذكر شيئا من الحجاج سوى قوله : (نَعَمْ).

وقوله : (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ).

أي : صاغرون ذليلون ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [القلم : ٤٣] ، والله أعلم.

وقوله : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ).

يحتمل قدر زجرة واحدة ، يخبر عن سرعة قيامها ومرورها.

ويحتمل على حقيقة الزجرة ، لكن يخبر عن خفة ذلك وهوانه عليه ؛ كقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة : ١١٧] من غير أن كان منه كاف ونون أو شيء من ذلك ، لكنه أخفّ كلام على الألسن يؤدى به المعنى ، ويفهم به المراد من ذلك ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) إخبارا عن خفة ذلك عليه وهوانه ، من غير أن جعل الزجرة سبب الإحياء أو سببا من ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ).

يحتمل قوله : (يَنْظُرُونَ) إلى ما ذا يؤمرون؟ وعن ما ذا ينهون؟ لأن الذي أصابهم في الآخرة إنما كان لتركهم الأمر في الدنيا ، فإذا عاينوا ما كانوا يوعدون في الدنيا بتركهم الأمر عنه ينظرون إلى ما ذا يؤمرون وينهون عنه؟ والله أعلم.

أو ينظرون كالمتحيرين ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ويكذبونه ، فإذا عاينوا تحيروا وتاهوا وضجروا ، وهكذا الأمر المتعارف في الخلق أن من أنكر شيئا أو كذبه ، ثم أخبر به وأعلم حتى تيقن عنده ما أنكر تحير وضجر ؛ فعلى ذلك هؤلاء لما أنكروا في الدنيا وكذبوه ثم عاينوا ذلك وتيقنوا به ـ تحيروا وضجروا به ، ينظرون نظر المتحير الضجر ، والله أعلم.

وقوله : (وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ).

هذا كلام يقال عند الوقوع في الهلاك.

وقوله : (هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي : يوم الحساب ويوم الجزاء ، وكذلك قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤].

ويحتمل : هذا يوم الذي ينفع كل من معه الدين دينه ، والدين المطلق هو دين الله ، وكذلك السبيل المطلق هو سبيل الله ، أي : هذا يوم الدين الذي ينفع من كان معه دين الله ، وكذا السبيل المطلق هو سبيل الله.

٥٥٤

وقوله : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).

قوله : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي : يوم القضاء والحكم ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [السجدة : ٢٥] أي : يقضي بينهم (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، والله أعلم.

ويحتمل قوله : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي : يفصل ويفرق بينهم ، أي : بين الكفار وأهل الإيمان ، وبين الخبيث والطيب ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً ...) الآية [الأنفال : ٣٨] ، وقوله : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] ، وقوله : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] ، والله أعلم.

وقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ).

فالزوج : هو اسم لشكله واسم لضده اسم لهما جميعا. يحتمل قوله : (وَأَزْواجَهُمْ) أي : أشكالهم وقرناؤهم من الجن والإنس والشياطين ، يأمر الملائكة أن تجمع بين من كانوا يجتمعون في هذه الدنيا ويستحبون الاجتماع معهم أن يجمعوا في عذاب الآخرة ، على ما كانوا يستحبون الاجتماع في الملاهي والطرب في هذه الدنيا ويجتمعون على ذلك ؛ فعلى ذلك يجمع بين أولئك وبين قرنائهم جهنم ، ويقرن بعضهم إلى بعض في العذاب ؛ كقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] ؛ وكقوله : (وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر : ٧١ ، ٧٢] ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) ، كقوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) [الزمر : ٧١] ونحوه ، والله أعلم.

وقال قتادة وغيره : (هذا يَوْمُ الدِّينِ) ، أي : يدان لبعض الناس من بعض في المظالم والحقوق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ).

يحتمل الوقف للحساب.

ويحتمل (مَسْؤُلُونَ) أي : محاسبون.

وعن ابن عباس قال : «إن دون الحساب يوم القيامة كذا كذا موقفا ، في كل موقف يوقفون مقدار كذا عاما ، ثم تلا هذه الآية».

ويحتمل [ليس] السؤال عما فعلوا ، ولكن يسألون لما ذا فعلوا؟

ويحتمل الوقوف فتنوا إلى بعضهم بعضا ، والمخاصمة فيما بينهم والمراجعة ؛ كقوله : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ ...) [الأعراف : ٣٩] كذا ، و (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ ...)

٥٥٥

[الأعراف : ٣٨] كذا ؛ على ما أخبر أنه يجري فيما بينهم من الخصومة ومراجعة القول واللائمة.

وقوله : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ).

أي : ما لكم لا تنصرون؟ أي : ما لكم لا ينصركم الأصنام التي عبدتموها في الدنيا رجاء النصر والشفاعة ؛ كقوله : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، وقوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

فيخبر عن إياسهم من نصر ما عبدوا على رجاء النصر لهم والشفاعة ؛ كقوله : (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات : ٢٦] ، أي : خاضعون ذليلون لله ، لما علموا ألا يكون النصر والعون إلا منه ، فعند ذلك يستسلمون له.

وقال بعضهم : يستسلمون في عذابه.

قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣٩)

وقوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ).

قال بعضهم (١) : أقبلت الإنس على الجن.

وقال بعضهم : أقبلت الإنس على الشياطين ، فقالوا لهم : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) ، قال بعضهم (٢) : من قبل الخير والطاعة ؛ فتسهوننا وتشغلوننا.

وقال بعضهم : من قبل الدين والتوحيد من حيث يحترس ، وهو الأوّل.

وقال بعضهم (٣) : من قبل الحق ونحوه.

فرد عليهم أولئك : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٣٢٧) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٥).

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٣٢٩) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥١٥).

(٣) قاله السدي أخرجه ابن جرير عنه (٢٩٣٣٠).

٥٥٦

يقولون : إنكم تركتم الإيمان بأنفسكم وباختياركم لا إنا منعناكم منعا عنه.

وقالوا : (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ).

أي : ما كان لنا عليكم من حجة أو برهان ألزمناكم به ، بل أطعتمونا طوعا واستجبتم لنا فيما دعوناكم ، فهذه المناظرة والمجادلة فيما بينهم كمناظرة إبليس في موضع آخر حيث قال ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) موعدي (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم : ٢٢] أي : دعوتكم بلا حجة ولا برهان فاستجبتم لي ؛ فعلى ذلك يقول هؤلاء : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) باختياركم ترك الإيمان بلا سلطان ولا حجة كان عليكم ، وكمناظرة القادة مع الأتباع حيث قال : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) [الأعراف : ٣٩] ونحوه ، والله أعلم.

ويحتمل قوله : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي : من جهة القوة ، أي : إنكم على الحق وإنكم مؤمنون ونحو ذلك.

ويحتمل لا على حقيقة اليمين ، ولكن تأتوننا من كل جهة ؛ كقوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ ...) الآية [الأعراف : ١٧] ، أي : من كل جهة لا على حقيقة ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقد ذكرنا أن قوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أن قوله : (سُلْطانٍ) أي : لم يكن لاتباعكم إيانا وطاعتكم لنا حجة أو برهان أقمناه عليكم فيما دعوناكم إليه ، [وإنما كان] اتباعا من غير أن ألزمناكم ؛ فلا تلومونا ولكن لوموا أنفسكم.

(بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ).

أي : بطغيانكم اتبعتمونا لا بما ذكرتم ، والله أعلم.

ثم قالوا : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ).

يشبه أن يكون هذا قول الأكابر منهم والمتبوعين للأصاغر والأتباع منهم : أن حق علينا قول ربنا ؛ قال بعضهم (١) : أي : وجب علينا وعليكم عذاب ربنا.

ويشبه أن يكون القول الذي أخبروا أنه حق عليهم هو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٩].

وقوله : (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ).

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٤ / ٢٦).

٥٥٧

يحتمل أن تكون هذه المعاتبة التي ذكرت كانت بين الأتباع والمتبوعين من الإنس ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) كذا [سبأ : ٣٣] ، (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ...) كذا [سبأ : ٣٢] ؛ وكقوله : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ ...) كذا [الأعراف : ٣٨].

ويشبه أن يكون بين الإنس والشياطين.

ثم قوله : (فَأَغْوَيْناكُمْ).

حين اخترتم الغواية والضلال ، أو عرفتم أنا لسنا على الهدى ولم نقم عليكم الحجة ، فاتبعتمونا على علم منكم أنا على الغواية فأغويناكم حينئذ ، والإغواء : الإضلال ، والغواية : الضلال.

وقوله : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ).

أخبر أنهم جميعا : الأتباع ، والمتبوعون يشتركون في العذاب ، ليس أن يشتركوا في نوع من العذاب ، ولكن يجمعون جميعا ، ثم لهم العذاب على قدر عصيانهم وجرمهم.

وقوله : (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ).

قال أبو بكر الأصم : المجرم : هو الوثاب في المعصية ، القادح فيها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ).

أي : كانوا إذا قيل لهم : قولوا : لا إله إلا الله يستكبرون.

ثم يحتمل قوله : (يَسْتَكْبِرُونَ) لا على هذه الكلمة ، ولكن يستكبرون على اتباع القائلين لهم : لا إله إلا الله ؛ كقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ؛ وكقولهم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] كانوا يأنفون ويستكبرون على اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لذلك قالوا ما قالوا.

وجائز أن يكون ما ذكر من استكبارهم استكبارا على هذه الكلمة حقيقة ، فيخرج استكبارهم عليها ؛ إنكارا لهذه الكلمة وجحودا لها بقولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] ، والله أعلم.

ويقولون : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ).

يشبه أن يكون على الإنكار لها ؛ لما ذكر من قولهم على أثر ذلك وهو ما قال : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ).

ثم جمعوا في هذا متضادين ؛ لأن الشاعر هو الذي [يبلغ] في العلم غايته ، والمجنون هو الذي يبلغ في الجهل غايته ، ثم جمعوا بينهما في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك قولهم :

٥٥٨

(ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) الساحر هو الذي يبلغ في علم الأشياء غايته ، والجنون في الجهل ؛ دل أنهم إنما يقولون عن عناد وتعنت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ).

الحق : قال بعضهم : بالحق الذي لله عليهم وما لبعضهم على بعض ، وأصل الحق : أنه كل ما يحمد على فعله ، وكل ما يذم عليه فهو باطل.

(وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) : أخبر أنه صدق إخوانه من المرسلين ، والله أعلم.

قال أبو عوسجة والقتبي : (وَالصَّافَّاتِ) : هي الطيور التي صفت بين السماء والأرض ، (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) من الزجر يقال : زجرت الإبل زجرا إن صحت بها ؛ فهو اسم الصياح ، (فَالتَّالِياتِ) كما تقول : تلوت القرآن ، أي : قرأت ، وتلوت : تبعت ، والتالي : التابع ، والقذف والرمي (وَيُقْذَفُونَ) أي : يرمون ، و (دُحُوراً) : أي مباعدة ؛ دحرته ، أي : باعدته وطردته ، (واصِبٌ) ، أي : ذائب ، (خَطِفَ الْخَطْفَةَ) أي : استلب الشيء ، والخطفة : الاستلاب السريع ، (فَأَتْبَعَهُ) ، أي : اتبعه ، (شِهابٌ ثاقِبٌ) : الشهاب : الكوكب ، والثاقب : الشديد الضوء والحر ؛ يقال : ثقبت النار ، أي : التهبت واشتد حرها ، وأثقبتها ، أي : أوقدتها ، سخرت واستسخرت كقولهم : قر واستقر ؛ واحد ، وسخر به وسخّر به بالتشديد وسخّرت فلانا ، أي : استعملته بغير أجر ، (مُسْتَسْلِمُونَ) ، أي : قد ذلوا وأعطوا بأيديهم ؛ يقال : استسلم الرجل إذا أعطى بيده ، وأسلمته : تركته لم أعنه ولم أنصره ، (وَأَزْواجَهُمْ) : أشكالهم ، تقول العرب : زوجت ، أي : إذا قرنت واحدا بآخر ، وهم قرناؤهم من الشياطين ، (كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) ، أي : تخدعوننا وتمنعوننا عن طاعة الله ، والله أعلم. وزوج الشيء : شكله ، ويقال لضده ؛ فهو اسم لهما جميعا.

وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ).

يحتمل ما ذكرنا : أنه على الإضمار : أنه إذا قيل لهم : قولوا : لا إله إلا الله يستكبرون.

ويحتمل وجها آخر : أنهم إذا قيل لهم : اتركوا عبادة الأصنام ، واصرفوا عبادتكم إلى الإله الذي هو في الحقيقة إله ، وهو المالك لجر النفع ولدفع الضر ، وهو الله جل وعلا ؛ ويدل لهذا قولهم : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) أي : نترك عبادة آلهتنا لقول شاعر مجنون ، والله أعلم.

ذكر أن نفرا من رؤساء قريش أتوا إلى أبي طالب فقالوا : ما يريد منا ابن أخيك محمد؟ فدعا به فقال : ما تريد منهم يا ابن أخي؟ فقال له : «يا عم ، إنما أريد منهم كلمة يملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» ، وفي بعض القصة أنه قال لهم : «أريد منكم كلمة يدين لكم بها العرب ويؤدي إليكم بها العجم الجزية» ، فقالوا : وما هي؟ فقال : «لا إله إلا الله ،

٥٥٩

وأني رسول الله» ، فقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] ، وذكر أنهم قالوا : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ).

ويحتمل ما ذكرنا فيما تقدم ، والله أعلم.

والآية فيمن يقر بالصانع ليس فيمن ينكر الصانع رأسا من نحو الدهرية وغيرها ؛ حيث نفى الألوهية لمن دونه وأثبتها لله ـ عزوجل ـ بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ولو كان ذلك مع أهل الدهر ، لكان لا معنى لنفي الألوهية لغيره ، بل يحتاج إلى تثبيتها فحسب ؛ فدل أن الآية فيمن يقر بالصانع ، لكنه يشرك غيره فيها وهم مشركو العرب وغيرهم ، والله أعلم.

ثم أخبر عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقه حيث قال ـ عزوجل ـ : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) وهو كل آياته : من التوحيد ، والإسلام ، والرسالة ، وكل فعل يحمد فاعله عليه ولا يذم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ).

الذين كانوا قبله في جميع ما جاءوا به من الحق.

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ).

بالتكذيب والرد لذلك كله.

(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

قوله تعالى : (إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)(٦١)

ثم استثنى المؤمنين حيث قال ـ عزوجل ـ : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ؛ فإنهم لا يذوقون العذاب الأليم ، وإلا لو كانوا مستثنين من قوله : (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٣٩] أو لا ؛ يكون لهذا حق الاستثناء من الأول ، ولكن الابتداء ذلك جائز في اللغة سائغ في اللسان ، والله أعلم.

ثم بين ما أعد للمخلصين فقال : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ).

فإن قيل : كيف يجمع بين قوله : (يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) [غافر : ٤٠] ، وبين قوله : (لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ)؟! قال بعضهم من أهل التأويل : يعني المعلوم حين يشتهونه يؤتون به.

٥٦٠