تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

آخر ليلة ليطلع به (١) أو أول ليلة.

قال بعضهم (٢) : شبه القمر بالعرجون القديم ، وهو العذق اليابس المنحني القديم الذي أتى عليه الحول ؛ وهما واحد.

وقوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ).

جائز أن يكون ذكر الشمس هاهنا كناية عن النهار نفسه ، والقمر كناية عن الليل ؛ ألا ترى أنه ذكر الليل والنهار على أثر ذلك حيث قال : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) يخبر أنه لا يدرك هذا هذا ولا سابقا لهذا.

وجائز أن يكون ذكرهما كناية عن الليل والنهار ، ولكن على بيان حقيقتهما ألا يدرك ضوء هذا هذا ؛ ولا ضوء هذا هذا ؛ فيغلبه ، ولكن يكون هذا في وقت وهذا في وقت آخر ، لا يجتمعان في وقت واحد.

أو يذكر أنه لا يغلبه هذا على هذا ما دام في سلطانه ، ولا هذا على هذا ما دام سلطانه ، فإنما يخبر عن قدرته وعلمه وتدبيره : وأما قدرته : فهو ما ذكر من تقدير الشمس والقمر والليل والنهار ، حفظهما حتى لا يغلب أحدهما صاحبه فيذهب به ؛ دل حفظه إياهما وما ذكر ، وتقديره إياهما على ما قدر أنه إنما كان بقدرة ذاتية ، ودل إجراؤه إياهما على مجرى واحد وعلى سنن واحد منذ أنشأهما وقدرهما إلى آخر ما ينتهي إليه هذا العالم : أنه كان بعلم ذاتي وتدبير أزليّ ، لا مستفاد مكتسب ، وهذا ينقض على الثنوية مذهبهم أن منشئ الظلمة غير منشئ النور ؛ لأنه لو كان اثنين على ما يقولون لكان إذا غلب هذا على هذا ، وجار سلطانه منعه من أن يأتي الآخر ، فإذا لم يكن دل أنه فعل واحد لا عدد.

وقوله : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

يعني : الشمس والقمر ، قال بعضهم (٣) : أي : في دورانه واستدارته يجرون على ما ذكرنا ، لا يمنع هذا هذا ، ولا هذا هذا ؛ وعلى هذا التأويل هو الدوران الذي يدور عليه الشمس والقمر.

وقال بعضهم : إن تحت السماء في الهواء بحرا مكفوفا ، فيه تطلع الشمس وفيه تغرب ، وكذلك القمر ، فإن كان على هذا فيكون قوله : (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) على حقيقة السباحة والعوامة ، ويروى في ذلك خبر على ما ذكرنا.

__________________

(١) زاد في أ : أول.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٩١٢٣ ، ٢٩١٢٤) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩٥) ، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة وغيرهم.

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٩١٤١) وهو قول مجاهد أيضا.

٥٢١

وقال القتبي وأبو عوسجة : (نَسْلَخُ) ، أي : نخرج ، والعرجون : عرجون النخلة ، مثل العنقود من العنب ، والعراجين جماعة ، (يَسْبَحُونَ) : من السباحة.

قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ)(٤٤)

ثم قوله : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ).

اختلف في ذلك الفلك :

قال بعضهم (١) : هي السفينة التي حمل فيها نوح وأتباعه.

وقال بعضهم : أراد به السفن كلها التي يحمل عليها ويركب.

والفلك : يقال : هو واحد وجماعة ، فإن كان المراد بالفلك السفينة المشار إليها وهي سفينة نوح ، كان قوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) غيرها من السفن التي اتخذت للركوب.

وإن كان المراد به غيرها من السفن ، كان قوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) إنما هي الأنعام التي يركبون عليها في المفاوز والبراري ، كقوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) [الزخرف : ١٢] ونحوه.

ثم إن كان المراد بقوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) السفن ، كان في ذلك نقض قول المعتزلة في قولهم : أفعال العباد ليست بمخلوقة ؛ حيث أخبر أنه خلق السفن ، والسفن إنما سميت سفنا بعد ما اتخذت ونحتت ، فأما قبل ذلك ، فهي تسمى : خشبا ، والله أعلم.

ثم قوله : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ).

يحتمل قوله : (حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) معنيين :

أحدهما : أنا حملنا من أنتم من ذريّتهم في الفلك المشحون ، وهم الذين حملهم مع نوح في سفينته.

والثاني : أنا حملنا ذرية قومك في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم في الفلك ، نسبهم إليهم لما أنهم أصل لهؤلاء ؛ كقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الروم : ٢٠] ، وإنما نسبنا إلى آدم ؛ لأنه أصلنا وهو المخلوق من التراب فعلى ذلك هذا ، لكن الفائدة في التأويل الأول غير الفائدة في التأويل الثاني إن كان المراد بقوله : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا) من أنتم من ذريتهم هذا ، ففائدته : أنكم من ذرية من نجا منهم من آبائكم ، وهم الذين آمنوا برسولهم

__________________

(١) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٩١٤٧) ، وهو قول قتادة وابن زيد وأبي مالك وأبي صالح.

٥٢٢

وصدقوه ، لا من كذب به ، فكيف لا اتبعتموهم؟! لأن العرب من عادتهم لا يزالون محتجين : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣].

وإن كان المراد المعنى الثاني فيقول : إن في آبائكم من قد صدق الرسل ، وآمن بهم ، ومنهم من كذبهم ، فكيف اتبعتم الذين كذبوهم دون الذين صدقوهم؟!

ثم جهة الآية في الفلك ما ذكرنا فيما تقدم في غير موضع : إما في تذكير ما أنعم عليهم حيث سخر لهم ما في البحار والبراري حتى يصلوا إلى قضاء حوائجهم ومنافعهم في الأمكنة النائية البعيدة بالسفن التي أنشأها لهم والأنعام التي خلقها لهم.

أو يخبر عن قدرته وسلطانه : أن من قدر على تسخير هذا وإيصال هذا بهذا ، لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه شيء.

أو يخبر عن وحدانيته وربوبيته ؛ إذ لو كان ذلك فعل عدد لامتنع ولم يتصل ، ولم يصلوا إلى قضاء حوائجهم.

أو يخبر عن سفههم بعبادتهم الأصنام التي عبدوها ؛ حيث قال : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ...) الآية ، يخبر أنا لو شئنا إغراقهم لا يملك الأصنام التي يعبدونها الإغاثة لهم والاستنقاذ من ذلك ، بل هو المالك لذلك ؛ كقوله : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] ، وكقوله : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٦٣].

وقوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).

يحتمل قوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) ، أي : لو شاء لأهلكهم ، واستأصلهم بالعناد والتكذيب للرسول كما فعل بأوائلهم ، لكن برحمته أخر عن هؤلاء ذلك ، وجعل لهم متاعا إلى حين ، وذلك منه رحمة ، والذين كانوا من قبل عند رؤيتهم بأس الله ، كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ...) الآية [غافر : ٨٤] ، ثم أخبر أنه لم ينفعهم ذلك حيث قال : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) [غافر : ٨٥] ، ولكن رحم هؤلاء ؛ لمكان رسول الله ؛ فقبل إيمانهم عند رؤيتهم بأس الله.

وفي قوله : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ...) الآية دلالة نقض قول المعتزلة لقولهم في الأصلح ؛ لما لا يخلو : إما أن يكون إغراقه إياهم أصلح لهم في الدين ، أو إبقاؤه إياهم : فإن كان إغراقه إياهم أصلح لهم في الدين (١) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ

__________________

(١) كذا في أ.

٥٢٣

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ)(٥٠)

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

اختلف في قوله : (ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ) : قال قائلون (١) : (ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) : ما كان من عقوبات الله ووقائعه فيمن كان قبلكم من عنادهم في آياته وتكذيبهم رسله ، يقول : اتقوا ذلك واحذروا نزوله عليكم ، فسمى : بين أيديهم ؛ لأنه مضى بين أيديهم ، وما خلفهم من أمر الساعة وعذابها سمى : خلفا ؛ لأنه بعد ورائهم غير مأتي ، يقول : احذروا ذلك.

وقال قائلون : (ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) هو عقوبات الآخرة هي بين أيديهم ستأتي بهم وستنزل ، (وَما خَلْفَكُمْ) ما مضى من العقوبات التي نزلت بمن كان قبلكم ؛ فصار ذلك وراء وخلفا ، يقول : احذروا ذلك.

وجائز أن يكون على غير هذا يقول ـ والله أعلم ـ : احذروا ذنوبكم التي عملتم ومعاصيكم التي عصيتم في الدنيا ، واحذروا أيضا ما تسنون أيضا لمن بعدكم ؛ كقوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار : ٥] : ما قدمت : ما عمل هو ، وما أخرت ما سن لغيره من بعد.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

أي : إذا فعلتم ذلك استوجبتم الرحمة بفضله ، والله أعلم.

وقوله : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ).

هذا ـ والله أعلم ـ في قوم خاصة اعتادوا العناد والمكابرة في رد الآيات والإعراض عنها ؛ لما كان سؤالهم الآيات تعنتا لا سؤال استرشاد ، ولو كان سؤالهم سؤال استرشاد ، لكان قد أنزل لهم من الآيات وأتاهم ما يلزمهم قبولها والتمسك بها.

ثم الإعراض والعناد يكون بوجهين :

أحدهما : يعرض عنها ؛ لما لم تقع له ؛ لترك التأمل والنظر فيها.

والثاني : يعرض عنها إعراض عناد بعد التحقيق والتيقن والعلم بأنها آيات ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ).

يحتمل قوله : (أَنْفِقُوا) أي : صلة الأرحام والقرابات على حقيقة الإنفاق.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩١٦٨) وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩٧).

٥٢٤

ويحتمل : أن اقبلوا الإنفاق وهو الزكاة بقوله : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الآية [فصلت : ٦ ، ٧] أي : لا يقبلون الإيتاء ، والله أعلم.

وقوله : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ).

بهذا قالت المعتزلة في قولهم : إن الله لا يفعل إلا ما هو أصلح له في الدين ، يقولون : لو كان الإنفاق والرزق أصلح لهم في الدين لرزقهم الله على ما رزقنا.

فيقال للمعتزلة : أمره إياهم بالإنفاق على من ذكر لا يخلو من أن يكون النفقة لهم والرزق أصلح في الدين ، ثم لم يرزقهم ولم يوسع عليهم ، وإما أن يكون المنع أصلح لهم وترك الإنفاق : فإن كان الأول فقد ترك فعل ما هو أصلح في الدين ، أو الثاني ، فقد أمر هؤلاء بفعل ما هو ليس بأصلح ، فكيفما كان ، ففيه دلالة أن ليس على الله حفظ الأصلح للخلق في الدين ، إنما عليه فعل ما توجبه الحكمة وحفظ ما يكون حكمة ، وهؤلاء لم ينظروا إلى ما توجبه الحكمة ، وفي الحكمة الامتحان والابتلاء : هذا بالسعة وهذا بالشدة والضيق ؛ ثم أوجب على من وسع عليه في فضول ماله حقّا لهذا الفقير والمضيق عليه ، وبين ذلك الحق ، وبيّن قدره وحدّه ، ليتأدى بذلك شكره ، وضيق على هذا ، يطلب منه الصبر على ذلك إن منع هذا حقه ، وإلا لم يسبق ممن وسع عليه ما يستوجب به تلك النعمة والسعة ، ولا ممن ضيق عليه ما يستوجب ذلك ، ولكن محنة يمتحنهم بها : هذا بالشدة والضيق ، وهذا بالسعة والكثرة ، هذا مأمور بالشكر وأداء ما أوجب عليه في ماله ، وهذا بالصبر على حاجته إن منع حقه ؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم ، ولو شاء الله لجعلكم فقراء لا يغنى عنكم شيئا ، لكنه ابتلى بعضهم ببعض لينظر كيف عطف [الغني] وكيف صبر الفقير».

وقوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

قال بعضهم (١) : هذا قول الكفرة للمؤمنين ، لم يكتفوا بذلك القول الذي قالوه ، ولكن نسبوهم إلى الضلال والجهل.

وقال بعضهم : هذا القول من الله جواب لهم ، لقولهم : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) ، والله أعلم.

وقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

ليس بصلة على ما تقدم من الكلام ، كأنهم خوفوا بترك الإنفاق بالعذاب ، فقالوا عند

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (١٠ / ٤٤٨) ، والبغوي (٤ / ١٤).

٥٢٥

ذلك : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

ثم قال : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً).

أي : ما ينظرون لإيمانهم إلا ذلك الوقت ، يقول ـ والله أعلم ـ : إنهم إذا بلغوا ذلك الوقت وعاينوا ذلك ، فعند ذلك يؤمنون ، لكن لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت ؛ لقوله : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ).

وقوله : (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) [الأنعام : ١٥٨].

يخبر عن سرعة قيام الساعة وغفلة أهلها عنها ؛ كقوله : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) [الشعراء : ٢٠٢] أي : فجأة ، وهم لا يشعرون ، وعلى ذلك روي في بعض الأخبار عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب ، فلا يقومانه حتى تقوم الساعة» (١).

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) فقال : «تقوم الساعة والناس في أسواقهم يحلبون اللقاح ، ويذرعون الثياب ، ويتبايعون وهم في حاجاتهم» (٢) ، وعن الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ : «أن الرجلين ليتبايعان إذ نادى مناد : قد قامت الساعة» (٣) ونحوه.

وقوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً).

أي : وصية ؛ وكذلك ذكر في حرف حفصة وأبي ، أي : فلا يستطيعون وصية.

وقوله : (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ).

يحتمل ما ذكرنا أن الساعة تقوم وهم على ما كانوا عليه من قبل في البياعات والخصومات والمنازعة وعلى ذلك جاءت.

ويحتمل (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي : يختصمون في الساعة والبعث أنها لا تقوم ولا تكون ؛ لأنهم كانوا [ينكرونها] ، ودل قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أن

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٣ / ١٥٦) كتاب الرقاق (٦٥٠٦) ومسلم (٤ / ٢٢٧٠) كتاب الفتن ، وأشراط الساعة : باب قرب الساعة (١٤٠ / ٢٩٥٤) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها».

(٢) أخرجه عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩٨).

(٣) أخرجه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر بنحوه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩٨).

٥٢٦

استطاعة الفعل تكون مع الفعل لا تتقدم الفعل ؛ لأنها لو كانت تتقدم ، لكانوا يستطيعون التوصية والرجوع إلى أهلهم إذا قامت بهم ؛ دل هذا على أنها لا تتقدم الفعل ، لكنها تقارنه وتجامعه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٥٨)

وقوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ).

قد ذكرنا القول في الصور في غير موضع ، واختلافهم في ذلك :

قال قائلون : الصور : هو شبه القرن ينفخ فيه ، وعلى ذلك روي عن عبد الله بن عمرو قال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصور فقال : «قرن ينفخ فيه» (١) ، فإن ثبت فقد كفينا مئونة الاشتغال بغيره.

وقال قائلون : هو على التمثيل لا على التحقيق ، لكنه ذكر النفخ ؛ لسرعة أمرها وقيامها ؛ إذ ليس شيء أسرع نفاذا ولا أخف من النفخ ، فهو عبارة عن سرعتها ونفاذها ؛ كقوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧] ، وهو قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ).

قال أهل التأويل : ينفخ في الصور ثلاثا بين كل نفخة مهلة كذا كذا سنة ، يقولون : في النفخة الأولى يصعق فيها كل شيء مما خلق الله ؛ كقوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] ، ثم ينفخ ثانيا فيحيون بها ويخرجون من قبورهم ، وهو قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) ، وينفخ ثالثا ، فيجتمعون عند ربهم ، وهو قوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) ، والله أعلم بذلك.

والنسل : هو سرعة الخروج ، أي : يسرعون ، قال أبو عوسجة : النسل : هو المشي (يَنْسِلُونَ) أي : يمشون ، لكنه مشي مع سرعة ، وهما واحد.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٢٢٦) أبواب صفة القيامة والرقاق والورع : باب ما جاء في شأن الصور (٢٤٣٠) ، وأبو داود (٢ / ٦٤٩) ، كتاب السنة : باب في ذكر البعث والصور (٤٧٤٢) ، وأحمد (١٦٢ ، ١٩٢) ، وابن حبان (٧٣١٢) ، والحاكم (٢ / ٤٣٦).

٥٢٧

وقوله : (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا).

من الناس من ينكر عذاب القبر بهذه الآية يقول : المرقد : موضع الراحة ، والراقد هو الذي يكون في راحة ، فلو كان لهم عذاب ، أو كانوا في عذاب ، لم يكونوا في رقدة ولا راحة ، دل أنه لا يكون.

ومنهم من يقول : يكون في القبر عذاب ، إلا أنهم لما عاينوا عذاب الآخرة ، صار عذاب القبر لهم كالرقاد عند عذاب الآخرة.

ومنهم من يقول : ينامون نومة قبل البعث ، ثم يبعثون ، ومثل هذا.

وجائز أن يكون النفس التي تخرج عند النوم تلك النفس في حال الموت ، فتجد تلك ألم ذلك كما تجد النفس التي تخرج من النائم ألم عذاب يصيبه ، وتجد لذة أيضا إذا كانت لذة ، وترى في النوم أهوالا وأفزاعا وذلك معروف ؛ فعلى ذلك هؤلاء الكفرة يعذبون بما ذكرنا ، فإذا بعثوا قالوا عند ذلك : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) ، والمرقد : هو الموضع الذي ينام فيه.

أو أن يكونوا في عذاب ـ أعني : في القبور ـ لكنهم إذا عاينوا عذاب الآخرة وشاهدوا أهوالها ، هان ذلك العذاب الذي كان لهم في القبر وسهل عند عذاب الآخرة ؛ فصار ذلك كالرقاد لهم عند عذاب الآخرة فقالوا عند ذلك : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).

قال بعضهم (١) : هذا قول الملائكة لهم عن قولهم : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا).

وقال بعضهم (٢) : قول المؤمنين لهم عند قولهم الذي قالوا.

وجائز أن يكون ذلك أيضا قول أولئك الكفرة ، يقرون بالبعث عند معاينتهم البعث ، يقولون : هذا الذي وعد لنا المرسلون ، وقد صدقوا في ذلك ، ونحن كذبناهم فيه ، لكن لا ينفعهم تصديقهم إياهم بذلك في ذلك الوقت ، وهو كإيمانهم عند معاينتهم بأس الله ، وهو قوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) [غافر : ٨٤] ؛ فعلى ذلك هؤلاء ، لكن لا ينفعهم.

وقوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً).

__________________

(١) قاله ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور (٥ / ٥٠٠).

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩١٨٤) وهناد في الزهد ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥٠٠) ، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى.

٥٢٨

يحتمل على حقيقة الصيحة ، يجعل الله تعالى الصيحة علما للإحياء والبعث لا أن تكون الصيحة سببا للإحياء والبعث.

ويحتمل لا على حقيقة الصيحة ولكن على قدر الصيحة ؛ كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : ما كانت إلا قدر صيحة واحدة ـ أي : البعث ـ لكنه ذكر الصيحة ؛ لأن الصيحة أسرع شيء وأيسر على الخلق من غيره على ما ذكرنا في النفخ في الصور ؛ كقوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) [النحل : ٧٧] ذكر هذا ؛ لأنه أخف شيء على الخلق ، وأهونه عليهم ؛ فيعبر به عنه ويكنى بما ذكر ، ليعلموا خفة ذلك على الله ، وسهولته وهوانه ، وأنه ليس يثقل عليه شيء.

وقوله : (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ).

ذكر أن قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) في البعث ، فإذا كان ذلك في البعث فعند ذلك إحضارهم عند الله ، وأما الأول فإنما هو في الهلاك والموت.

وقوله : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً).

الظلم في اللغة : هو وضع الشيء في غير موضعه كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : اليوم لا توضع نفس في غير موضعها ، ولكن توضع على ما وضعها في الدنيا.

أو يكون الظلم عبارة عن النقصان ، كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : فاليوم لا تنقص نفس عما استوجبت وتوفى ؛ كقوله : (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] أي : لم تنقص منه.

أو يقول : فاليوم لا يحمل على نفس ذنب غيرها ، ولا يوضع وزر غيرها ، بل يجزي [الله] كل نفس جزاء عملها ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ).

يخبر ـ والله أعلم ـ : عن شغل أهل الجنة أنهم وإن كانوا مشغولين في النعيم فإن ذلك الشغل يحجبهم عن غيرهم من الأشياء ، وكذلك جميع الخلائق أنهم إذا شغلوا في شيء حجبوا عن غيره ومنعوا ، فأما الله ـ سبحانه ـ فيتعالى عن أن يشغله شيء أو يحجبه شيء عن شيء.

ثم الاشتغال في الدنيا مما يضر أهلها ويؤذي ، فأخبر أن شغل أهل الجنة مما لا يضرهم ولا يؤذي ؛ حيث قال : (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) ، قيل (١) : ناعمون بما هم فيه ، وقيل : معجبون في ذلك.

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٤ / ١٦).

٥٢٩

وقال القتبي (١) : (فاكِهُونَ) : يتفكهون ، ويقال للمزاح : فكاهة ، وفاكهون : أراد ذوي فكاهة.

وقال أبو عوسجة : (فاكِهُونَ) : من المفاكهة ، وفكهون من السرور ، والمفاكهة : الممازحة.

ثم قال بعضهم : شغلهم في افتضاض العذارى ، وقيل : شغلهم في كل نعيم وفي كل كرامة على ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ).

يخبر أن أهل الجنة وإن كانوا لا يحجبون عن شيء ، ولا يمنعون شيئا ، فإنهم إذا كانوا مع أزواجهم لا يقع عليهم بصر غيرهم فينتقض ذلك ، وهو كما ذكر : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢] يخبر أنهم إذا كانوا مع أزواجهم لا يطلع عليهم غيرهم ، والله أعلم.

و (ظِلالٍ) جمع ظلة.

وقوله : (عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ).

الاتكاء على الأرائك إنما هو للراحة ، فيخبر ـ والله أعلم ـ عن غاية راحتهم ونهاية كرامتهم ، وإلا ليس في الاتكاء على الأرائك فضل كرامة ومنزلة ، ولكن يذكر عن راحتهم وتنعمهم ؛ كقوله : (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) [الكهف : ١٠٨].

وقال القتبي (٢) : (الْأَرائِكِ) : السرر في الحجال ، واحدها : أريكة.

وقال أبو عوسجة : (الْأَرائِكِ) : الوسائد.

وعن الحسن قال : الأريكة : الحجلة (٣) ، وهي بلغة أهل اليمن يسمون الحجلة : أريكة.

(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ).

قيل : الفاكهة هي التي تؤكل على الشهوة لا على الحاجة ، يخبر ـ والله أعلم ـ أن أهل الجنة إنما يأكلون ما يأكلون على الشهوة لا على الحاجة.

وقوله : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ).

قيل (٤) : ما يتمنون ، وقيل : ما يسألون.

وجائز أن يكون (يَدَّعُونَ) من الدعوى ، أي : يعطون جميع ما يدعون لأنفسهم ليس

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٦٦).

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٦٦).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٩٢٠٤) وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.

(٤) انظر تفسير ابن جرير (١٠ / ٤٥٥) ، والبغوي (٤ / ١٦).

٥٣٠

كالدنيا.

وقال أبو معاذ : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي : ما يشتهون ويتمنون في الجنة ، والله أعلم.

وقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : يردون إليهم ـ أعني : الملائكة ـ سلام الله بحق التبليغ إليهم سلام الله نحو ما يبلغ بعضهم بعضا سلام بعض : أقرئ فلانا مني السلام ؛ فعلى ذلك يقولون : إن الله قد أقرأ عليكم السلام.

والثاني : أن يسلم عليهم الملائكة بأمر ربهم ، يدخلون عليهم من كل باب : سلام عليكم بما صبرتم.

والثالث : أن يكون القول من الله وعدا بالسلامة لهم فيها من كل آفة وبلاء يكون في الدنيا ؛ كقوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) [الحجر : ٤٦] ، ونحوه.

وفي حرف أبيّ وابن مسعود : سلاما قولا بالنصب ، فهو ـ والله أعلم ـ كأنهما يجعلان تمام الكلام في قوله : (يَدَّعُونَ) ثم يقطع سلاما قولا منه ، وأمّا قراءة هؤلاء برفع السلام ، فمعناها ـ والله أعلم ـ : ولهم ما يدعون سلاما ، ثم الكلام قطع (قَوْلاً) منه.

قوله تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ)(٦٧)

وقوله : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ).

كأن أهل الجنة وأهل النار يكونون مختلطين ، فيفرق هؤلاء ؛ لأنهم يكونون في الابتداء مجموعين ، وكذلك سمي : يوم الجمع ، ويوم الحشر ، ثم يفرق بينهم ؛ كقوله : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] ، وسمي : يوم الفصل.

وأصل قوله : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ) ليس على الأمر في الحقيقة : أن افترقوا ، ولكن على حقيقة التفريق على ما ذكر في آية أخرى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال : ٣٧] ، وأصل الامتياز : الافتراق والاعتزال ؛ وبه يقول أبو عوسجة والقتبي : إن الامتياز هو التفرق والتنحي.

وقوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ).

٥٣١

يخرج على وجوه ثلاثة :

أحدها : عهد خلقة وبنية ؛ إذ قد جعل الله تعالى في خلقة كل أحد وبنيته ما يشهد على وحدانيته ، وجعل العبادة له ويصرفها عمّن دونه ، فنقضوا ذلك العهد وصرفوا العبادة إلى غيره والألوهية.

والثاني : ما أخذ عليهم من العهد على ألسن الرسل والأنبياء من الأمر والنهي.

والثالث : ما جعل فيهم من الحاجات والشهوات التي يحملهم قضاؤها من عنده على صرف العبادة إليه والشكر له على نعمائه ، وجعل الألوهية له ، ويمنعهم صرفها إلى غيره وجعلها لمن دونه ، فنقضوا ذلك كله وتركوه.

فإن قيل : ذكر عبادة الشيطان ، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان ولا يعبده ، بل كل يفرّ عن عبادته ويهرب منه ، لكنه يخرج على وجهين :

أحدهما : يحتمل أن يريد بالشيطان : المردة من الكفرة والأئمة منهم الذين صرفوهم عن عبادة الله ، سموا شيطانا ؛ لما بعدوا عن رحمة الله ؛ شطن ، أي : بعد ، كقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢].

والثاني : نسب تلك العبادة إلى الشيطان وأضافها إليه ، وإن كانوا هم لا يقصدون بعبادتهم الشيطان ؛ لما بأمره يعبدون ما يعبدون من الأصنام ؛ فنسب إليه بالأمر ، أو لما كان منه بداية الأمر ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

عداوته لنا ظاهرة بينة في كل شيء ، حتى في المأكل والمشرب والملبس ؛ كقوله : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ...) الآية [الأعراف : ٢٠] ؛ إذ هو يريد أن يوقعنا في المهالك فهو عدوّ لنا.

وقوله : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

أي : اعبدوني فإن عبادتي هي الصراط المستقيم.

وقوله : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً).

يحتمل قوله : (أَضَلَّ مِنْكُمْ) ، أي : أهلك ، وهو ما أهلك من القرون المتقدمة نحو عاد وثمود وقرونا غير ذلك ، والإضلال يكون الإهلاك في اللغة.

ويحتمل على حقيقة الإضلال عن الهدى.

ثم هو يخرج على وجهين :

٥٣٢

أحدهما : أن قد رأيتم وعلمتم أنه قد أهلك الله خلقا كثيرا بإبليس بما ضلوا به واستأصلهم لذلك ؛ فكونوا أنتم يا معشر أهل مكة على حذر منه ؛ لئلا ينزل بكم ما نزل بأولئك بضلالهم به ـ والله أعلم ـ (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) : أنه فعل ذلك بهم ، يخرج على التعيير والتوبيخ لهم لترك هؤلاء النظر في أمر أولئك (١).

والثاني : قوله : (جِبِلًّا كَثِيراً) : قال بعضهم : جموعا كثيرة.

وقال بعضهم : خلقا كثيرا.

وقال بعضهم : أمما كثيرة ؛ وكله واحد ، وأصله من قولك : جبلهم على كذا ، أي : طبعهم ، ويقرأ : (جِبِلًّا) و (جِبِلًّا) برفع الجيم والتشديد وخفضها والتشديد.

قال أبو عوسجة : الجبلة والجبلة : الخلق.

وقوله : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).

يشبه أن يكونوا لما رأوا جهنم قالوا : ما هذا الذي نراه؟! فعند ذلك قيل لهم : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها ، (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ، أي : ادخلوها اليوم بما كنتم تكذبون بها ، والله أعلم.

وقوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ).

أي : نطبع على أفواههم ، فلا يتكلمون (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

كأنهم ـ والله أعلم ـ لما أنكروا كفرهم وشركهم وعملهم الذي عملوه في الدنيا ؛ كقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، وأمثاله عند ذلك يأذن الله لسائر جوارحهم وأركانهم بالنطق والشهادة عليهم بما عملوا ؛ كقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ...) الآية [النور : ٢٤] ، وقوله : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ ...) الآية [فصلت : ٢٠] ، ثم أنطق ألسنتهم حتى يعاتبوا الجوارح في شهادتها عليهم بقوله : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢١].

وفيه أن النطق والكلام الذي يكون من اللسان لا يكون لأنه لسان أو لنفس اللسان ، ولكن للطف يجعل الله ذلك في اللسان فينطق ، فحيثما جعل ذلك اللطف والمعنى في أي جارحة ما جعل نطقت وتكلمت ، ولو كان النطق والكلام لنفس اللسان ، لكان يجب أن ينطق لسان كل ذي لسان لما له اللسان ، فإذا لم ينطق دل أنه للطف جعل فيه به ينطق

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : يحتمل أن يكون على التنبيه والإذكار لهم ، لما عسى ألا يبلغهم ذلك ؛ لأنهم ليسوا من أهل الكتاب ، شرح.

٥٣٣

ويتكلم ، فحيثما جعل ذلك المعنى واللطف نطق وتكلم ؛ وكذلك السمع والبصر وكل جارحة منه من اليد والرجل وغيره جعل لطفا ومعنى به يسمع السمع ، وبه يبصر البصر ، وبه تأخذ وتقبض اليد ، وبه تمشي وتذهب الرجل ، فأينما جعل ذلك اللطف وذلك المعنى كان منه ذلك ما كان من السمع والبصر وغيره ؛ وكذلك الأطعمة والمياه ليس الغذاء في عينها ، ولكن في لطف جعل الله فيها لطفا ومعنى يصير ذلك غذاء لهم ؛ ألا ترى أن عين الطعام تبقى فيرمى به وينتفع بما فيه من الغذاء؟! والله أعلم.

وقوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ).

قال بعض أهل التأويل (١) : لو نشاء لطمسنا أعين الضلال ، فاستبقوا فلم يبصروا الطريق ، فأنى يبصرون وقد فقأنا أعينهم.

وقال بعضهم : لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى ، فلو طمست : أي : حولت [عن] الكفر ـ لاستبقوا الصراط ، يقول : لأبصروا طريق الهدى ، ثم قال : (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) يقول : فمن أين يبصرون الهدى إن لم أعم عليهم طريق الكفرة؟!

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ).

أي : لأقعدناهم على أرجلهم لا يتقدمون ولا يتأخرون.

ويشبه أن يكون على خلاف هذا على التمثيل ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : لو طمسنا أعينهم وأعميناهم فاستبقوا الطريق (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) ، أي : لا يبصرون الطريق ؛ فعلى هذا إذا طمسنا أعين القلوب فأعميناها ، فأنى يبصرون الهدى ، أي : لا يبصرون.

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ).

يقول [ذلك] ـ والله أعلم ـ على التمثيل ، أي : لو حولنا ظاهر خلقتهم وصيرناها خنازير وقردة حتى ذهبنا بمنافع أنفسهم ظاهرة ، فما استطاعوا مضيّا ولا يرجعون ؛ فعلى ذلك إذا مسخنا قلوبهم وحولناها عن مكانها ما انتفعوا بها كما [لم] ينتفعوا بظواهر جواهرهم ، على التمثيل لا على التحقيق.

وفي قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) ، (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) دلالة أن لله في ذلك صنعا ؛ إذ لو لم يكن [له] فيما يختارون من الأفعال والأعمال صنع ، لم يكن لتوعدهم على إذهاب ذلك وتحويله عن مكانه معنى ، فدل أن له صنعا في ذلك وفعلا.

قال الحسن وقتادة في قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) فتركناهم عميا يترددون

__________________

(١) قاله الحسن أخرجه ابن جرير (٢٩٢١٧) وهو قول قتادة ومجاهد.

٥٣٤

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) : أي : لأقعدناهم على أرجلهم على ما ذكر.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ).

يقول ـ والله أعلم ـ : ما استطاعوا أن يتقدموا ويتأخروا.

وابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يقول ما تقدم ذكره ، أي : لو شاء غير أعين الضلال فلم يبصروا الطريق (١) (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي : كيف يبصرون ، أو نحوه من الكلام.

ومقاتل يقول : لو شاء طمس أعينهم ظاهره (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) ، أي : لا يبصرون ، وهو قريب مما ذكر آنفا.

وجائز أن يكون على التمثيل على ما ذكرنا بدءا.

ويحتمل على التحقيق أن من قدر على الطمس أو المسخ وما ذكر من النكس ، لا يعجزه شيء من البعث وغيره ؛ إذ خلق الإنسان للطمس أو المسخ خاصة لا لعاقبة تقصد ليس بحكمة.

أو يذكر أنه لو شاء لطمسهم ولمسخهم ، لكنه تركهم فلم يطمسهم ولم يمسخهم ؛ ليبقوا في النعمة ؛ ليشكروا نعمه.

قوله تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٦)

وقوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ).

أي : من نعمره حتى يدركه الهرم والضعف ، يقول : نرده في الخلق الأول لا يعقل فيه كعقله الأول ؛ كقوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [النحل : ٧٠].

(أَفَلا يَعْقِلُونَ).

أي : من فعل هذا ، أو قدر على هذا ، لا يعجزه شيء ويتأدى به شكره.

قال القتبي (٢) : المطموس : هو الذي لا يكون بين جفنيه شق ، (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) أي : فتجوزوا.

[و] قال أبو عوسجة : (لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) أي : أعميناهم ، والمسخ : هو تغيير

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٢١٦) وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات كما في الدر المنثور (٥ / ٥٠٤).

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن (٣٦٧).

٥٣٥

الصور والأبدان.

وقوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ).

أي : نصيره ضعيفا بعد أن كان قويّا.

وقوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ).

نزل هذا ـ والله أعلم ـ عند قولهم : إنه شاعر ، وإنه كذاب ؛ فأخبر أنه لم يعلمه الشعر ، وما ينبغي له الشعر ، تكذيبا لهم ، وردّا عليهم : أنه شاعر ، وأن هذا القرآن شعر ، جعل الله عجز رسوله عن القيام بإنشاد الشعر بعض آياته من آيات رسالته ، كما جعل عجزه عن تلاوة الكتاب من قبل وكتابته وخطه بيمينه آية من آيات رسالته ؛ ليعلم أولئك الذين قذفوه بالشعر والافتراء من نفسه والكذب على الله وبالسحر أنه إنما أخبر عن وحي عن الله ، لا ما يقولون هم ، وهم على يقين ، وعلم : أنه ليس شاعرا ولا ساحرا ولا كذابا ؛ لما لم يروه اختلف إلى أحد منهم في تعلم ذلك ، ولا كان عنده من كتبهم منها أخذ ذلك [ولا أخذ عليه] كذب قط ، لكنهم نسبوه إلى ما نسبوه من الشعر والسحر والكذب ؛ تعنتا منهم وعنادا ، يلبسون أمره بذلك على أتباعهم وسفلتهم ؛ لئلا تذهب رياستهم ومنفعتهم.

وفي قوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) دلالة نقض قول المعتزلة ؛ حيث أخبر أنه لم يعلمه الشعر ، وقد أعطى له جميع أسباب الشعر ، وقال في القرآن : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن : ٢] و (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٤] أنه كان من الله لطف سوى السبب فيما أخبر أنه قد علمه ؛ دل أن التعليم له فيما كان منه تعليم له بلطف منه سوى السبب لا بنفس السبب ؛ إذ نفس السبب قد كان له في الأمرين جميعا ، والله أعلم.

وقوله : (وَما يَنْبَغِي لَهُ).

أن يشتغل بشيء مما يتلهى به ، والشعر في الأصل ؛ إنما جعل للتلهي به والتلذذ ؛ لذلك حيل بينه وبين طبعه إنشاد الشعر ؛ ليكون أبدا مشتغلا بما هو حكمة وعلم ، وفيما هو أمر الله ، لا بما فيه التلهي واللهو ، والله أعلم.

وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).

(إِنْ هُوَ) أي : ما هذا القرآن إلا ذكر ؛ لما نسوه من أمر الله ووعده ووعيده ومما لهم ، ومما عليهم ، يذكرهم ما نسوه وتركوه و (مُبِينٌ) : يبين لهم ما لهم وما عليهم ، أو يبين لهم ما يؤتى وما يتقى ، أو يبين لهم أنه من الله جاء ومن عنده نزل لا من عند المخلوقين.

أو (ذِكْرٌ) لأهل الكتاب ، يذكرهم بما نسوه مما كان في كتبهم من نعته وصفته وما

٥٣٦

عليهم القيام به وما ليس ، و (مُبِينٌ) لمشركي العرب أنه رسول وأن هذا القرآن من عنده جاء به ، وكل كتب الله ذكر ومبين ورحمة ونور وشفاء على ما أخبر ، والله أعلم.

وقوله : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ).

قال بعضهم (١) : من كان عاقلا ، يقول : لينذر القرآن من له عقل حيّ فيؤمن ، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) أي : السخطة على الكافرين في علم الله أنهم لا يؤمنون.

وقال بعضهم (٢) : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) ، أي : مؤمنا ؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ سمى المؤمن : حيا في غير آية ، والكافر ميتا.

ويحتمل قوله : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي : لتقع النذارة وتنفع من كان حيّا ، أي : مؤمنا على ما ذكرنا ، وإن كان ينذر الفريقين جميعا ؛ كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [يس : ١١] هو ينذر من اتبع الذكر ، ومن لم يتبع الذكر ، لكن النذارة إنما تقع وتنفع لمن اتبع الذكر وخشي الرحمن خاصة ؛ وكقوله : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) ، هو يذكر لهم جميعا لكن المنفعة للمؤمنين فعلى ذلك الأول.

ويحتمل قوله : (مَنْ كانَ) أي : من يطلب بحياته الفانية الحياة الدائمة ، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) القول الذي قال : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١٩].

وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ).

قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع : أن قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) و (أَلَمْ تَرَ) [إبراهيم : ١٩] ، ونحوه أنه في الظاهر حرف استفهام ، لكنه من الله على الإيجاب والإلزام ؛ ثم هو يخرج على وجهين :

أحدهما : على الخبر أن قد رأوا ما خلق لهم من الأنعام وما ذكر.

والثاني : على الأمر على الرؤية والنظر فيما ذكر ، أي : فليروا.

فإن كان على الخبر أنهم قد رأوا ما خلق لهم من الأنعام ، فهلا تفكروا واعتبروا فيما خلق لهم من الأنعام وغيرها : أنه لم يخلق لهم ذلك عبثا باطلا ولكن لحكمة ، ولو لم يكن بعث على ما يقولون هم كان خلق ذلك عبثا باطلا؟!

أو أن يقول : إن من قدر على تصوير ما ذكر من الأنعام وغيره في الأرحام وتركيب ما ركب فيها من الأعضاء والجوارح في الظلمات ، لا يحتمل أن يخفى عليه شيء أو يعجزه ، أو يفعل ذلك على التدبير الذي فعل بلا حكمة.

__________________

(١) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير (٢٩٢٣١) والبيهقي في الشعب عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٥٠٦).

(٢) انظر : تفسير البغوي (٤ / ١٩).

٥٣٧

أو يذكر أنه خلق لهم من الأنعام وذللها لهم وجعل لهم فيها من المنافع ما ذكرنا بلا شكر يلزمهم ، يتأدى على ذلك شكر ما أنعم عليهم على جهة ما لو كان على الأمر بالرؤية فيما خلق والنظر ، والله أعلم.

وقوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً).

يحتمل ما عملت أيدي الخلق من الزراعة والغرس وغير ذلك مما يعمله الخلق ، نسب ذلك إلى نفسه.

ويحتمل (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) ، أي : قوتنا (١) ؛ كقوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧] ، وقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] أي : بقوة ونحوه ، والله أعلم.

وقوله : (فَهُمْ لَها مالِكُونَ).

قال بعضهم : قادرون على الانتفاع بها والاستعمال لها ، يقول الرجل فيما له فيه حقيقة الملك : أنا غير مالك عليه إذا كان غير قادر على الانتفاع به ، ولا مالك على استعماله.

وقيل : (مالِكُونَ) ، أي : ضابطون قادرون على إمساكها ، يقال : فلان غير ضابط على إبله ودابته وهما واحد ، والله أعلم.

وقوله : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ* وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ).

يخبر عن أنواع ما جعل لهم من الأنعام وأنعم عليهم ؛ ليتأدى بذلك شكره ، والله أعلم.

وقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ. لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ).

يخبر عن سفههم وقلة بصرهم وفهمهم ؛ لاتخاذهم الأصنام آلهة وعبادتهم إياها ؛ رجاء النصر لهم ، وتركهم عبادة الله على وجود المعونة والنصر منه ، وجعله كل شيء لهم ، ثم يكون رجاؤهم بذلك ما قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وذلك في الآخرة.

ويحتمل رجاء النصر لهم بعبادتهم الأصنام في الدنيا في دفع ما ينزل بهم من البلايا والشدائد ؛ كقوله : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧].

ثم أخبر أن الأصنام التي يعبدونها وما رجوا منها لا يستطيعون نصرهم وما رجوا من شفاعتهم والنصر لهم ، وأخبر أن ما عبدوا دونه يصير أعداء لهم.

قال : (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ).

في الآخرة ؛ كقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم : ٨١] ؛ هذا على تأويل بعضهم من أهل التأويل يجعل الأصنام جندا عليهم وأعداء لهم على ما ذكرنا.

__________________

(١) في أ : قوّينا.

٥٣٨

ويحتمل قوله : (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) ، أي : المشركون جند للآلهة التي يعبدونها ، أي : هم يقيضون لها ويقومون في دفع من همّ بها فسادا وإهلاكا ـ أعني : أصنامهم التي كانوا يعبدونها ـ كقوله : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٦٨].

ثم اختلف فيه : قال بعضهم : ذلك في الآخرة.

وقال بعضهم : ذلك في الدنيا ، والله أعلم.

وقوله : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).

كان من أولئك الكفرة لرسول الله أقوال مختلفة :

مرة كان منهم ما ذكر : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ...) الآية [الأنفال : ٣٠].

ومرة قالوا : إنه ساحر ، وإنه كذاب ، وإنه شاعر.

ومرة قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢].

ومرة قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧].

ومرة طعنوا فيه وفيما أقام من الحجج ، ولا ندري أي قول كان منهم له فيحزن عليه حتى قال له : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ، أي : لا تحزن على قولهم ؛ فإنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ؛ فنحفظ عليهم ذلك ونكافئهم على ذلك.

أو نعلم ما يسرون وما يعلنون فننصرك عليهم ونعينك.

أو أن يكون حزنه عليهم ؛ إشفاقا عليهم ؛ لما كان يعلم نزول العذاب بهم والهلاك لعنادهم ومكابرتهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٣)

وقوله : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ).

هذا يخرج على الوجهين : إن كان على الأمر بالرؤية والنظر أي : فلير الإنسان ولينظر أن من قدر على خلق الإنسان مبتدأ من نطفة لقادر على إعادته ؛ لأن إعادة الشيء في الشاهد أهون وأيسر من ابتدائه ؛ إذ قد يحتذى ويصور بعد ما وقع البصر على الشيء ويرى ولا سبيل إلى احتذاء ما لم يروا ، ولا تصوير ما لم يعاينوا ، احتج الله عليهم بالشيء الظاهر الذي يعلم كل أنه كذلك من غير تفكر ولا تأمل ، وإلا الاحتجاج عليهم بالأشياء

٥٣٩

التي لم يذكر أبلغ وأكثر نحو خلق الإنسان من هذه النطفة على الصورة التي صورها والنسمة التي خلقها فيها ما لو اجتمع حكماء البشر كلهم أن يعرفوا كيفية خلقه منها من تركيب العظم والشعر والعين ـ البصر ـ والسمع والعقل وجميع الجوارح ـ ما قدروا على درك ذلك ، أو لو اجتمعوا على أن يعرفوا كيفية غذائهم بالأطعمة والأشربة التي جعلها غذاء لهم ، والقوة التي بها يتقوون على كل أمر أن كيف قدر وقسم على السواء في الجوارح كلها؟ والمواد التي ينمون ويزيدون على الاستواء ما لو زاد في بعضها من قوى ذلك الطعام والشراب دون بعض يزداد قوة على بعض ، ونحو ذلك من العجائب ما لا سبيل إلى معرفة ذلك البتة بعد طول التفكر والتأمل ، لكنه احتج بالشيء الظاهر ؛ ليدركوه بالبديهة ولا يدركون الآخر إلا بعد التأمل والتدبر ، والله أعلم.

وقوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).

أي : جدل بين.

وقوله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) : ما ذكر من ضرب المثل له : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ).

وقوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) يحتمل وجوها :

أحدها : أي : غفل عن القدرة في خلق نفسه ما لو نظر وتفكر لعرف أنه قادر على الإعادة؟!

والثاني : غفل عن الحكمة في الإعادة؟.

والثالث : غفل عن الحكمة في ابتداء خلقه نفسه ، ثم يخرج هذا على وجوه :

أحدها : أنه لو نظر وتفكر في حق نفسه أنه خلق من نطفة ، ثم حول النطفة علقة ، وحول العلقة مضغة ، وحول المضغة خلقا وإنسانا تامّا متقنا ، ثم صيره بحيث يأخذ في النقصان بعد ما كان تامّا ، ثم من فعل هذا في الشاهد أن يحكم الشيء ويتقنه ويتمه ثم يهدمه بلا عاقبة تقصد به ، كان غير حكيم فعلى ذلك كان ما أحكم الله من الخلق وأتقنه وتممه ، ثم جعل ينقض منه ويوهنه ، فلو لم يكن إعادته وخلقه ثانيا ، كان خارجا عن الحكمة ، فلو نظر في ابتداء خلق نفسه ، لعرف أنه يعيده وينشئه ثانيا.

والثاني : لو نظر وتفكر في ابتداء خلق نفسه : أنه كيف دبره في تلك الظلمات الثلاث ، وقدره على أحسن تقدير في ذلك ، فلو نظر وتفكر أن من قدر على تدبيره وتقديره في الظلمات الثلاث على ما دبره وقدره ـ قادر على إعادته ؛ وهو كقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ، أي : هو أهون في عقولكم وتقديركم

٥٤٠