تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

لأنه جعل حفظ ما ليس بضار ولا مضر إلينا ، وعلينا جعل مئونتها والذب عنها ودفع المضر ، فأما الضارة منها والمضرة فهي ممتنعة بنفسها متحملة مئونتها ؛ كذلك كان ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

أي : لم يؤاخذهم بما كسبوا على ظهرها لما جعل لهم من المدة ؛ أحب أن ينقضي ذلك ، ويفي بما جعل لهم من المدة وما ضرب لهم من الوقت.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً).

أي : عن بصيرة وعلم بكسبهم وصنيعهم ، وما يكون منهم ضرب لهم المدة والوقت الذي ينتهون إليه ، ويبلغون آجالهم ، لا عن جهل ، بل لم يزل عالما بما يكون منهم ، لكن لما كان ضرر ذلك الذي علم أنه يكون منهم راجعا إليهم أنشأهم وجعل لهم المدة ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع ، والله أعلم.

قال القتبي : أساور : جمع سوار ، وهو الذي تجعله المرأة في معصمها ، والنصب : الشدة والتعب ، واللغوب : الإعياء ، لغبت بنفسي ألغب لغوبا ، فأنا لاغب ، وألغبت غيري ، أي : كلفته حتى أعياه ؛ وهو قول أبي عوسجة ، والاصطراخ : صياح الضجر ، والمقت : البغض.

* * *

٥٠١

سورة يس كلها نزلت بمكة (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)(١٢)

قوله ـ عزوجل ـ : (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ).

عن ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنه ـ قال : يا إنسان ، يعنى : يا محمد أقسم به : يا محمد ، إن هذا القرآن من عند الله نزل ، وهو بلسان الحبشة (٣).

وقال بعضهم : وهو بلسان طيئ.

وقتادة (٤) يقول : قسم ، أقسم بالقرآن : إنك لمن المرسلين ، ويقول : كل هجاء في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن.

وقال بعضهم : هو من فواتح السورة.

وقال بعضهم (٥) : فواتح يفتتح بها كلامه.

وقال بعضهم (٦) : اسم من أسماء الرب.

وعن معاذ بن جبل وكعب (٧) ـ رضي الله عنهما ـ قالا : (يس) قسم أقسم الله به يا محمد ، (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) دل أن الخطاب به على أثر قوله : (يس)

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : سورة (يس) مكية ، وهي ثلاثة وثمانون آية كوفي ، واثنتان وثمانون مكي ، ومدنيان : شامي ، وبصري : اختلافهما ، آية يس ، كوفي ، في كتاب سراج منير.

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير (٢٩٠٤٨) وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٨٤) ، وهو قول عكرمة والحسن والضحاك.

(٣) ثبت في حاشية أ : يس يعني : محمدا ؛ أقسم به : إن هذا القرآن من عند الله نزل ، وهو اسم الرجل بلسان الحبشة ، شرح.

(٤) أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (٢٩٠٥٢) وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٤٨٥).

(٥) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩٠٥٠).

(٦) قاله مالك بن أنس أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٨٤).

(٧) أخرجه ابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٨٥).

٥٠٢

على أنه هو المراد بقوله : (يس) ؛ إذ لا يستقيم الخطاب بقوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلا على سبق خطاب له وذكر اسمه.

وقال عكرمة : هو حرف من الهجاء الذي افتتح به السور كسائر حروف الهجاء.

وقال بعضهم : هو من حروف الهجاء التي أقسم الله بها ، بما يتلو تلك الحروف من القرآن والآيات والكتاب ؛ إذ من عادة العرب القسم بكل ما عظم خطره وجل قدره.

فإن قيل : كيف أقسم بالقرآن وهم كانوا ينكرون القرآن أنه من عند الله؟!

قيل : إنهم وإن كانوا ينكرونه ، فقد عظم قدره وجل خطره عندهم بما عجزوا عن إتيان مثله بعد قرع أسماعهم بقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ...) الآية [الإسراء : ٨٨] ونحوه.

والثاني : أقسم به وإن كانوا ينكرونه ؛ لما أن قسمه به يحملهم على السؤال عنه ؛ إذ كانوا لا يقسمون إلا بما عظم قدره وجل خطره ، يقولون : ما هذا القرآن الذي أقسم ربنا به ؛ ألا ترى أنه قال : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ، فكأنه على سؤال خرج على هذا أنه (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ، وأن يكون القسم به وبغيره من الأشياء التي عظم خطرها عندهم ، على إضمار القسم برب هذه الأشياء وبإلهها ؛ هذا على قول من يقول بأن القسم بالله حقيقة لا بتلك الأشياء ـ مستقيم ، وعلى قول من يجعل القسم بها لا على الإضمار هو ما ذكرنا.

وقوله : (الْحَكِيمِ).

أي : المحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه على ما وصف.

وقال بعضهم : المحكم بالحلال والحرام ، والوعد والوعيد ، من غير أن يكون فيه اختلاف.

وقال بعضهم : الحكيم ؛ لأن من تمسك به وعمل بما فيه يصير حكيما.

وقوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

ولم يقل : إنك لرسول الله ، وكلاهما سواء ، غير أن قوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين آمنوا بهم من قبل وصدقوا بهم [ففيه] زيادة ، ليس ذلك في قوله : (إنك لرسول) ، والله أعلم.

وقوله : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

قال بعضهم : المستقيم : القائم بالحجج والبراهين ، ليس بالهوى كسائر الأديان والسبل.

وقال بعضهم : المستقيم : المستوي ، أي : مستو ؛ على أن من يسلكه أفضاه ـ أي :

٥٠٣

الله ـ وبلغه إلى دار السلام.

وقال بعضهم : المستقيم ، أي : استقام بالحق والعدل والصدق ، لا زيغ فيه ، ولا جور ، ولا عدول ، ولا اعوجاج.

ويحتمل أن يكون ذلك وصف النبوة والرسالة التي تقدم ذكرها.

ويحتمل وصف الدين ، وذلك عامة قول أهل التأويل ، والله أعلم.

وقوله : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ).

أي : ذلك القرآن الذي أقسم به (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ، أي : من عنده نزل وأحكم ، سمّى نفسه : عزيزا رحيما عظيما لطيفا ظاهرا باطنا أولا آخرا ، وفي الشاهد من وصف بالعزّ لا يوصف بالرحمة ، ومن وصف بالعظم لا يوصف باللطافة ، ومن وصف بالظاهر لا يوصف بأنه باطن ، ومن وصف بالأول لا يوصف بالآخر ؛ ليعلم أن المعنى الذي وصف به الخلق غير الذي وصف به الربّ ـ تبارك وتعالى ـ لأن من وصف من الخلق بواحد مما ذكرنا لم يستحق الوصف بالآخر ، [فدل] أن ما وصف به الرب ـ تبارك وتعالى ـ غير ما يوصف به الخلق ، تعالى الله علوّا كبيرا.

وقوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) ، اختلف فيه :

قال بعضهم : (لِتُنْذِرَ قَوْماً) مثل الذي أنذر آباؤهم من الآيات التي أقامها ، فلم يقبلوها (فَهُمْ غافِلُونَ) أميون.

وقال بعضهم : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) ، أي : لتنذر قوما أميين لم ينذر آباؤهم ، يقول قائل : لم تكن النذارة للأميين من قبل ، كأنه يقول : لتنذر قوما أميين لم ينذر آباؤهم الأميون من قبل ؛ وكذلك قال : (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) [غافر : ٤٢] ؛ وهو كقوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) [السجدة : ٣] ، وقوله : (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) [سبأ : ٤٤] ، أي : لم نرسل إليهم قبلك نذيرا ، وأصله : أنه يخبر أنه لا ينجع في هؤلاء النذارة كما لم ينجع في آبائهم ، بل هم غافلون.

ثم الإنذار يحتمل أن يكون بالنار في الآخرة والتعذيب بها ، ويحتمل الآيات التي أقامها في الدنيا والقتل فيها ، والله أعلم.

وقوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

قيل : هو قوله لإبليس حيث قال : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥] و (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] ، أي : حق ذلك القول ووجب.

ثم يحتمل ذلك في الذي ذكره بعض أهل التأويل : أن نفرا هموا برسول الله قتله وأذاه ،

٥٠٤

فأهلكهم الله يوم كذا إلا واحدا أو اثنين.

ويحتمل أن يكون ذلك في جميع مكذبيه ورادّي رسالته ويتأسى أتباعه ، ولا شك أن أكثر من بعث هو إليهم كانوا كذلك لهم في الآخرة أو في قوم خاص علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا ؛ ألا ترى أنه قال على أثر ذلك : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

ثم في قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٨] ، وقوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) نقض قول المعتزلة ورده عليهم ؛ لأنه وعد ـ عزوجل ـ أنه يملأ جهنم بمن ذكر ، فيقال لهم : أراد أن يفي بما وعد أم لا؟ فإن قالوا : لم يرد ، فيقال : أراد ، إذن أن يخلف ما وعد وذلك وحش من القول سرف.

وإن قالوا : أراد أن يفي بما وعد ، لزمهم أن يقولوا : أراد أفعالهم التي فعلوا فيلزمهم قولنا ، وبالله العصمة.

وقوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ).

يحتمل أن يخرج على التمثيل ، ويحتمل على التحقيق : فإن كان على التمثيل ، فهو وصفه إياهم بالبخل ، والكف عن الإنفاق على الفقراء والمساكين وأهل الحاجة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو كقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) [الإسراء : ٢٩] نهاه عن البخل والكف عن الإنفاق كمغلول اليد لا يقدر على الإنفاق ، ليس على إرادة غل اليد حقيقة ولكن على ترك الإنفاق ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ذلك وصفا لهم بالبخل وترك الإنفاق عليهم.

وإن كان على حقيقة الغل والأعناق ، يحتمل ما قاله أهل التأويل : إن أبا جهل ـ لعنه الله ـ حلف لئن رأى محمدا ليدمغنه ، فأتاه أبو جهل وهو يصلي ومعه حجر ، فرفع الحجر ؛ ليدفع به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيبست يده إلى عنقه وألزق الحجر بيده ، فلما رجع إلى أصحابه قال رجل : أنا أقتله ، فأخذ الحجر ، فلما دنا منه طمس الله بصره ، فلم ير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسمع قراءته ، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه (١) ؛ فذلك قوله : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا).

ويحتمل أن يكون ذلك لهم في الآخرة إن كان على التحقيق ؛ وهو كقوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ) [غافر : ٧١ ، ٧٢] ، وقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] ، ونحو ذلك مما ذكر ؛ فيكون قوله : (جَعَلْنا) ، أي : سنجعل ذلك لهم ، وذلك جائز في الكلام ؛ كقوله لعيسى حيث قال : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦] أي : يقول له يوم القيامة ، فهو بعيد غير

__________________

(١) قاله عكرمة أخرجه ابن جرير عنه (٢٩٠٦٤).

٥٠٥

معقول ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من قوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) ، (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ...) إلى آخر ما ذكر في الآخرة ، أي : سنجعل لهم في الآخرة ذلك.

ويحتمل أن يكون فعل ذلك لهم في الدنيا من قصدهم برسول الله ما قصدوا ، حتى لم يجدوا السبيل إليه لا من بين يديه ولا من خلفه ولا من جهة من الجهات.

أو أن يكون قوله : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) على التمثيل ، أي : جعلنا بينهم وبين الحق سدّا من أمام ومن خلف ، فأغشينا أبصارهم فلا يبصرون الحق أبدا ، وذلك في القرآن كثير ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً).

إن الغل يكون طرفه في العنق ، وطرفه الآخر في اليد ؛ فتكون اليد اليمنى مغلولة إلى العنق ، وعلى ذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأ : إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا (١) ، وفي بعض الحروف : فى أيديهم أغلالا.

وقوله : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ).

قال بعضهم (٢) : رافعو رءوسهم إلى السماء ؛ لأنه كذلك يكون إذا غل عنق المرء إلى الذقن لا يستطيع أن ينظر في الأرض ، وكذلك قيل للإبل إذا شربت الماء : أقمحت ، أي : رفعت رأسها (٣). وقال بعضهم : الإقماح : هو غض البصر.

وقال أبو عوسجة والقتبي (٤) : المقمح : الذي يرفع رأسه ويغض بصره ، ويقال : غاضّ طرفه بعد رفع رأسه ، جمعت أيديهم إلى أعناقهم.

وقوله : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ).

قد قرئ بالرفع والنصب والخفض جميعا : فمن قرأها بالرفع فهو على الابتداء ، ومن قرأها بالخفض فهو على النعت ؛ كقوله : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ، ومن قرأ بالنصب فعلى القطع ؛ لأن الكلام قد تم دونه.

وقوله : (فَأَغْشَيْناهُمْ).

بالغين والعين جميعا : فمن قرأ بالغين فهو من الغشاوة ، ومن قرأ بالعين فهو من قوله :

__________________

(١) أخرج هذه القراءة عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٨٦).

(٢) قاله مجاهد أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (٢٩٠٥٧) ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٨٦).

(٣) ثبت في حاشية أ : يقال : أقمحت الإبل ، إذا رفعت رأسها من الشراب ، شرح.

(٤) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٦٣).

٥٠٦

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) [الزخرف : ٣٦] وهو من الإعراض.

وفي قوله : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) وجهان من الاستدلال على المعتزلة لقوله : (فَأَغْشَيْناهُمْ) أضاف إلى نفسه وإن كان منهم صنع ، ويجوز أن يستدل بخلق أفعالهم منهم.

وقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) : ومن لم يتبع ، (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ) : ومن لم يخش.

أو إنما ينتفع بالذكر من اتبع الذكر وخشي الرحمن ، فأما من لم يتبع الذكر ولم يخش الرحمن فلا ينتفع.

أو أن يكون فيه إخبار بإنذاره من اتبع الذكر ، وليس فيه نفي عن إنذار من لم يتبع الذكر ولا تخصيص منه بالإنذار أحد الفريقين دون الآخر ، والله أعلم.

والذكر يحتمل القرآن ، ويحتمل غيره من الذكرى ؛ كقوله : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٥].

وقوله : (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ).

بالغيب : بالآثار والأخبار التي انتهت إليهم من غير مشاهدة وقعت لهم ، أو بالغيب بما رأوه من آثار سلطانه وقدرته هابوه وخشوا عذابه ونقمته ، والله أعلم.

وقوله : (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).

يحتمل البشارة بالمغفرة عما سلف من الذنوب والإجرام إذا رجعوا عنها ، أو عن تقصير كان منهم في الفعل في خلال ذلك ، وإن اعتقدوا في الجملة ألا يخالفوا ربهم في فعل ولا في قول ؛ إذ كل مؤمن يعتقد في أصل إيمانه ترك مخالفة الرب في كل الأحوال ، وإن تخلل في بعض أحواله تقصيرا ومخالفة الرب بغلبة شهوة أو طمع في عفوه ورحمته.

(وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) قيل : حسن ، ويحتمل تسميته : كريما ؛ لما يكرم كل من نال ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى).

كأنه ـ والله أعلم ـ يذكر هذا ليس في موضع الاحتجاج عليهم ، ولكن على الإخبار أنه هو محييهم إذا ماتوا.

وقوله : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ).

قال عامة أهل التأويل (١) : نكتب ما قدموا وآثارهم و [ما] أسلفوا في حياتهم وعملوه ،

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٨٩) ، وهو قول مجاهد.

٥٠٧

ونكتب أيضا آثارهم وهو ما سنوا من سنة من خير أو شر فاقتدي بهم من بعد موتهم ، على ما ذكر في الخبر : «إن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة ، فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (١) ؛ وهو كقوله أيضا : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣].

وقال بعضهم (٢) : (وَآثارَهُمْ) أي : خطاهم التي خطوها في الخير والشر.

وقال قتادة : لو كان الله مغفلا شيئا من شأنك يا ابن آدم ، أغفل ما تعفى الرياح من هذه الآثار ، وروي على هذا عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنهما ـ قالا : «إن الأنصار كانت منازلهم بعيدة من المسجد [فأرادوا] أن ينتقلوا قريبا من المسجد ، فنزل : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن آثاركم تكتب» (٣) ؛ فلم ينتقلوا ، فإن ثبت هذا فهو دليل لمن يقول بالآثار : الخطا.

وقوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ).

أي : كل شيء من أعمالهم من خير أو شر محصى محفوظ (فِي إِمامٍ مُبِينٍ).

يحتمل قوله : (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) ، أي : في الكتاب الذي تكتب [فيه] أعمالهم في الدنيا ؛ كقوله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] أي : بكتابهم الذي كتبت أعمالهم فيه ؛ ألا ترى أنه قال : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ...) الآية [الحاقة : ١٩].

ويحتمل (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) : في أم الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩٠٧٦ ، ٢٩٠٧٧) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٨٨).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٩٠٧٨) وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٨٨).

(٣) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٩١) كتاب المساجد والجماعات : باب الأبعد فالأبعد من المسجد (٧٨٥) ، وابن جرير (٢٩٠٦٩ ـ ٢٩٠٧٠) ، والفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٨٨) ، عن ابن عباس ، وأخرجه الترمذي (٥ / ٢٧٨) ، في التفسير باب «ومن سورة يس» (٣٢٢٦) ، وابن جرير (٢٩٠٧٣) وعبد الرزاق ، والبزار ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب كما في الدر المنثور (٥ / ٤٨٨) ، عن أبي سعيد الخدري.

٥٠٨

(١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ)(١٩)

وقوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ).

يحتمل الأمر لرسوله بضرب مثل أصحاب القرية لقومه وجهين :

أحدهما : أن الخبر قد كان بلغ هؤلاء ، أعني : خبر أصحاب القرية التي بعث إليهم الرسل ، وما نزل بهم بتكذيبهم الرسل وسوء معاملتهم إياهم ، إلا أنهم قد نسوا ذلك وغفلوا عنه ، فأمرهم بالتذكير لهم والتبيين ؛ ليحذروا عن مثل صنيعهم وسوء معاملتهم رسولهم.

والثاني : يحتمل أن لم يكن بلغهم خبر أولئك وما نزل بهم بسوء معاملتهم الرسول ، فأمره أن يعلم قومه ذلك ويبين لهم ، فيسألون عن ذلك أهل الكتاب ، فيخبرونهم بما كان في كتبهم ؛ فيعرفون صدق رسول الله فيما يخبرهم ، فيكونون على حذر عن مثل صنيعهم ومعاملتهم الرسل ؛ وعلى ذلك تخرج هذه الأنباء والقصص المذكورة في الكتاب على هذين الوجهين ، والله أعلم.

وقوله : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ).

أي : قوينا بثالث ، اختلف فيه :

قال بعضهم (١) : إن عيسى بن مريم كان بعث إليهم أولا رسولا فأتاهم ، فدعاهم إلى التوحيد ، وأقام على ذلك حججا وبراهين ، فكذبوه وقالوا : ما نعرف ما تقول ، ثم بعث من بعده رسولين فقال لهما ذلك الرسول : إنهم سيكذبونكما كما كذبوني قبلكما وسيقولون لكما إذا دعوتماهم إلى التوحيد : ما ذا تحسنان؟ فإذا قلتما : نبرئ الأكمه والأبرص ، قالوا : فينا من يحسن ذلك ، فإن قلتما : نشفي المريض ، قالوا : فينا من يحسن ذلك ونحوه ، ولكن قولا أنتما : نحيي الموتى ، وأنا أقول لهم : إني لا أحسن أنا ؛ فهو قوله : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي : قوّينا وشددنا بثالث ، ففعلوا ذلك فقالوا عند ذلك : قد تواشيتم علينا بهذا الكلام ، أو تواطأتم ، أو كلام نحوه ، فأخذوا وعذبوا وأهلكوا ؛ وهو قول ابن عباس (٢) ، رضي الله عنه.

ومنهم من يقول : بعث أوّلا رسولان فكذبوهما ، فبعث ثالث بعد ذلك (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) ، أي : عززنا الرسولين بثالث ، أي : قويناهما.

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٤ / ٧ ، ٨).

(٢) أخرجه ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩٠).

٥٠٩

وقرأ بعضهم : عززنا بالتخفيف ، أي : غلبنا.

لكن ذكر أنهم قتلوا جميعا وأهلكوا ـ أعني : الرسل ـ فكيف يكون الغالب مقتولا مهلكا؟!

ويجوز أن يكون المقتول مقوّيا ؛ دل أن قراءة من يقرأ بالتخفيف ضعيف والأول أقوى وأقرب ، والله أعلم.

وقوله : (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ).

وكذلك قول أهل مكة لرسول الله : إنه ساحر وإنه مجنون وإنه مفتر مختلق ، وقولهم : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ).

وقوله : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ).

لما أيسوا من إيمانهم وتصديقهم إياهم ، فزعوا إلى الله ، وتضرعوا إليه.

أو أن يقولوا بأن الله أعلم بما أطلعكم بأنا إليكم لمرسلون بالحجج والآيات.

وقوله : (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

أي : ليس علينا من ترك إجابتكم لنا ورد الرسالة شيء ، إنما ذلك عليكم.

وقوله : (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ).

دل هذا القول منهم على أنه قد نزل شيء من العذاب والشدة حتى تشاءموا بهم ذلك ولم يزل عادة الكفرة التطير بالرسل عند نزول البلاء بهم ؛ كقوله : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) [النمل : ٤٧] ، وقوله : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ...) الآية [الأعراف : ١٣١].

وقوله : (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ).

يقول ـ والله أعلم ـ : شؤمكم معكم حيثما كنتم ما دمتم على ما أنتم عليه من العناد والتكذيب ، ويذكر أهل التأويل (١) : أن القرية كانت أنطاكية وأن الذي بعث هؤلاء الرسل إليهم عيسى ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ولكن لا نعلم ذلك ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.

وقوله : (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ).

قال بعضهم (٢) : تشاؤمكم معكم أين كنتم وحيثما كنتم ، ما دمتم على ما أنتم عليه.

وقال بعضهم : طائركم معكم إذ ذكرتم فلم تقبلوا التذكير ونحوه.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٠٨٢) وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩٠).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩١).

٥١٠

ويحتمل وجها آخر : أن الذي أصابكم كان مكتوبا في أعناقكم ، أإن وعظتم بالله تطيرتم بنا (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ).

قوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٣٢)

وقوله : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).

قال عامة أهل التأويل (١) : إن هذا الرجل يسمّى : حبيب النجار ، وهو من بني إسرائيل ، كان في غار يعبد الله ، فلما سمع بالرسل ، نزل وجاء ، فقال ذلك ما قال ، لكن لا ندري من كان؟ وليس لنا إلى [معرفة] اسمه حاجة.

ثم يحتمل قوله : (مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) رغبة في الرسل وفي دينهم فدعاهم إلى اتباع الرسل.

أو أن يكون كان مؤمنا مسلما مختفيا ، فلما بلغه خبر إهلاك الرسل ، جاء يسعى ؛ إشفاقا عليهم ؛ لئلا يهلكوا ـ أعني : الرسل ـ فقال : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي : اتبعوا الهدى ، والهدى مما يجب أن يتبع ، ولا يسألكم على اتباع الهدى أجرا ؛ فيمنعكم الأجر عن اتباع الهدى.

أو أن يقول : اتبعوا المرسلين ، واعلموا أنهم مهتدون حيث لا يسألونكم أجرا وهم مهتدون في الدنيا ولا العز ؛ إذ كل من لا يسأل هذا فهو مهتد ، وكل مهتد متبع ، وهذا يدل أن طلب الأجر في ذلك مما يجعل صاحبه معذورا في ترك الاتباع ؛ وكذلك قوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [الطور : ٤٠] ، أي : لا يسألكم أجرا حتى يمنعكم ثقل الأجر عن إجابته واتباعه ، وهذا ينقض ويبطل قول من يبيح أخذ الأجر على تعليم القرآن

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٠٩٧) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩١).

٥١١

والعلم ؛ لأنه إذا كان له ألا يعلم إلا بالأجر كان له ألا يعلم بكل أجر ، ففي ذلك إبطال الدّين وجعل الرخصة لهم في ترك ذلك ، وذلك سمج قبيح ، والله أعلم.

وقوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

يخرج على وجهين :

أحدهما : على الاحتجاج عليهم بعد سؤال كان من أولئك له في الرجوع إلى عبادة من يعبدونه دون الله وترك عبادة الله ، فقال : إنكم تعبدون هذه الأصنام رجاء أن يقربكم ذلك إلى الله زلفى ، وما لي [لا] أعبد الذي ترجون أنتم الزلفى والقربة منه؟!

والثاني : على التذكير والتنبيه لهم : أنتم تعلمون أن الذي فطرنا وخلقنا هو المستحق للعبادة لا من لم يفطر ولم يخلق ، ثم تعلمون أن الله هو فطرنا وخلقنا [لا] الأصنام التي تعبدونها ، وما لي لا أعبد الذي فطرنا وأترك الذي لم يفطرنا؟! والله أعلم.

وقوله : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ).

يقول : أأتخذ من دون الله معبودا لو أراد الله بي ضرّا لم يملك ذلك المعبود دفع ذلك عني ، ولو نزل بي شدة أو بلاء منه ، لم يقدر استنقاذي منه ، ولو طلبت منه جرّ نفع لم يقدر على جلبه إلىّ ، وأترك عبادة من أعلم أن ذلك كله منه ، وهو المالك لذلك كله : من جرّ نفع ، ودفع ضر وبلاء ، وفي الحكمة : العبادة لمن يملك ذلك كله لا لمن لا يملك ، وبالله التوفيق.

وقوله : (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

أي : لو فعلت ذلك فإذن كنت في ضلال مبين ، فذكر أنه لما قال لهم ذلك أمر بقتله ، فعند ذلك قال : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) يحتمل قوله : (فَاسْمَعُونِ) أي : أجيبوني في قولي : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ...) الآية.

وقال بعضهم : (فَاسْمَعُونِ) ، أي : اشهدوا لي.

ويحتمل قوله : (فَاسْمَعُونِ) حقيقة السماع ، أي : اسمعوا قولي وإيماني ، لا يمنعني عنه ما تخوفونني ، والله أعلم.

وقوله : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ)(١).

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : «ادخل الجنة» ، وقد يذكر الماضي ويراد به الاستقبال ؛ كقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ...) الآية ، شرح.

٥١٢

قال بعضهم (١) : أي أوجبت له الجنة [و] ما ذكر للشهداء وأري الثواب ؛ فقال عند ذلك : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي ...) الآية.

ويحتمل دخول الجنة ما ذكر للشهداء : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ) الآية [آل عمران : ١٦٩ ، ١٧٠].

أو أن يكون قوله : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) أن يقال له في الآخرة كقوله لعيسى بن مريم : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) [المائدة : ١١٦] ، وإنما هو أن يقال له يومئذ ؛ فعلى ذلك يحتمل الأول.

وقوله : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).

قيل : إنه نصحهم حيّا وميتا ، ولم يترك نصحهم لمكان ما عملوا وفعلوا به من السوء وأنواع التعذيب ، ولكن تمنى أن ليت قومي أن يكونوا يعلمون ما أعطي هو بالإيمان بربه والتصديق برسله ؛ ليعطوا مثل ما أعطي هو ، وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يترك النصيحة لجملة المؤمنين ، وإن لحقه منهم أذى أو سوء.

وقال قتادة : ولا يلقى المؤمن إلا ناصحا ، ولا يلقى غاشّا ؛ لما عاين ما عاين من كرامة الله ، قال : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) تمنّي والله أن يعلم قومه ذلك ؛ ليعلموا أن أهل الإيمان ليسوا بأهل غش ولا نذالة لعباده.

وقال : قيل لروحه : ادخل الجنة ، فتمنى روحه أن يعلموا إلى ما صار هو ، ليؤمنوا بالرسل ولا يكذبوهم.

وقوله : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ).

أي : من بعد قتل ذلك الرجل (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) : من الملائكة ، أي : لم ننزل على قومه في هلاكهم بعد صنيعهم بمكانه وإهلاكهم إياه ـ جندا من السماء ، ولكن أهلكوا بصيحة واحدة ، أي : لم نفعل بهم كما يفعل ملوك الأرض إذا قتل رسلهم وأهلك أولياؤهم ، يبعثون بجنود في استئصال من فعل ذلك بهم ، ولكن أهلكهم بصيحة واحدة.

ثم يحتمل قوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) ، أي : قدر صيحة واحدة ، أي : أهلكوا بقدر صيحة واحدة في سرعتها.

ويحتمل الإهلاك بالصيحة ، أي : أهلكوا بالصيحة ، والله أعلم.

وقوله : (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ).

قيل (٢) : موتى مثل النار إذا خمدت وطفئت ، لا يسمع لها صوت.

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩١٠٧ ، ٢٩١٠٩) وعبد بن حميد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩١).

(٢) قاله السدي أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩٢).

٥١٣

وقوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ).

في تركهم الإيمان بالله وتكذيبهم الرسل واستهزائهم بهم ، والحسرة : قال بعض أهل الأدب : هي الغاية من الندامة ، إذا انتهت الندامة غايتها يقال : حسرة.

وقال بعضهم : الحسرة : الحزن والتحزن والتندم ؛ وهو واحد.

ثم قال بعضهم في قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) : أي : يا حسرة الرسل على ذلك المؤمن المقتول على الإيمان بهم.

وقال بعضهم (١) : يا حسرة أولئك الكفرة على أنفسهم إذا عاينوا العذاب على ما كان منهم من الاستهزاء على الرسل ؛ كقوله : (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) [الأنعام : ٣١] ، وقوله : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] ، والله أعلم.

وقوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ).

فإن قيل : كيف احتج عليهم بالرجوع إليهم وهم كانوا ينكرون البعث والرجوع بعد الموت؟! فهو يخرج على وجوه :

أحدها : (أَلَمْ يَرَوْا) أي : قد رأى أهل مكة هلاكهم في الدنيا وأنهم إليهم لا يرجعون أحياء ، فيخبرونهم أنهم بم أهلكوا في هذه الدنيا؟ وبما ذا عذبوا فيها؟ فهلا يعتبرون وينظرون أنهم إنما أهلكوا بتكذيب الرسل فيرتدعوا عن ذلك.

و (وَإِنْ كُلٌ) يعني الأمم كلها ، يقول ـ والله أعلم ـ : وما كل إلا جميع لدينا محضرون في الآخرة.

أو يقول : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) بالتكذيب للرسل من القرون أنهم إليهم لا يرجعون أبدا حتى يوم القيامة ، وهما واحد.

أو أن يكون ذلك يخرج على إبطال قول أهل التناسخ حيث قالوا : إن الأرواح إذا خرجت من أبدان قوم دخلت في أخرى ، فيقول ـ والله أعلم ـ ردّا عليهم : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) ؛ إذ لم ير روحا ، أخبر أنه خرج من جسد هذا ودخل في آخر.

أو أن يكون ذلك يخرج على نقض قول قوم وهو ما ذكر عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه سئل فقيل : إن ناسا يقولون : إن عليّا مبعوث قبل يوم القيامة ، ثم قال : «بئس القوم نحن إذا كنا نكحنا نساءهم وقسمنا ميراثهم ، ثم تلا : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٩١١٦) والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩٣).

٥١٤

مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ)(١).

أو أن يكون على إيجاب البعث أن من كذب الرسل ومن صدقهم ومن عمل ما يحمد عليه وما يذم ، قد استووا جميعا في هذه الدنيا ، فلا بد من دار أخرى يميز بينهما ، بين المصدّق وبين المكذب ، وبين المحمود والمذموم ، يؤيد ذلك قوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) ، وقوله : (لَدَيْنا) و (عِنْدَنا) ونحوه من الظروف خصها بذلك الاسم وإن كانوا في جميع الأوقات كذلك ؛ لما ذكرنا أن المقصود من إنشاء هذه تلك ومن هذا العالم الفاني ذلك العالم الباقي ؛ إذ لو لم يكن تلك ولا ذلك العالم الباقي ، لم يكن إنشاء هذه حكمة ؛ لأنه يحصل الإنشاء والخلق على الإفناء خاصة وإحداث الشيء للإفناء خاصة لا لعاقبة تقصد عبث باطل.

قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)(٣٦)

وقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها).

جائز أن يكون قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ) أي : آية البعث لهم ما رأوا الأرض ميتة في وقت يابسة لا نبات فيها ولا شيء ، ثم رأوها حيّة مخضرة متزينة بأنواع النبات ، متلونة بألوان الخارج منها ، فيخبر أنّ من قدر على هذا لقادر على إحياء الموتى بعد ما بليت أجسادهم وصاروا رمادا ، وأن من قدر على هذا لا يعجزه شيء ، ولا يصعب عليه شيء ، فهذه آية ظاهرة على البعث مشاهدة محسوسة.

وفيه آية يحتاج إلى أن تستخرج منها بالحكمة وهو ما ذكر (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) : أنه لما أخرج من الأرض حبّا ، وجعل غذاءهم فيه من غير أن يستوجبوا ذلك منه ؛ دل أنه إنما جعل ذلك ؛ ليمتحنهم بأنواع المحن على علم منه أنّ منهم من يشكر ومنهم من يكفر ، وقد سوى بينهم في هذه بين الكافر منهم وبين الشاكر ، فلا بد من دار أخرى فيها يقع التمييز بينهم : الثواب للشاكر ، والعقاب للكافر ؛ إذ في الحكمة التفريق لا الجمع ، وعلى ذلك ما ذكر من جعل الجنان لهم والنخيل والأعناب وتفجير العيون وغيره ، وذكر في آخره : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) رب هذه النعم كلها.

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٤٩٣).

٥١٥

أو أن يكون وجه الدلالة فيه من وجه آخر : وهو أنه لما أنشأهم وعلم ما يصلح لهم من الغذاء وما لا يصلح لهم ما يكون لهم من غذاء ، وما لا يكون قبل أن ينشئهم ؛ دل أنه عالم بذاته قادر لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء.

أو أن يكون لما أنشأ هذه الأشياء التي ذكر لهم لا يحتمل أن يتركهم سدى ، لا يمتحنهم بشيء ولا يأمرهم بشيء ولا ينهى عن شيء ، فإن ثبت المحنة ثبت البعث وظهر الثواب والعقاب.

وفي قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا ...) إلى آخر ما ذكر من أنواع الفواكه والثمار وغيرها ـ آية الوحدانية له والألوهية ، ودلالة الجود والكرم له ؛ ليرغبوا فيه ويطمعوا منه ، ودلالة العدل له والسلطان ليهابوه ، ودلالة البعث ؛ لما ذكرنا ، ودلالة أن هذه النعم منه ؛ ليشكروه حيث قال في آخره : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) ، والله أعلم.

وقوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

من الناس من يقول : إن الأزواج هي التي لها مقابل من الأشكال والأضداد مما للخلق فيه فعل ومما لا صنع لهم فيه ، حيث قال : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) ، ويستدل بذلك على خلق أفعال العباد ، وهو ما قال : (خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) ، ومن الأزواج ما يكون فعلا لهم ، وقد أخبر أنه خلقها كلها دل أنه خالق أفعالهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٤٠)

وقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ).

في ذلك آيات من وجوه :

أحدها : آية القدرة على البعث والإحياء بعد الموت.

والثاني : آية الوحدانية له والألوهية.

والثالث : آية العلم الذاتي له والتدبير الأزلي.

أما دلالة البعث فهو ما ذكر من جعل ما هو ليل نهارا ، ومن جعل ما هو نهار ليلا بعد ذهاب أثر هذا بكليته حتى لا يبقى منه شيء ، ومجيء الآخر وانتزاع هذا من هذا وإدخاله

٥١٦

في الآخر دلالة أنه قادر بذاته ، لا يعجزه شيء ، وله قدرة ذاتية لا مكتسبة مستفادة ، فمن قدر على هذا قادر على الإحياء بعد الموت ؛ إذ الإحياء بعد الموت ليس بأبعد مما ذكرنا من جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا ، والأعجوبة في هذا إن لم تكن أكثر ـ أعني : في جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا وإدخال أحدهما في الآخر ـ ليست بدون الإحياء بعد الموت ، فإذا كان كذلك دل أنه قادر بذاته لا بإقدار من غيره ؛ فلا يعجزه شيء ، ولا قوة إلا بالله.

وأما دلالة الوحدانية فهو إنشاء الدهر من أول إنشائه إلى آخر ما ينتهي إليه ، وإجراؤه على مجرى واحد وسنن واحد من الليل والنهار وإدخال هذا في هذا ، وهذا في هذا ـ دلالة أنه فعل واحد ؛ إذ لو كان فعل عدد ، لكان إذا أتى أحدهما بالليل غلب على الآخر ، فلا يقدر المغلوب على إتيان النهار بعد ذلك وغلبه صاحبه وقهره ، وكذلك منشئ النهار إذا غلب على منشئ الليل لهم به على إتيانه بالآخر وغلبه عليه ، ويمنع كل واحد منهما صاحبه عن إدخال شيء مما أنشأه هو فيما أنشأه الآخر ، فإذا لم يكن ما ذكرنا دل أنه واحد وهو ردّ على الثنوية.

وأما دلالة العلم الذاتي والتدبير الأزلي هو إجراء الدهر من أول ما أنشأه على تقدير حاجة أهله ـ أعني : حاجة أهل الدهر ـ وعلى تقدير منافعهم واتساقه على أمر واحد على غير تغيّر وتفاوت يقع في ذلك ، أو تفاضل إلى ما ينتهي إليه وينتهي حاجتهم ومنافعهم ـ دل أنه كان لم يزل عالما بحوائجهم ومنافعهم حيث أجرى الدهر على تقدير حوائجهم وتدبير منافعهم ، وأن له علما ذاتيّا وتدبيرا أزليّا لا علما مكتسبا ومستفادا ، وأن له القدرة والسلطان حيث لم يقدر أحد أن يدفع ظلمة الليل عن نفسه إذا احتاج إلى النهار ، ولا ملك دفع النهار إذا وقعت الحاجة في الليل ، ولا [يقدر] أحد أن يأتي بأحدهما مكان الآخر بل في وقت آخر ؛ بل أظلم الليل والخلائق كلهم ، وستر عليهم كل شيء شاءوا أو أبوا ، وأضاء لهم النهار على كل مستور عليهم ، وأداؤهم على كل مختلف شاءوا أو أبوا ـ دل أنه بالقدرة الذاتية كان ذلك والسلطان الذاتي لا مكتسب مستفاد ؛ إذ ذا علم كل ذاتي لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء في حال من الأحوال ، وهذا يبطل قول الفلاسفة : إن العقل دراك بنفسه كالنار حارة بطبعها ، محرقة بذاتها ، فلو كان يدرك بنفسه ، لكان لا جائز أن يكون ولا درك هنالك ، أو يشبه عليه شيء بوجه من الوجوه ، فإذا حيل بينه وبين الدرك دل أنه دراك بغيره فيدرك على قدر ما تجلى له وانكشف ، والله أعلم.

وقوله : (نَسْلَخُ) أي : ننزع منه النهار.

٥١٧

وقوله : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ).

أي : داخلون في الظلمة ، يقال : أظلم فلان : إذا دخل في الظلمة.

ثم سورة يس نزلت كلها بمكة محاجة أهل مكة في إنكارهم التوحيد ، وإنكارهم البعث والقدرة على الإحياء بعد ما صاروا رمادا ، وإنكارهم الرسالة ، وهم كانوا طبقات على هذه المذاهب المختلفة : منهم من أنكر التوحيد ، ومنهم من أنكر البعث ، ومنهم من كان ينكر الرسالة ونحوها ، فبين الله ـ تعالى ـ في هذه السورة وذكر فيها الحجج على منكري التوحيد وعلى منكري البعث وعلى منكري الرسالة ، وهو ما ذكر من الآيات ، من ذلك قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) ، وفيه دلالة القدرة على البعث على [ما] بينا فيما تقدم.

وفى قوله : (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) دلالة الوحدانية له ؛ لأنه أخرج ما ذكر من النبات والجنات والأعناب والنخيل إلى آخر ما ذكر من الأرض لمنافع من السماء تتصل بالأرض ؛ فدل اتصال منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما على أن منشئهما ومدبرهما واحد ؛ إذ لو كانا فعل عدد لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا فيما تقدم من فعل ذوي العدد من التغالب والتدافع والتمانع في العرف ، والله أعلم.

وما ذكر أيضا من الليل والنهار على تضادهما واختلافهما في رأي العين وسلخ أحدهما من الآخر وإدخاله في الآخر دلالة الوحدانية ، ودلالة البعث ، ودلالة العلم الذاتي والتدبير الأزلي :

أما دلالة الوحدانية فهو ما جمع في الليل والنهار على تضادهما واختلافهما في منافع الخلق وحوائجهم وأنهما شكلان ؛ فدل ذلك على أنهما فعل واحد لا عدد ؛ [لأنه لو كان فعل عدد] لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا من منع كل واحد منهما الآخر ودفعه عن إنفاذ أمره في ذلك واتساق تدبيره ، فدل الدوام على ذلك واتساق الأمر على سنن واحد ومجرى واحد ـ أنه فعل واحد.

وفيه دلالة البعث لما ذكرنا من ذهاب أحدهما وإقرار الآخر بعد ذهاب آثار كل واحد منهما بكليته ، ودل إجراؤهما مجرى واحدا من أوّل إلى آخر ما ينتهي ذلك وينتهي العالم على تقدير منافعهم وحوائجهم أنه عالم بذاته مدبر بنفسه ، وأن له علما ذاتيّا وتدبيرا أزليّا لا مكتسبا مستفادا ، وعلى ذلك ما ذكر من جريان الشمس والقمر ، وتسخيرهما بمنافع هذا العالم وحوائجهم ، وقطعهما في يوم وليلة واحدة مسيرة خمسمائة عام ؛ فدل ذلك كله على أنه واحد لا شريك [له] قادر لا يعجزه شيء ، وعالم مدبر لا يخفى عليه شيء ، وعلى ذلك ما ذكر في قوله : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] دلالة الوحدانية والقدرة والعلم والتدبير ؛ من حيث جعل أطراف الأرض كلها على تباعد ما بينها

٥١٨

متصلة بمنافع الخلق وحوائجهم بأسباب أنشأها لهم وأعلمهم [بها] ؛ ليصلوا إلى تلك المنافع والحوائج ؛ فدل أنه فعل واحد ؛ إذ لو كان فعل عدد لكان في ذلك تمانع على ما ذكرنا ، وأنه عالم بذاته مدبر ؛ ولذلك قال : (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي : ذلك الذي ذكر كله تقدير الذي لا يعجزه شيء ، والعليم الذي لا يخفى عليه شيء ؛ وبالله القوة.

ثم قوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها).

وفي بعض الحروف : والشمس تجري لا مستقر لها فعلى هذا القول أي : تجري أبدا لا مستقر لها ولا قرار.

ومن قرأ : (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) : أي : لنهاية لها وغاية.

ثم اختلف في تلك النهاية : فمنهم من يقول : نهايتها وغايتها هو ذهاب هذا العالم وانقضاؤه وتبديل عالم آخر ؛ كقوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١] ، وقوله : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) [الرحمن : ٥] قدر نهايتها ، ومنهم من يقول : مستقرها : هو نزولها في كل يوم في منزل ، لما ذكر أن لها منزلا ، تنزل كل يوم في منزل ، ثم تطلع من مكان آخر ؛ وكذلك قال : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ).

ومنهم من يقول : نهايتها ما ذكر في الخبر : «أنها إذا غربت ترفع إلى السماء السابعة ، تخرّ لله ـ تعالى ـ ساجدة تحت العرش ، ثم يؤذن لها بالطلوع» (١) ؛ ذكر في الخبر عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لما أذن لها بالطلوع والارتفاع يأتيها جبريل بحلة من ضوء الشمس ، على مقدار ساعات من النهار في طوله في الصيف وقصره في الشتاء ، وما بين ذلك في الخريف والربيع ، فتلبس تلك الحلة ، كما يلبس أحدكم ثوبه» ، وذكر في القمر كذلك من الحبس والسجود لله ، إلا أنه ذكر فيه : «أن جبريل يأتيه بحلة من نور العرش» ، وفي بعض الأخبار : «بكف من ضوء العرش ، وبكفّ من نوره» ، فيلبس تلك الحلة ـ أي : ذلك النور والضوء ـ كما يلبس أحدكم ثوبه ، فذلك قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : ٥] ذكر للشمس ضياء ، وللقمر نورا كما ذكر في الخبر.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٤٣٩) كتاب بدء الخلق : باب صفة الشمس والقمر (٢١٩٩) ، ومسلم (١ / ١٣٨) كتاب الإيمان : باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (٢٥٠ / ١٥٩) ، والترمذي (٤ / ٢١٨٦) ، أبواب الفتن : باب ما جاء في طلوع الشمس من مغربها (٢١٨٦) ، وأبو داود (٢ / ٤٣٣) كتاب الحروف والقراءات (٤٠٠٢) عن أبي ذر ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : «أتدري أين تذهب؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد ، فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها : ارجعي من حيث جئت ، فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ...) الآية».

٥١٩

وقال بعضهم : (لِمُسْتَقَرٍّ) : جريانها في البحر الذي خلق الله دون السماء بحر مكفوف حار ، فيه تجري الشمس والقمر ، والجوار الكنس.

ويحتمل قوله : (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أي : تجري في مكان وتسير فيه ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

(الْعَزِيزِ) : الذي لا يعجزه شيء ، ويعزّ من أن يغلبه شيء ، (الْعَلِيمِ) : الذي يعزّ من أن يخفى عليه شيء.

وقال بعضهم : (الْعَزِيزِ) : الذي أظهر أثر الذل في غيره ، لا ترى أحدا إلا وأثر الذل والحاجة فيه ظاهرة.

وأما دلالة الرسالة : فإن أهل مكة لم يكونوا يعرفون التوحيد ، وعرفهم وأتاهم بحججه وبراهينه ؛ دل أنه بالله عرف ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ).

أي : قدرناه منازل يزيد ويستوي وينتقص ، وكذلك جعل للشمس منازل أيضا تزداد وتنتقص وتستوي ، لكن جعل منازل القمر في تغييره في نفسه يتغير ويزداد ويستوي وينتقص ، وأما الشمس فإنه جعل تغييرها في الزيادة والنقصان والاستواء في الأزمنة والأوقات ، فأما في نفسها فليس فيها تغيير ولا نقصان ولا زيادة ، فهو ـ والله أعلم ـ لما ذكر أنه جعل القمر سببا للوصول إلى معرفة الأوقات والحساب والحجج بقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] ، وعلى ذلك جعل طلوعه وغروبه مختلفا في الليل والنهار ، وفي كل وقت وكل ساعة ، وأما الشمس فإنها في نفسها على حالة واحدة ، لا زيادة فيها ، ولا نقصان ، ولا تغيير ، إلا في الوقت الذي تنكسف ، وكذلك طلوعها وغروبها في وقت واحد لا يختلف ولا يتغير إلا في أزمنتها وأوقاتها ؛ فإنه يأخذ هذا من هذا ، وهذا من هذا ، ويدخل في هذا هذا ، ومن هذا في هذا ، وأمّا الأيام فإنه لم يجعل فيها تغيير ، فهو ـ والله أعلم ـ لما لم يشتد على الناس حفظها ولا جعل سببا لتعريف الأوقات والحساب.

وقوله : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ).

قيل : إنه عود الكباسة (١) القديم الذي قد أتى عليه حول ، فاستقوس ودق ، شبه القمر

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : الكباسة : العذق ، وهي من التمر بمنزلة العنقود من العنب. صحاح.

٥٢٠