تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

نهارهم.

وقوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) يحتمل أن يكون هذا إخبارا من الله تعالى عما في ضميرهم ، ليس على حقيقة القول والدعاء ؛ لأن من بلغ في العبادة والورع المبلغ الذي وصفهم لا يشغلون أنفسهم بالسؤال عن دفع المضار أو جر النفع.

ويحتمل : على الدعاء والقول على ما أخبر ، والله أعلم.

ثم أخبر عن عذابها فقال : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً).

قال الحسن : الغرام : اللازم الذي لا يفارق صاحبه ، وكل غريم يفارق غريمه غير عذاب جهنم.

وقال بعضهم : الغرام : الهلاك وقال : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي : جهنم بئس المستقر وبئس المقام لأهلها ، هو مقابل ما ذكر لأهل الطاعة الجنة حيث قال : (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً).

وقال بعضهم : غراما : غرموا في الآخرة ما نعموا في الدنيا.

وفى حرف ابن مسعود : كان غراما إنما أنبئنا إنها ساءت مستقرا ومقاما.

وقال أبو عوسجة : (هَوْناً) من الرفق يقال : هان يهون هونا ، فهو هائن.

وقولهم : (وإذا عز أخوك فهن) أي : إذا اشتد ، فارفق به.

والغرام : الهلاك.

وكذلك قال القتبي (١) : غراما ، أي : هلكة.

وقال : مشيا هونا : رويدا ، سلاما ، أي : سدادا من القول لا رفث فيه ولا هجر.

وقوله : (إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا).

قال بعضهم : لم يسرفوا في غير حق ، كسبوا طيبا وأنفقوا قصدا وأعطوا فضلا وجادوا ، واستبشروا (وَلَمْ يَقْتُرُوا) أي : ولم يتمسكوا عن الحق.

وقوله : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي : بين الإسراف والتقتير مقصدا ؛ وهو تأويل مقاتل.

وقال بعضهم : الإسراف هو الإنفاق في معصية الله ، (وَلَمْ يَقْتُرُوا) أي : لم يمنعوا عن طاعته ، (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي : عدلا ، لا يمسك عن حق ولا ينفق في باطل ، ولكن نفقة في طاعة الله.

وقال بعضهم : الإسراف في النفقة : هو الإنفاق فيما لا ينتفع به ؛ من نحو : البحيرة

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣١٥).

٤١

والسائبة والوصيلة التي كانوا يتركونها سدى ولا ينتفعون بها.

والإقتار : هو الإمساك عن الإنفاق فيما ينتفع به.

وقال بعضهم (١) : الإسراف : هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له في الإنفاق : في الإكثار ، والإقتار : هو المنع عن الحد الذي جعل له.

(وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي : وسطا ؛ كقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ولكن بين ذلك.

وأصل (لَمْ يُسْرِفُوا) ، أي : لم ينفقوا ولم يضعوا إلا فيما أمروا أن يضعوا فيه.

(وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي : قائما في ذلك ، أخبر أن ما يفعلونه لا يفعلونه إلا بأمر ، وأخبر أنهم لا يدعون مع الله إلها آخر.

ثم يحتمل هذا وجهين : (لا يَدْعُونَ) أي : لا يعبدون دون الله غيره ، أو : لا يسمون غير الله.

(وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) : أخبر في الآية الأولى في قوله : (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) عن معاملتهم الخلق ، وصنيعهم بينهم وبين العباد ؛ حيث أخبر أنهم يمشون هونا ولا يؤذون أحدا ولا يضرونه ، وإذا أذاهم أهل الجهل والسفه لم يكافئوهم لأذاهم ، ولكن احتملوا ذلك عنهم وتجاوزوا ، وقالوا لهم قولا سديدا ؛ هذه معاملتهم فيما بينهم وبين الخلق بالنهار ، وأخبر عن معاملتهم ودعائهم ربهم بالليل حيث قال : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) الآية.

ثم أخبر عن صنيعهم في أموالهم التي في أيديهم أنهم لا يضعونها إلا فيما أمروا بالوضع فيها.

وأخبر عن صفتهم وإخلاصهم لله في العبادة وكفهم عن محارم الله حيث قال : (إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) ، وقوله : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) ، وقوله : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) موصول بهذا أيضا ، ومقدم عن قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) ؛ كأنه قال : ولا يزنون ولا يشهدون الزور ، ومن يفعل ذلك ـ أي : ما ذكر من قتل النفس المحرمة ، والزنا ، وشهادة الزور ، والشرك ـ يلق أثاما.

__________________

(١) قاله إبراهيم ويزيد بن أبي حبيب وغيرهما ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٦٤٩٤) و (٢٦٤٩٦) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٤٣).

٤٢

قال بعضهم (١) : أثاما : أي : واديا في جهنم.

وقال بعضهم : أثاما : عذابا في النار.

وقوله : (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) : قال بعضهم : لا يشهدون مكان الزور (٢) ، وهو الغناء ، أي : لا يشهدون المكان الذي يتغنى فيه.

وقال بعضهم : لا يشهدون بشهادة الزور (٣) ، وهو الكذب.

وقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) : مرور الكرام ، أي : إن قدروا على تغيير ما عاينوا من اللغو والمنكر غيروه ، ومضوا على وجههم من غير أن دخل في ذلك فساد ، وإن لم يقدروا مضوا ، ولم يعبئوا به ، ولا اشتغلوا به ؛ كقوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ).

وفي قوله : (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) دلالة نقض قول الخوارج ؛ بتكفيرهم أصحاب الكبائر ؛ لأنه أخبر أنها محرمة بعد ارتكابها الزنا والقتل كما هي قبل ارتكابها إلا بالحق ؛ حيث قال : (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) دل أنها محرمة بعد غير كافرة.

(إِلَّا بِالْحَقِ) : إما بحق القصاص ، وإما بحق الزنا ، وإما بحق الارتداد ؛ على ما ذكر في الخبر : «لا يحل قتل امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال : زنا بعد إحصان ، وكفر بعد إيمان ، وقتل نفس بغير حق» (٤) ولو كانت كافرة بارتكاب ما ذكر لكانت غير محرمة ؛

__________________

(١) قاله عبد الله بن عمرو ومجاهد وعكرمة وغيرهم ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٦٥١٩) ، (٢٦٥٢٠) ، (٢٦٥٢١) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٤٤).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٦٥٣٨) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الغضب وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٤٨).

(٣) قاله ابن جريج ، أخرجه ابن جرير (٢٦٥٣٩). وعن قتادة أخرجه عبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٤٨).

(٤) أخرجه الشافعي (٢ / ٩٦) كتاب : الديات ، الحديث (٣١٨) ، والطيالسي (ص ١٣) ، الحديث (٧٢) ، وأحمد (١ / ٦١).

والدارمي (٢ / ٢١٨) كتاب : السير ، باب : لا يحل دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله ، والترمذي (٤ / ١٩) كتاب : الديات ، باب : ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم ، الحديث (١٤٠٢) ، والنسائي (٧ / ١٠٣) كتاب : تحريم الدم ، باب : الحكم في المرتد ، وابن ماجه (٢ / ٨٤٧) كتاب : الحدود ، باب : لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث ، الحديث (٢٥٣٣) ، والحاكم (٤ / ٣٥٠) كتاب : الحدود ، وابن الجارود (ص ٢١٣) رقم (٨٣٦) من حديث عثمان.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

وأخرجه الطيالسي (ص ـ ٢١٦) ، الحديث (١٥٤٣) ، وأحمد (٦ / ٢١٤) ، وأبو داود (٤ / ٥٢٢) كتاب : الحدود ، باب : الحكم فيمن ارتد ، الحديث (٤٣٥٣) ، والنسائي (٧ / ١٠١ ـ ١٠٢) باب : ـ

٤٣

فدل أنه ما ذكرنا.

وقال أبو عوسجة : الإسراف : الفساد ، والتقتير : التضييق ، (وَلَمْ يَقْتُرُوا) أي : لم ينفقوا قليلا لا يكفي عيالهم.

قال : والقوام : الوسط. ويقال : لا قوام لي في هذا الأمر ، أي : لا طاقة لي فيه ، ولا أقاوم هذا الأمر ، أي : لا أطيقه ، والقوام : القصد.

قال أبو معاذ : في قوله : (وَلَمْ يَقْتُرُوا) لغات أربع : (وَلَمْ يَقْتُرُوا) : برفع الياء وبخفض التاء غير مثقل ، و (يَقْتُرُوا) بنصب الياء ، وخفض التاء ، و (يَقْتُرُوا) برفع التاء ، والمعنى كله واحد. وقوله : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) : قال بعضهم (١) : يقول : إذا ذكروا بآيات ربهم لم يصموا عن الحق ولم يعموا ؛ قال : هم ـ والله أعلم ـ قوم عقلوا عن الله ، وانتفعوا بما سمعوا من كتاب الله.

وقال الحسن (٢) : من يقرؤها بلسانه يخر عليها أصم وأعمى ؛ كأنه يخبر أن أولئك ـ أعني : أهل صفوة الله وإخلاصه ـ لم يخروا على تلك الآيات صمّا ولا عميانا كالكفرة العندة ، ولكن خروا عليها متذكرين ومتفقهين متيقظين ، عالمين بما فيها ، عاملين ؛ كقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) الآية [الأنفال : ٢].

وقوله : (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) : فإن قيل : أخبر هاهنا أنه يضاعف له العذاب ، وقال في آية أخرى : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) ، فما معنى الضعف هاهنا؟

قيل : يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : أنه يضاعف العذاب للذين تقدم ذكرهم إذا كفروا بالله بعد ما بلغوا المبلغ

__________________

ـ الصلب ، والحاكم (٤ / ٣٦٧) من حديث عائشة ، وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي.

وأخرجه البخاري (١٢ / ٢٠١) كتاب : الديات ، باب : قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، حديث (٦٨٧٨).

ومسلم (٣ / ١٣٠٢) كتاب : القسامة ، باب : ما يباح به دم المسلم (٢٥ / ١٦٧٦) ، والترمذي (١٤٠٢) ، وأبو داود (٤٣٥٢) والنسائي (٧ / ٩٢) وابن ماجه (٢٥٣٤) ، والدارمي (٢ / ٢١٨) ، والدارقطني (٣ / ٨٢) ، والبيهقي (٨ / ١٩) ، وأحمد (١ / ٣٨٢ ، ٤٢٨ ، ٤٤٤ ، ٤٦٥) ، عن عبد الله بن مسعود مرفوعا بنحوه.

(١) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٤٩).

(٢) أخرجه الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٤٩).

٤٤

الذي وصفهم والرتبة التي ذكر ، وهو قوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) الآية : أن واحدا منهم إذا كفر يضاعف له العذاب ؛ يتضاعف عذابه على قدر منزلته ومرتبته عند الله ، وعلى قدر نعم الله عليه إذا كان منه عصيان وكفران لذلك ، وهو كما قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) [الإسراء : ٧٤ ، ٧٥] أي : ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الممات ، وما ذكر ـ أيضا ـ لأزواجه حيث قال : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠] ، كل من كان أعظم قدرا وأكثر نعما عليه ، فعقوبته إذا عصى ربه أكثر وأشد من الذي لم يبلغ ذلك ولا تلك الرتبة ، فيكون ضعف غيره وجزاء مثله.

والثاني : أن يكون ذلك للأئمة ـ أعني : الكفرة والرؤساء ـ دون الأتباع ؛ لأنهم عملوا هم بأنفسهم ودعوا غيرهم إلى ذلك ؛ كقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣].

أو أن يكون ذلك لهم العناد الذي كان منهم والمكابرة.

ثم استثنى من تاب منهم ، فقال : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً ...) الآية ، في الذين قال : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) ، فكان فيه دلالة قبول توبة المرتد إذا تاب ورجع إلى الإسلام ؛ حيث استثنى من تاب منهم.

وقوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) : هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : يوفقهم الله إذا تابوا وندموا على ما فعلوا من السيئات في الدنيا ؛ حتى يعملوا مكان كل سيئة عملوها حسنة ؛ فذلك معنى تبديل الله سيئاتهم حسنات ، أي : يوفقهم على ذلك.

والثاني : يبدل الله سيئاتهم حسنات في الآخرة ؛ لما كان منهم الندامة والحسرة على كل سيئة كانت منهم في الدنيا ، وعلى ذلك روي عن أبي هريرة قال : «ليأتين أقوام يوم القيامة ودوا أنهم استكثروا من السيئات ، فقيل له : يا أبا هريرة ، ومن هم؟ قال : هم الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات» (١) ؛ وكأنه روي مثله عن عبد الله بن مسعود.

وقوله : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) لا يرجع عنها أبدا ، وعلى ذلك يخرج قوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] على الأمر ؛ دليله قوله حيث قال : (خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) الآية [الأنفال : ٦٦].

والثاني : أن يكون ذلك لقوم خاص ، علم الله أنهم إذا تابوا توبة لا يرجعون عنها أبدا ،

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في الدر المنثور (٥ / ١٤٦).

٤٥

وإلا ليس كل من تاب يكون على توبته أبدا.

وقوله : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) : قد ذكرناه ، (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) : قد ذكرناه أيضا.

وقال بعضهم : إذا أوذوا صفحوا.

وقال بعضهم : إنهم كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح أو غيره كنوا عنه.

وقال أبو عوسجة والقتبي (١) : (يَلْقَ أَثاماً) أي : عقوبة ، الآثام : العقوبة.

وقوله : (مَرُّوا كِراماً) أي : لم يخوضوا فيه ، وأكرموا أنفسهم عنهم.

(صُمًّا وَعُمْياناً) أي : لم يتغافلوا عنها.

وقال بعضهم : إنهم إذا وعظوا بالقرآن لم يخروا عليها صما وعميانا عند تلاوة القرآن ، فلا يسمعون ولا يبصرون ، ولكن يخرون عليها سمعا وبصرا ؛ وهو واحد.

وقوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) : قد نعتهم ـ عزوجل ـ في معاملتهم أن كيف عاملوا ربهم بالليل والنهار [و] نعتهم أيضا في معاملتهم عباده أن كيف عاملوا عباده ، ثم نعتهم في معاملتهم أهليهم ودعائهم لهم ، فقال : يقولون : (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) ، فهو ـ والله أعلم ـ لما أمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار بقوله : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ...) الآية [التحريم : ٦] ؛ فعند ذلك دعوا ربهم ، وسألوه أن يهب لهم من أزواجهم وقرباتهم ما تقر به أعينهم في الدنيا والآخرة.

وقال بعضهم (٢) : اجعلهم صالحين مطيعين ؛ فإن ذلك يقر أعيننا.

قال الحسن (٣) : والله ما شيء أحبّ إلى العبد المسلم من أن يرى ولده أو حميمه يطيع الله ، وقال : نراهم يعملون بطاعة الله ، فتقر بذلك أعيننا ، والله أعلم.

وقوله : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) : قال بعضهم (٤) : أي : اجعلنا أئمة هدى وتقوى يقتدى بنا.

وقال بعضهم : واجعلنا بحال يقتدي بنا المتقون.

وأصله ـ والله أعلم ـ أنهم سألوا ربهم أن يجعلهم بحال من اقتدى بهم صار متقيا ، لا من اقتدى صار ضالا فاسقا ، هذا ـ والله أعلم ـ تأويله ، وإلا سؤالهم : أن اجعلنا إماما

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣١٥).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٥٥٣) ، وعن ابن جريج (٢٦٥٥٧) ، و (٢٦٥٥٨) ، وابن زيد (٢٦٥٥٩).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٦٥٥٤) و (٢٦٥٥٥) وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٤٩).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٥٦٢) ، و (٢٦٥٦٣) ، وانظر الدر المنثور (٥ / ١٤٩).

٤٦

للمتقين لا معنى له أن يطلبوا لأنفسهم الإمامة ، ولكن على الوجه الذي ذكرنا ، والله أعلم.

ثم أخبر عن جزائهم في الآخرة لعملهم في الدنيا وصبرهم على ما أمروا ، فقال : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) ، والغرفة : هي أعلى المنازل وأشرفها ؛ أخبر أنهم يجزون ذلك ويكونون فيها.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : أولئك يجزون الجنة بما عملوا ، فجائز أن يكون الغرفة المذكورة في الآية كناية عن الجنة ؛ يدل له حرف ابن مسعود.

وجائز أن يراد به نفس الغرفة ؛ وهو لارتفاعها وعلوها على غيرها من المنازل ، وذلك مما يختار الكون فيها في بعض الأوقات في الدنيا ، والناس يرغبون فيها لإشرافها وارتفاعها على غيرها ؛ فرغبهم بذلك في الآخرة.

وقوله : (وَيُلَقَّوْنَ) فيها بالتخفيف والتشديد ، (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي : يلقاهم الملائكة بالتحية والسلام ؛ كقوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) ، وقوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ).

أو يلقى بعضهم بعضا بالتحية والسلام ، ويحيي بعضهم بعضا ، ويسلم بعضهم على بعض.

وقوله : (خالِدِينَ فِيها) : دائمين.

(حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) : تأويله ـ والله أعلم ـ أي : حسنت لهم الجنة مستقرا ومقاما ؛ حتى لا يملوا فيها ولا يسأموا ، ولا تأخذهم الوحشة والكآبة ؛ كنعيم الدنيا يمل ويسأم عند الكثرة وطول المقام.

وقوله : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) : قال بعضهم (١) : (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ) أي : ما يعتد بكم ربي لو لا دعاؤه إياكم إلى التوحيد لتوحدوه وتطيعوه.

وقال بعضهم : (ما يَعْبَؤُا) أي : ما يصنع بكم ربي.

وتأويله ـ والله أعلم ـ أي : ما يصنع ربي بعذابكم إن شكرتم وآمنتم.

وقوله : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) : اختلف فيه ؛ قال بعضهم (٢) :

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٦٥٦٩) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ١٥١).

(٢) قاله ابن مسعود ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٥٧٣) ، وعن أبي بن كعب (٢٦٥٧٥) ، وإبراهيم (٢٦٥٧٦) ، ومجاهد (٢٦٥٧٧) وغيرهم. وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٥١).

٤٧

هو عذاب يوم بدر ـ يعني : ألزم بعضهم بعضا ـ وكذلك قال ابن مسعود (١) قال : «مضت آية الدخان والبطشة واللزام يوم بدر» ، وقال : لزاما ، أي : عذابا ملازما غير مفارق ، وهو عذاب الآخرة.

وقال أبو عوسجة : (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) أي : ما يصنع ، يقال : عبأ يعبأ عبئا ؛ فهو عابئ إذا احتاج إليكم ، ويقال : «ما أعبأ بهذا الأمر» أي : ما أصنع به ، ويقال : عبأت بفلان ، أي : احتجت إليه ؛ وكذلك قول القتبي ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٤٤٣) ، كتاب التفسير : باب (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٤٧٦٧) ، وابن جرير (٢٦٥٧٤).

٤٨

سورة الشعراء وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٩)

قوله ـ عزوجل ـ : (طسم) قد ذكرنا تأويل الحروف المعجمة فيما تقدم ؛ وكذلك قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) قد ذكرنا تأويله ، أيضا.

وقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) : كان يشتد على رسول الله تركهم الإيمان وتكذيبهم إياه ؛ إشفاقا وخوفا عليهم ، وتعظيما لله وإجلالا لحقه ، حتى كادت نفسه تهلك حزنا على ذلك ؛ وكقوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦] ، والأسف : هو النهاية في الحزن ؛ كقول يعقوب : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ٨٤].

وقال بعضهم : الأسف : هو النهاية في الغضب ؛ كقوله : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف : ٥٥] قيل : أغضبونا ، وقد ذكرنا في سورة يوسف على ما ذكر الله ورسوله ووصفه كان مطبوبا بحزن وتأسف لمكان كفرهم وتكذيبهم ؛ كقوله : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ...) الآية [التوبة : ١٢٨] ، يحزن عليهم إشفاقا عليهم ، ويغضب عليهم لله تعظيما له وإجلالا لأمره لما ضيعوا أمره ونهيه ، وهكذا الواجب على كل من رأى آخر في فاحشة أو كبيرة أن يحزن ويترحم عليه ويغضب لله لما ارتكب من الفاحشة.

وقوله : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) : قالت المعتزلة : قوله : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) مشيئة قسر وقهر حتى يضطروا لها فيؤمنوا.

لكن عندنا مشيئة الإيمان والاختيار ، أي : إن شاء إيمانهم ينزل عليهم آية فيؤمنوا ؛ لأن الآية لا تضطر أحدا ولا تقهر على الإيمان ، دليله قوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) الآية [الأنعام : ١١١] ، أخبر أنهم لا يؤمنون وإن فعل ما ذكر ، ولا يضطرهم ذلك على الإيمان ؛ وكذلك ما أخبر عنهم في الآخرة ، قال : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ ...) الآية [المجادلة : ١٨].

وقوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ...) الآية [الأنعام : ٢٣] ، أخبر عن خلفهم وإنكارهم في

٤٩

الآخرة : أنهم لم يكونوا على ما كانوا ، ولا تكون آية أعظم مما عاينوا من أنواع العذاب ، ثم لم يمنعهم ذلك عن التكذيب ، ولا اضطرهم على الإقرار والتصديق ؛ دل أن الآية وإن كانت عظيمة لا تضطر أهلها على الإيمان والتصديق ، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم ما يغنينا عن ذكرها في هذا الموضع.

وقوله : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أي : مالت وخضعت لها أعناقهم ، والأعناق كأنها كناية عن أنفسهم (١).

وعن ابن عباس قال : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) قال : سيكون لنا دولة على بني أمية ، فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة وهوانا بعد عزة ، فقد كان ذلك (٢).

وقال بعضهم : الأعناق : السادة والقادة ، والواحد عنق ، أي : إذا أسلم القادة أسلم الأتباع اتباعا لهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) : قال بعضهم : يقول : كلما نزل شيء بعد شيء من الموعظة والذكر فهو محدث من الأزل.

وجائز أن يكون قوله : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) مما به فيه ذكرهم في الآخرين وشرفهم في الخلق إلا كانوا عنه معرضين ؛ لأنهم لو آمنوا لذكروا في الناس ، وبقي لهم ذكر وشرف كذكر الأنبياء والرسل فيهم إلى آخر الدهر.

وقوله : (مُحْدَثٍ) هو محدث على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما.

قال القتبي وأبو عوسجة : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ) كما تقول : ظللت اليوم ، قالا : والأعناق : السادة والواحد منه : عنق.

وقوله : (فَقَدْ كَذَّبُوا ...) الآية : هي ظاهرة ؛ قد ذكرنا تأويله فيما تقدم.

وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ) : هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : قد رأوا ما أنبتنا وأخرجنا منها. والثاني : على الأمر ، أي : رأوا ما أنبتنا في الأرض ، وأخرجنا منها.

(مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) : قال الحسن (٣) : الكريم : الحسن البهيج. وقوله : (مِنْ كُلِ

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : ولذلك قال (خاضعين) ولم يقل : خاضعات ، ولو كان المراد به جمع العضو الخاص ـ وهو الجيد ـ لكان جمعه خاضعات ؛ لأنه جمع ما لا يعقل ، وجمع بعض ما لا يعقل بالألف والتاء ، وجمع ما يعقل بالواو والنون ، إلا شيئا قليلا على غير قياس.

وقيل الأعناق : السادة. شرح.

(٢) ثبت في حاشية أ : والخضوع : الانقياد والميل ، قيل معناه : أنهم صاروا خاضعين.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٦٥٩٧) عن قتادة.

٥٠

زَوْجٍ) أي : جنس حسن.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) : يحتمل قوله : (لَآيَةً) لوحدانية الله وألوهيته ، وآية لسلطانه وقدرته ، وآية لعلمه وتدبيره ؛ لأن من قدر على إحياء النبات والأرض بعد ما يبس وجف لقادر على إحياء الموتى وبعثهم.

ودل إخراج النبات من الأرض في كل عام على حد واحد ، وعلى قدر وميزان واحد ، على أنه إنما خرج ذلك عن تدبير وعلم ذاتي وقدرة ذاتية ، ليست بمستفادة ؛ فدل ذلك كله أنه فعل واحد قادر مدبّر عالم ، لا يعجزه شيء أو لا يخفى عليه شيء ، والله الموفق.

وقوله : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) : يحتمل قوله : وما كان أكثر الذين بعث إليهم محمد مؤمنين ، وهم الذين كانوا وقت مبعثه.

وجائز أن يكون : وما أكثر ما يكونوا مؤمنين.

وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) : جائز أن يقال : العزيز : المنتقم من أعدائه ، الرحيم بأوليائه.

ويحتمل : العزيز على الخلائق كلهم ، وهم أذلاء دونه ، به يعز من عز.

قوله تعالى : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ)(١٧)

وقوله : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) أي : أمر ربك موسى وأوحى.

(أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) : فيه دلالة أن موسى ـ صلوات الله عليه ـ كان مبعوثا مرسلا إلى فرعون وقومه ، وإن كان لم يذكر في بعض الآيات قومه حيث قال : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٤] وقال في بعضها : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [الأعراف : ١٠٣] ؛ فهذا لأنهم كانوا الرؤساء والقادة ، فإذا آمنوا هم اتبعهم الأتباع في ذلك ، وإلا كان مبعوثا في الحقيقة رسولا إليه وإلى قومه جميعا الأتباع والمتبوعين لما ذكر.

وقوله : (قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ) : كأنه على الإضمار : أن ائت القوم الظالمين ، وقل لهم : ألا تتقون.

ثم قوله : (أَلا تَتَّقُونَ) يحتمل وجهين :

أحدهما : ألا تتقون مخالفة أمر الله ونهيه.

أو يقول : ألا تتقون نقمة الله وعقوبته ، والله أعلم.

٥١

وقوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) : لم يقطع موسى القول في التكذيب ، ولكنه على الرجاء قال ذلك ، وذلك ـ والله أعلم ـ كقوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ، فكأنه رجا ذلك منه لهذا ، والله أعلم.

وجائز أن يكون على القطع والعلم منه بالتكذيب ؛ كأنه قال : إني أعلم أن يكذبون ، وذلك جائز في اللغة.

وقوله : (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) : لأن عليه أن يغضب لله إذا كذبوه ، فإذا اشتد بالمرء الغضب ضاق صدره وكلّ لسانه ، وهو ما دعا ربه وسأله حيث قال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) الآية [طه : ٢٥ ـ ٢٧] ، وهو ما ذكرنا أن الغضب إذا اشتد بالمرء يضيق صدره حتى يمنعه عن الفهم ، ويكل لسانه حتى يمنعه عن العبارة والبيان.

وجائز أن يكون ذلك لآفة كانت بلسانه.

ثم ضيق الصدر يكون لوجهين :

أحدهما : لعظيم أمر الله وجلال قدره إذا كذبوه وردوا رسالته وأمره ـ ضاق لذلك صدره.

أو يضيق لما ينزل عليهم من عذاب الله ونقمته بالتكذيب ؛ إشفاقا عليهم منه ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) : قوله : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) لسؤاله إياه حيث قال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه : ٢٩ ـ ٣٢] ؛ فعلى ذلك قوله : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) يكون معي في الرسالة ؛ وكقوله : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً ...) الآية (١) [القصص : ٣٤].

وذنبه الذي ذكر أنه عليه : هو قتل ذلك القبطي وهو قوله : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) [القصص : ١٥] ذلك ذنبه الذي لهم عليه.

ثم قال : (كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ).

وقوله : (كَلَّا) ردّ على قول موسى : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) ؛ كأنه قال : لا تخف ، وهو ما قال في آية أخرى حيث قالا : (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) [طه : ٤٥] فقال عند ذلك (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] ؛ فعلى ذلك قوله : (كَلَّا فَاذْهَبا

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : والإشكال : أن الله تعالى إذا جعله رسولا ، كيف رد وقال : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) لكن هذا ليس برد ، بل سؤال منه من الله تعالى بأن يعطي هارون مثله ، وهو كسؤاله إياه. شرح.

٥٢

بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) ، وقال في تلك الآية : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) ، أي : أسمع ما يقولون لكما ، وأرى ما يفعلون بكم ، فأمنعهم عنكما ؛ لأنهما ذكرا الخوف منه من شيئين : من الفعل والقول حيث قالا : (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) : بالفعل ، (أَوْ أَنْ يَطْغى) باللسان.

وقوله تعالى : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ).

قوله : (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ليس على حقيقة الإرسال معه ، ولكن على ترك استعبادهم ؛ كقوله : (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) أي : خلّ بينهم وبين استخدامك إياهم واستعبادك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ)(٣٥)

ثم قال له فرعون : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) : يذكر نعمته التي أنعمها عليه بتربيته إياه صغيرا ، وكونه فيهم دهرا ، وكفران موسى لما أنعم عليه وهو ما قال : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) ، وهو قتل ذلك القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه ، فأقر له موسى بذلك ، فأخبر أنه فعل ذلك (١) حيث قال : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ).

وقوله : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي : فعلت ذلك وأنا كنت من الجاهلين (٢) ، لا يعلم أن وكزته تلك تقتله ، وإلا لو علم ما وكزه ؛ لأنه لم يكن يحل له قتله حيث قال : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [القصص : ١٥] ؛ دل ذلك منه أنه كان لم يحل قتله إلا أنه جرى

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٥ / ١٤ ، ١٥).

(٢) ينظر : بغية الراغبين (١٩ ـ ٢٠).

٥٣

ذلك على يده خطأ وجهلا.

وفيه دلالة أن الرجل قد ينهى ويؤاخذ بما يجري على يده خطأ وجهلا ، ويخاطب بذلك حيث قال : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ).

ثم قال : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) : وهو حين قال ذلك الرجل (١) : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) الآية [القصص : ٢٠] ، فخرج منها خائفا يترقب ، وذلك فراره منهم.

وقوله : (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) : قال بعضهم (٢) : قوله : (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي : نبوة.

وقال بعضهم : حكما ، أي : منّ عليّ بالحكم وجعلني من المرسلين ، وقد كان ذلك له كله.

وقوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) : وهو استعبادك إياهم ، أي : إذا ذكرت هذا فاذكر ذاك ، هذا يحتمل وجوها.

أحدها : أن تذكر ما أنعمت عليّ وتمنها ، ولا تذكر مساوئك ببني إسرائيل ، وهو استعبادك إياهم ، أي : إذا ذكرت هذا فاذكر ذاك.

والثاني : أن تلك نعمة تمنها عليّ حيث لم تعبدني وعبّدت بني إسرائيل ، يخرج على قبول المنة منه.

والثالث : وتلك نعمة لو خليت عن بني إسرائيل ولم تستعبدهم لولوا ذلك عنك ، وتمام هذا يقول موسى لفرعون : أتمن عليّ يا فرعون بأن اتخذت بني إسرائيل عبيدا ، وكانوا أحرارا فقهرتهم؟!

وقال موسى : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي : من الجاهلين بذلك أنه يتولد من وكزته الموت ؛ وكذلك روي في بعض الحروف : وأنا من الجاهلين ؛ دل أنه على الجهل ما فعل ذلك لا على القصد.

وقال بعضهم (٣) في قوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) يقول : وهذه منة تمنها بقوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) يقول : تمن بها عليّ أن تستعبد بني إسرائيل ، وتمنّ عليّ بذلك.

ثم قال فرعون لموسى : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) ، فقال له : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) : من خلق ، (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، ثم قال لمن حوله : (أَلا تَسْتَمِعُونَ).

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٥ / ١٥ ، ١٦).

(٢) قاله السدي ، أخرجه ابن جرير (٢٦٦١٣) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٥٥).

(٣) قاله ابن جريج وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٦٦١٥) ، (٢٦٦١٧).

٥٤

إنما قال اللعين هذا ـ والله أعلم ـ لما وقع عنده أن موسى حاد عن جواب ما سأله ؛ لأنه إنما سأله عن ماهيته فهو إنما أجابه عن قهره وربوبيته ؛ فظن أنه حائد عن جواب ما سأله ؛ وكذلك قال لقومه : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) إلى ما يقول موسى ؛ تعجبا منه أني أسأله عن شيء وهو يجيبني عن شيء آخر.

ثم قال موسى : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، فقال عند ذلك : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ، نسبه إلى الجنون لما ذكرنا أنه ظن أنه حائد عن الجواب في كل ما ذكر ، إنما كان السؤال منه عن الماهية ، وهو لم يجبه عنها ، فعند ذلك قال موسى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ، لم يجبه موسى في كل ما ذكر عن الماهية ، ولكن أجابه في الأول في بيان ربوبيته وألوهيته حيث قال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ذلك ، فعرف اللعين أنه ليس هو رب السموات والأرض لما يعلم أن لا صنع له في ذلك ، وأنه لم ينشئهما ولكن أنشأهما رب العالمين على ما ذكر موسى ، لكن كأنه لم يعرف حدوثهما ولا فناءهما بما ذكر له موسى ؛ لما لم يشاهد حدوثهما وفناءهما ، فلم يتقرر ذلك عنده لما يقع عنده أنهما كذلك كانا ويكونان أبدا ، فعند ذلك احتاج إلى أن ذكر له ما يشاهد حدوثهما وفناءهما وهو ما قال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، ذكر له ما شاهد حدوثه وفناءه ، فإذا عرف حدوث ما ذكر وفناءه يعرف أنه إذا لم يكن بنفسه ولا كان نفسه ، ولكن بمحدث أحدثه وبمدبر دبره.

ثم قال : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) : ذكر هاهنا قدرته وسلطانه ، وهو ما يأتي بالنهار من المشرق ، وبالليل من المغرب ، ويطلع الشمس من المشرق ، ويغربها من المغرب ؛ وكذلك القمر والنجوم ، ففيه دلالة البعث ؛ لأن من قدر على أن يأتي بالنهار من كذا ، وبالليل من ناحية كذا ، والشمس والقمر من كذا ـ قادر على البعث ، لا يعجزه شيء ؛ ففي كل حرف من هذه الأحرف دلالة واستدلال على شيء ليس ذلك في الأخرى.

وفي قوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دلالة ربوبية الله وألوهيته.

وفي قوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) دلالة حدوث ما ذكر وفنائه ، ودلالة محدث ومدبر.

وفي قوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) دلالة قدرته وسلطانه على البعث على الوجه الذي ذكرنا.

وفي ذلك دلالة أن الله تعالى لا يعرف بالماهية ولا بما يحس ، ولكنه إنما يعرف من جهة الاستدلال بخلقه ، وبالآيات التي تدل على وحدانيته ، حيث سأل فرعون موسى عن

٥٥

الماهية ، فأجاب على الاستدلال بخلقه.

ثم قال اللعين : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) : قال بعضهم : إنما أوعده السجن ولم يوعده القتل ؛ لأنه طلب منه الحجة على ما ادعى من الرسالة حيث قال : (فَأْتِ بِهِ) الآية ، ولو قتله لكان لا يقدر على إتيانها.

وقال بعضهم : لا ، ولكن كان سجنه أشد من القتل ومن كل عقوبة.

فقال له موسى : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي : ما يبين ربوبية الله وألوهيته أو ما يبين أني رسول الله ، فقال له فرعون : (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) بالرسالة ، وبما ادّعيت ، فدل قول فرعون لموسى حيث قال له : (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أنه قد عرف أنه رسول ، وأنه ليس بإله على ما ادعى ، وأن الإله غيره حيث طلب هذه الآية.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) بالآيات التي تدل على وحدانية الله تعالى ومشيئته ، ذكر هذا مقابل إنكارهم الصانع.

والإيقان : هو العلم الذي يستفاد من جهة الاستدلال ؛ ولذلك لا يقال لله : موقن.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) : صلة قوله : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ).

وقوله : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) : قال بعضهم : الثعبان : هو الكبيرة العظيمة من الحيات. وقال في موضع آخر : (تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) ، وقال في موضع آخر : (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) ، فجائز أن تكون كالثعبان بعد ما طرحها وألقاها ، وقبل أن يطرحها كالجان وهي الحية الصغيرة (١) ، والله أعلم.

وقوله : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) : بياضا خارجا عن خلقة البشرية ، وخارجا عن الآفة على ما ذكر في آية أخرى : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل : ١٢].

وقوله : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) : هذا منه إغراء وتحريش منه لقومه على موسى ؛ لئلا ينظروا إليه بعين التعظيم ؛ لعظيم ما أتاهم من الآية وأراهم ، حيث قال : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) ، وموسى كان لم يرد إخراجهم من أرضهم ، ولكن ذلك إغراء منه لهم عليه ؛ لئلا يتبعوه ؛ كأنه يقول : يريد أن

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : ولا يتصور في حالة واحدة أن يكون الشيء الواحد على هذه الأحوال ، هذا إشكال ثم الانفصال عنه : قال بعضهم : إنما وصفها بهذه الأوصاف ، وسماها بهذه الأسامي ، لمثابة له ، فكلها في شيء خاص ؛ لأنه يكون لها عظم الثعبان ولدغة الحية ودقة الجان ، وإطلاق الاسم جائز باعتبار المشابهة في وصف يعرف به المسمى. والثاني : جائز أن تكون كالجان في يد موسى ـ عليه‌السلام ـ قبل أن يطرحها ، حتى يمكّن هو من أخذها ، وإذا طرحها وألقاها تصير كالثعبان ، والحية : اسم جنس لها يدخل تحته الصغيرة والكبيرة ، والله أعلم. شرح.

٥٦

يخرجكم من أرضكم فيفسد عليكم معاشكم ، ويضيق عليكم مقامكم ومتقلبكم.

وقوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) : هذا يبين أنه كان عرف أنه ليس بإله ، فبين دناءته وقلة معرفته ؛ لأنه لا يقول ملك من الملوك لقومه : ما ذا تأمرون ، وخاصة من يدعي لنفسه الألوهية بقوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) ؛ فدل أنه كان خسيس الهمة في الرأي والبال.

قوله تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)(٥١)

وقوله : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) : احبسه وأخره ، (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) : الحاشر : الجامع ، والحشر : الجمع ، (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ).

وكان يجب أن يعرف أن السحر يقابل بسحر مثله ، ولا يحتاج إلى أن يسأل قومه ذلك ، لكنه كان اللعين ما ذكرنا من قلة البصر في الأمر وخساسة الهمة ودناءة الرأي.

وقوله : (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ. لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) : قال اللعين : نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ، ولم يقل : نتبعهم إن كانت معهم الحجة ؛ ليعلم أنه قد علم وعرف أن لا حجة معهم ، وأن الحجة مع موسى حيث وعد اتباع الغالبين دون من معهم الحجة.

وفي حرف ابن مسعود : قال للناس هل أنتم مستمعون إلى السحرة أنهم يتغالبون لعلنا نتبع منهم الغالبين.

وقوله : (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ* قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) : هذا ظاهر ، لكن أهل التأويل قالوا (١) : كان السحرة كذا كذا عددا ، وأن موسى

__________________

(١) قاله السدي ، أخرجه ابن جرير عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٥٥ ، ١٥٦).

٥٧

قال لأكبرهم ساحرا : أتؤمن بي إن غلبتك ، وقال الساحر كذا ، وغير ذلك من الكلام مما ليس ذلك في الكتاب ذكره ، وليس ينبغي لهم أن يشتغلوا بشيء من ذلك ، أو أن يتأولوا شيئا ليس في القرآن لما يدخل في ذلك من الزيادة والنقصان ؛ فيكون للكفرة مقال في ذلك وطعن في رسالة رسول الله ؛ لأن هذه الأنباء كانت في كتبهم ، فذكرت لرسول الله لتكون آية له في الرسالة ، فإن زادوا أو نقصوا يقولون : هذا كذب لم يذكر في كتابنا ذلك ؛ فلهذا الوجه ما ينبغي لهم أن يزيدوا على ما ذكر في الكتاب أو ينقصوا ؛ لئلا يجد أولئك مقالا في تكذيب رسول الله (١).

وقوله : (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) : فإن قيل : كيف قال موسى لأولئك السحرة : ألقوا ، وهو يعلم أن ما يلقون هو سحر ، فكيف أمرهم بالسحر؟!

قيل : هذا وإن كان في الظاهر أمرا فهو في الحقيقة ليس بأمر ، إنما هو تهدد وتوعد ، أي : ألقوا لتروا عجزكم وضعفكم ، وذلك في القرآن ظاهره أمر ، وهو في الحقيقة توعد ؛ كقوله لإبليس : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ...) الآية [الإسراء : ٤٦] ، لا يخرج على الأمر ، ولكن على التوعد والتهدد ، أي : وإن فعلت ذلك فلا سلطان لك عليهم ؛ كقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، وقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).

والثاني : أمرهم بذلك ؛ ليظهر كذبهم ويتبين صدقه وحجته ؛ إذ بذلك يظهر.

أو قال لهم ذلك لما كان ذلك سبب إيمان أولئك السحرة ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) : هذا يدل أن السحرة كانوا يعبدون فرعون حيث قالوا : (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) ، وقد علموا عجز فرعون وضعفه ؛ حيث فزع إليهم وقال : (فَما ذا تَأْمُرُونَ).

وقوله : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) ، وقد قرئ : تلقف بالتخفيف.

قال أبو عوسجة : تقول : تلقفت الشيء والتقفته ، أي : أخذته ، وقال غيره : تلقف ، أي : تلقم ؛ وهو واحد.

وقوله : (يَأْفِكُونَ) : وهو الفاعل بمعنى المفعول ، أي : مأفوك ، وذلك جائز في اللغة وأمثاله كثير ؛ كقوله : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ).

وقوله : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) : أخبر لسرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا لما بان لهم من الحق وظهر ، فقالوا : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : ومطعنا في رسالته ؛ لأن الكاذب لا يصلح أن يكون رسولا ، والله أعلم.

٥٨

قال أهل التأويل : إن فرعون قال عند ذلك : أنا رب العالمين ، فقالت السحرة : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).

لكن الامتناع عن هذا وأمثاله مما لم يذكر في الكتاب أولى ؛ لما ذكرنا أنه إنما يحتج عليهم بهذه الأنباء على تصديق من أهل الكتاب له في ذلك ، لما هي مذكورة في كتبهم ، فيخاف الزيادة والنقصان فيكذبون في ذلك ، فيذكر القدر الذي في الكتاب ؛ لئلا يدخل فيه الزيادة والنقصان فيفرق به ويكذب ، إلا ما ظهر عن رسول الله القول به فيقال ، وإلا الامتناع والكف أولى.

ثم قال فرعون : (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) : إن فرعون قد علم أن ما جاء به موسى هو حجة ، لكنه كان يلبس على قومه وأصحابه ويغريهم عليه ، فقال مرة : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) ، وقال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧] ، وقال مرة : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، وقال : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ ...) الآية [الأعراف : ١٢٣].

ثم أوعد لهم بوعائد فقال : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ، فقالوا هم : (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي : إنا إلى ثواب ربنا الذي وعد لنا لراجعون ، لا يضرنا ما توعدنا به.

قال أبو عوسجة والقتبي (١) : لا ضير : هو من ضاره يضوره ويضيره بمعنى : ضره ، وقد قرئ : وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا بالتخفيف بمعنى : لا يضركم.

فقالوا : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) : قال بعضهم : (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وقال بعضهم : أن كنا أوّل أهل مصر إيمانا.

وجائز : أن كنا أوّل المؤمنين للحال.

وقال بعض أهل التأويل : إن فرعون قد فعل بهم ما أوعد من قطع الأيدي والأرجل والصلب ، لكن ليس في الآية بيان حلول ما أوعد بهم ؛ فلا نقول به مخافة الكذب.

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣١٧).

٥٩

اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦٨)

وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) : السرى : سير الليل ، وهو ما قال في آية أخرى : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) ، أي : يتبعكم فرعون وقومه.

وقوله : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي : أرسل في المدائن من يحشر الجنود والعساكر.

وقالوا : (إِنَّ هؤُلاءِ) يعنون : أصحاب موسى (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) قال بعضهم : الشرذمة : الجماعة العصابة ، أي : عصابة قليلة.

وقال بعضهم : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) أي : طائفة قليلة.

(وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) : في الحلي الذي استعاروه منا ، أي : ذهبوا به ، مغايظة لنا.

وقال بعضهم : (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) بما فعلنا بهم من قتل أولادهم ، واستحيائهم نساءهم ، ورجالهم يفعلون بنا ما فعلنا بهم إن ظفروا.

وقوله : (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) : وحذرون : قال بعضهم : من الحذر (١).

وقال بعضهم : (٢) (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي : مؤدون ، أي : مقوون ، أي : معنا أداة أصحاب الحرب ، والمقوي : الذي دابته قوية.

وقال بعضهم : حاذرون ، أي : مستعدون للحرب.

وقال بعضهم : (حاذِرُونَ) لما حدث لهم من الخوف ، والحذر للحال حذر المعاودة ، أي : حذروا أن يعودوا إليهم ، وحذرون أي : كنا لم نزل منهم على حذر.

وقال أبو معاذ : حاذرون : مؤدون من الأداة ، أي : تام السلاح (٣).

وفي خروج موسى ببني إسرائيل مع كثرتهم على ما ذكر أنهم كانوا ستمائة ألف فصاعدا من غير أن علم القبط بذلك ـ آية عظيمة ؛ إذ لا يقدر نفر الخروج من محلة أو ناحية إلا ويعلم أهلها بخروجهم ، ففي ذلك كان آية عظيمة ؛ حيث خرجوا من بينهم من غير أن علم أحد منهم بذلك.

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : الحذر : اليقظ ، والحاذر : المستعد.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٦٣٩) ، وعن الضحاك (٢٦٦٣٥) والسدي (٢٦٦٣٦) ، وابن جريج (٢٦٦٣٧) ، وغيرهم.

(٣) ثبت في حاشية أ : من الأداة ، أي : معنا أداة أصحاب الحرب ، يقال : رجل مؤد ، أي تام السلاح ، وأداة الحرب ، كما يقال : رجل مغوار : صاحب دابة قوية.

٦٠